السرد الشعري والزمن
ما عرض سابقا لا يمثل كل شيء في موضوع تعدد الأصوات ، لقد ركز البحث هنا على ما يخص تحولات الضمائر داخل القصيدة ، وهي تحولات تعد جزءا من أسلوب الالتفات ، وقد عرضت هنا بوصفها تمثل أحد أساليب السرد الشعري ، هناك أسلوب آخر يؤثر على السرد داخل القصيدة هو الكيفية التي يعرض بها الزمن ، هنا لا بد من العودة إلى التمييز بين السردين الروائي والشعري ، في السرد الروائي يتخذ الزمن بعدا بنيويا ظاهرا ، وعلى أساس من الأسلوب الذي يعرض به الزمن داخل الرواية فرق السرديون بين المتن الحكائي والمبني الحكائي ، كما أن كثيرا من محاولات التجريب في الرواية دار حول الزمن ، في الرواية يمكن ضبط إيقاع الزمن وفق الكيفية التي تتوالى بها الأحداث ، يختلف الأمر كثيرا في السرد الشعري ، فليس ثمة أحداث يمكن أن تكون مؤشرا على الزمن ، مع ذلك فإن الزمن يدرك في القصيدة من خلال مؤشر آخر .
ما الذي يعنيه الزمن في الشعر ؟ وما الذي يعنيه داخل السرد الشعري ؟ إن الشعر بطبيعته فن زمني ، وزمنيته ارتبطت عند كثيرين بالإيقاع ، ويحضر الزمن دائما عند الشعراء في بحثهم عن إيقاعات أكثر حرية من الأنماط المقفلة نسبيا للأوزان والمقاطع التقليدية ، لكن هذا جانب من أهمية الزمن في الشعر ، جانب الزمن الفيزيائي ، هناك جانب آخر يتصل بما يمكن تسميته الزمن السردي ، وهو هنا يشبه الزمن الروائي ، إلا أن المؤشرات التي تدل عليه – كما قلنا – مختلفة ، إن أهمية زمن السرد الشعري ترتبط بطبيعة العوالم التي يحيل إليها السارد ، والموقع الذي يرى منه هذه العوالم ، والكيفية التي تتضافر بها هذه العوالم لتشكل معا عالما متجانسا ، أو هكذا يرغب الشاعر .
إن أهم مؤشر يدل على زمن السرد الشعري هو الأفعال داخل القصيدة ، لكنها ليست المؤشر الوحيد ، بعض أنواع الإنشاء الطلبي يمكن أن تكون مؤشرا على الزمن ، ولا يساعدنا النحو كثيرا في هذا الأمر ، فالنحو القديم فقير جدا في درس الزمن كما هو معلوم ، ما يساعدنا هو لسانيات النص ، وهذه أقامت بناءها النظري على أسس من لغات أخرى ، إن البحث عن الزمن في القصيدة هو بحث عن جزء من البناء الذي يقيمه منشئ النص ، أو ربما يكون أهم جزء فيه ، إن منشئ القصيدة يكون لديه إجمالا تصور للنص الذي يرمي إليه ، أو على الأقل مخطط عام له ، كما يكون لديه تصور عن حركة الزمن داخله ، وهو حين يستخدم أي مؤشر يدل على الزمن ، فإنه يضعه في موضعه من المخطط الذي تصوره سلفا ، وفي استخدامه للأفعال يدرك منشئ القصيدة جيدا أن الأفعال داخل النص ليست كلها سواء في دلالتها على حركة الزمن الكبرى ، هناك أفعال تكون بمثابة مرتكزات زمنية تفتح أفق النص على زمن ما ، وهناك أفعال أخرى أقل في دلالتها على الزمن ، والأمر هنا ليس إحصاء مقدار ما استخدمه المنشئ من أفعال ماضية أو مضارعة ، وإنما تتبع هذه المرتكزات الزمنية في الأفعال ، أو في الإنشاء الطلبي .
