وجهة نظر في السرد الشعري
دراسة تطبيقية على نقائض جرير والفرزدق
د . أحمد صبرة
تبدو النقائض نصا عزيز المثال في التراث الشعري ، فهي نص لا تحتويه قصيدة واحدة بل عشرات القصائد التي يزيد عدد أبياتها عن أربعة آلاف بيت ، وهي نص لم يكتبه شاعر واحد ، وإنما اشترك فيه عدد من الشعراء كان أشهرهم جرير والفرزدق والأخطل ، ثم إنها نص لم يُكتب مرة واحدة في فترة زمنية قصيرة ، بل امتد بها التأليف إلى حوالي أربعين سنة هي عمر النقائض في العصر الأموي ، لذلك تستحق النقائض أن توسم بأنها نص مفرطHypertext ، ففيها كثير من سمات هذا النص على الرغم من أن هذا المصطلح يطلق في أدبيات التناص الآن على النصوص الموجودة على الشبكة العنكبوتية حيث يحيل النص فيها إلى نص آخر وهو يحيل بدوره إلى نص آخر ... وهكذا ، بحيث تشكل هذه النصوص مجتمعة ما يسمى النص المفرط ، وهي سمة نجدها واضحة في نص النقائض أو نصوص النقائض حيث نجد فيها إحالات إلى الذاكرة الجمعية للمتلقين ، وإلى صراعاتهم القبلية القديمة ، وإلى عقائدهم ومفاخرهم ، وإلى مكنونات نفوسهم وضمائرهم ، وإلى أحلامهم وأوهامهم ، كما نجد في أجزاء كثيرة من النقائض إحالات إلى أجزاء أخرى ، كل ذلك حاضر في نص النقائض ، وربما حاضر في كل قصيدة من قصائد هذا النص .
لكن نص النقائض يتميز بسمة لا تجدها في كثير من النصوص الأخرى وهي أنه ينقسم انقساما لا يمكن تبين حدوده تماما إلى جزأين : جزء يمكن تسميته نصا أول ، وجزء آخر يمكن تسميته نصا مضادا ، وقد يقال إن هذا غير دقيق تماما ، فالنص الأول هو القصيدة الأولى ، والنص المضاد هو الرد عليها ، أو التي تنقضها ، لكن هذا غير صحيح أيضا ، فكثير من النصوص الأولى تحتوي على نقض لنصوص سابقة عليها ، وكثير من النصوص المضادة تحتوي على بذور أولية يتم نقضها في نصوص أولى تالية ، إجمالا تبدو شبكة العلاقات النصية بين أجزاء النص المفرط شديدة التعقيد ، وبرغم هذا الانقسام ، فإن الاستراتيجيات النصية التي يتبعها كل جزء داخل النقائض لا تبدو شديدة الاختلاف فيما بينها ، كل نص يتبع طرق التأثير نفسها ، ويلجأ إلى المرتكزات اللغوية التي يلجأ إليها النص الآخر ، ويكشف عن عالم هو نفسه العالم الذي ينكشف في أي جزء داخل النقائض ، وهذا ما يؤكد تسمية النص المفرط على قصائد النقائض كلها .
