منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    البعد التداولي في السرد الشعري

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    البعد التداولي في السرد الشعري Empty البعد التداولي في السرد الشعري

    مُساهمة   السبت ديسمبر 12, 2009 8:50 am

    البعد التداولي في السرد الشعري
    هناك بعد رابع يسهم في السرد الشعري إسهاما كبيرا هو البعد التداولي ، وتعني التداولية باللغة في حالة الإنجاز ، أو ما تسميه بالفعل الكلامي ، ويتطلب التفسير التداولي للنص – أي نص – جملة من الأمور يحددها فان دايك فيما يلي :
    1 – معرفة العالم الذي يؤول فيه النص .
    2 – معرفة المقامات المتنوعة للسياق .
    3 – معرفة اللغة المستعملة أي قواعدها في الاستعمال .
    يطرح فان دايك مفهوما للعالم في النص يسميه العالم الممكن ، وهو يرى أن هذا العالم هو على وجه أكثر تخصيصا " أمر من الأمور ممكن أن تحصل فيه مجموعة من القضايا مستوفاة على التمام ، وبالعكس فإن قضية ما يمكن – بحسب ذلك – أن تتحدد في غالب الأحوال على أنها حاصلة في مجموعة العوالم الممكنة أعني مجموعة العوالم الممكنة التي تكون فيها تلك القضية مستوفاة على التمام ، ولنلاحظ أن مصطلح العالم الممكن لا ينبغي أن نماثله مع أفكارنا البديهية عن عالمنا ( نحن ) وواقعنا ، بل ينبغي أن نعتبره بناء مجردا للنظرية السيمانطيقية ( أي نموذج عقلي نظري ) وذلك أن عالمنا الواقعي هو بالضبط عنصر واحد من مجموعة العوالم الممكنة ، إذ العالم الممكن كما يشير إلى ذلك " الإمكان " هو أيضا ليس حالة صادقة ، بل حالة يجوز أن تصدق ، ويوجد هذا الإمكان على أنماط متعددة ، إذ يمكن أن نتخيل نتصور موقفا تكون فيه الأحداث مختلفة عن الواقع أو عن الوقائع المشاهدة ، ولكنها متسقة منسجمة مع افتراضات العالم الواقعي المتحقق ( مثل القوانين والمبادئ وغيرها ... ) ومن ناحية أخرى نستطيع أن نتخيل عوالم مختلفة مع قوانين الطبيعة في جزئها أو كلها أي عوالم لا تشبه في شيء عالمنا الخاص بنا ، أو بالأحرى لا تتشابه في شيء مع مجموعة العوالم الممكنة التي يمكن أن يصدق عليها عالم واقعي ، أي تلك العوالم التي تستوفي نفس الافتراضات الأساسية ، وعندما نفكر في عالمنا الواقعي فقد لا نحصل فقط على مجرد تصور ساكن ستاتيكي عن هذا العالم ، إذ الأشياء في صيرورة ، وإذن فبدلا من المواقف الممكنة أو الأحوال يجوز أيضا أن نأخذ العوالم الممكنة كما لو كانت تجري مجرى الأحداث ، ولما كانت الأحداث الجارية تتعين أيضا بحركة الزمان وجريانه ، كانت حال هذه الأحداث الجارية تتعرف مثل العوالم بأمرين اثنين : وهما العالم الممكن ونقطة زمانيــة من مجموعة الأوقات. "
    يكتسب هذا الاقتباس الطويل نسبيا أهمية كبيرة في تصور فان دايك عن مفهوم الانسجام النصي ، فهو يرى أن مفهوم العوالم الممكنة – وفق التصور الذي طرحه – يساعد على تحقيق هذا الانسجام ، ولا يظهر هذا العالم كما يقول هو في مواضع أخرى من كتابه إلا من خلال جمل النص الخبرية والإنشائية ، هذه الجمل تطرح تصورات مفردة أو مركبة لعالم ممكن التحقق ذهنيا ، ودالة الصدق أو الكذب في هذه الجمل لا تتحدد وفق تماثلها مع العالم الواقعي أو عدم تماثلها ، وإنما وفق المنطق الذي يحكم التسلسل الداخلي لهذه الجمل داخل النص ، برغم أن بعض الباحثين يرى أن مفاهيم الصدق والكذب لا صلة لها باللغة أو باستعمالها، وأن تمثل الكون – أي حالة الصدق أو الكذب فيه – تتم بلغة داخلية وكلية هي لغة الفكر ، لكن مفهوم لغة الفكر مفهوم غامض ، ولا يحل الأمر بل يزيده تعقيدا .