في قصيدة الفرزدق تسعة مؤشرات أساسية تشكل معا بنية الزمن داخل النص ، وهي تساعدنا – من ثم – على تصور الكيفية التي يرى بها الفرزدق العالم :
المؤشر الأول الفعل " بنى "
إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز وأطول
المؤشر الثاني الفعل المنفي " لا يحتبي " في البيت الخامس
لا يحتبي بفناء بيتك مثلهم أبدا إذا عد الفعال الأفضل
المؤشر الثالث الفعل " يحمي " في البيت الحادي عشر
يحمي إذا اخترط السيوف نساءنا ضرب تخر له السواعد أرعل
المؤشر الرابع الفعل " قد بلغ " في البيت الثلاثين
فرعان قد بلغ السماء ذراهما وإليهما من كل خوف يعقل
المؤشر الخامس النداء " يا ابن المراغة " في البيت الرابع والأربعين
يا ابن المراغة أين خالك إنني خالي حبيش ذو الفعال الأفضل
والمؤشر السادس الفعل " غصب " في البيت الخامس والأربعين
خال الذي غصب الملوك نفوسهم وإليه كان حباء جفنة ينقل
والمؤشر السابع الفعل " لنضرب " في البيت السابع والأربعين
إنا لنضرب رأس كل قبيلة وأبوك خلف إتانه يتقمل
والمؤشر الثامن الفعل " وهب " في البيت الحادي والخمسين
وهب القصائد لي النوابغ إذ مضوا وأبو اليزيد وذو القروح وجرول
والمؤشر الأخير النداء " يا جرير " في البيت الخامس والستين
إن استراقك يا جرير قصائدي مثل ادعاء سوى أبيك تنقل
تبدو حركة هذه المؤشرات الزمنية التسعة حركة بندولية تقريبا ، يتنقل فيها الفرزدق بين زمني الماضي والحاضر ، وكل مؤشر منها يفتح بابا على زمن ما ، حين بدأ الفرزدق قصيدته مستخدما الفعل " بنى " بصيغته الماضية ، فإنه فتح بابا أعلن فيه انحيازه إلى أجداده ، من نقطته الحاضرة ينظر إلى تاريخه ، وإلى هؤلاء الأجداد الذين يستند إليهم ، وإلى هذا البيت الذي بناه لهم الذي سمك السماء ، الأفعال التالية حتى إن كانت صيغتها مضارعة مثل الفعل " يلجون " في البيت الرابع :
يلجون بيت مجاشع وإذا احتبوا برزوا كأنهم الجبال المثل
فإنها تظل حالية في سياق الزمن الماضي ، إنها هنا تشبه صيغة المضارع المستمر في الإنجليزية ، وهو أمر مربك كثيرا ، فالفعل في جملة " يلجون بيت مجاشع " ليست صيغته إلا صيغة مضارعة ، تنطبق عليه قوانين النحو والصرف التي تنطبق على غيره من الأفعال الشبيهة ، لكنه هنا ليس مضارعا ، وزمنه لا يرتبط بزمن نطقه ، إنه ينتمي إلى زمن ماض ، لكن الذي يزيد الأمر إرباكا أنه لا توجد دلائل صرفية أو نحوية تشير إلى الصيغة المقترحة ، وهي صيغة " المضارع المستمر " ، لا يوجد هنا إلا السياق الدلالي مؤشرا .
يعود الفرزدق في المؤشر الثاني " لا يحتبي " إلى الزمن الحالي : زمن النطق من خلال مخاطبته لجرير ، ونجد هنا نفس ما وجدناه مع المؤشر الأول ، هناك جملة من الأفعال تأتي في الأبيات التالية لهذا البيت ، أغلبها صيغته ماضية ، لكن لا يمكن النظر إليها في سياق الزمن الصرفي ، عندما يقول الفرزدق :
ضربت عليك العنكبوت بنسجها وقضى عليك به الكتاب المنزل
فلا يمكن النظر إلى الفعلين " ضرب وقضى " إلا في سياق الخطاب ، وهو سياق المضارعة ، إنها ضربت ، وإنه قضى ، لكنهما ما يزالان يفعلان ، كأن الصيغة في دلالتها تشبه الماضي المستمر ، لكن لا مؤشرات من اللغة على هذه الصيغة الجديدة سوى دلالة السياق .