تحتوي قصائد النقائض على نظام للسرد مثلما تحتويه أية قصيدة أخرى ، ومصطلح السرد – حين يرتبط بالشعر – فإنه يثير إشكالات لابد من إيضاحها ، لقد ارتبط السرد بالحكي في الدراسات الغربية بحيث ينصرف الذهن – حين يصطدم بهذا المصطلح إلى نظام الحكي في القصة القصيرة أو الرواية ، يؤكد ذلك ما تقوله الدراسات الغربية عن مصطلح السرد الشعري نفسه ، فبول ريكور حين فسر تعريف أرسطو للشعر لم ير في هذا التعريف إلا أنه فن صناعة الحبكة الذي يعني فن تنظيم الأحداث ، ذلك أن السرد الشعري عند أرسطو هو التقليد الفعال أو العرض القوي لأفعال يمكنها أن تكشف المعنى المختفي في الواقع ، إن السرد الشعري يجمع معا عددا من العناصر المتشتتة عبر الزمن في كل واحد ، فعل واحد في حبكة ذات معنى ، إن الحبكة تجمع معا بداية الفعل ومنتصفه ونهايته في معنى واحد طبقا لبنية التتابع الزمني الخطي والنظام السببي ، وكل لحظة لها مكانها داخل هذا النظام بوصفها سببا أو نتيجة ، ويسمح التقليد السردي الشعري بأشكال شديدة الاختلاف من التعبير : التاريخ والرواية والسيرة الذاتية والمسرح والسينما إلخ ، هناك واحد من التمييزات الأساسية بين التعبيرات المختلفة في السرد هو التمييز بين الحكي recital والدراما ، فبينما يعد الحكي إخبارا Telling بسيطا لقصة ، فإن الدراما هي مظهرها الإيمائي ، ويتم التعبير عن السرد من خلال الأفعال نفسها وليس من خلال الساردnarrator الذي يحكي القصة ، وحين يريد السارد أن ينقل قولا لإحدى الشخصيات ، فإنه يقول " قال فلان " ثم يتقمص دور الشخصية ، ويتحدث بدلا منها ، في الدراما يصبح السارد ممثلا ، والممثلون سواء أكانوا في المسرح أو السينما أو هؤلاء الذين ينجزون أعمالا تطوعية يخبرون بالقصة من خلال الأفعال التي تكون الحبكة .
في الدراسات العربية برز مصطلح السرد الشعري ، وبدا أن هناك محاولة للاستفادة من السرديات الروائية في بحث الشعر ، وهو أمر محمود ، لولا أنه يجب البحث أولا في كنه هذا السرد الشعري الذي يراد استخدامه في الدراسات الأدبية ، فالسرد وفق المصطلح العربي ليس هو الحبكة في القصة القصيرة أو الرواية ، والذين يماهون في الشعر بين السرد والحبكة يهملون جوانب مهمة يقدمها هذا المصطلح في طبعته العربية ، فالسرد ليس سمة في القصة فقط ، إنما هو سمة في الخطاب اللغوي كاملا ، ويمكن رؤيته بوصفه حالة فعل كلامي لا تتقيد بالحكي فقط على الرغم من أن الحكي جانب بارز فيه ، إن السرد يتمدد ليشمل كل الحقول ، وعلى ذلك فإن كل استخدام للغة هو حالة خاصة من حالات السرد مهما كان موضوعها . لقد ارتبط السرد بالحكي تحت ما يمكن تسميته وطأة النموذج ، وهي حالة واضحة في الدراسات الإنسانية حين يستمد فرع جديد في هذه الدراسات مبادئه وقوانينه من النموذج الذي يستشهد به كثيرا ، يبدو ذلك واضحا في حقل الشعرية حين استمد هذا الحقل أغلب قوانينه من النموذج الشعري ، ثم حاول أن يبدو بهذه القوانين صالحا للتطبيق على أشكال الإبداع الأخرى ، وهو الأمر نفسه الذي حدث مع كلمة السرد حين نُقلت إلى العربية ، وعلى ذلك فإن البحث عن السرد في الأشكال اللغوية غير الروائية هو بحث عن الحكي فيها ، وهو أمر يجب تمحيصه .
هنا يجب التفرقة بين السرد والحكي ، فإذا كان الحكي شكل من أشكال السرد ، فإن السرد ليس كله حكيا ، السرد نظام في الأداء اللغوي يجب البحث عن قوانين أكثر عمومية له ، وبخاصة أن كلمة السرد نفسها في العربية تعني " تقدمة شيء إلى شيء تأتي به متسقا بعضه في إثر بعض متتابعا ، وسرد الحديث ونحوه يسرده سردا ، إذا تابعه ، وفلان يسرد الحديث سردا ، إذا كان جيد السياق له " ، ولا يرتبط هذا الاتساق والتتابع وجودة السياق بنمط من الحديث دون آخر ، وإلا كانت المعاجم نصت على ذلك ، المعنى اللغوي لكلمة سرد يجعلها تلتقي مع كلمة راسخة في الدراسات القديمة وهي كلمة " السبك " التي تعني فيما تعنيه القالب ، أما ارتباط السرد بالحكي حديثا فراجع إلى أثر ترجمة المصطلحات الغربية إلى العربية ، فكلمة سرد Narration ترتبط بالحكي دون أشكال الأداء اللغوي الأخرى كما هو واضح في تحليل ريكور ، ونقطة البدء – حسب ما أرى – تكمن في البحث عن الفرق بين السرد الروائي والسرد الشعري .