    لقد اهتم التداوليون بمفاهيم الصدق والكذب التي يتم تمثل العالم الممكن عن طريقها ، ورأى أوستن أن معيار الصدق والكذب يتحدد وفق مطابقة هذه الجمل للعالم الواقعي أو غير ذلك ، وهي هنا تسمى جملا وصفية ، أو ما تسميه البلاغة العربية الجمل الخبرية ، والنوع الآخر من الجمل لا يمكن الحكم عليه بالصدق أو الكذب ، وهو النوع الذي تسمية البلاغة العربية الجمل الإنشائية ، لكن هذه المطابقة للعالم الواقعي ليست شرطا في صدق الجملة أو كذبها ، فقد تكون الجملة كاذبة وفق شروط العالم الواقعي ، لكنها صادقة وفق شروط العالم الممكن ، وهنا يأتي دور التخييل الذي اهتم به سيرل اهتماما كبيرا من منظور تداولي ، وقد طرحه في علاقته بالكذب ، يرى سيرل أن الكذب والتخييل نشاطان لغويان يتخذان غالبا شكل الإخبار والإثبات دون أن يكونا مع ذلك إخبارا أو إثباتا خالصين ، وبالفعل لا يتم احترام القواعد المتحكمة في نجاح عمل الإخبار وإخفاقه عند التخييل أو الكذب ، فهذه حالات يجري فيها انتهاك شرط النزاهة ( الذي يقضي بأن يعتقد القائل في صدق ما يخبره أو يثبته ) فمن يكذب أو ينتج نصا تخييليا لا يعتقد في صدق ما يثبته ، ومع ذلك إذا كان التخييل والكذب عملين يستعيران صيغة الإخبار دون أن يكونا إخبارا خالصا ، فإنهما مع ذلك ليسا عملين متكافئين ، ففي حين ينوي قائل الجملة الكاذبة مغالطة صاحبه ، أي ينوي حمله على اعتقاد بأنه ( أي القائل ) يصدق ما يثبته ، فإن قائل الجملة التخييلية لا ينوي مغالطة صاحبه ، أي لا ينوي حمله على الاعتقاد بأنه ( أي القائل ) يصدق ما يبدو أنه يثبته ، وهكذا فإن المقاصد الكامنة وراء الكذب والتخييل مقاصد متباينة ، وبرغم التشابه الظاهري بين التخييل والكذب ، فإنه ينبغي ألا نخلط بينهما .
    لكن قضية الخبر والإنشاء ليست بسيطة ، فهناك جمل خبرية ذات محتوى إنشائي ، وبالمثل هناك جمل إنشائية ذات محتوى خبري ، ويرى صاحبا كتاب " التداولية اليوم " أن جملتي " المطر يهطل " و " أقول إن المطر يهطل " برغم أن لهما البنية العميقة نفسها ، فإنهما مختلفتان من حيث الصدق والكذب ، فالجملة الأولى قد تكون صادقة أو كاذبة ، أما الجملة الثانية فإنها صادقة بقطع النظر عن هطول المطر .
