كتبهااحمد امرير ، في 22 نوفمبر 2006
الفصل الثالث :
البعد التواصلي والنقدي للخطاب البصري
"فإذا كان لسلسلة من الكلمات معنى، فإن مقطعا من الصور له ألف معنى"
[ريجيس دوبري]
الفصل الثالث :
البعد التواصلي والنقدي للخطاب البصري :
المبحث الأول : إشكال التواصل البصري :
1. مفهوم التواصل وشموليته :
لقدجرى الحديث عن مفهوم التواصل باعتباره مرتبطا أساسا باللغة أداة للتواصل،وساهمت اللسانيات التواصلية في تأسيس هذا المعطى، إلى أن ظهرت السيميائياتعلما قائم الذات، حيث أصبح التواصل منفتحا على كل الأشياء والعلامات التيتحمل في طياتها دلالة ما، فتجاوزت بذلك حدود البعد اللساني في العمليةالتواصلية إلى أبعاد وأنساق تواصلية أخرى أحدثها الإنسان في إطار حاجتهللتبادلات الاجتماعية.
ولعلما تتميز به اللغة من قوة في التواصل بين المرسل باعتباره صاحب المبادرةفي التواصل، والمرسل إليه باعتباره هدفا مباشرا للرسالة اللغوية، وقدرتهاعلى استيعاب جل تفاصيل الحياة اليومية للإنسان والتعبير عنها، هو ما حذابالبعض إلى أن يمايز بين الأنساق التواصلية الدالة، والتركيز على البعداللغوي في أي عملية تواصلية، "فقلما ارتفعت عقيرة السيميائيين للقول بأنلا تفاضل بين الأنساق الدالة، وأن النسق اللساني لا امتياز له على بقيةالأنساق الأخرى، بل خلافا لذلك زعم البعض من السيميائيين ومنهم بارتوكريستيفا بأنه من الصعوبة بمكان قيام أي مشروع سيميائي بمعزل عن الأنموذجاللساني الذي يعد علما قائدا للسيميائيات، وقد خالفوا بذلك دوسوسير شيخاللسانيات وأمام السيميائيات في العصر الحديث"[1].
وإذا كانت السيميولوجيا تعد "العلم العام لكل أنساق التواصل اللسانية وغير اللسانية"[2]،فإن مفهوم التواصل بدوره سيتغير تبعا لذلك، إذ، إن الوظيفة التواصلية لاتقتصر على اللغة وحدها وإنما هي مرتبطة بجميع الأنساق التواصلية القصديةوالدالة، ونعني هنا بالقصدية ذلك الوعي الإنساني الذاتي الذي يدفعهلممارسة سلوك تواصلي، فالقصد جوهر السيرورة التواصلية وعماد المعنى، ولايمكن أن يكون فعلا نابعا من الضرورات الطبيعة التي تمليها الحاجات العضويةللإنسان، ذلك أن القصد توجه مباشر إلى الموضوع ليتماهى مع فعل الإدراك منلدن الذات، ومن هنا ينبثق الوعي الذي يؤلف ما يطلق عليه كاسيرر [Cassierer] بالمبدأ الرمزي"[3].
وككل عملية تواصلية فإن التواصل البصري يمكن إجماله وتوضيحه في الخطاطة التالية :[4]
المرجع
المرسل
المرسل إليه
الرمز
قناة التواصل
الخطاب
* المرسل : هو الذي يخلق الخطاب، ويمكن أن يكون فردا أو هيئة معينة.
* المرسل إليه : هوالذي يستقبل الخطاب، ويمكن أن يكون فردا أو هيئة أو حيوانا أو آلة(كمبيوتر…)، لكن في جميع الحالات لا يمكن أن يحصل التواصل إلا إذا خلفوقعا وتأثيرا بينا على المتلقي، وهذا بدوره لا يعني أن عملية التواصلمفهومة، حيث يجب التمييز بين الاستقبال (استقبال الخطاب) والفهم (إدراكالخطاب).
* الخطاب :هو موضوع التواصل، ويتكون من المضمون الذي تحمله المعلومات التي يحويها،فالأشخاص-في مجال السينما أو داخل منظومة السينمائي-يحققون إيصال خطابهمأو عقدتهم المجهولة ويصحبون موضوع تواصل مباشر مع الجمهور عبر الخطابالمرئي الذي يقدمونه.
