منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    السرد الشعري والزمن

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    السرد الشعري والزمن Empty السرد الشعري والزمن

    مُساهمة   السبت ديسمبر 12, 2009 8:43 am

    السرد الشعري والزمن
    ما عرض سابقا لا يمثل كل شيء في موضوع تعدد الأصوات ، لقد ركز البحث هنا على ما يخص تحولات الضمائر داخل القصيدة ، وهي تحولات تعد جزءا من أسلوب الالتفات ، وقد عرضت هنا بوصفها تمثل أحد أساليب السرد الشعري ، هناك أسلوب آخر يؤثر على السرد داخل القصيدة هو الكيفية التي يعرض بها الزمن ، هنا لا بد من العودة إلى التمييز بين السردين الروائي والشعري ، في السرد الروائي يتخذ الزمن بعدا بنيويا ظاهرا ، وعلى أساس من الأسلوب الذي يعرض به الزمن داخل الرواية فرق السرديون بين المتن الحكائي والمبني الحكائي ، كما أن كثيرا من محاولات التجريب في الرواية دار حول الزمن ، في الرواية يمكن ضبط إيقاع الزمن وفق الكيفية التي تتوالى بها الأحداث ، يختلف الأمر كثيرا في السرد الشعري ، فليس ثمة أحداث يمكن أن تكون مؤشرا على الزمن ، مع ذلك فإن الزمن يدرك في القصيدة من خلال مؤشر آخر .
    ما الذي يعنيه الزمن في الشعر ؟ وما الذي يعنيه داخل السرد الشعري ؟ إن الشعر بطبيعته فن زمني ، وزمنيته ارتبطت عند كثيرين بالإيقاع ، ويحضر الزمن دائما عند الشعراء في بحثهم عن إيقاعات أكثر حرية من الأنماط المقفلة نسبيا للأوزان والمقاطع التقليدية ، لكن هذا جانب من أهمية الزمن في الشعر ، جانب الزمن الفيزيائي ، هناك جانب آخر يتصل بما يمكن تسميته الزمن السردي ، وهو هنا يشبه الزمن الروائي ، إلا أن المؤشرات التي تدل عليه – كما قلنا – مختلفة ، إن أهمية زمن السرد الشعري ترتبط بطبيعة العوالم التي يحيل إليها السارد ، والموقع الذي يرى منه هذه العوالم ، والكيفية التي تتضافر بها هذه العوالم لتشكل معا عالما متجانسا ، أو هكذا يرغب الشاعر .
    إن أهم مؤشر يدل على زمن السرد الشعري هو الأفعال داخل القصيدة ، لكنها ليست المؤشر الوحيد ، بعض أنواع الإنشاء الطلبي يمكن أن تكون مؤشرا على الزمن ، ولا يساعدنا النحو كثيرا في هذا الأمر ، فالنحو القديم فقير جدا في درس الزمن كما هو معلوم ، ما يساعدنا هو لسانيات النص ، وهذه أقامت بناءها النظري على أسس من لغات أخرى ، إن البحث عن الزمن في القصيدة هو بحث عن جزء من البناء الذي يقيمه منشئ النص ، أو ربما يكون أهم جزء فيه ، إن منشئ القصيدة يكون لديه إجمالا تصور للنص الذي يرمي إليه ، أو على الأقل مخطط عام له ، كما يكون لديه تصور عن حركة الزمن داخله ، وهو حين يستخدم أي مؤشر يدل على الزمن ، فإنه يضعه في موضعه من المخطط الذي تصوره سلفا ، وفي استخدامه للأفعال يدرك منشئ القصيدة جيدا أن الأفعال داخل النص ليست كلها سواء في دلالتها على حركة الزمن الكبرى ، هناك أفعال تكون بمثابة مرتكزات زمنية تفتح أفق النص على زمن ما ، وهناك أفعال أخرى أقل في دلالتها على الزمن ، والأمر هنا ليس إحصاء مقدار ما استخدمه المنشئ من أفعال ماضية أو مضارعة ، وإنما تتبع هذه المرتكزات الزمنية في الأفعال ، أو في الإنشاء الطلبي .
    في قصيدة الفرزدق تسعة مؤشرات أساسية تشكل معا بنية الزمن داخل النص ، وهي تساعدنا – من ثم – على تصور الكيفية التي يرى بها الفرزدق العالم :