    كيف يمكن أن نرى نص النقائض من خلال مفاهيم العوالم الممكنة وعلاقتها بالصدق والكذب والتخييل ؟ وكيف يحدث الانسجام النصي وفق هذه المفاهيم السابقة ؟ إن قضية العالم الذي يؤول فيه العبارة – في حالة النقائض – قضية معقدة ، فالتأويل في عالم مغاير تماما للعالم الذي أنتج فيه النص ، عالم تغيرت فيه دلالات الكلمات ، وظهرت أجناس أدبية مختلفة ، كما اختلف فيه موقف الناس من الأدب عامة والشعر خاصة ، وكف الناس فيه عن اعتبار النقائض من فنون الشعر المتداولة ، لكن المشكلة الأكبر مع النقائض أنها نص زمني ، بمعنى أنها شديدة الارتباط بالشروط الاجتماعية التي أنتجت في ظلها ، ولا يستطاع سبر العالم الممكن الذي تنتجه النقائض وتمحيص مشكلة الصدق والكذب فيها إلا بعد التعرف إلى الخلفيات الاجتماعية لها ، وهي خلفيات من الشيوع بحيث لا تحتاج إلى مزيد عرض ، لكن ما يمكن أن يضاف عليها ، وما له صلة بموضوعنا هنا أن كلا الشاعرين ينتج قصيدته تحت شروط اتصالية تفتقد النزاهة ، بمعنى عدم قابلية الطرف الآخر للأفكار التي يطرحها كل واحد منهما ، كذلك فإن جمهور النقائض من المتلقين الأوائل ينقسم بين الشاعرين قبولا لطرف ورفضا لآخر ، ولا يغيب هذا الجمهور عن الشاعرين في أثناء إنتاجهما للقصائد ، هذا السياق الاجتماعي المنقسم على نفسه يحدث تأثيرا كبيرا في صياغة الجملة ، وفي القضايا التي تحتويها ، وفي طبيعة العالم الممكن صدقا أو كذبا أو تخييلا داخل القصيدة .
    يحتوي الجزء الاستهلالي في قصيدة الفرزدق المكون من سبعة أبيات على كلمة مركزية تشكل عالم القصيدة بأكمله ، وهي كلمة بيت ، تتكرر هذه الكلمة ست مرات ، ويشار إليها في البيت السابع ، لا يحتاج المتلقي إلى عناء كبير ليدرك أن الكلمة هنا لا تستخدم في معناها الحقيقي ، وإن بدت كذلك في هذا الجزء ، لقد أشار أبو عبيدة في شرحه للنقائض – وهو ليس بعيدا زمنيا عن الفرزدق أو جرير إلى أن الفرزدق إنما يريد بيت شرف وعز ، وهذا مثل ، أي استعارة بالمفهوم البلاغي ، يشكل الفرزدق صورة استعارية من خلال عدد من الجمل الخبرية يبلغ عشر جمل في هذا الجزء من القصيدة ، ولا يستخدم إلا أداة توكيد واحدة في مطلع الجملة الأولى ، باقي الجمل يمضي دون عوائق لتضفر معا صورة هذا البيت الفريد من نوعه ، فزرارة – أحد أجداد الفرزدق – يحتبي بفنائه ، ومجاشع وأبو الفوارس نهشل يلجون هذا البيت ، وإذا قورن ببيت جرير فهو بيت شرف وعز على حين يبدو بيت جرير مثل بيت العنكبوت ، كيف يتم تأويل هذه الصورة الاستعارية الكبيرة ؟ وكيف تنطبق شروط التصديق أو التكذيب عليها ؟ تقول البلاغة العربية إن شرط الصدق أو الكذب هو أحد شروط الجملة الخبرية ، لكنها لا تفصل الجمل الخبرية ذات المحتوى الحقيقي عن الجمل الخبرية ذات المحتوى المجازي ، وجملة " إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز وأطول " كاذبة وفق منظور البلاغة القديمة ، أما التداولية فقد أوجدت مخرجا لهذا النوع من الجمل المجازية حين أخرجته من دائرة الصدق والكذب بمعنى مطابقته للواقع أو عدم مطابقته ، وربطته بالتخييل ، وهو في هذه الحالة يحتاج إلى تأويل جديد لمفهوم الصدق والكذب على النحو الذي أوضحه سيرل أو أوستين أو غيرهما من التداوليين ، لقد فرقوا هنا بين الكذب والتخييل على اعتبار مقاصد المتكلم ، فالجملة كاذبة وفق مقصد المتكلم الذي ينوي مغالطة صاحبه ، وهي تخييلية إذا كان المتكلم لا ينوي ذلك ، في هذه الجملة لا ينوي المتكلم / الفرزدق مغالطة صاحبه جرير ، أي أن الجملة هنا تبعا لهذا التأويل جملة تخييلية ، ومع ذلك فإن صاحبه رد الجملة ونقضها ، والسؤال : على أي مستوى في الجملة تم النقض ؟ أو ليطرح السؤال بطريقة مختلفة : كيف تلقى جرير هذه الجملة ؟ هل تلقاها بوصفها تخييلا لا يُكذب أو يُصدق ؟ أم تلقاها بوصفها تحكي وقائع يمكن تصديقها أو تكذيبها ؟ الحادث أن جريرا – برغم وعيه بالجزء التخييلي فيها ، وهذا استنتاج محض – رد الجملة ، وعاملها على أنها خبر ، وفي رده على الفرزدق لم يفرق في موقفه منها بين البنية السطحية للجملة – وفق مصطلحات تشومسكي أي أن الله بنى لآل الفرزدق بناء أعز وأطول ، وبين بنيتها العميقة في كون هذا البناء استعارة للشرف والسمو ، يقول جرير :
    أخزى الذي سمك السماء مجاشعا وبنى بناءك في الحضيض الأسفل
    بيتــا يحمـم قينكـم بفنـائــه دنسـا مقاعــده خبيث المدخـل
    ولقـد بنيت أخس بيــت يبتنـى فهدمـت بيتكــم بمثلـي يذبـل
    إني بنى لــي في المكارم أولـي ونفخت كيـرك في الزمـان الأول
    لكنه في رفضه الأول لم يرفض البناء في نفسه ، وإنما رفض طبيعة ما بني ، وقد انسحب هذا على رفضه الثاني ، أي للبنية العميقة ، فإذا كان هناك بناء فعلا ، فهو لا يرمز إلى الشرف والسمو ، بل يرمز إلى الضعة والخسة .
    وكذلك حين يقول الفرزدق في مقطع تال من القصيدة :
    وهب القصائد لي النوابغ إذ مضوا وأبو اليزيد وذو القروح وجرول
    والفحل علقمة الذي كانــت لــه حلـل الملــوك كلامـه لا ينحـل
    وأخو بني قيـس وهــن قتلنــه ومهلهـل الشعــراء ذاك الأول
    إلى أن يقول
    فيهن شاركني المساور بعدهم وأخو هوازن والشآمي الأخطل