* قناة التواصل :تعني الطريق الذي يسلكه الخطاب ليصل إلى المتلقي، ويمكن أن يتحدد بواسطةالوسائل التقنية التي يستعملها المرسل من أجل ضمان تسلسل خطابه نحو المرسلإليه، يمكن لهذه الوسائل أن تكون صوتية كالراديو مثلا، أو مرئيةكالتليفزيون والسينما… فكل نوع من التواصل المباشر، خاصةالذي تتداخل فيه الشخصيات والجمهور، يتحقق عبر الرجوع إلى وضعيات مشتركةونماذج لغوية وحركية تتموقع داخل نظام التواصل المتداول.
* الرمز : le code : هو عبارة عن مجموعة من المساطير والعلامات التي يبحث عنها المرسل لتركيب وتبليغ خطابه encodage.
* المرجع le référent : يتم استخلاصه من خلال مضمون الخطاب، أو وضعية المرسل والمتلقي أو من خلال الأشياء الحقيقية التي يرجع إليها الخطاب أو ينبعث منها"[5].
إن الخطاب البصريبجميع أنواعه وتشكلاته، ليس خطابا تلقائيا تم إنتاجه بالصدفة، وإنما تحكمهالقصدية التي تتغيى منه إنتاج معنى ما، و"عليه يمكن القول أن اللغةالبصرية التي يتم عبرها توليد مجمل الدلالات داخل الصورة هي لغة بالغةالتركيب والتنوع، وتستند من أجل بناء نصوصها إلى مكونين :
1-ما يعود إلى العلامة الأيقونية
2- ما يعود إلى العلامة التشكيلية.
فالصورة تستند من أجلإنتاج معانيها إلى المعطيات التي يوفرها التمثيل الأيقوني كإنتاج بصريلموجودات طبيعية تامة (وجوه، أجسام، حيوانات، أشياء من الطبيعة…) وتستندمن جهة ثانية إلى معطيات من طبيعة أخرى أي إلى عناصر ليست لا من الطبيعة ولا من الكائنات التي تؤثث هذه الطبيعة.
ويتعلق الأمر بما يطلق عليه التمثيل التشكيلي للحالات الإنسانية أي العلامة التشكيلية : الأشكال والخطوط والألوان والتركيب"[6].
إلا أن كلا منالعلامة الأيقونية والعلامة التشكيلية، لا يمكنها أن يؤديا معنى في ذاتهماوفي مادتهما إلا في حدود السياق الذي وظفا فيه وضمن النظام الثقافي المحيطبعملية إنتاج هذا الخطاب، وبعبارة أخرى فإن تأويل الصورة مثل كل تأويليحتاج إلى بناء السياقات المفترضة من خلال ما يعطى بشكل مباشر، ولا يمكنلهذا التأويل أن يتم دون استعادة المعاني الأولية للعناصر المكونة للصورة،وضبط العلاقات التي تنسج بينها ضمن نص الصورة.
وفي جميع الحالات،فإن الأمر يتعلق باستحضار التمثلات الثقافية الكبرى التي لها علاقة بـ"الأنا" و"الآخر"، ولها علاقة بإكراهات "الزمان" و"الفضاء"، ولها أيضاعلاقة بمجمل الروابط الإنسانية وما تفرزه من قيم وأحكام وتصورات يتمإيداعها داخل عضو أو داخل نظرة أو وضعة أو موضوع من الموضوعات المؤثثةللمحيط الإنساني، لتصبح هذه العناصر دالة خارج إطارها النفعي"[sup][7][/sup].
وهنا نؤكد على أنمكونات الصورة الأيقونية والتشكيلية، لا تحمل معنى في ذاتها ، إنها تكتسبهذا المعنى ضمن الجماعة الإنسانية وتجربتها ، فالخطاب الثقافي هو الذييمنح المعنى والدلالة لهذه المكونات .