مع المؤشر الثالث يستمر الفرزدق في زمن النطق مع الفعل " يحمي " ، لكنه هنا يتحدث عن عشيرته التي يعيش بين ظهرانيهم ، ولا يمنعه الأمر من أن يتحول بحديثه إلى جرير في بيت أو بيتين ليعود بعدها إلى عشيرته ، ومع المؤشر الرابع ينقل حديثه عن عشيرته إلى الزمن الماضي مرة أخرى في البيت الثلاثين الذي يمهد له البيت السابق عليه :
وأنا ابن حنظلة الأغر وإنني في آل ضبة للمعـم المخـول
فرعان قد بلغ السماء ذراهما وإليهما من كل خوف يعقـل
وهذا المقطع من الزمن الماضي يستمر خمسة عشر بيتا ، لكنه يختلف عن المقطع الاستهلالي ذي الزمن الماضي ، هنا نجد أغلب الأفعال ذات صيغ ماضية تنسجم مع المؤشر الرئيسي على الزمن وهو الفعل " بلغ " ، مع المؤشر الخامس يعود الفرزدق في بيت واحد إلى الزمن الحالي مع صيغة إنشاء طلبي هي النداء " يا ابن المراغة " لا يحتوي هذا البيت إلا على صيغتين من الإنشاء الطلبي هما النداء والاستفهام ، وعلى جملة خبرية واحدة : جملة اسمية ، وقد دلت صيغتا الإنشاء الطلبي على الزمن الحاضر : زمن النطق ، ثم يعود الفرزدق مع المؤشر السادس إلى الزمن الماضي ، ليرجع بعده إلى الزمن الحاضر ، وهذا ما أسميته الحركة البندولية للزمن داخل القصيدة مع رجحان قليل للزمن الماضي فيها ، وهذا له دلالة مهمة .
ويأخذ بناء الزمن عند جرير في رده على الفرزدق منحى آخر ، جرير لا يستند إلى عشيرة قوية يمكن أن يفخر بها ، وليس له أو لأجداده تاريخ واضح ، إذن العودة معه إلى الماضي لا تفيد كثيرا ، عناية جرير الأساسية هي اللحظة التي هو فيها ، والكيفية التي يمكن بها أن يحطم خطاب الفرزدق ، ويستحوذ على التأثير الكبير ، لذلك كان الزمن الحالي هو الزمن السائد في القصيدة ، الفعل المضارع في صورة أساسية ، وفعل الأمر أيضا ، يظهر هذا من البيت العاشر الذي يلي المقدمة الغزلية حين يستخدم الفعل المضارع " أعدد للشعراء سما " تأتي الأفعال الماضية بعد ذلك في سياق هذا الزمن الأساسي ، فلا تكوِّن لنفسها زمنا خاصا بها ، إنما تدور في فلك الزمن الحالي ، حين يقول جرير مثلا في البيت الثاني عشر :
أخزى الذي سمك السماء مجاشعا وبنى بناءك في الحضيض الأسفل
فلا يمكن التعامل مع الفعلين الأساسيين في هذا البيت " أخزى ، بنى " على أنهما فعلان ماضيان بالمعنى الصرفي وكفى ، إنهما كذلك إلا أنهما وُضعا في سياق الخطاب إلى الفرزدق ففقدا الدلالة الصرفية الكاملة ، وانتميا إلى خطاب زمنه الرئيسي هو الزمن المضارع ، إنهما – كما عُرض قبل ذلك مع الفرزدق – ماض مستمر ، مؤشراته سياق الحال ، هذا الأمر نفسه نجده في البيت الحادي والعشرين :
ولقد وسمتك يا بعيث بميسمي وضغا الفرزدق تحت حد الكلكل
فالذي يدل على زمن البيت ليس الفعل الماضي " وسمتك " ولا الفعل الماضي " ضغا " إنما يدل عليه الإنشاء الطلبي " يا بعيث " الذي يسحب الفعلين معا من زمنهما الماضي حتى اللحظة الحاضرة : لحظة الخطاب ، ما يلفت النظر في أبيات جرير هنا أنه بدءا من البيت العاشر حتى البيت الثاني والستين – وهو البيت الأخير في القصيدة – يتحدث جرير عن نفسه أو يخاطب الفرزدق بصيغة الماضي أو بصيغة المضارع أو بصيغة الأمر في أبيات تتجاوز خمسة وثلاثين بيتا ، وهو ما جعل صيغة الزمن الحالي هي الصيغة المهيمنة على خطاب جرير .