    فهو يعيد التأكيد على صورة العالم الذي افتتح به القصيدة ، العالم الذي كان ، والذي استمر من خلاله هو وحده ، سواء في ميراث الشرف والرفعة والعز التي أخذها عن أجداده ، أو ميراث الموهبة الشعرية التي تدفقت إليه من هذه الأسماء لشعراء الجاهلية المشهورين ، والتي لم يشاركه فيها من معاصريه إلا مساور بن هند والراعي النميري والأخطل ، وقد يتصور أحد أن الفرزدق يذكر أمثلة للشعراء ، لا أن يحصيهم جميعا في مدى تأثره بهم ، وقد يتصور كذلك أن ما ذكره من شعراء يتوافقون مع اتجاهه الشعري وطريقة صياغته الأسلوبية ، كلا الأمرين جائز في التأويل ، لكن أمر هذا المقطع يتجاوز ذلك ، فالفرزدق يريد أن ينفي جريرا ، يريد أن يحطمه في موهبته كما حطمه في أجداده ، وكما سيحطمه بعد ذلك في أسرته وشرفه ، وهو حين يقول " وهب القصائد لي النوابغ " فإن الكلمة المفتاح هنا هي كلمة " لي " ، فإذا كان كل هؤلاء قد وهبوني القصائد ، فمن أعطاك أنت قصائدك ؟ وإذا كانت قصائدي متجذرة في التربة الشعرية موصولة بهؤلاء ، فإن قصائدك معلقة في الهواء لا تبقى ولن تبقى ، لكن الفرزدق يعود في نهاية هذا الجزء ليشرك معه في صلته بالتراث ثلاثة شعراء يعلم جيدا أنهم أقل قدرا من جرير ، لذلك فإن جريرا في نقضه لهذا الجزء من قصيدة الفرزدق لم ينشد إلا بيتا واحدا :
    حسب الفرزدق أن تُسب مجاشع ويعد شعر مرقش ومهلهل
    كما رأينا في المقطع الاستهلالي وفي المقطع الآخر ، فإن الفرزدق يبني عالما يستند في تفاصيله إلى تراث أجداده وآبائه ، وهو عالم منسجم تماما منذ البيت الأول حتى البيت الرابع والستين حين يتحول في خطابه بدءا من البيت الخامس والستين كلية إلى جرير يوسعه هجاء ، قبل ذلك فإن الماضي هو الذي يسيطر على مفردات الخطاب ، وحجم ما يشار إليه داخل النص يمثل صعوبة كبيرة للمتلقي الحديث ، فكل جملة تشير إلى وقائع وإلى أشخاص لا يمثلون شيئا حاضرا في ذهن المتلقي الحديث ، كما أن من يشار إليهم ليس لهم حضور تاريخي بارز ، وليست لأسمائهم دلالة يمكن استحضارها إذا حضرت هذه الأسماء إلا في الجزء الخاص بحديثه عن أجداده الشعراء ، دون ذلك تبقى المشكلة كبيرة .
    لكن إذا كان العالم الذي ينشئه الفرزدق عالما غريبا الآن ، فإنه لم يكن كذلك في لحظة التلقي الأولى ، هذه الأسماء الكثيرة التي يذكرها الفرزدق لا بد أنها كانت تمثل شيئا له قيمة عند الحضور في ساحة المربد ، وهذه الوقائع التي يشير إليها تستدعي عند الحضور تفاصيل كثيرة ، أما مدى تأثير هذا العالم على المتلقين سواء الأوائل منهم أو الأواخر فيرتبط بما يمكن تسميته قابلية التصديق ، هذا المبدأ الذي يحتاج إلى مزيد من التمحيص ، ولأجل تمحيصه فإن مثالا آخر من قصيدة الفرزدق يمكن أن يلقي أضواء كاشفة عليه ، هذا المثال في البيت السابع والعشرين من القصيدة :
    أحلامنا تزن الجبال رزانة وتخالنا جنا إذا ما نجهل
