ويتمثل هذا الاتجاه في قصيدة النثر، في قصائد مفردة، ودواوين كاملة اتخذت هذه التقنيات معيارا وأسلوبا يتم من خلاله بناء النصوص، يقول جمال القصاص في ديوان "السحابة التي في المرآة(51):
علي الذهاب إلي المرآة.
سوف لا أنتظر
بحذرٍ.
سوف تلقين أسلحتك
ليس للعطش رصيف
لحضورك الليلة طعم الغرابة، أختار شوكة الصبار،
الورم الخفيف في إصبعك يمنحني انطباعا سيئا عن
الصحراء، سأكتفي بالعصير، ليكن، أحب عبد
الناصر، الأسطورة لا تورث، يوما ما سأبتكر معطفا
للتمرد، لن يزعجك أن أجعل الحزام علي شكل حدوة
الحصان، أو خطي العنكبوت، …. إلخ النص ( ص 106 ـ 107).
والنص علي مستواه الشكلي يمزج بين شكل الكتابة الشعرية التي أقرتها جماليات الذائقة العربية مع قصيدة التفعيلة، من حيث طول السطر الشعري وقصره تبعا للدفقة الشعورية، والدلالة المطلوبة، وبين الكتابة النثرية والقصصية من حيث امتلاء السطر الطباعي للصفحة. أما علي المستوي المضموني، فإن النص يعتمد البني القصصية، وآليات السرد بدءا بالضمير السارد "أنا" الذي يمتزج أحيانا مع حركة الفعل، فيصير هو الفعل ذاته، ويتحول أحيانا أخري إلي ضمائر تكشف عن الذات الساردة.
ويقول حلمي سالم في سراب التريكو(61)
يروقني أن ألمح بعض علائم الشر
تحت حاجبيك الغليظين
ليست الملائكة من ضيوفي
ولكنني حين طلبتك في هاتف المالية
لم أكن أريد سوي أن أسمع:
آلو
ـ أيوه
مين. ( ص14)
ويتدخل البناء السردي القصصي والمسرحي في البناء الشعري، وبخاصة في الحوار التليفوني، ولكن يظل صوت الشاعر/ السارد هو المهيمن في إحداث التشاكل بين ما هو شعري، وما هو غير شعري.
إن هذه النصوص ـ وقد حافظنا علي شكلها الطباعي كما هو ـ تنحو إلي هدم الحدود الفاصلة بين الأنواع، إذ يتشكل النص في إطار المزج بين السردية التي قد تبدو أحيانا خالصة، ولكنها سرعان ما تتواشج مع الشعرية في بناء ينذر بهدم الموروث اللغوي، وخلق دلالات لغوية جديدة، وبناء شعرية أو شعريات معاصرة.
مبدأ استلهام التراثي وبعثه
لقد وسع الشعر - في مرحلة من مراحله - من بنية استلهام التراثي في بناء شعري علي المستويين الشكلي والموضوعي، حيث اتخذت مستويات التراثي في الشعري أبعادا أكثر تشاكلا نتيجة لتنامي إحساس الشاعر بالقلق والمعاناة الإنسانية، وتنامي الفوراق بين طبقات البشر، وتضخم الصراع الإنساني، ليس هذه المرة مع قوي الطبيعة، وإنما مع قوي الآلة والسلطة وأسلحة الدمار، وسيطرة المدنية بكافة تمظهراتها المقيتة بالنسبة له، لقد تنامي إحساس الشاعر بالعالم، الذي لم يعد يراه صافيا رائقا كما كان قبلا مع الأجيال السابقة، وإنما أصبح قاتما مرعبا،ومن ثم جاءت تجربته الشعرية انعكاسا لرؤيته الحياتية وتعبيرا صادقا عنها، وبحث الشعراء عن مخرج من هذا الضيق النفسي الجاثم علي الصدر،فهرب بعضهم إلي الطبيعي والواقعي، وبعضهم إلي الفلسفي،وبعضهم إلي الأسطوري، ولكنهم اجتمعوا تقريبا علي اتخاذ الديني والتراثي مرجعية شعرية، ومن ثم كان أحد المظاهر المهمة في تاريخ الشعرية العربية المعاصرة اللجوء إلي الخرافة والأسطورة، و الرموز والنصوص الدينية .
وتعمل آلية استلهام التراثي علي إعادة تأويل واكتشاف ذلك التراثي ثم العمل علي بعثه من جديد، في إيقاع جديد ولغة تواصل جديدة. وأحيانا شكل فني جديد، وهنا يلعب التناص دوره علي مستويات ثلاثة: ( تناص مع تراثي - تناص مع عناوين وأعمال أدبية - تناص مع مثل شعبي سائر).