يعتمد السرد الروائي على جملة من الاستراتيجيات يحاول بها تحقيق مقاصده الكبرى من الحكي ، أهم هذه الاستراتيجيات هي وجهة النظر بمعنييها اللذين استقرا في الدراسات السردية ، وأعني موقع السارد داخل الحكي ، وجملة الآراء التي يحتويها العمل ، أو كما يقول واين بوث عنها " التعليق " ، كما يعتمد السرد على الشخصيات وطريقة تركيبها وتقديمها إلى العالم ويعتمد كذلك على الكيفية التي يتحرك بها الزمن داخل الحكي ، ويعتمد أخيرا على نظام الحبكة وجودا أو عدما .
أمر السرد الشعري مختلف قليلا ، فالحبكة ليست جزءا من بنية القصيدة إلا إذا كان هناك سرد قصصي فيها ، وحتى هنا فإن الحبكة تلعب دورا مختلفا عن دورها في الرواية ، والشخصية الروائية تختلف كلية عن الشخصية في الشعر بحيث إن القوانين المركبة التي طرحتها السرديات لدراسة الشخصية لا تصلح للتطبيق في حالة الشعر ، بقي جانبان في السرد الروائي يمكن لهما أن يكونا ذا تأثير مهم في دراسة السرد الشعري ، وهما موقع السارد وحركة الزمن ، في حالة موقع السارد تطرح القصيدة العربية القديمة نظاما مدهشا في السرد يعتمد على أسلوب الالتفات ، في هذه القصيدة لا تجد ساردا واحدا ، بل ساردين ، ولا تجد مسرودا إليه واحدا ، بل عدة منهم ، هذه الحركية في استخدام ضمائر السرد تقابلها قيود كثيرة في السرد الروائي ، فالسارد الروائي ليس حرا في استخدام الضمائر ، وما يبدأ به الحكي هو غالبا ما ينتهي به إلا في حالات قليلة وتجارب روائية لم تتكاثر في الإنتاج الروائي ، وأما حركة الزمن فإنها أكثر تعقيدا في كلا السردين ، لكن السرد الروائي تحميه " تيمة " الحكي الظاهرة فيه ، وأما السرد الشعري فيبدو بلا حام ، وتبدو حركة الزمن فيه خفية عميقة ، ولا تعطيك المؤشرات التي تدل عليه نفسها للوهلة الأولى ، لكنها حركة ذات تأثير شديد في القصيدة .