    وهو واحد من الأبيات القليلة في هذه القصيدة التي ما تزال تتواتر في كتب الأدب والنقد ، وهو أمر لا يمكن تجاهله في معالجة البعد التداولي في السرد الشعري ، فما الذي يدعو الناس على مر العصور إلى انتخاب هذا البيت أو ذاك من قصيدة يتجاوز عدد أبياتها المائة ليرددوه في مناسبات مختلفة ، أو ليستشهدوا به ، ويتجاهلوا في الوقت نفسه بقية القصيدة ، من الممكن القول هنا إن هذا البيت أو مثيله أرضى حاجة عند الناس ، وهذه الحاجة فيها بعد لا زمني يتصل بالنفس الإنسانية وهي حاجة تتعالى على الوقائع والأحداث المحدودة ، لكن هذه الإجابة شديدة العمومية ، فما الذي أرضى الناس في هذا البيت ، وأنت إذا اختبرته وجدته كذبا صريحا ، فالأحلام لا تزن الجبال حقيقة ، وأنت لا تستطيع أن تتخيل بشرا على هيئة الجن ، هنا يأتي مبدأ قابلية التصديق ، فأنت إذا كنت ترى البيت في بنيته السطحية تخييلا ، فإن البنية العميقة له يجب أن تكون قابلة للتصديق ، ومعنى التصديق هنا هو المعنى الشائع لها في كتب البلاغة القديمة وهو مطابقة الوقائع الموجودة في الجملة بالوقائع الموجودة في العالم الحقيقي ، في هذا البيت نجد الفرزدق يرسم صورة لأناس تجتمع فيهم صفتان تبدوان على طرفي نقيض وهما الحلم والشجاعة ، إن اجتماعها شيء نادر في البشر ، لكنه برغم ذلك اجتماع ممكن ، وهذا هو المدخل لتصديق البيت ومدى تأثيره على المتلقي ، بنى الفرزدق عالما متجانسا ، اعتمد فيه قليلا على التخييل ، واعتمد كثيرا على ذكر وقائع وأسماء ليست لها دلالات كبيرة الآن ، لكن إذا تم فك شفراتها ، فإنها لا تبدو متنافرة فيما بينها .
    أما جرير فأمره مختلف قليلا ، تتوزع قصيدته بين مقطعين : مقطع غزلي يبلغ عدد أبياته عشرة أبيات ، ومقطع ينقض فيه على الفرزدق في بقية القصيدة ، في المقطع الغزلي يسيطر الحاضر سيطرة واضحة ، والجمل الغالبة فيه هي الجمل الإنشائية والشرطية سواء في الاستفهام في جملة " لمن الديار ؟ " أو النداء " يا أم ناجية السلام عليكم " أو الشرط " وإذا التمست نوالها بخلت به .. " أما الجمل الخبرية فإنها تنحو إلى أن تكوِّن عالما تخييليا أو احتماليا ، حين يقول جرير مثلا في البيت الأول :
    لمن الديار كأنها لم تحلل بين الكنس وبين طلح الأعزل
    فإن الجملة الخبرية " كأنها لم تحلل بين الكناس ... " تقدم عالما محتملا لا يستطاع معه التصديق أو التكذيب ، فموضوع الجملة غامض ، ولا يستطيع المتلقي أن يختبر الجملة بوصفها حالة يمكن أن يطابقها مع وقائع العالم الحقيقي ، كما أن الجملة الخبرية في البيت التالي تثير إشكالا مشابها :
    ولقد أرى بك والجديد إلى بلى موت الهوى وشفاء عين المجتلي
    فعل الرؤية هنا لا يمكن اختباره إلا من صاحبه ، إذن هو حالة لا تطبق عليها قوانين الصدق والكذب ، لكن قد يقول قائل إن السارد هنا يرى موت الهوى ، والهوى لا يموت ، فضلا عن إمكانية رؤيته ، لا يغيب عن أحد أن الجملة هنا استعارية ، أي أنها تقدم عالما تخييليا ، وتقبل الجملة هنا وفق قانون قابلية التصديق الذي عُرض قبلا .