وفي كل المستويات الثلاثة، فإن التناص هنا ليس مجرد استحضار لأصوات، ومواقف، وأحداث تراثية، ولكنه يكون في إطار منحها دلالات وإسقاطات معاصرة تعبر عن رؤية مؤلفيها، مثل استحضار الموقف الصوفي العرفاني، كما تمثلته الشعرية المعاصرة في بحث عن روحانية لا تنتمي إلي الموقف الديني انتماء خاصا بقدر ما تنتمي إلي ما وراء الموقف الديني، أي الروحانية، تلك الروحانية التي غدت تمثل مأزقا للحداثة المعاصرة. ويتمثل التناص مع التراث الديني في كتابات مثل: فريد أبو سعدة، ومحمود نسيم، وأحمد الشهاوي، وجرجس شكري، وعبد الناصر هلال.
ويأتي ديوان "ذاكرة الوعل" لفريد أبو سعدة معتمدا علي إعادة صياغة أساطير قديمة، وخلق أساطير حديثة، حيث قسم نصوصه إلي دفقات، كل دفقة تتشكل في هيئة طلسم سحري يتوازي مع الدفقة الأخري،مثال ذلك :
الدفقة السابعة ( إيزام )
يومها : السبت . كوكبها : زحل . معدنها: الرصاص . ملاكها : كسفيائيل .
والسفلي : ميمون . حرفها : الزاي .
" قالت : هكذا أتم الرب حكمته
قالت : وهكذا تخيم الظلمات علي كل شيء
قال : العالم كله سكون
قالت : لأن من خلفه يرتاح في سمائه .
حيث تجتمع عناصر متعددة تنتمي إلي أكثر من حقل أسطوري وديني، فهو يبدأ في جو أسطوري متسائلا فيه عن الصمت والموت، والليل الذي يغمر النار، و الحاجة إلي البطل أو المخلص أو المضحي. وهو ما يتناص مع: المسيح المصلوب علي اللوح، وبروميثيوس الذي سلطت عليه الآلهة - عقاباً له- طائراً ينهش كبده، ويختلط البناء الأسطوري القديم مع ما هو معاصر، ليشكل عالما تكاد لا تستطيع فيه ملاحقة الانتقال بين الماضي والحاضر، ولكنه يتغيا شكل السرود الأسطورية كما كانت عليه .
وفي اعتماد علي تيمة السحر، التي تعطي إيحاء بالسحري أو العجائبي، وإعادة خلقها في تشكُّل يجسد لصراع الذات/ الأنا مع السلطة المهيمنة والمرتكزات التي يري الشاعر أنها ليست منتظمة ذلك الانتظام المعروف عنها، يقول فريد أبو سعدة في "أهوج" من ديوان "ذاكرة الوعل":
هش لها رقيائيل وأجلسها معه علي الكرسي: مريني تجديني من القادرين
قالت: جمعت أشلاءه من الجهات وروحه في
بماذا أبدأ
قال: عناصره يصهرها الماء الحار، دموعك
ستة أيام (ص7).
ويستدعي هذا المقطع أسطورة إيزيس وتجميعها لجسد أوزيريس من ولايات مصر الاثنتي عشرة التي وزعها عليها ست إله الشر، إلا أن الشاعر يبني حول الأسطورة طقسا من السحر الشعبي، وكأنه يكتب رقية أو تعويذة، وينقلنا إلي جو من السحري العجائبي. والديوان كله تهيمن عليه هذه البنية، بنية الأسطوري في جو السحري الطقوسي، وكأنه في معبد فرعوني قديم تغلفه طقوسية السحر.
يقول في "أواه" ( ص94):
للنيل يوم في السنة ينام فيه، والسعيد السعيد
من يحظي منه برشفة وهو نائم. لأنه سيمكنه
أن يثني العملة المدن بين إصبعيه أو يفركها
فيمسح صورة الملك.
والنص برمته إعادة صياغة لغوية للسحر الشعبي، الذي يروي هذه الحكاية، ولكنه يعاد بناؤه في نسيج مع الملاكة مهائيل، وسيطرتها علي النيل. والديوان في نصوصه كافة يعتمد بنية السحري، ويستخدم أسماء الملائكة التي ارتبطت به، مثل (رقيائيل/ جبرائيل/ سمسمائيل/ ميكائيل/ شهدائيل/مهائيل/كسفيائيل). وقد رصد الشاعر أسماء الله في اللغة السوريانية، وجعلها أسماء لقصائد الديوان (أهوج/ يوه/ هلهلت/ دوسم/ حوسم/ أواه/ أيزام). ويستمر توظيف السحري والعجائبي، وإعادة تشكيله
وعند محمود نسيم في" تداخل" من ديوان "كتابة الظل(71)، يقول:
مطوفا ـ
رفعت قائما من البيت لكي أشم ماء هاجر وحجر إسماعيل
آنست ابتراد النار في مقام إبرهيم.