    المؤشر الأول الفعل " بنى "
    إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز وأطول
    المؤشر الثاني الفعل المنفي " لا يحتبي " في البيت الخامس
    لا يحتبي بفناء بيتك مثلهم أبدا إذا عد الفعال الأفضل
    المؤشر الثالث الفعل " يحمي " في البيت الحادي عشر
    يحمي إذا اخترط السيوف نساءنا ضرب تخر له السواعد أرعل
    المؤشر الرابع الفعل " قد بلغ " في البيت الثلاثين
    فرعان قد بلغ السماء ذراهما وإليهما من كل خوف يعقل
    المؤشر الخامس النداء " يا ابن المراغة " في البيت الرابع والأربعين
    يا ابن المراغة أين خالك إنني خالي حبيش ذو الفعال الأفضل
    والمؤشر السادس الفعل " غصب " في البيت الخامس والأربعين
    خال الذي غصب الملوك نفوسهم وإليه كان حباء جفنة ينقل
    والمؤشر السابع الفعل " لنضرب " في البيت السابع والأربعين
    إنا لنضرب رأس كل قبيلة وأبوك خلف إتانه يتقمل
    والمؤشر الثامن الفعل " وهب " في البيت الحادي والخمسين
    وهب القصائد لي النوابغ إذ مضوا وأبو اليزيد وذو القروح وجرول
    والمؤشر الأخير النداء " يا جرير " في البيت الخامس والستين
    إن استراقك يا جرير قصائدي مثل ادعاء سوى أبيك تنقل
    تبدو حركة هذه المؤشرات الزمنية التسعة حركة بندولية تقريبا ، يتنقل فيها الفرزدق بين زمني الماضي والحاضر ، وكل مؤشر منها يفتح بابا على زمن ما ، حين بدأ الفرزدق قصيدته مستخدما الفعل " بنى " بصيغته الماضية ، فإنه فتح بابا أعلن فيه انحيازه إلى أجداده ، من نقطته الحاضرة ينظر إلى تاريخه ، وإلى هؤلاء الأجداد الذين يستند إليهم ، وإلى هذا البيت الذي بناه لهم الذي سمك السماء ، الأفعال التالية حتى إن كانت صيغتها مضارعة مثل الفعل " يلجون " في البيت الرابع :
    يلجون بيت مجاشع وإذا احتبوا برزوا كأنهم الجبال المثل
    فإنها تظل حالية في سياق الزمن الماضي ، إنها هنا تشبه صيغة المضارع المستمر في الإنجليزية ، وهو أمر مربك كثيرا ، فالفعل في جملة " يلجون بيت مجاشع " ليست صيغته إلا صيغة مضارعة ، تنطبق عليه قوانين النحو والصرف التي تنطبق على غيره من الأفعال الشبيهة ، لكنه هنا ليس مضارعا ، وزمنه لا يرتبط بزمن نطقه ، إنه ينتمي إلى زمن ماض ، لكن الذي يزيد الأمر إرباكا أنه لا توجد دلائل صرفية أو نحوية تشير إلى الصيغة المقترحة ، وهي صيغة " المضارع المستمر " ، لا يوجد هنا إلا السياق الدلالي مؤشرا .
    يعود الفرزدق في المؤشر الثاني " لا يحتبي " إلى الزمن الحالي : زمن النطق من خلال مخاطبته لجرير ، ونجد هنا نفس ما وجدناه مع المؤشر الأول ، هناك جملة من الأفعال تأتي في الأبيات التالية لهذا البيت ، أغلبها صيغته ماضية ، لكن لا يمكن النظر إليها في سياق الزمن الصرفي ، عندما يقول الفرزدق :
    ضربت عليك العنكبوت بنسجها وقضى عليك به الكتاب المنزل
    فلا يمكن النظر إلى الفعلين " ضرب وقضى " إلا في سياق الخطاب ، وهو سياق المضارعة ، إنها ضربت ، وإنه قضى ، لكنهما ما يزالان يفعلان ، كأن الصيغة في دلالتها تشبه الماضي المستمر ، لكن لا مؤشرات من اللغة على هذه الصيغة الجديدة سوى دلالة السياق .
