[center]البعد الدلالي للنمذجة النسقية ارسال لصديق
التقييم العام: / 2
سىءممتاز
الكاتب/ Minerve
03/04/2008
ابراهيم قمودي
يقول برونو جاروسون في كتاب "دعوة إلى فلسفة العلوم" : «إن الواقع لا دلالة له في ذاته. وفي مقابل ذلك من المهم أن نتبين أن الواقع له دلالة وله معنى أيضا». ذلك أن الإنسان في حاجة إلى تمثل الواقع ليضفي عليه دلالة وحتى يصبح معقولا بالنسبة إليه. والبعد الدلالي للنمذجة النسقية يتعلق بهذه الدلالة التي تبدعها النمذجة للعالم: إذ يتعلق الأمر بعلاقات العلامات الرمزية مع الواقع، ذلك أن تمثل الواقع ينتشر من خلال منطق الفكر، وإنشاء نسق صوري لنمذجة واقع ما ليس مجرّد لعبة مجانية نكتفي فيها بإنشاء رموز دون اعتبار ما يمكن أن تعبر عنه هذه الرموز والعلاقات القائمة بينها من مضامين ذات صلة بالواقع.
هذا يعني أن الصياغة الصورية لا تكتسب قيمة علمية إلا بفعل تطبيقها في وضعيات تجريبية بواسطة تأويل الرموز المجردة وترجمتها في حدود فيزيائية. إذ أن النسق الصوري يعبر عن بنية واقعية، ولذلك لا بدّ من تحقيق ضرب من التلاؤم بين المعطيات الصورية للنسق المدروس وبين المعطيات الخبرية التي تنتظم وفقها الموضوعات العلمية المعتبرة. وهذا التلاؤم يقوم على مجموعة من القواعد وكلّ ما يتعلق بهذه القواعد يشكل البعد الدلالي أي النموذج بما هو تأويل. يتعلق الأمر إذن بلحظة التجريب التي تقتضي تأويلا عينيا وبالتالي فإن البعد الدلالي للنموذج يتحدّد بعلاقته التفاعلية بالنسق الذي يمثله وباعتبار المسافة التي تفصلهما بهدف جعل النموذج أكثر ملاءمة.
إن تمثل الواقع ينتشر من خلال منطق الفكر و الأهمية التي نوليها لميدان خصوصي لهذا الواقع. و النموذج هو وليد ثلاث سيرورات, متنافرة و متكاملة، فمن جهة كل ما ندركه و نتصوره يمر بالضرورة عبر سيرورات تماثلية وافق صورية منطقية. إن المعايير العلمية المتعلقة بالاختصاصات و المشروطة باعتبار أو باختراع حقول اختصاصات جديدة, و بالتشابه و التنافر بين النماذج، تحدد السيرورات المنمذجة. ويمكن أن نلاحظ نوعا من التشابه الصوري بين العلوم الهندسية والعلوم الاجتماعية والإنسانية. ذلك أن النمذجة في العلوم الفيزيائية الكلاسيكية التي تعتبر علوما طبيعية، هي إعادة إنتاج مبسط ومماثل لخصائص الأشياء، والمثال الأكثر شهرة للمماثلة هو المماثلة النيوتنية بين حركة الشيء الذي يدور في طرف الحبل وحركة القمر حول الشمس. ولأن المماثلات تقتضي لغة وصف تمكن من إحلال تجانس النموذج الذي نريد إنتاجه، فإن الميكانيكا الكلاسيكية، استخدمت الرياضيات لتستجيب لهذا الاقتضاء العلمي.