إن مجمل الدلالاتالتي تثيرها الصورة من خلال بعديها الأيقوني والتشكيلي ليست وليدة مادةمضمونية دالة من تلقاء ذاتها، وليست وليدة معان قارة ومثبتة في أشكال لاتتغير، إنها أبعاد أنتروبولوجية مشتقة من الوجود الإنساني ذاته.[8]
لكن هذا التعددالدلالي والمعنوي الذي تسمح به قراءة أي شكل من أشكال الخطاب البصري ،يحيل إلى أن هذا المعنى لا يمكن الحصول عليه وتحديده ، فهذه الحقيقة التينبحث عنها إنما هي وسائطية –كما سبق التطرق لذلك- ونسبية ، ترتهن إلىالخطابات الثقافية المشكلة لها، والتي تختلف من بيئة إلى أخرى وترتهن أيضاإلى نوعية المتلقي . إن المعنى إذن، يظل سرابا نجري ونلهث وراءه، ومانستطيع إدراكه هو تمظهراته.
وعليه، فدور الباحثفي هذا المجال، هو السؤال عن الكيف، أي كيف تؤدي الصورة معانيهاودلالاتها، دون البحث عن خارجيات هذا الخطاب البصري، ولهذا فإننا استأنسنابمفهوم سيميائي يؤطر هذا القصد، وهو مفهوم المحايثة الذي يعني تحليل النص، سواء كان نصا لغويا أو بصريا أو إيمائيا، باعتباره نصا منتهيا في الزمانوالمكان، أي كبنية مغلقة، فلا نربطه بالظروف التاريخية والاجتماعية..،"فالمقصود بالتحليل المحايث أن النص لا ينظر إليه إلا في ذاته مفصولا عنأي شيء يوجد خارجه"[9].ويفيدنا هذا النهج السيميائي في تركيز قراءتنا على النص البصري وتفكيكه منأجل إدراك ومعرفة أوجه إنتاجه وطرق أدائه للمعنى. وقد ساهم عدد منالباحثين في هذا المجال إلى صياغة نماذج نظرية للتحليل والدراسةالسيميائية، مثل بارث وفلاديمير بروب وغريماص. حاول هذا الأخير وضع صيغةنظرية أساس في تحليل النصوص السردية التي ترتكز على الحكي، وهي لا تتمثلفي النصوص اللغوية فقط، بل تتعداها إلى كل النصوص المعقدة والمركبةكالإشهار والسينما والإيماءة.
وقد استطاع غريماص أن يضع خطاطة سردية Le schema narratif، "تستطيع احتواء كل النصوص كيفما كانت وأيا كان وسيطها الإدراكي "[10].وتتمفصل هذه الخطاطة إلى أربعة عناصر: القدرة والإنجاز والمناورةوالمصادقة. ينتمي العنصران الأولان إلى المستوى العملي، وينتمي الآخرانإلى المستوى المعرفي . ويهمنا الحديث عن المستوى المعرفي باعتباره الغالبفي الخطاب البصري. فالمناورة بنية تعاقدية تواصلية، تهدف فعل معرفة، يحاولمن خلاله المرسل دفع المرسل إليه إلى وضع من انعدام الحرية (اللاستطاعةالفعل)/(الطاعة)، "وفي إطار المناورة تطرح مسألة الإقناع ، وهنا تمفصل بينالفعل الإقناعي للمرسل والفعل التأويلي للمرسل إليه"[11]،كل واحد منهما منوط به فعل يجب القيام به: فعل إقناع يشترط القدرةالإقناعية لدى المرسل، والمرسل إليه مطالب بفعل تأويلي يشترط أن يمتلكقدرات كي يؤول. في حال إذا اقتنع بهذا الفعل الإقناعي نقول إن فعل الإقناعقد نجح.
أما المصادقة "فيقومبها عادة مرسل حاكم، وممارستها تتطلب منه قدرة مطلقة، قدرة لا تحتملالخطأ، لأنه ضامن الحقيقة وضامن الجميل والحسن، وضامن كل القيم، وهو حارسكل التعاقدات. والمصادقة، سواء أكانت عملية – حين تصادق إنجاز الذات – أومعرفية – حين تصادق كينونة الذات – فهي فعل إبستيمي مصداقي يقوم به المرسلالنهائي للتأكد من مدى مطابقة أو عدم مطابقة إنجاز البرنامج السردي، الذيقامت به الذات ، للنظام الخلاقي الذي يعلن عنه أثناء التعاقد البدئي"[12].