منقول
ما عرض سابقا لا يمثل كل شيء في موضوع تعدد الأصوات ، لقد ركز البحث هنا على ما يخص تحولات الضمائر داخل القصيدة ، وهي تحولات تعد جزءا من أسلوب الالتفات ، وقد عرضت هنا بوصفها تمثل أحد أساليب السرد الشعري ، هناك أسلوب آخر يؤثر على السرد داخل القصيدة هو الكيفية التي يعرض بها الزمن ، هنا لا بد من العودة إلى التمييز بين السردين الروائي والشعري ، في السرد الروائي يتخذ الزمن بعدا بنيويا ظاهرا ، وعلى أساس من الأسلوب الذي يعرض به الزمن داخل الرواية فرق السرديون بين المتن الحكائي والمبني الحكائي ، كما أن كثيرا من محاولات التجريب في الرواية دار حول الزمن ، في الرواية يمكن ضبط إيقاع الزمن وفق الكيفية التي تتوالى بها الأحداث ، يختلف الأمر كثيرا في السرد الشعري ، فليس ثمة أحداث يمكن أن تكون مؤشرا على الزمن ، مع ذلك فإن الزمن يدرك في القصيدة من خلال مؤشر آخر .
ما الذي يعنيه الزمن في الشعر ؟ وما الذي يعنيه داخل السرد الشعري ؟ إن الشعر بطبيعته فن زمني ، وزمنيته ارتبطت عند كثيرين بالإيقاع ، ويحضر الزمن دائما عند الشعراء في بحثهم عن إيقاعات أكثر حرية من الأنماط المقفلة نسبيا للأوزان والمقاطع التقليدية ، لكن هذا جانب من أهمية الزمن في الشعر ، جانب الزمن الفيزيائي ، هناك جانب آخر يتصل بما يمكن تسميته الزمن السردي ، وهو هنا يشبه الزمن الروائي ، إلا أن المؤشرات التي تدل عليه – كما قلنا – مختلفة ، إن أهمية زمن السرد الشعري ترتبط بطبيعة العوالم التي يحيل إليها السارد ، والموقع الذي يرى منه هذه العوالم ، والكيفية التي تتضافر بها هذه العوالم لتشكل معا عالما متجانسا ، أو هكذا يرغب الشاعر .
إن أهم مؤشر يدل على زمن السرد الشعري هو الأفعال داخل القصيدة ، لكنها ليست المؤشر الوحيد ، بعض أنواع الإنشاء الطلبي يمكن أن تكون مؤشرا على الزمن ، ولا يساعدنا النحو كثيرا في هذا الأمر ، فالنحو القديم فقير جدا في درس الزمن كما هو معلوم ، ما يساعدنا هو لسانيات النص ، وهذه أقامت بناءها النظري على أسس من لغات أخرى ، إن البحث عن الزمن في القصيدة هو بحث عن جزء من البناء الذي يقيمه منشئ النص ، أو ربما يكون أهم جزء فيه ، إن منشئ القصيدة يكون لديه إجمالا تصور للنص الذي يرمي إليه ، أو على الأقل مخطط عام له ، كما يكون لديه تصور عن حركة الزمن داخله ، وهو حين يستخدم أي مؤشر يدل على الزمن ، فإنه يضعه في موضعه من المخطط الذي تصوره سلفا ، وفي استخدامه للأفعال يدرك منشئ القصيدة جيدا أن الأفعال داخل النص ليست كلها سواء في دلالتها على حركة الزمن الكبرى ، هناك أفعال تكون بمثابة مرتكزات زمنية تفتح أفق النص على زمن ما ، وهناك أفعال أخرى أقل في دلالتها على الزمن ، والأمر هنا ليس إحصاء مقدار ما استخدمه المنشئ من أفعال ماضية أو مضارعة ، وإنما تتبع هذه المرتكزات الزمنية في الأفعال ، أو في الإنشاء الطلبي .