أما في النمذجة النسقية فإن وظائف التحويل الرمزية تتأسس في ذات الوقت تركيبيا و دلاليا، وتختلف بحسب طبيعة الضغوطات الخارجية. فنحن مثلا لا نستطيع التنبؤ بمسار الصاروخ الذي يتتبع آلة طائرة في الفضاء إلا بواسطة وظيفته التحويلية التي تتضمن مُعَدِّلات قادرة على المحافظة على ثباتية نسق التتبع عبر إضعاف التشويش الناتج عن الضغوطات. إذ أنه من الضروري إنتاج نوع من التدبير بين المنطقي والخبري في كلّ عملية صورنة. وبلغة أخرى يجب أن يكون هناك نوعا من التطابق بين الحكم التحليلي الذهني والحكم الخبري. ولكن الضغوطات التي ترتبط بالحكم الخبري ليس لها نفس خصائص الضغوطات التي ترتبط بالأحكام التحليلية فيما يتعلق بعلاقتهما الضيقة بالصورية المنطقية. وهذا التشنج يحيل في النهاية إلى ما يسميه J.L. Le Moigne "الأفق المورفولوجي". وهكذا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار درجة التركيب اللامتناهية للظواهر المدروسة حتى نتمكن من نمذجتها بواسطة المقتضيات المنطقية والتماثلية والخبرية التي تستجيب للشروط العلمية. ونستطيع بالتأكيد ألاّ نعتبر إلا الجزء الأهم من الظاهرة المدروسة بالنسبة للهدف المراد تحقيقه، دون أن نسقط، مثلا في الفيزياء في البحث عن علاقات بين خصائص فيزيائية وأخرى كيميائية بين الذرات، وبالتالي نستطيع تحقيق تطابق شبه كامل بين وقائع الضغوطات الفيزيائية والوقائع الصورية المنطقي ـ رياضية، والخاصية التأليفية للتواصل بين حقول معرفية مختلفة تظهر بجلاء في علوم التصور مثل المعلوماتية أو صناعة الآلات الأوتوماتيكية.
وهذا يعني أن النماذج يجب أن تكون نتيجة سيرورة بحث ولا فقط نتيجة تمثل نسقي لموضوع مثلما هو الشأن في الميكانيكا الكلاسيكية. ذلك أن المفترضات النظرية و بنى الضغوطات الخارجية الخبرية أو الملاحظة تمثل أحد خصائص السيرورة التماثلية. فمن جهة تأسس التماثلية الصورية تشابها وظيفيا وبنيويا بين النموذج وموضوع الدراسة، ومن جهة ثانية تصف التماثلية اللاصورية الخصائص المجرّدة والرمزية. واتصال هذه التمثلات يرتكز على وحدتها البنيوية والرمزية حتى تحقق اصطناعية مخصوصة، هي اصطناعية الفعل القصدي المرتبط بكلّ سيرورة نمذجة مثلما أقرّ ذلك Herbert A.Simon واصطناعية النموذج يمكن أن توصف وأن تفهم و أن يتنبأ بها.
وهذا يعني أن ما وراء اختلاف النماذج هناك خاصية مشتركة: إن كل النماذج حاملة لمعلومات، حاملة لمعرفة، إنها تعبيرا في لغة ما أو صورنة ما عن رؤية معينة حول موضوع الدراسة، موضوع دراسة يمكن أن يكون موجودا بشكل سابق للنمذجة ونتحدث عندها عن نماذج وصفية modèle de description ، بما هي تجسيد لنظرية متعلقة بميدان موضوع الدراسة. كما يمكن أن يكون الموضوع نسقا في طور البناء والنموذج عندها يفصل تعييناته. ففي الحالة الأولى يعبر النموذج عن تفسير يتموضع في زمن معين وسجل ثقافي معين، لظواهر أو سلوكيات ملاحظة في موضوع الدراسة، بحيث يسند للميدان المدروس منطقا وتجانسا وربما حتى شرعية ومشروعية، إذ تتمثل وظيفته في توجيه أو تأطير فهم ميدان الدراسة. أما في الحالة الثانية فإنه يفصّل الاشتغال المنتظم للاصطناعي، إذ أن النموذج هو أداة تواصل يستخدمه مختلف المتدخلين في سيرورة تصور وصنع النسق-النتيجة. وفي كلتا الحالتين يتقدم النموذج كتمتل أمين على دلالة، كوسيلة تبادل وتقاسم للمعارف، إنه شكل يجسد موضوعا، يجسد شيئا له وظائف الانخراط والتواصل والدخول في المعنى، شيئا اصطناعي يبنى ويثبت بالنسبة لصانعه، وهو رسالة تنتظر حل شفرتها وفهمها بالنسبة للمتقبل، ذلك هو معنى قول لوموانيو J.L.Le Moigne :«نماذج ننشؤها ونمارس من خلالها البرهنة وتبادل الأفكار و نتمكن من جعل المغامرة المبهرة التي انخرطت فيها الإنسانية منذ نشأتها قابلة للفهم».