إننا حينما نستأنسبمعطيات غريماص السيمبائية، فإننا نسعى إلى فهم ميكانيزمات إنتاج الصورةلدلالاتها وأشكال العلاقات التواصلية التي تعقب عملية الإنتاج والتلقي،فالنصوص الإشهارية مثلا هي نصوص مناورة بامتياز، إذ كل شيء يتم توظيفه منأجل غرض الإقناع، والمستهلك يحاول بشتى الإغراءات الممارسة عليه شراء منتوجX .فإذن، يكون هدف المرسل في الخطاب الإشهرية إقناعيا ، ويبقى على المرسلإليه أن يمارس فعلا تأويليا، قد يسعى إلى تحقيق هدف المرسل(الوجوب) وقديحدث أن يظهر المرسل إليه اللارغبة في الفعل (مقاومة)، فيرفض القيم الممررة إليه، ويصبح بذلك منتجا لقيم بديل.
2 . إشكال تلقي الخطاب البصري :
يمتاز المجال البصريبتعدد واجهاته وتنوع أشكاله. وقد اكتسحت الصورة حياتنا اليومية داخل البيتوفي الشارع والمؤسسة، مما أفرز نسقا جديدا في أنظمة التواصل، ولم تعداللغة تحتكر هذا الدور، إذ غدت الصورة هي الأخرى تزاحم الأنساق التواصليةالمتداولة، لكن من دون أن تأخذ مكانها .
وتحيط قراءة الرسائلالبصرية قراءة مستوعبة، عددا من الإشكالات المعرفية والثقافية التي لاتساهم في بناء فهم سليم لطبيعة الخطاب البصري، ولذلك أحطنا موضوع قراءةالصورة البصرية بنوع من الاهتمام، وذلك للمساهمة في خلق ثقافة بصرية،حاولنا أن نعتمد في سبيل ذلك على عدد من المفاهيم والمناهج السيميائيةالتي قدمت تجارب نظرية، أسست طرقا علمية لقراءة وفهم الصورة البصرية.
لكن المخاض الذيلازالت تعيشه السيميائيات البصرية، والمحاولات الضئيلة في هذا الميدان،جعل مسألة تلقي الخطاب البصري يطغى عليها طابعين :
- طابع إيديولوجي :إذ الملاحظ أن بعض تجارب قراءة الصورة بأنواعها المختلفة، لا تستند إلىمناهج علمية خاصة ومحددة، وإنما تذهب إلى فهم دلالات الصورة من منظورالذات و الإيديولوجية التي ينتمي إليها المتلقي/المشاهد، فقبل أن يتمدراسة صورة أو لقطة ما بطريقة علمية وشاملة، تربط فيها بين أدوار العناصرالمشكلة لها وعلاقة أي لقطة مع سابقتها وما بعدها، فإن الأحكام والتقييماتالتي تلي عرض الصورة / الفيلم، تعتريها انطباعات إيديولوجية وذاتية، تسقطقيم الواقع والأخلاق والدين على فهم الصورة. وبالتالي نكون أمام مفترقكبير بين ما يسعى المرسل إلى إيصاله من قيم وبرامج وبين مواقف هشة، لاتستند إلى وعي وإدراك آليات إنتاج الصورة وأوجه دلالاتها، وإنما تسعى إلىتنميط هذا الخطاب، وإسقاط قيم خارجية عليه. إن أي تلقي للخطاب البصري يغيبفيه استحضار المناهج الخاصة في تحليله ودراسته، وأي قراءة غير متأنية وغيرشاملة وغير متفحصة، فإن مآلها سيكون مآل القراءات الساذجة والذاتيةوالإيديولوجية.
- طابع أدبي :أمام النقص الحاصل في مناهج تحليل الخطاب البصري، سعى البعض إلى التعاملمع الصورة وفق نماذج تحليل النصوص الأدبية، إذ تكتفي مثل هذه المقارباتبالاهتمام بالبعد الجمالي الإستيتيقي والانطباعي، دونما بحث عميق فيتجاويف هذه الصورة أو تلك، قصد إدراك تمظهرات المعنى الذي تؤديه. نجد ذلكواضحا في مجال الفن التشكيلي، الذي لازالت مناهجه النقدية تعتمد علىالأدوات اللسانية / الأدبية، والمناهج الاجتماعية التاريخية في تحليلها.
لقد بدا لنا أن ضعفالإنتاجات النقدية في مجال تحليل وتلقي الصورة، هو نتيجة غياب منهجسيميائي علمي واضح، هذا الغياب هو أيضا راجع إلى تعقد تركيبة البنىالداخلية والتواصلية للنصوص البصرية، حتى أصبحنا اليوم أمام تضخم كبيرللصورة وتقنياتها العالية على حساب الخطاب الموازي لها.