واقتربت من دار أبي سفيان ـ آمنا قيامة العبيد.
فتنة الدين الجديد
وانتهيت للجبال والجبال
فهل سوي البترول والطلول ما استكن في الصحراء
واستوي علي محامل الجمال
وهل سوي سقاية الحجيج والحداء ما استخلفت
تلك نجمة القطب وأول المحاق. ( ص42)
فالشاعر يستعيد عبر قصيدته تاريخا كاملا من التراث العربي الديني، تاريخ هاجر، ونشأة البيت الحرام، وحجر إسماعيل، ونار سيدنا إبرهيم، وفتح مكة "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن". وفي حركة خاطفة، يمتزج فيها التراثي بالآني"البترول"، ثم يمتزج الآني بالتراثي مرة أخري "سقاية الحجيج"، ويتفتت البناء الزمني، لينقل النص من إطار السردية إلي مجال الشعرية، ليجسد لحالة العربي المعاصر صاحب هذا التراث العريق الذي يجوسه تاريخه، ويطرح السؤال، سؤال المحاق، والزوال التدريجي الذي تنمحي فيه مرتكزات الروح أمام التحول الآني للحياة(ص 43):
فلفتني سحابة
ولفني ولف صحراء الجزيرة الزوال.
ويقول أحمد الشهاوي في "حاء ميم" من ديوان " قل هي":
أردت موتي
وأنا الذي تجلت لغاتي في هتك سر بواطنك.
نزعت هيكل هدهدك
وطلبتني أن أستعير سفينة مثقوبة عافها بحر في الرمال.
أنا لست نوحا
كي أسمي البحر عمرا ضائعا
ولدي وقت
أقصر قامة من قبلة .(ص134)
فالبناء النصي لا يعتمد علي تقديم أسطورة أو رمز تراثي سابق، يستلهمه الشاعر ويضع حالة موازيــة لـه، ولكن النص يعتمد بناء قصة تتمحور حول إعادة بناء التراثي "سفينة نوح"، لرصد مشاهد الحيرة والقلق وطلب المستحيل، وهي السمات التي يتميز بها الإنسان المعاصر.
ويقول جرجس شكري في "عاليا عند الفرعونة" (81)
"مرثا" في ثوب أمي
تمنح كيس نقودها للمدعوين في حفلتي التنكرية
وهي تغسل الأطباق وتعد الشاي
تغمز لي بقبلتين فتطول لحيتي إلي الأرض
"لعازر" الخارج لتوه من القبر بعد أربعة أيام
يدخن بلا أسنان
محتفظا تحت سرواله بعروستي الشمع
… أسرعي يا مرثا
حمروا الطائر
ناقَشوه حتي لحمه العاري
فطار عاليا
رأينا ريشه يسقط من الضحك. (ص50، 51)
حيث تعود مرثا ولعازر، ليس في إطار وظيفتهما القديمة، ولا تراثهما المتعارف عليه، ولكن في تشكل يرتبط بمظاهر الفقر والحرمان والقهر المعاصر، ويبدو موقف الإنسان الحائر بين إيمان بالسماء ومحاولة الفكاك التي تنتهي بالقهر أيضا.
ويأتي المستوي الثاني من مستويات التناص، وهو التناص مع عناوين، وهو ما يكثر عند حلمي سالم، وبخاصة في ديوانه "الواحد الواحدة":
ومرة: الحياة من غيرك حبلي بالمسرات
ومرة: نحن أسطورة الحب في زمن الكوليرا.(87)
ويقول في "كوكب الصفح" (ص91):
عندئذ:
أدركت أن صمت الحملان مكنوز بالدسائس
وثم ثعلبة
فسألت: هل رعيت كوكب الصفح؟
ويقول في "ودع" (ص70):
ربما صارت مقابض الفضة أشهي من :
"الوتر والعازفون".
فالحب في زمن الكوليرا، رواية لماركيز، وصمت الحملان فيلم سينمائي، والوتر والعازفون كتاب نقدي في الشعر للشاعر نفسه.