وفق هذا المنظور يحاول البحث هنا التعرض للسرد الشعري في نقائض جرير والفرزدق ويعتمد هنا على نقيضة تعد نموذجا لنقائض في العصر الأموي ، ومفهوم النقيضة – كما يطرحها البحث هنا – أنها التي تحتوي على قصيدتين : قصيدة ينشئها أحد الشاعرين ، والأخرى يرد بها الشاعر الآخر ، والنقيضة موضوع الدرس هي أولى النقائض بين جرير والفرزدق في كتاب أبي عبيدة معمر بن المثنى التيمي البصري المتوفى ســنة 209 هـ ، ( كتب النقائض : نقائض جرير والفرزدق ) والتي يبدؤها الفرزدق بقوله :
إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز وأطول
وقد رد عليه جرير في قصيدة أخرى بدأها بقوله :
لمن الديار كأنها لم تحلل بين الكناس وبين طلح الأعزل
دراسة تطبيقية على نقائض جرير والفرزدق
د . أحمد صبرة
تبدو النقائض نصا عزيز المثال في التراث الشعري ، فهي نص لا تحتويه قصيدة واحدة بل عشرات القصائد التي يزيد عدد أبياتها عن أربعة آلاف بيت ، وهي نص لم يكتبه شاعر واحد ، وإنما اشترك فيه عدد من الشعراء كان أشهرهم جرير والفرزدق والأخطل ، ثم إنها نص لم يُكتب مرة واحدة في فترة زمنية قصيرة ، بل امتد بها التأليف إلى حوالي أربعين سنة هي عمر النقائض في العصر الأموي ، لذلك تستحق النقائض أن توسم بأنها نص مفرطHypertext ، ففيها كثير من سمات هذا النص على الرغم من أن هذا المصطلح يطلق في أدبيات التناص الآن على النصوص الموجودة على الشبكة العنكبوتية حيث يحيل النص فيها إلى نص آخر وهو يحيل بدوره إلى نص آخر ... وهكذا ، بحيث تشكل هذه النصوص مجتمعة ما يسمى النص المفرط ، وهي سمة نجدها واضحة في نص النقائض أو نصوص النقائض حيث نجد فيها إحالات إلى الذاكرة الجمعية للمتلقين ، وإلى صراعاتهم القبلية القديمة ، وإلى عقائدهم ومفاخرهم ، وإلى مكنونات نفوسهم وضمائرهم ، وإلى أحلامهم وأوهامهم ، كما نجد في أجزاء كثيرة من النقائض إحالات إلى أجزاء أخرى ، كل ذلك حاضر في نص النقائض ، وربما حاضر في كل قصيدة من قصائد هذا النص .
لكن نص النقائض يتميز بسمة لا تجدها في كثير من النصوص الأخرى وهي أنه ينقسم انقساما لا يمكن تبين حدوده تماما إلى جزأين : جزء يمكن تسميته نصا أول ، وجزء آخر يمكن تسميته نصا مضادا ، وقد يقال إن هذا غير دقيق تماما ، فالنص الأول هو القصيدة الأولى ، والنص المضاد هو الرد عليها ، أو التي تنقضها ، لكن هذا غير صحيح أيضا ، فكثير من النصوص الأولى تحتوي على نقض لنصوص سابقة عليها ، وكثير من النصوص المضادة تحتوي على بذور أولية يتم نقضها في نصوص أولى تالية ، إجمالا تبدو شبكة العلاقات النصية بين أجزاء النص المفرط شديدة التعقيد ، وبرغم هذا الانقسام ، فإن الاستراتيجيات النصية التي يتبعها كل جزء داخل النقائض لا تبدو شديدة الاختلاف فيما بينها ، كل نص يتبع طرق التأثير نفسها ، ويلجأ إلى المرتكزات اللغوية التي يلجأ إليها النص الآخر ، ويكشف عن عالم هو نفسه العالم الذي ينكشف في أي جزء داخل النقائض ، وهذا ما يؤكد تسمية النص المفرط على قصائد النقائض كلها .