إن هذا الوضع أفرزلنا شكلين من أشكال تلقي الخطاب البصري: تلقي إيجابي وتلقي سلبي. يعتمدالأول المناهج العلمية المستحدثة لتحليل الخطاب البصري باعتباره نسقاتواصليا سيميائيا، والثاني يجهل أو يتجاهل هذه المناهج، مما ينعكس سلباعلى نتائج دراسته.
وفي هذا الصدد، نرىأن الصورة شأنها شأن الخطاب اللغوي.فهي وسيط تواصلي تمرر بواسطته عددا منالمعاني والدلالات والقيم، مما يلزم على المتلقي امتلاك قدرات منهجيةومعرفية في سبيل إدراك آلياتها ودلالاتها السيميائية والتواصلية.وعليه،فإننا بحاجة إلى توفير ثقافة بصرية متكاملة لدى المتلقي، تسعفه في قراءةوتحليل الفيلم السينمائي والوصلة الإشهارية واللوحة الفنية والصورةالفوتوغرافية والملصق…وغيرها.
ومن هنا نرى أنالمدرسة والجامعة هما فضاءان كفيلان بصقل معارف المتلقين وتطعيمهم بثقافةبصرية، من خلال إدماجها في البرامج والمقررات وضمن الأهداف المسطرة، وذلكبتدريس الصورة، ليس باعتبارها وسيلة بيداغوجية بسيطة لإيصال المعلومةفحسب، وإنما تخصيص مواد خاصة بها تدرسها في ذاتها ولذاتها. وترجع ضرورةوأهمية هذا المطلب إلى ازدياد "الأمية الأيقونية والسمعية بصرية تفاقمابكل أوساط ومستويات المجتمع، فكثيرون هم الذين لا يفقهون تفكيك رموز الصوروغوص أعماقها الدلالية والجمالية والتواصليةَََ[والتقنية]"[13].
وقصد تجنب مساوئالتلقي السلبي للصورة، "فعلى مدرستنا إذن، العمل على تكوين الفرد بتزويدهبثقافة بصرية، تساعده على تعزيز ردوده الانتقائية والدفاعية"[14].
المبحث الثاني : الجسد والأداء البصري :
1. الجسد لغة للتواصل :
يعتبر الجسد أحدالأدوات التي يوظفها الخطاب البصري لبناء إرساليته البصرية، وذلك لمايوافره من إمكانات تواصلية، وهو الأمر الذي ركزت عليه التجربة السيمولوجيةفي تعاملها معه باعتباره نسقا إيمائيا تواصليا، فهو يعبر عن تمثلاتناالبيولوجية والثقافية. إنه وسيلة للعيش والتواصل وإنتاج الدلالات، وهوالواجهة التي تفضح دواخلنا وأداة لتحديد هوياتنا وأشكالنا فـ "الجسد يحتلمكانة هامة في حياتنا اليومية. إنه المبدأ المنظم للفعل، وهو الهوية التيبها نعرف وندرك ونصنف، وهو أيضا الواجهة التي تخون نوايانا الأكثر سرا"[15].
إذن، يمكن القول إنالجسد لغة من اللغات أو هو لغات -حسب أشكال الإيماءات التي يؤديها- لهاقواعدها ومنهجيتها الخاصة في إنتاج الدلالات، هذه الأخيرة هي كل ما يقدمهالجسد من طاقات تعبيرية، وهو موضوع اشتغالنا في هذه الفقرات، بحيث نتجاوزهنا الجانب النفعي في الجسد إلى ما هو قصدي، أي إلى "استعمالاتهالاستعارية المتنوعة"[16].
إن الجسد يوافر عددامن الإمكانات الإيمائية والحركات العضوية التي تنشئ لنا دلالات وإيحاءات،لكنه ينشئ هذه الدلالات في سياق ثقافي وحضاري، يتم إدراكها من خلاله. فمادمنا نتحدث عن لغة الجسد باعتبارها لغة قصدية، فإننا نستبعد كل الحركاتوالإيماءات التي تكون بمحض الصدفة أو الناشئة عن جسد لذات غير مدركة وغيرمؤهلة (حالة السفيه والمجنون).