    في حالة الجمل الشرطية نحن أمام خمس جمل في المقطع الغزلي ، استخدم جرير " إذا " في ثلاث منها ، واستخدم " لو " في جملتين ، يرى فان دايك أن الجملة الشرطية مع " إذا " أو " لو " تقدم ما يسميه تشارطا متعاند التحقق ، وهو يشرحه من خلال هذا المثال " إذا لم يسقط المطر في هذا الصيف فستجف الأرض " يرى أن العالم الافتراضي المتعاند التحقق ينبغي أن يكون مشابها من وجه ما إلى العالم الافتراضي المتحقق ، إذن من الجائز في مثل هذا العالم أن يكون انتفاء المطر من نتيجته حصول جفاف الأرض ، وبهذا الاعتبار فنحن نتحدث عن عوالم متعاندة التحقق على وجه عرضي ، وعن عوالم متعاندة التحقق على وجه جوهري ، لكن قد يوجد عالم لا يسقط فيه مطر ، لكن لا يحدث جفاف في الأرض ، وهو اختلاف قوي وشديد يخلخل قوانين الطبيعة. "
    فهل يمكن أن نعامل هذه الجملة الشرطية في البيت الرابع من المقطع الغزلي وفق المنظور الذي طرحه فان دايك :
    وإذا التمست نوالها بخلت به وإذا عرضت بودها لم تبخل
    إن الجملة الشرطية الأولى تصنع فعلين مترابطين في عالم ممكن من وجهة نظر الشاعر ، فأنت إذا التمست نوال هذه المرأة ، فإنها لن تعطيك شيئا ، فهل يمكن القول إنك إن لم تطلب منها شيئا أعطتك ما تريد ، بمعنى هل يمكن قياس هذه الجملة على جملة " إذا لم يسقط المطر ، فستجف الأرض " فإذا سقط ، فإن الأرض لن تجف ، وهنا إذا التمست نوال المرأة لم تعطك شيئا ، وإذا لم تلتمس نوالها أعطتك إياه ، هل يصح هذا القياس ؟ بدهي أنه لا يصح ، وإذن فإن القوانين التي تحكم تفسير الجمل الشرطية حتى مع استخدامها الأداة نفسها ليست واحدة ، والسبب في ذلك هو طبيعة العالم الممكن الذي تقدمه كل جملة ، إن ما تقدمه جملة جرير يختلف كلية عما تقدمه جملة فان دايك ، فإذا كانت جملة فان دايك تقدم علاقة بين حدثين في عالم متعاند فإن جملة جرير لا تقدم هذه العلاقة على الرغم من أنها توحي بذلك ، بل تقدم شيئا مختلف : تقدم خبرا عن هذه المرأة ، صحيح أن البنية السطحية لجملة جرير بنية شرطية ، لكنها في بنيتها العميقة خبرا ذا بعد واحد ، وليس خبرا ذا بعد علائقي ، أنها امرأة متمنعة سواء التمست نوالها أو لم تلتمس .
    أما المقطع الثاني الذي ينقض فيه على الفرزدق ، فإنه أطول كثيرا ، لكنه لا يختلف في طبيعة العالم الذي قدمه في المقطع الأول ، إنه زمن الحاضر الذي يشغله ، ولا تستطيع أن تفصله عن الطريقة التي يخاطب بها الفرزدق ، ولا عن استراتيجيته في الإعلاء من قدره والحط من قدر الفرزدق ، وعلمه أنه لن يستطيع أن يجاري الأخير في شرف أسرته ومجد آبائه ، لذلك كان توجهه نحو الحاضر أكثر بروزا ، وميله إلى الهدم ، وإلى السخرية ، وإلى نقض ما طرحه الفرزدق في قصيدته الأولى ، ولقد توزع هذا النقض على سبعة مواضع في القصيدة ، أشار البحث إلى موضعين منها من قبل ، والآن فإننا نتعرض لأمثلة أخرى نتبين من خلالها البعد التداولي في السرد الشعري ، في المثال الأول يقول جرير :
    قتل الزبير وأنت عاقد حبوة تبا لحبوتك التي لم تحلل