النمذجة تتمثل، إذن، في تجسيد منظور ما، نقل فكرة إلى شيء محسوس، أما التأويل فهو العملية المعاكسة إذ هو نقل لتمثل طبيعي مرمز إلى تمثل ذهني، وهذه السيرورة الثانية تقارب النموذج كمجموع تعيينات يتعلق الأمر في نهاية المطاف بإدماجها لتكون أكثر دقة بفضل إضفاء المعنى، ذلك أن النموذج مهما كان، يمثل في لحظة قراءته حامل معنى للبناء، حامل معرفة للاكتساب. و النموذج من هذا المنطلق الدلالي يجب أن يكون عاما، والتعميم كخاصية دلالية يقتضي توسيع مجال صلاحية النموذج، حتى نتحول من نموذج ذي صلاحية تتعلق بعدد محدود من الوضعيات الملاحظة إلى نموذج يشمل عددا لامحدود من الوضعيات الممكنة التي تؤكد صلاحية النموذج بما في ذلك الوضعيات التي لم يجر اختبار النموذج فيها. إذ لا يجب أن ننسى أن النظرية العلمية هي نموذج لطريقة التفاعل بين مجموعة من الظواهر الطبيعية، قادرة على التوقع بالأحداث المستقبلية وبملاحظات من نفس هذا النوع، وقابلة للتثبت إذ يجري اختبارها من خلال التجربة أو على الأقل يمكن دحضها عبر الملاحظات التجريبية. وينتج عن هذا التحديد أن النظرية العلمية والواقع ليسا متعارضين بالضرورة. فالنظرية العلمية لا تحتوي على عناصر غير قابلة للتغيير بالطريقة التي تجعلنا قادرين على معاينتها في كلّ الاختصاصات العلمية. وما تشترك فيه النظريات العلمية هو مجهود أمثلة الواقع Idéalisation du réel، أمثلة تتحقق في صورنة أكسيومية أو شبه أكسيومية بالنسبة للنمذجة النسقية، لذلك يمكن القول مع فاليزار B.Walisser:«يمكن اعتبار كل نموذج في وجه من وجوهه، وسيطا بين حقل نظري يمثل تأويلا له و حقل تجريبي يمثل تأليفا له.» و بما أن كل بناء نظري ينتج قوانين يمكن القول أيضا مع بول غريكو P.Gréco بأن «النموذج هو وسيط ضروري بين صياغة القانون وفهم معنى القانون» خاصة و أن القانون هو صياغة لعلاقة كونية بين الظواهر. ففي الوصف نحاول مقاربة البنى التي ندركها والتي تؤسس مواصفات التعرف على المواضيع ونمذجتها. ثم إن وصف سيرورة النمذجة تقتضي في ذات الوقت وصف حالة الظاهرة المدروسة ولكن أيضا وصف حالة فعلها. أما الفهم فهو شرط أولى ضروري للوصف ولا يمكن اختزاله في مجرّد معرفة خصوصية في خدمة المباشرتية والجانب المحسوس من التمثل التماثلي مثلما بين ذلك E.Morin. ومن هذا المنطلق فإن تأليفية الفهم تحضر في التحليل و في نسقية الوصف. وبالتالي يمثل الفهم وسيلة وغاية كل تماثلية.
ثم إن النمذجة النسقية يمكن أن تكون في خدمة غايات متعدّدة، مثل معرفة المشاكل المركبة والمعقدة، فهم الظواهر، أو اصطناع استراتيجيا للفعل، إنها تحمل في ذاتها مشروع جعل الواقع قابلا للتعقل عبر نمذجته دون إفراغه مما هو أصيل فيه: التركيب والتعقد. ذلك أن النمذجة النسقية تريد احترام الجدلية المركزية للمركب أي الصيرورة في الاشتغال والاشتغال الصائر. إذ تمكن النمذجة النسقية المنمذج من إعطاء صورة لتفكيره وتمكنه من استباق نتائج مشاريع الأفعال الممكنة. ففي النمذجة ينطلق الباحث من المشروع الذي حدده ليجمعه بفرضيات متمفصلة بحسب المشروع الشامل، والنموذج ليس تركيب أشياء ثابتةstables ، بل هو تركيب تمثلات فعل، لذلك لا نستطيع أن نقارب البعد الدلالي للنمذجة دون الحديث عن علاقة النموذج بالواقع.