في قصيدة الفرزدق تسعة مؤشرات أساسية تشكل معا بنية الزمن داخل النص ، وهي تساعدنا – من ثم – على تصور الكيفية التي يرى بها الفرزدق العالم :
المؤشر الأول الفعل " بنى "
إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز وأطول
المؤشر الثاني الفعل المنفي " لا يحتبي " في البيت الخامس
لا يحتبي بفناء بيتك مثلهم أبدا إذا عد الفعال الأفضل
المؤشر الثالث الفعل " يحمي " في البيت الحادي عشر
يحمي إذا اخترط السيوف نساءنا ضرب تخر له السواعد أرعل
المؤشر الرابع الفعل " قد بلغ " في البيت الثلاثين
فرعان قد بلغ السماء ذراهما وإليهما من كل خوف يعقل
المؤشر الخامس النداء " يا ابن المراغة " في البيت الرابع والأربعين
يا ابن المراغة أين خالك إنني خالي حبيش ذو الفعال الأفضل
والمؤشر السادس الفعل " غصب " في البيت الخامس والأربعين
خال الذي غصب الملوك نفوسهم وإليه كان حباء جفنة ينقل
والمؤشر السابع الفعل " لنضرب " في البيت السابع والأربعين
إنا لنضرب رأس كل قبيلة وأبوك خلف إتانه يتقمل
والمؤشر الثامن الفعل " وهب " في البيت الحادي والخمسين
وهب القصائد لي النوابغ إذ مضوا وأبو اليزيد وذو القروح وجرول
والمؤشر الأخير النداء " يا جرير " في البيت الخامس والستين
إن استراقك يا جرير قصائدي مثل ادعاء سوى أبيك تنقل
تبدو حركة هذه المؤشرات الزمنية التسعة حركة بندولية تقريبا ، يتنقل فيها الفرزدق بين زمني الماضي والحاضر ، وكل مؤشر منها يفتح بابا على زمن ما ، حين بدأ الفرزدق قصيدته مستخدما الفعل " بنى " بصيغته الماضية ، فإنه فتح بابا أعلن فيه انحيازه إلى أجداده ، من نقطته الحاضرة ينظر إلى تاريخه ، وإلى هؤلاء الأجداد الذين يستند إليهم ، وإلى هذا البيت الذي بناه لهم الذي سمك السماء ، الأفعال التالية حتى إن كانت صيغتها مضارعة مثل الفعل " يلجون " في البيت الرابع :
يلجون بيت مجاشع وإذا احتبوا برزوا كأنهم الجبال المثل
فإنها تظل حالية في سياق الزمن الماضي ، إنها هنا تشبه صيغة المضارع المستمر في الإنجليزية ، وهو أمر مربك كثيرا ، فالفعل في جملة " يلجون بيت مجاشع " ليست صيغته إلا صيغة مضارعة ، تنطبق عليه قوانين النحو والصرف التي تنطبق على غيره من الأفعال الشبيهة ، لكنه هنا ليس مضارعا ، وزمنه لا يرتبط بزمن نطقه ، إنه ينتمي إلى زمن ماض ، لكن الذي يزيد الأمر إرباكا أنه لا توجد دلائل صرفية أو نحوية تشير إلى الصيغة المقترحة ، وهي صيغة " المضارع المستمر " ، لا يوجد هنا إلا السياق الدلالي مؤشرا .
يعود الفرزدق في المؤشر الثاني " لا يحتبي " إلى الزمن الحالي : زمن النطق من خلال مخاطبته لجرير ، ونجد هنا نفس ما وجدناه مع المؤشر الأول ، هناك جملة من الأفعال تأتي في الأبيات التالية لهذا البيت ، أغلبها صيغته ماضية ، لكن لا يمكن النظر إليها في سياق الزمن الصرفي ، عندما يقول الفرزدق :
ضربت عليك العنكبوت بنسجها وقضى عليك به الكتاب المنزل
فلا يمكن النظر إلى الفعلين " ضرب وقضى " إلا في سياق الخطاب ، وهو سياق المضارعة ، إنها ضربت ، وإنه قضى ، لكنهما ما يزالان يفعلان ، كأن الصيغة في دلالتها تشبه الماضي المستمر ، لكن لا مؤشرات من اللغة على هذه الصيغة الجديدة سوى دلالة السياق .