تحتوي قصائد النقائض على نظام للسرد مثلما تحتويه أية قصيدة أخرى ، ومصطلح السرد – حين يرتبط بالشعر – فإنه يثير إشكالات لابد من إيضاحها ، لقد ارتبط السرد بالحكي في الدراسات الغربية بحيث ينصرف الذهن – حين يصطدم بهذا المصطلح إلى نظام الحكي في القصة القصيرة أو الرواية ، يؤكد ذلك ما تقوله الدراسات الغربية عن مصطلح السرد الشعري نفسه ، فبول ريكور حين فسر تعريف أرسطو للشعر لم ير في هذا التعريف إلا أنه فن صناعة الحبكة الذي يعني فن تنظيم الأحداث ، ذلك أن السرد الشعري عند أرسطو هو التقليد الفعال أو العرض القوي لأفعال يمكنها أن تكشف المعنى المختفي في الواقع ، إن السرد الشعري يجمع معا عددا من العناصر المتشتتة عبر الزمن في كل واحد ، فعل واحد في حبكة ذات معنى ، إن الحبكة تجمع معا بداية الفعل ومنتصفه ونهايته في معنى واحد طبقا لبنية التتابع الزمني الخطي والنظام السببي ، وكل لحظة لها مكانها داخل هذا النظام بوصفها سببا أو نتيجة ، ويسمح التقليد السردي الشعري بأشكال شديدة الاختلاف من التعبير : التاريخ والرواية والسيرة الذاتية والمسرح والسينما إلخ ، هناك واحد من التمييزات الأساسية بين التعبيرات المختلفة في السرد هو التمييز بين الحكي recital والدراما ، فبينما يعد الحكي إخبارا Telling بسيطا لقصة ، فإن الدراما هي مظهرها الإيمائي ، ويتم التعبير عن السرد من خلال الأفعال نفسها وليس من خلال الساردnarrator الذي يحكي القصة ، وحين يريد السارد أن ينقل قولا لإحدى الشخصيات ، فإنه يقول " قال فلان " ثم يتقمص دور الشخصية ، ويتحدث بدلا منها ، في الدراما يصبح السارد ممثلا ، والممثلون سواء أكانوا في المسرح أو السينما أو هؤلاء الذين ينجزون أعمالا تطوعية يخبرون بالقصة من خلال الأفعال التي تكون الحبكة .
في الدراسات العربية برز مصطلح السرد الشعري ، وبدا أن هناك محاولة للاستفادة من السرديات الروائية في بحث الشعر ، وهو أمر محمود ، لولا أنه يجب البحث أولا في كنه هذا السرد الشعري الذي يراد استخدامه في الدراسات الأدبية ، فالسرد وفق المصطلح العربي ليس هو الحبكة في القصة القصيرة أو الرواية ، والذين يماهون في الشعر بين السرد والحبكة يهملون جوانب مهمة يقدمها هذا المصطلح في طبعته العربية ، فالسرد ليس سمة في القصة فقط ، إنما هو سمة في الخطاب اللغوي كاملا ، ويمكن رؤيته بوصفه حالة فعل كلامي لا تتقيد بالحكي فقط على الرغم من أن الحكي جانب بارز فيه ، إن السرد يتمدد ليشمل كل الحقول ، وعلى ذلك فإن كل استخدام للغة هو حالة خاصة من حالات السرد مهما كان موضوعها . لقد ارتبط السرد بالحكي تحت ما يمكن تسميته وطأة النموذج ، وهي حالة واضحة في الدراسات الإنسانية حين يستمد فرع جديد في هذه الدراسات مبادئه وقوانينه من النموذج الذي يستشهد به كثيرا ، يبدو ذلك واضحا في حقل الشعرية حين استمد هذا الحقل أغلب قوانينه من النموذج الشعري ، ثم حاول أن يبدو بهذه القوانين صالحا للتطبيق على أشكال الإبداع الأخرى ، وهو الأمر نفسه الذي حدث مع كلمة السرد حين نُقلت إلى العربية ، وعلى ذلك فإن البحث عن السرد في الأشكال اللغوية غير الروائية هو بحث عن الحكي فيها ، وهو أمر يجب تمحيصه .
هنا يجب التفرقة بين السرد والحكي ، فإذا كان الحكي شكل من أشكال السرد ، فإن السرد ليس كله حكيا ، السرد نظام في الأداء اللغوي يجب البحث عن قوانين أكثر عمومية له ، وبخاصة أن كلمة السرد نفسها في العربية تعني " تقدمة شيء إلى شيء تأتي به متسقا بعضه في إثر بعض متتابعا ، وسرد الحديث ونحوه يسرده سردا ، إذا تابعه ، وفلان يسرد الحديث سردا ، إذا كان جيد السياق له " ، ولا يرتبط هذا الاتساق والتتابع وجودة السياق بنمط من الحديث دون آخر ، وإلا كانت المعاجم نصت على ذلك ، المعنى اللغوي لكلمة سرد يجعلها تلتقي مع كلمة راسخة في الدراسات القديمة وهي كلمة " السبك " التي تعني فيما تعنيه القالب ، أما ارتباط السرد بالحكي حديثا فراجع إلى أثر ترجمة المصطلحات الغربية إلى العربية ، فكلمة سرد Narration ترتبط بالحكي دون أشكال الأداء اللغوي الأخرى كما هو واضح في تحليل ريكور ، ونقطة البدء – حسب ما أرى – تكمن في البحث عن الفرق بين السرد الروائي والسرد الشعري .