و أن نتحدث عن الواقع هو أن نتحدث عن الواقع كما هو في ظروفه الخاصة حتى نتمكن من سبر ألغاز الموضوع المدروس في تعقّده وتركيبه وفي غموضه، أن نتحدث عن الواقع هو أن نستحضره خارج المفهوم، أن نفكر في الشيء خارج الوهم والظاهر فالواقع هو ما يوجد في ضرب من التقابل مع الخيال ومع تمثل الواقع، فالواقع هو ما يوجد والمعرفة العلمية من المفروض أن تقوم بإبراز خصائص الواقع بواسطة الرموز والكلمات والأعداد. ويزعم بعض أصحاب البراديغم التجريبي أنهم يقاربون الواقع بطريقة موضوعية، في حين يعترف البعض الآخر منهم بتدخل الذاتية. ولكن بقدر ما يكون الموضوع معقدا بقدر ما تختلف القبضة على الواقع. ذلك أن المقاربة تتبع ما سبق وترتبط بالظروف الخاصة للبحث.
لذلك فإن النمذجة تقارب الواقع بطريقة معقدة (مركبة) لا يمكن اختزالها في نموذج نهائي ومغلق، بل لا يوجد واقع وإنما وقائع متعددة، فليس هناك حقيقة واحدة بل عدة حقائق. والواقع متعدّد وهو ذاتي بصفة شاملة، فالنمذجة تفترض قبليا وجود عدة نماذج يمكن تصورها لنفس الظاهرة التي ينظر إليها في وحدتها وفي التفاعلات الداخلية التي تكونها. والمنمذج يكوّن معرفة حول الظاهرة انطلاقا من المعلومات (المعطيات) التي ينتجها هو ذاته اصطناعيا وبطريقة حرة. وهذا التدخل من قبل المنمذج والنموذج تقتضي ضرورة أن يشرح المنمذج غاياته الخاصة بالإضافة إلى الغايات التي يسندها للموضوع المنمذج، وتدخله في الموضوع المنمذج ليس محايدا. فعندما يصف ما يعرف عن العالم، يغير المنمذج العالم الذي يعرفه، وعندما يغير هذا الواقع الذي يعيش فيه يتطور هو ذاته. ولذلك تتموضع النمذجة في البراديغم البنائي.
إن المقاربة النسقية تفتح على خلق استراتيجيات فعل. إذ تمكن من تنظيم المعرفة عبر بناء نماذج يمكن التواصل حولها ويمكن استعمالها في الفكر والممارسة. ويتموضع المنمذج في التفاعل بين النسق المنمذج والنموذج. ويتمظهر بجلاء في ذاتيته وبقيمه الخاصة. إذ تفترض النسقية أن فعل النمذجة ليس حياديا إذ لا يمكن فصله عن فعل المنمذج. وهذا يعني أن مثالي النمذجة النسقية لا يمثل في الموضوعية ولكن في اسقاطات المنمذج الذي يمكن أن يتحدّد بقدرته على إظهار مشاريع النمذجة التي يقدمها مثلما ذهب إلى ذلك لوموانيو. فعلى المنمذج أن يعبر عن مقاصده وأن يعرضها قبل أن يقدم النموذج الذي تخيله بكل حرية. وحق الخيال، هذه الحرية التي للمنمذج ليست خاضعة لأي قاعدة بل لا يمكن أن نخضعها لأي قاعدة أو قانون imprescriptible وهذا يعني أن الذاتية علنية في النمذجة النسقية، والواقع يتم استنتاجه من مقدمات توضع قبليا بالتجارب والمعارف. وبالتالي فإن النمذجة تفتح المجال للإسقاط والإبداع والمنمذج ينغمس في الوسط ويتخيل مشاريع الظواهر التي يدرسها.
النموذج لا يعكس، إذن، الواقع في كليته و إنما يعكس الواقع كما تمثله، فالمعطيات الخبرية أو الافتراضية تعطي للنموذج دلالته أو تقتضي تعديله، فعلاقة النموذج بالواقع ليست علاقة تطابق و إنما هي علاقة تفاعلية تتحدد بالملاءمة، لذلك يُشترط أن يكون النموذج مرنا قابلا للتعديل، و ثريا قابلا للتحول من كونه نموذجا خاصا إلى كونه نموذجا شاملا لأكثر من نسق و بالتالي عام، و تتحدد صلاحيته التجريبية إما بتجارب قياسية عبر التمثل الاصطناعي في الواقع الافتراضي و إما بتجربته في الواقع الفعلي.