    مع المؤشر الثالث يستمر الفرزدق في زمن النطق مع الفعل " يحمي " ، لكنه هنا يتحدث عن عشيرته التي يعيش بين ظهرانيهم ، ولا يمنعه الأمر من أن يتحول بحديثه إلى جرير في بيت أو بيتين ليعود بعدها إلى عشيرته ، ومع المؤشر الرابع ينقل حديثه عن عشيرته إلى الزمن الماضي مرة أخرى في البيت الثلاثين الذي يمهد له البيت السابق عليه :
    وأنا ابن حنظلة الأغر وإنني في آل ضبة للمعـم المخـول
    فرعان قد بلغ السماء ذراهما وإليهما من كل خوف يعقـل
    وهذا المقطع من الزمن الماضي يستمر خمسة عشر بيتا ، لكنه يختلف عن المقطع الاستهلالي ذي الزمن الماضي ، هنا نجد أغلب الأفعال ذات صيغ ماضية تنسجم مع المؤشر الرئيسي على الزمن وهو الفعل " بلغ " ، مع المؤشر الخامس يعود الفرزدق في بيت واحد إلى الزمن الحالي مع صيغة إنشاء طلبي هي النداء " يا ابن المراغة " لا يحتوي هذا البيت إلا على صيغتين من الإنشاء الطلبي هما النداء والاستفهام ، وعلى جملة خبرية واحدة : جملة اسمية ، وقد دلت صيغتا الإنشاء الطلبي على الزمن الحاضر : زمن النطق ، ثم يعود الفرزدق مع المؤشر السادس إلى الزمن الماضي ، ليرجع بعده إلى الزمن الحاضر ، وهذا ما أسميته الحركة البندولية للزمن داخل القصيدة مع رجحان قليل للزمن الماضي فيها ، وهذا له دلالة مهمة .
    ويأخذ بناء الزمن عند جرير في رده على الفرزدق منحى آخر ، جرير لا يستند إلى عشيرة قوية يمكن أن يفخر بها ، وليس له أو لأجداده تاريخ واضح ، إذن العودة معه إلى الماضي لا تفيد كثيرا ، عناية جرير الأساسية هي اللحظة التي هو فيها ، والكيفية التي يمكن بها أن يحطم خطاب الفرزدق ، ويستحوذ على التأثير الكبير ، لذلك كان الزمن الحالي هو الزمن السائد في القصيدة ، الفعل المضارع في صورة أساسية ، وفعل الأمر أيضا ، يظهر هذا من البيت العاشر الذي يلي المقدمة الغزلية حين يستخدم الفعل المضارع " أعدد للشعراء سما " تأتي الأفعال الماضية بعد ذلك في سياق هذا الزمن الأساسي ، فلا تكوِّن لنفسها زمنا خاصا بها ، إنما تدور في فلك الزمن الحالي ، حين يقول جرير مثلا في البيت الثاني عشر :
    أخزى الذي سمك السماء مجاشعا وبنى بناءك في الحضيض الأسفل
    فلا يمكن التعامل مع الفعلين الأساسيين في هذا البيت " أخزى ، بنى " على أنهما فعلان ماضيان بالمعنى الصرفي وكفى ، إنهما كذلك إلا أنهما وُضعا في سياق الخطاب إلى الفرزدق ففقدا الدلالة الصرفية الكاملة ، وانتميا إلى خطاب زمنه الرئيسي هو الزمن المضارع ، إنهما – كما عُرض قبل ذلك مع الفرزدق – ماض مستمر ، مؤشراته سياق الحال ، هذا الأمر نفسه نجده في البيت الحادي والعشرين :
    ولقد وسمتك يا بعيث بميسمي وضغا الفرزدق تحت حد الكلكل
    فالذي يدل على زمن البيت ليس الفعل الماضي " وسمتك " ولا الفعل الماضي " ضغا " إنما يدل عليه الإنشاء الطلبي " يا بعيث " الذي يسحب الفعلين معا من زمنهما الماضي حتى اللحظة الحاضرة : لحظة الخطاب ، ما يلفت النظر في أبيات جرير هنا أنه بدءا من البيت العاشر حتى البيت الثاني والستين – وهو البيت الأخير في القصيدة – يتحدث جرير عن نفسه أو يخاطب الفرزدق بصيغة الماضي أو بصيغة المضارع أو بصيغة الأمر في أبيات تتجاوز خمسة وثلاثين بيتا ، وهو ما جعل صيغة الزمن الحالي هي الصيغة المهيمنة على خطاب جرير .

    منقول

      الوقت/التاريخ الآن هو السبت نوفمبر 23, 2024 5:10 pm