يعتمد السرد الروائي على جملة من الاستراتيجيات يحاول بها تحقيق مقاصده الكبرى من الحكي ، أهم هذه الاستراتيجيات هي وجهة النظر بمعنييها اللذين استقرا في الدراسات السردية ، وأعني موقع السارد داخل الحكي ، وجملة الآراء التي يحتويها العمل ، أو كما يقول واين بوث عنها " التعليق " ، كما يعتمد السرد على الشخصيات وطريقة تركيبها وتقديمها إلى العالم ويعتمد كذلك على الكيفية التي يتحرك بها الزمن داخل الحكي ، ويعتمد أخيرا على نظام الحبكة وجودا أو عدما .
أمر السرد الشعري مختلف قليلا ، فالحبكة ليست جزءا من بنية القصيدة إلا إذا كان هناك سرد قصصي فيها ، وحتى هنا فإن الحبكة تلعب دورا مختلفا عن دورها في الرواية ، والشخصية الروائية تختلف كلية عن الشخصية في الشعر بحيث إن القوانين المركبة التي طرحتها السرديات لدراسة الشخصية لا تصلح للتطبيق في حالة الشعر ، بقي جانبان في السرد الروائي يمكن لهما أن يكونا ذا تأثير مهم في دراسة السرد الشعري ، وهما موقع السارد وحركة الزمن ، في حالة موقع السارد تطرح القصيدة العربية القديمة نظاما مدهشا في السرد يعتمد على أسلوب الالتفات ، في هذه القصيدة لا تجد ساردا واحدا ، بل ساردين ، ولا تجد مسرودا إليه واحدا ، بل عدة منهم ، هذه الحركية في استخدام ضمائر السرد تقابلها قيود كثيرة في السرد الروائي ، فالسارد الروائي ليس حرا في استخدام الضمائر ، وما يبدأ به الحكي هو غالبا ما ينتهي به إلا في حالات قليلة وتجارب روائية لم تتكاثر في الإنتاج الروائي ، وأما حركة الزمن فإنها أكثر تعقيدا في كلا السردين ، لكن السرد الروائي تحميه " تيمة " الحكي الظاهرة فيه ، وأما السرد الشعري فيبدو بلا حام ، وتبدو حركة الزمن فيه خفية عميقة ، ولا تعطيك المؤشرات التي تدل عليه نفسها للوهلة الأولى ، لكنها حركة ذات تأثير شديد في القصيدة .
وفق هذا المنظور يحاول البحث هنا التعرض للسرد الشعري في نقائض جرير والفرزدق ويعتمد هنا على نقيضة تعد نموذجا لنقائض في العصر الأموي ، ومفهوم النقيضة – كما يطرحها البحث هنا – أنها التي تحتوي على قصيدتين : قصيدة ينشئها أحد الشاعرين ، والأخرى يرد بها الشاعر الآخر ، والنقيضة موضوع الدرس هي أولى النقائض بين جرير والفرزدق في كتاب أبي عبيدة معمر بن المثنى التيمي البصري المتوفى ســنة 209 هـ ، ( كتب النقائض : نقائض جرير والفرزدق ) والتي يبدؤها الفرزدق بقوله :
إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز وأطول
وقد رد عليه جرير في قصيدة أخرى بدأها بقوله :
لمن الديار كأنها لم تحلل بين الكناس وبين طلح الأعزل