أما المستوي الثالث من مستويات التناص، فهو التناص مع مثل شعبي سائر، وإن كان بإعادة تشكيل، وهو ما نجده أيضا في ديوان "الواحد الواحدة":
تلمع فوق المرايا الفتوحات مدهونة بالصحبة
والنفس أمارة. ( ص32)
ويقول في "تاجر الملوح" :
عشرون كمنجة في الجلد وبروحي في التنفس:
علي خده يا ناس مائة وردة
انصرف القائد دون بلادي بلادي. (ص92)
فالنفس أمارة، مثل مأخوذ مما يجري الآن مجري الحكمة / المثل "النفس أمارة بالسوء"، وكذلك علي "خده يا ناس مائة وردة" أغنية ذائعة، مع إحداث تحوير لها إلي الفصحي، وهو ما يشي بهيمنة التراث الشعبي، وتداخله مع النص لتجسيد تاريخ طويل من الإنسانية وخبراتها.
أبعاد وعناصر السرد بين القص والشعر
ثمة انتقال دائم لعناصر السرد من القص إلي الشعر، وعناصر الشعرية من القصيدة إلي القص، وهو أمر لا يمكن تصوره بمفهوم الكتلة التي يجب عليها أن تنتهي في حدودها لتبدأ حدود كتلة جديدة، ولكن يمكن تصوره بمفهوم التيارات الهوائية التي تتداخل فيها ذرات الماء والتراب والهواء والضغط الجوي، والساخن والبارد لإنتاج كتلة، قابلة نوعا ما لتكشف بعض عناصرها، ولكنها غير قابلة للتحلل مرة أخري، لأن المساس بعنصر منها يغير من حالتها التي هي عليها إلي حالة أخري لها ملامح مغايرة.
في هذا السياق يمكن رصد بعض الملامح السردية في انتقالها للشعر، وبعض الملامح الشعرية في انتقالها للقص .
السرد الشعري
زاد الاهتمام بالسرد في عصرنا الحاضر، نتيجة للسعي وراء مضامين جديدة للنص الشعري، فكان أن نشأ ما يمكن تسميته بالقصيدة الديالوجية التحاورية المتعددة صوتيا، التي لا تكتفي بسرد المتكلم، وإنما تجمع صوته بأصوات أخري، وبمظاهر سردية متنوعة ما بين رؤية من الخلف أو رؤية مشاركة، أو خارجية " ومع هذه التعددية الصوتية تتعدد أبعاد الزمن وأشكاله، فليس الحاضر استكمالا لماض رتيب في خط تعاقبي يرافق التوترات والتسبيب السردي ضرورة، كما أن المستقبل لا يحمل بذرة البشارة أو الوفاق حصرا (91).
ومعني هذا أن السرود قد تحتمل التنقلات الزمانية وتناوبات القص، وقد تلجأ إلي الاسترجاع والتناص، وقد تدمج الإيقاعين الزماني بالمكاني، وتستبطن اللحظة وتعمقها في زمان آخر جديد، أو قد تلجأ إلي مجاورات مكانية وزمانية بالاتكاء علي خطابات أخري فقهية أو قصصية أو روائية، وربما مقولات فلسفية، فالسرد العربي الحديث أصبح يجاري إحساسا بتوترات العصر، وقضايا الإنسان المعاصر في مدنية تشهد تخلخلا في البنية الموضوعية للثوابت، وضربا لكثير من القيم والمرتكزات التي كان ينطلق منها الإنسان .
ويمكن رصد العناصر السردية التي اعتمدها الشعر، وبخاصة القصيدة المعاصرة بدءا من تشكلات الشعر التفعيلي علي النحو التالي(02)
1- الراوي ( الرؤية ) بمستوياته : راو خلفي، راو مشارك، وهو الشاعر / البطل / الراوي ( الشخصيات ) .
2- اللعب بالضمائر: (من الغائب للمخاطب /من المفرد إلي جمع المتكلم /… إلخ ).
3- الحدث/ الأحداث : سواء أكانت صغيرة أم كبيرة، ويرتبط بها اختفاء وظهور الأفعال .
4- الزمن: بأشكاله ( الملحمي - الأسطوري - الميقاتي - الموضوعي - الفني).
5- الوصف: مع تثبيت أو تحريك عنصر الزمن .
6- تعدد الخطاب : وتحوله إلي حوار داخلي أو خارجي، وتعدد الأصوات والحوار .
7- تحديد المكان .
8- تعريف الشخصيات بصفاتها وأفعالها وربما أسمائها .
9- الخروج علي الإيقاع والمجاز والاستعارة .
10- التنظيم السردي.
11- الإيقاع العروضي لما يحتويه من زمن، وهذا ما يؤكده التنوع العروضي للبحر الواحد ما بين تام ومجزوء ومشطور ومنهوك، إن هو في النهاية إلا استجابة لعنصر الزمن.