ويشكل النظر إلىالجسد من زاوية أنطولوجية مبدأ أساسا في البعد التواصلي، فـ "يمكن أن نبدأالكلام عن الجسد من الإشكالية الفلسفية التي وضعها سارتر أثناء تحديدهلمفهوم الآخر، بحيث أصبح الوجود لا يكتمل إلا من خلاله وبالتالي من خلالرؤيته وحكمه"[17]. وإذن، يعتبر الآخر مكملا لكينونة هذا الجسد وحاملا لإدراك تفاصيله بايجابياته ونقائصه والآخر أساس أيضا لتكتمل عملية التواصل و التلقي.
وبعد ذلك، لابد منالتأكيد على أن لغة الجسد ترتكز على تقنيات وقواعد خاصة لفهم دواخل الذات.فهذه التقنيات هي "الطريقة التي يستخدم بها الإنسان جسده من أجل خلق حالاتتعبيرية موغلة في التفرد والخصوصية، كأشكال الوضعة والاستخدام الإستعاريلليدين ودلالات النظرة، ونبرة الصوت، وشكل الجلوس، وكذا اللباس، والنحافةوالبدانة … فكل ما يعود إلى هذه التقنيات له موقع داخل السجل الثقافي /الاجتماعي الذي يؤوله ويمنحه دلالاته"[18].
إن مجموعة كثيرة من الاعتبارات تتحكم فينا لتوظيف الجسد، وهي اعتبارات لا تختزل فيه لكونه هيكلا من لحم وعظام ودم، ولكن لكونهأساسا يحتوي على شيء أسمى من ذلك هي الذات الإنسانية / الروح، والتي تشكلالمحرك الأساس له بما هو كيان بيولوجي وثقافي، فمن خلال الثنائية الجسديةالطبيعي والمكتسب / الثقافي يمكننا فرز شكلين من أشكال الحركات الجسدية :
أ- الحركات العملية وهي الحركات الطبيعية التي تعود إلى المشترك الإنساني.
ب- الحركات الثقافيةوهي تنطلق من الأولى، إنها انزياح يتم انطلاقا من الحركات العملية، فكلالأفعال لا تدرك إلا وفق السياق الثقافي الذي أنتجت فيه.
فلما كان الجسد عبرتنقله في الفضاء ينتج وحدات إيمائية مختلفة "فإن هذه الوحدات تخلق سلسلةمن الإنزياحات تقود إلى نوعين من النصوص الجسدية :
إما نصوص "طبيعية" : وهي كذلك لأنها تدرك وفق النص الثقافي العادي أي ما يعود إلى التجربة المشتركة (إنه يأكل إنه يشرب …).
- وإما نصوص ثقافية :تدرك باعتبارها خروجا عن المعيار المحدد للفعل الحركي العملي وفي هذهالحالة فان الانزياح يتم انطلاقا من الفعل الحركي العملي"[19].
ويمكننا الحديث هناعن تداخل هذه المستويات فيما بينها. فما ينتمي إلى هذا البعد قابل لأنيشتغل داخل البعد الآخر، ويبقى الحل في استحضار البعد الثقافي العام الذييؤطر هذه المستويات، وإن كان الاستحضار بدوره قد لا يجدي نفعا في فهم حدودالعملي والثقافي في سلوكات الجسد.
إن الجسد في كليته أوفي عضو من أعضائه محكوم بالاستعمالات الوظيفية النفعية والغريزية ومحكومكذلك بالاستعمالات الثقافية وفي كل هذا فإن الأهم فيما يؤديه الجسد بصرياليس هو الإيماءة في ذاتيتها، وإنما ما تؤديه من دلالات، "فالجسد باعتبارهبؤرة لتجلي العملي والغريزي والوظيفي والأسطوري / الثقافي، يعيش بشكل دائمتحت التهديدات المستمرة للاستعمالات الإيحائية (الاستعارية)، إننا من خلالهذه الاستعمالات لا نقرأ الحركة ولا نقرأ الإيماءة، ولا نقرأ ترابط هذهالحركات وهذه الإيماءات ولكننا نقرأ فقط النصوص التي تولدها هذه الحركات"[20].