التقييم العام: / 2
سىءممتاز
الكاتب/ Minerve
03/04/2008
ابراهيم قمودي
يقول برونو جاروسون في كتاب "دعوة إلى فلسفة العلوم" : «إن الواقع لا دلالة له في ذاته. وفي مقابل ذلك من المهم أن نتبين أن الواقع له دلالة وله معنى أيضا». ذلك أن الإنسان في حاجة إلى تمثل الواقع ليضفي عليه دلالة وحتى يصبح معقولا بالنسبة إليه. والبعد الدلالي للنمذجة النسقية يتعلق بهذه الدلالة التي تبدعها النمذجة للعالم: إذ يتعلق الأمر بعلاقات العلامات الرمزية مع الواقع، ذلك أن تمثل الواقع ينتشر من خلال منطق الفكر، وإنشاء نسق صوري لنمذجة واقع ما ليس مجرّد لعبة مجانية نكتفي فيها بإنشاء رموز دون اعتبار ما يمكن أن تعبر عنه هذه الرموز والعلاقات القائمة بينها من مضامين ذات صلة بالواقع.
هذا يعني أن الصياغة الصورية لا تكتسب قيمة علمية إلا بفعل تطبيقها في وضعيات تجريبية بواسطة تأويل الرموز المجردة وترجمتها في حدود فيزيائية. إذ أن النسق الصوري يعبر عن بنية واقعية، ولذلك لا بدّ من تحقيق ضرب من التلاؤم بين المعطيات الصورية للنسق المدروس وبين المعطيات الخبرية التي تنتظم وفقها الموضوعات العلمية المعتبرة. وهذا التلاؤم يقوم على مجموعة من القواعد وكلّ ما يتعلق بهذه القواعد يشكل البعد الدلالي أي النموذج بما هو تأويل. يتعلق الأمر إذن بلحظة التجريب التي تقتضي تأويلا عينيا وبالتالي فإن البعد الدلالي للنموذج يتحدّد بعلاقته التفاعلية بالنسق الذي يمثله وباعتبار المسافة التي تفصلهما بهدف جعل النموذج أكثر ملاءمة.
إن تمثل الواقع ينتشر من خلال منطق الفكر و الأهمية التي نوليها لميدان خصوصي لهذا الواقع. و النموذج هو وليد ثلاث سيرورات, متنافرة و متكاملة، فمن جهة كل ما ندركه و نتصوره يمر بالضرورة عبر سيرورات تماثلية وافق صورية منطقية. إن المعايير العلمية المتعلقة بالاختصاصات و المشروطة باعتبار أو باختراع حقول اختصاصات جديدة, و بالتشابه و التنافر بين النماذج، تحدد السيرورات المنمذجة. ويمكن أن نلاحظ نوعا من التشابه الصوري بين العلوم الهندسية والعلوم الاجتماعية والإنسانية. ذلك أن النمذجة في العلوم الفيزيائية الكلاسيكية التي تعتبر علوما طبيعية، هي إعادة إنتاج مبسط ومماثل لخصائص الأشياء، والمثال الأكثر شهرة للمماثلة هو المماثلة النيوتنية بين حركة الشيء الذي يدور في طرف الحبل وحركة القمر حول الشمس. ولأن المماثلات تقتضي لغة وصف تمكن من إحلال تجانس النموذج الذي نريد إنتاجه، فإن الميكانيكا الكلاسيكية، استخدمت الرياضيات لتستجيب لهذا الاقتضاء العلمي.