مع المؤشر الثالث يستمر الفرزدق في زمن النطق مع الفعل " يحمي " ، لكنه هنا يتحدث عن عشيرته التي يعيش بين ظهرانيهم ، ولا يمنعه الأمر من أن يتحول بحديثه إلى جرير في بيت أو بيتين ليعود بعدها إلى عشيرته ، ومع المؤشر الرابع ينقل حديثه عن عشيرته إلى الزمن الماضي مرة أخرى في البيت الثلاثين الذي يمهد له البيت السابق عليه :
وأنا ابن حنظلة الأغر وإنني في آل ضبة للمعـم المخـول
فرعان قد بلغ السماء ذراهما وإليهما من كل خوف يعقـل
وهذا المقطع من الزمن الماضي يستمر خمسة عشر بيتا ، لكنه يختلف عن المقطع الاستهلالي ذي الزمن الماضي ، هنا نجد أغلب الأفعال ذات صيغ ماضية تنسجم مع المؤشر الرئيسي على الزمن وهو الفعل " بلغ " ، مع المؤشر الخامس يعود الفرزدق في بيت واحد إلى الزمن الحالي مع صيغة إنشاء طلبي هي النداء " يا ابن المراغة " لا يحتوي هذا البيت إلا على صيغتين من الإنشاء الطلبي هما النداء والاستفهام ، وعلى جملة خبرية واحدة : جملة اسمية ، وقد دلت صيغتا الإنشاء الطلبي على الزمن الحاضر : زمن النطق ، ثم يعود الفرزدق مع المؤشر السادس إلى الزمن الماضي ، ليرجع بعده إلى الزمن الحاضر ، وهذا ما أسميته الحركة البندولية للزمن داخل القصيدة مع رجحان قليل للزمن الماضي فيها ، وهذا له دلالة مهمة .
ويأخذ بناء الزمن عند جرير في رده على الفرزدق منحى آخر ، جرير لا يستند إلى عشيرة قوية يمكن أن يفخر بها ، وليس له أو لأجداده تاريخ واضح ، إذن العودة معه إلى الماضي لا تفيد كثيرا ، عناية جرير الأساسية هي اللحظة التي هو فيها ، والكيفية التي يمكن بها أن يحطم خطاب الفرزدق ، ويستحوذ على التأثير الكبير ، لذلك كان الزمن الحالي هو الزمن السائد في القصيدة ، الفعل المضارع في صورة أساسية ، وفعل الأمر أيضا ، يظهر هذا من البيت العاشر الذي يلي المقدمة الغزلية حين يستخدم الفعل المضارع " أعدد للشعراء سما " تأتي الأفعال الماضية بعد ذلك في سياق هذا الزمن الأساسي ، فلا تكوِّن لنفسها زمنا خاصا بها ، إنما تدور في فلك الزمن الحالي ، حين يقول جرير مثلا في البيت الثاني عشر :
أخزى الذي سمك السماء مجاشعا وبنى بناءك في الحضيض الأسفل
فلا يمكن التعامل مع الفعلين الأساسيين في هذا البيت " أخزى ، بنى " على أنهما فعلان ماضيان بالمعنى الصرفي وكفى ، إنهما كذلك إلا أنهما وُضعا في سياق الخطاب إلى الفرزدق ففقدا الدلالة الصرفية الكاملة ، وانتميا إلى خطاب زمنه الرئيسي هو الزمن المضارع ، إنهما – كما عُرض قبل ذلك مع الفرزدق – ماض مستمر ، مؤشراته سياق الحال ، هذا الأمر نفسه نجده في البيت الحادي والعشرين :
ولقد وسمتك يا بعيث بميسمي وضغا الفرزدق تحت حد الكلكل
فالذي يدل على زمن البيت ليس الفعل الماضي " وسمتك " ولا الفعل الماضي " ضغا " إنما يدل عليه الإنشاء الطلبي " يا بعيث " الذي يسحب الفعلين معا من زمنهما الماضي حتى اللحظة الحاضرة : لحظة الخطاب ، ما يلفت النظر في أبيات جرير هنا أنه بدءا من البيت العاشر حتى البيت الثاني والستين – وهو البيت الأخير في القصيدة – يتحدث جرير عن نفسه أو يخاطب الفرزدق بصيغة الماضي أو بصيغة المضارع أو بصيغة الأمر في أبيات تتجاوز خمسة وثلاثين بيتا ، وهو ما جعل صيغة الزمن الحالي هي الصيغة المهيمنة على خطاب جرير .
منقول