1- السرد الشعري : الراوي / السارد - السرد الروائي : السرد الداخلي (سرد الذات) :
وهو أحد العناصر الرئيسة التي يعمد السرد إلي الكشف عنها من خلال رصد موقف الراوي من شخصياته، والذي لا يخرج عن أن يكون واحدا من مواقف ثلاثة(12)، هي:
أ- الرؤية من خلف ويستخدم الحكي الكلاسيكي غالبا هذه الطريقة "ويكون الراوي عارفا أكثر مما تعرفه الشخصية الحكائية، لأنه يستطيع أن يصل إلي كل المشاهدين عبر جدران المنازل، كما أنه يستطيع أن يدرك ما يدور بخلد الأبطال، وتتجلي سلطة الراوي هنا في أنه يستطيع مثلا أن يدرك رغبات الأبطال الخفية، تلك التي ليس لهم بها وعي هم أنفسهم "(22) وتستخدم الرؤية من خلف صيغة ضمير الغائب "هو" .
ب- الرؤية المشاركة (الرؤية مع): وتكون معرفة الراوي هنا علي قدر معرفة الشخصية الحكائية، فلا يقدم الراوي أية معلومات أو تفسيرات إلا بعد أن تكون الشخصية نفسها قد توصلت إليها ويستخدم الكاتب في هذه الرؤية ضمير المتكلم أو ضمير الغائب،و الراوي علي هذا الأساس إما أن يكون شاهدا علي الأحداث، أو شخصية مساهمة في الحكاية نفسها (القصة ).
ج- الرؤية من الخارج: ولا يعرف الراوي في هذا النوع إلا القليل مما تعرفه إحدي الشخصيات الحكائية، حيث يكون الراوي هنا موضوعيا لا يستطيع أن يقتحم قراءة نفس شخصياته فهو يعتمد علي الوصف الخارجي أي وصف الحركة و الأصوات و المشاهدة الحسية .
وعلي هذا الأساس يمكن رصد مظاهر حضور السارد في نصه بالبحث عنه وتتبع صوته، وللسارد عادة طريقان : إما أن يكون خارجا عن نطاق الحكي، أو أن يكون حاضرا بذاته داخل نطاق الحكي ومشاركا فيه . وقد كان السارد في الخطاب النثري القديم، والخطاب الشعري الشعبي يأخذ شكل القول : قول الراوي، ولكنه مع المداخلات الحديثة للأدب اختفي الراوي لأنه لم تعد الحاجة ماسة إلي افتراض وجود شخصية تروي النص، ومن جهة أخري فقد اختفي الراوي الذي تطغي معرفته علي معرفة شخصياته.
أما في الشعر فإن الأمر يختلف، حيث يمتزج المؤلف الحقيقي مع المؤلف الضمني الذي يصنعه الكاتب في خطابه الشعري، فالنص الشعري قد يعتمد علي شخصية واحدة ساردة تروي الأحداث، وتسرد الأحاديث والصفات والأفعال والأفكار .
وبهذا فإن الشاعر / السارد يروي تجربته هو علي مستوي النص، وهذا ما تؤكده النصوص التي تعتمد السرد بنية لها .
يقول أمل دنقل في قصيدة " العار الذي نتقيه (32)
هذا الذي يجادلون فيه
قولي لهم من أمه، ومن أبوه
أنا وأنت ..
حين أنجبناه ألقيناه فوق قمم الجبال كي يموت !
لكنه ما مات
عاد إلينا عنفوان ذكريات .
فالشاعر يسرد تجربته هو، معتمدا علي شخصيته الساردة للأفعال والأحداث، وإن كان منطق الحكي ذاته يعتمد في هذا المقطع علي ثلاث شخصيات تجسدها الضمائر " أنا، أنت، هو " فإن ذلك يدخل في إطار الشخصيات الحكائية نفسها، وليس في إطار مظاهر حضور السارد، فالسارد هنا شخصية واحدة، عالمة بالحدث، ولكنها ليست عالمة بنفسية شخصياتها، حيث يمثل الرؤية المساوية ( الرؤية مع ) التي يكون استكشافها للأحداث مساويا لاستكشاف الشخصية المحكية لها، وبالتالي مساوية لمعرفة المتلقي، ولتأويله، وهنا تنبغي الإشارة إلي الرمز ودوره وعملية السرد الشعري باعتباره عاملا مختزلا للأحداث ، يحمل شحنات مكثفة تكشف عن ذاتها أو بعضه بتكشف الرؤية الشعرية.