أما في النمذجة النسقية فإن وظائف التحويل الرمزية تتأسس في ذات الوقت تركيبيا و دلاليا، وتختلف بحسب طبيعة الضغوطات الخارجية. فنحن مثلا لا نستطيع التنبؤ بمسار الصاروخ الذي يتتبع آلة طائرة في الفضاء إلا بواسطة وظيفته التحويلية التي تتضمن مُعَدِّلات قادرة على المحافظة على ثباتية نسق التتبع عبر إضعاف التشويش الناتج عن الضغوطات. إذ أنه من الضروري إنتاج نوع من التدبير بين المنطقي والخبري في كلّ عملية صورنة. وبلغة أخرى يجب أن يكون هناك نوعا من التطابق بين الحكم التحليلي الذهني والحكم الخبري. ولكن الضغوطات التي ترتبط بالحكم الخبري ليس لها نفس خصائص الضغوطات التي ترتبط بالأحكام التحليلية فيما يتعلق بعلاقتهما الضيقة بالصورية المنطقية. وهذا التشنج يحيل في النهاية إلى ما يسميه J.L. Le Moigne "الأفق المورفولوجي". وهكذا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار درجة التركيب اللامتناهية للظواهر المدروسة حتى نتمكن من نمذجتها بواسطة المقتضيات المنطقية والتماثلية والخبرية التي تستجيب للشروط العلمية. ونستطيع بالتأكيد ألاّ نعتبر إلا الجزء الأهم من الظاهرة المدروسة بالنسبة للهدف المراد تحقيقه، دون أن نسقط، مثلا في الفيزياء في البحث عن علاقات بين خصائص فيزيائية وأخرى كيميائية بين الذرات، وبالتالي نستطيع تحقيق تطابق شبه كامل بين وقائع الضغوطات الفيزيائية والوقائع الصورية المنطقي ـ رياضية، والخاصية التأليفية للتواصل بين حقول معرفية مختلفة تظهر بجلاء في علوم التصور مثل المعلوماتية أو صناعة الآلات الأوتوماتيكية.
وهذا يعني أن النماذج يجب أن تكون نتيجة سيرورة بحث ولا فقط نتيجة تمثل نسقي لموضوع مثلما هو الشأن في الميكانيكا الكلاسيكية. ذلك أن المفترضات النظرية و بنى الضغوطات الخارجية الخبرية أو الملاحظة تمثل أحد خصائص السيرورة التماثلية. فمن جهة تأسس التماثلية الصورية تشابها وظيفيا وبنيويا بين النموذج وموضوع الدراسة، ومن جهة ثانية تصف التماثلية اللاصورية الخصائص المجرّدة والرمزية. واتصال هذه التمثلات يرتكز على وحدتها البنيوية والرمزية حتى تحقق اصطناعية مخصوصة، هي اصطناعية الفعل القصدي المرتبط بكلّ سيرورة نمذجة مثلما أقرّ ذلك Herbert A.Simon واصطناعية النموذج يمكن أن توصف وأن تفهم و أن يتنبأ بها.
وهذا يعني أن ما وراء اختلاف النماذج هناك خاصية مشتركة: إن كل النماذج حاملة لمعلومات، حاملة لمعرفة، إنها تعبيرا في لغة ما أو صورنة ما عن رؤية معينة حول موضوع الدراسة، موضوع دراسة يمكن أن يكون موجودا بشكل سابق للنمذجة ونتحدث عندها عن نماذج وصفية modèle de description ، بما هي تجسيد لنظرية متعلقة بميدان موضوع الدراسة. كما يمكن أن يكون الموضوع نسقا في طور البناء والنموذج عندها يفصل تعييناته. ففي الحالة الأولى يعبر النموذج عن تفسير يتموضع في زمن معين وسجل ثقافي معين، لظواهر أو سلوكيات ملاحظة في موضوع الدراسة، بحيث يسند للميدان المدروس منطقا وتجانسا وربما حتى شرعية ومشروعية، إذ تتمثل وظيفته في توجيه أو تأطير فهم ميدان الدراسة. أما في الحالة الثانية فإنه يفصّل الاشتغال المنتظم للاصطناعي، إذ أن النموذج هو أداة تواصل يستخدمه مختلف المتدخلين في سيرورة تصور وصنع النسق-النتيجة. وفي كلتا الحالتين يتقدم النموذج كتمتل أمين على دلالة، كوسيلة تبادل وتقاسم للمعارف، إنه شكل يجسد موضوعا، يجسد شيئا له وظائف الانخراط والتواصل والدخول في المعنى، شيئا اصطناعي يبنى ويثبت بالنسبة لصانعه، وهو رسالة تنتظر حل شفرتها وفهمها بالنسبة للمتقبل، ذلك هو معنى قول لوموانيو J.L.Le Moigne :«نماذج ننشؤها ونمارس من خلالها البرهنة وتبادل الأفكار و نتمكن من جعل المغامرة المبهرة التي انخرطت فيها الإنسانية منذ نشأتها قابلة للفهم».