ولعل عملية التأويل الدلالي لما ترمي إليه حركات وإيماءات الجسد في كليته أو في جزء منه خاضعة في كل ذلك للسياق الثقافي، على مستوى القصدي منها، وتشكل هذه الحركات الجسدية من حيث إيحاءاتها الاستعارية اكتمالادلاليا، و"إن الجسد في هذه الحالات شبيه بالوحدات المعجمية، لا يملك معنى،إنه يعيش على وقع الاستعمالات، الأمر الذي يجعل من إيماءة واحدة منبعالسلسلة كبيرة من التأويلات"[21]،وأن أي توظيف له في الخطاب البصري بشتى أنواعه تكون وراءه عدد من المعاييروالدوافع التقنية والجمالية التي يتخذه المخرج في اختيار الممثلين،ويتبناها الرسام في لوحاته التشكيلية، ويعتمد عليها مدراء المؤسساتالإشهارية في تحديد الأكفأ بتمثيل منتوجه في الملصق الإشهاري أو الوصلةالإشهارية المتلفزة.
إنها اعتبارات تكونقصدية ومسبقة، تحكم نوعية الجسد الموظف ونوعية الإيماءة المراد التعبيرعنها. وفي هذا الصدد نرى أن الأهمية التي تكتسيها مورفولوجية الجسد ونبرةالصوت وبلاغة الإيماءة وإبلاغيتها هو ما يحدو بالمخرجين إلى تخصيص عدد منفترات تدريب الجسد والصوت لترويض عضلات الممثل ومقاماته الصوتية، ونجد ذلكأيضا لدى مستشاري المرشحين لرئاسة الدول الكبرى على الخصوص حيث تلقن لهمدروس في الإتيكيت*،وتقنيات الحركة والمشي والمصافحة والابتسامة ورفع الرأس إلى أعلى ونبرةالصوت والأكل … وذلك حتى يكون ظهوره على الشاشة وأمام الجماهير مؤثراوأنيقا ولبقا. هذا فضلا على أن هذا الإخراج الجسدي المسبق والمهيأ له تضافإليه لمسات تقنية أخرى قصد تكثيف أدائه السيميائي، إذ يركز الاهتمام علىحسن الهندام وملائمته للدور المنوط به، وتكون للمؤثرات الضوئية أثر فيإيضاح الصورة فكلما كانت هذه المؤثرات متوافرة وعالية الجودة كلما انعكسذلك على جمالية الجسد وبلاغته وإبلاغيته والعكس
2. جسد المرأة في الوصلات الإشهارية :
سنحاول في هذه الفقرةالوقوف على نمط اشتغال الوصلات الإشهارية على جسد المرأة، وكيف يتم توظيفالحامل الثقافي / الاجتماعي لهذه الذات. وسنقف عند التوزيع الوظيفي لهذاالجسد بين "المحلي" و"الوافد" : المعيش والمتخيل.
تتوزع المرأة المتداولة في الإشهار المغربي بين نمطين اثنين هما :
أ- نمط محلي عربي أصيل يتكفل بإدارة شؤون اليومي.
ب- نمط أجنبي متحرر شبقي وافد وظيفته تشخيص حالة الإغراء والاحتفاء بالذات .
فالشكل الأول يبرزلنا ملامح امرأة "منبثقة من الفعل اليومي بجزئياته وتفاصيله .. إنها امرأةلا تدرك إلا باعتبار كلية جسدها وأبعاده الوظيفية، إنها تغسل، تنظف، تطبخ… ، فلا وجود لهذه المرأة إلا من خلال تفاصيل ما يحيط بها"[22].
أما الثاني فيعكس لناخصائص امرأة "تعيش في الذاكرة على شكل موضوع جنسي لا حدود له. إنها اللذةالقصوى أو هي الإغراء في شكله الكلي، ولهذا فإنها تحضر عبر جزيئات جسدهابكامل طاقاته التعبيرية : شكل العينين واستفزازية اللباس ولهاث النهدين،وامتداد الذراعين والساقين"[23].
ويبقى التوظيفالإشهاري لكلا النمطين مرتبطا بتنوع المنتوجات، فتارة يتم عرض منتوجاتمرتبطة باليومي المباشر/الضروري : الغسيل، خرق الأطفال، القضاء علىالناموس .. وهنا نكون أمام النموذج المحلي، حيث تظهر لنا المرأة المغربيةبلباسها المنزلي اليومي وحماسها وتوقدها … وتارة أخرى يتم الاحتفاء بالذاتويختفي الحجب عن الجسد المقدم/العارض، وذلك لعرض أشياء لها ارتباط بالمتعةالكمالية والإغراء الجنسي وأشكال الوضعات والجلوس والمشي، إنها لا تحكيشيئا عن المنتوج، ولكنها "تحكي قصصا شتى عن الجسد الحامل للمنتوج"[24].