    يلجأ جرير هنا إلى التعريض ، وهو شكل من أشكال الاستلزام الخطابي ، إن الفرزدق يفخر بحبوة أجداده في الأبيات الأولى من قصيدته ، ويقول لجرير " لا يحتبي بفناء بيتك مثلهم " والحبوة هي جلسة الشرف في التقاليد العربية القديمة ، جرير لا ينفي عنه الحبوة ، بل ينفي عنه ما هو أشد وأنكى ، أن هذه الحبوة لا قيمة لها إذا كان الزبير قد قتل ، لقد حول جرير الحبوة إلى رمز للغفلة والخسة بدلا من أن تكون رمزا للشرف والسمو ، لذلك كان طبيعيا أن يقول في الشطر الثاني " تبا لحبوتك ... " ، وفي المثال الثاني يقول جرير :
    أحلامنا تزن الجبال رزانة ويفوق جاهلنا فعال الجهل
    هنا يحاول جرير السطو على زعم الفرزدق ، بأن يستعير منه الشطر الأول بأكمله ، دون أن يضيف شيئا ، أو أن يغير من الصياغة ، وفي الشطر الثاني أراد أن يعيد صياغة المعنى ، فجاء – كما يقول القدماء – متأخرا عنه ، ووزان ذلك أن الجملتين وإن اتفقتا في بنيتهما العميقة ، فإن البنية السطحية لجملة الفرزدق أشد تأثيرا ، ولا نقول هنا مع عبد القاهر إن الفرزدق أتى في التشبيه ما يؤكد الفكرة من خلال مقارنة أفعال عشيرته بأفعال الجن ، ولكن نقول إن الفرزدق صاغ عالما متخيلا ، ومع ذلك فمن الممكن أن نطبق فيه مبدأ قابلية التصديق على النحو الذي عرض قبل ذلك ، أما جرير فإن جملته مطروحة أمام المتلقين ، يمكن أن يمارسوا عليها قانون الصدق والكذب ، والأمران هنا مختلفان ، فقابلية التصديق ترتبط بعالم افتراضي تخييلي موجود في الجملة ، أما قانون الصدق والكذب فيرتبط بجملة ذات محتوى خبري تدعي مطابقتها بالعالم الحقيقي .
    وفي المثال الأخير يقول جرير :
    إن الذي سمك السماء بنى لنا عزا علاك فما له من منقل
    يفشل جرير مرة أخرى في السطو على الفرزدق ، لقد بنى الذي سمك السماء لآل جرير عزا ، بينما بنى لآل الفرزدق بيتا ، وإذا كان من الممكن القول إننا في النهاية أمام شيء واحد ، ففي الحقيقة أن اختلاف الصياغتين أنتج شيئين مختلفين تماما . إن صياغة الفرزدق صياغة ولودة ، بينما صياغة جرير عاقر ، لقد توقف جرير أمام كلمة " العز " فلم يُنتج منها شيئا ، لذلك لم تكن الأبيات التي نقض فيها جرير الفرزدق غالبا هي أكثر أبياته شيوعا ، بل إن ما شاع من هذه القصيدة عند الناس أبيات قليلة ، بعضها في الغزل ، وبعضها الآخر في مقدمة المقطع الذي نقض فيه الفرزدق .
    عالم جرير إذن هو عالم الحاضر الذي يحاول فيه أن يبني مجده الشخصي وقدراته الشعرية ، وقد نتج عن هذا العالم الحاضر وطأة للسياق الاجتماعي عليه ، إضافة إلى وطأة الرد على الفرزدق في قصيدته الأولى ، ففي توجهه للجمهور بدأ قصيدة الهجاء عنده بمقدمة غزلية شاعت أبياتها ربما بأكثر من شيوع الهجاء نفسه ، ثم حاول في جزء الهجاء أن يختصر عباراته وأن يبسطها حتى يمكن أن تشيع ، والشيوع هنا علامة التفوق ، وإذا كان العالم الذي أنتجه جرير هو العالم الحاضر ، فإنه ليس عالما افتراضيا أو خياليا ، بل هو شبيه العالم الواقعي ، لذلك لا يؤدي المجاز في قصيدة جرير دورا مهما في صياغة هذا العالم مثلما أداه في صياغة العالم في قصيدة الفرزدق ، برغم ذلك تظل القصيدتان متماسكتين وفق المنظور الذي يسيطر على كل واحدة منهما ، وهذا التماسك مظهر من مظاهر البعد التداولي الذي يعد عنصرا مهما في السرد الشعـري .
    cherry

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 07, 2024 2:43 pm