النمذجة تتمثل، إذن، في تجسيد منظور ما، نقل فكرة إلى شيء محسوس، أما التأويل فهو العملية المعاكسة إذ هو نقل لتمثل طبيعي مرمز إلى تمثل ذهني، وهذه السيرورة الثانية تقارب النموذج كمجموع تعيينات يتعلق الأمر في نهاية المطاف بإدماجها لتكون أكثر دقة بفضل إضفاء المعنى، ذلك أن النموذج مهما كان، يمثل في لحظة قراءته حامل معنى للبناء، حامل معرفة للاكتساب. و النموذج من هذا المنطلق الدلالي يجب أن يكون عاما، والتعميم كخاصية دلالية يقتضي توسيع مجال صلاحية النموذج، حتى نتحول من نموذج ذي صلاحية تتعلق بعدد محدود من الوضعيات الملاحظة إلى نموذج يشمل عددا لامحدود من الوضعيات الممكنة التي تؤكد صلاحية النموذج بما في ذلك الوضعيات التي لم يجر اختبار النموذج فيها. إذ لا يجب أن ننسى أن النظرية العلمية هي نموذج لطريقة التفاعل بين مجموعة من الظواهر الطبيعية، قادرة على التوقع بالأحداث المستقبلية وبملاحظات من نفس هذا النوع، وقابلة للتثبت إذ يجري اختبارها من خلال التجربة أو على الأقل يمكن دحضها عبر الملاحظات التجريبية. وينتج عن هذا التحديد أن النظرية العلمية والواقع ليسا متعارضين بالضرورة. فالنظرية العلمية لا تحتوي على عناصر غير قابلة للتغيير بالطريقة التي تجعلنا قادرين على معاينتها في كلّ الاختصاصات العلمية. وما تشترك فيه النظريات العلمية هو مجهود أمثلة الواقع Idéalisation du réel، أمثلة تتحقق في صورنة أكسيومية أو شبه أكسيومية بالنسبة للنمذجة النسقية، لذلك يمكن القول مع فاليزار B.Walisser:«يمكن اعتبار كل نموذج في وجه من وجوهه، وسيطا بين حقل نظري يمثل تأويلا له و حقل تجريبي يمثل تأليفا له.» و بما أن كل بناء نظري ينتج قوانين يمكن القول أيضا مع بول غريكو P.Gréco بأن «النموذج هو وسيط ضروري بين صياغة القانون وفهم معنى القانون» خاصة و أن القانون هو صياغة لعلاقة كونية بين الظواهر. ففي الوصف نحاول مقاربة البنى التي ندركها والتي تؤسس مواصفات التعرف على المواضيع ونمذجتها. ثم إن وصف سيرورة النمذجة تقتضي في ذات الوقت وصف حالة الظاهرة المدروسة ولكن أيضا وصف حالة فعلها. أما الفهم فهو شرط أولى ضروري للوصف ولا يمكن اختزاله في مجرّد معرفة خصوصية في خدمة المباشرتية والجانب المحسوس من التمثل التماثلي مثلما بين ذلك E.Morin. ومن هذا المنطلق فإن تأليفية الفهم تحضر في التحليل و في نسقية الوصف. وبالتالي يمثل الفهم وسيلة وغاية كل تماثلية.
ثم إن النمذجة النسقية يمكن أن تكون في خدمة غايات متعدّدة، مثل معرفة المشاكل المركبة والمعقدة، فهم الظواهر، أو اصطناع استراتيجيا للفعل، إنها تحمل في ذاتها مشروع جعل الواقع قابلا للتعقل عبر نمذجته دون إفراغه مما هو أصيل فيه: التركيب والتعقد. ذلك أن النمذجة النسقية تريد احترام الجدلية المركزية للمركب أي الصيرورة في الاشتغال والاشتغال الصائر. إذ تمكن النمذجة النسقية المنمذج من إعطاء صورة لتفكيره وتمكنه من استباق نتائج مشاريع الأفعال الممكنة. ففي النمذجة ينطلق الباحث من المشروع الذي حدده ليجمعه بفرضيات متمفصلة بحسب المشروع الشامل، والنموذج ليس تركيب أشياء ثابتةstables ، بل هو تركيب تمثلات فعل، لذلك لا نستطيع أن نقارب البعد الدلالي للنمذجة دون الحديث عن علاقة النموذج بالواقع.
و أن نتحدث عن الواقع هو أن نتحدث عن الواقع كما هو في ظروفه الخاصة حتى نتمكن من سبر ألغاز الموضوع المدروس في تعقّده وتركيبه وفي غموضه، أن نتحدث عن الواقع هو أن نستحضره خارج المفهوم، أن نفكر في الشيء خارج الوهم والظاهر فالواقع هو ما يوجد في ضرب من التقابل مع الخيال ومع تمثل الواقع، فالواقع هو ما يوجد والمعرفة العلمية من المفروض أن تقوم بإبراز خصائص الواقع بواسطة الرموز والكلمات والأعداد. ويزعم بعض أصحاب البراديغم التجريبي أنهم يقاربون الواقع بطريقة موضوعية، في حين يعترف البعض الآخر منهم بتدخل الذاتية. ولكن بقدر ما يكون الموضوع معقدا بقدر ما تختلف القبضة على الواقع. ذلك أن المقاربة تتبع ما سبق وترتبط بالظروف الخاصة للبحث.
لذلك فإن النمذجة تقارب الواقع بطريقة معقدة (مركبة) لا يمكن اختزالها في نموذج نهائي ومغلق، بل لا يوجد واقع وإنما وقائع متعددة، فليس هناك حقيقة واحدة بل عدة حقائق. والواقع متعدّد وهو ذاتي بصفة شاملة، فالنمذجة تفترض قبليا وجود عدة نماذج يمكن تصورها لنفس الظاهرة التي ينظر إليها في وحدتها وفي التفاعلات الداخلية التي تكونها. والمنمذج يكوّن معرفة حول الظاهرة انطلاقا من المعلومات (المعطيات) التي ينتجها هو ذاته اصطناعيا وبطريقة حرة. وهذا التدخل من قبل المنمذج والنموذج تقتضي ضرورة أن يشرح المنمذج غاياته الخاصة بالإضافة إلى الغايات التي يسندها للموضوع المنمذج، وتدخله في الموضوع المنمذج ليس محايدا. فعندما يصف ما يعرف عن العالم، يغير المنمذج العالم الذي يعرفه، وعندما يغير هذا الواقع الذي يعيش فيه يتطور هو ذاته. ولذلك تتموضع النمذجة في البراديغم البنائي.
إن المقاربة النسقية تفتح على خلق استراتيجيات فعل. إذ تمكن من تنظيم المعرفة عبر بناء نماذج يمكن التواصل حولها ويمكن استعمالها في الفكر والممارسة. ويتموضع المنمذج في التفاعل بين النسق المنمذج والنموذج. ويتمظهر بجلاء في ذاتيته وبقيمه الخاصة. إذ تفترض النسقية أن فعل النمذجة ليس حياديا إذ لا يمكن فصله عن فعل المنمذج. وهذا يعني أن مثالي النمذجة النسقية لا يمثل في الموضوعية ولكن في اسقاطات المنمذج الذي يمكن أن يتحدّد بقدرته على إظهار مشاريع النمذجة التي يقدمها مثلما ذهب إلى ذلك لوموانيو. فعلى المنمذج أن يعبر عن مقاصده وأن يعرضها قبل أن يقدم النموذج الذي تخيله بكل حرية. وحق الخيال، هذه الحرية التي للمنمذج ليست خاضعة لأي قاعدة بل لا يمكن أن نخضعها لأي قاعدة أو قانون imprescriptible وهذا يعني أن الذاتية علنية في النمذجة النسقية، والواقع يتم استنتاجه من مقدمات توضع قبليا بالتجارب والمعارف. وبالتالي فإن النمذجة تفتح المجال للإسقاط والإبداع والمنمذج ينغمس في الوسط ويتخيل مشاريع الظواهر التي يدرسها.
النموذج لا يعكس، إذن، الواقع في كليته و إنما يعكس الواقع كما تمثله، فالمعطيات الخبرية أو الافتراضية تعطي للنموذج دلالته أو تقتضي تعديله، فعلاقة النموذج بالواقع ليست علاقة تطابق و إنما هي علاقة تفاعلية تتحدد بالملاءمة، لذلك يُشترط أن يكون النموذج مرنا قابلا للتعديل، و ثريا قابلا للتحول من كونه نموذجا خاصا إلى كونه نموذجا شاملا لأكثر من نسق و بالتالي عام، و تتحدد صلاحيته التجريبية إما بتجارب قياسية عبر التمثل الاصطناعي في الواقع الافتراضي و إما بتجربته في الواقع الفعلي.