ولعل ما يثيرنا فيهذا الصدد، هو تلك العلاقة بين المنتوجات المعروضة وبين الأوضاع الجسديةوتعابير الأعضاء، ثم تفاعل هذين العنصرين داخل نوعية من الفضاءات المخصصةللعرض والتداول، يتم اختيارها بعناية فائقة.
تقدم الوصلاتالإشهارية صورا عن عدد من المنتوجات الخاصة بمواد التنظيف والطهي ومحاربةبعض الآفات والحشرات …وغيرها من المتوجات التي تعود إلى شؤون البيت، تتولىتقديمها وعرضها "نساء من مختلف الأعمار، وذلك ضمن مؤسسة الأسرة، ووفقتقاليدها في العيش والتربية وتوزيع الأدوار [جدة وأم أو زوجة أو عروس]"[25].
ويرجع إسناد هذه المهمة إلى هذه الفئة، إلى عدد من الاعتبارات منها "الطابع الشعبي"[26]الذي تحيل عليه هذه النساء، سواء في الإسم الذي يكشف عنه في بعض الوصلات(خديجة / عائشة / زهرة)، أو المحيط الذي يدور بها من ديكور وفضاء (سطحالمنزل / الشارع / إمام البيت / البادية / الأحياء الشعبية بالمدينة …)،أو على مستوى الوضعات الجسمانية المرتبطة بالحياة اليومية الاعتياديةوالبسيطة، حيث تحضر السيدات "من خلال بعد واحد يتخلل الوصلة من أولها إلىآخرها"[27].فلا تكاد تجد لتضاريس جسدها أثرا أمام ما يحيط به من أثواب تخفي معالمهمما يغيب لدى المشاهد تفاصيل وجزئيات هذا الجسد، فالموضوع البصري لا ينبنيفي جميع هذه الوصلات، انطلاقا من تبئير للجسد في جزئياته ومكامن الرغبةفيه، وإنما انطلاقا من حجم الحضور الثقافي"[28].
في هذا الصدد نكونفقط ملزمين بالحديث، ليس عن تفاصيل هذا الجسد ومراميه الدلالية ولكن عن مايخدم الفعل و الحاجة. ففي هذا النمط المقدم نجد "الاستعمال المفرط لليدينوالرجلين والرأس وتعد هذه الأعضاء كما هو شائع في التواصل الإيمائي عناصربالغة الأهمية وأكثرها قدرة على توصيل الإرساليات ونشرها"[29].فالاستعمال المفرط لليدين هو الغالب في هذه الوصلات، لأنها مرتبطة بالحركةفي عملية "الفريك" و"التصبين" و"تخريق الطفل"، أما الأرجل فهي تتحرك علىمستوى الفضاء وينذر الحديث عن إيماءة الرأس، اللهم في حدود الصوت، ورسمالوجه والمحيى الذي يظهر الإعجاب والانبهار أو التردد، ولا حديث أيضا عنالشعر والعينين أو الشفتين، فهي إذن، أعضاء يتم تغييب إيماءاتها ودلالاتهافي مثل هذه الوصلات الإشهارية، وإذن فإن هذه الوضعات الجسدية التيتقدم في هذا النمط. يسهل إبرازها من خلال الصورة كما لا يحتاج إدراكها إلىعناء وجهد، إن الوصلة هنا "تقصي أي استعمال استعاري لهذه الأعضاء. إنهاتركز على البعد التقريري الوظيفي الذي يستند في إدراكه إلى التجربةالمشتركة فقط"[30].
تستلزم هذه الوصلاتالإشهارية المرتكزة على الحاجات اليومية، إقناع المشاهد بضرورة اقتناءالسلعة واستهلاكها، ولتحقيق هذا الهدف تنشأ مواضعات خاصة في عملية العرض،تتسم بالكلاسيكية، "فالوصلة في حاجة لكي تقنع، إلى الكلام وحركات اليدوالرأس، وهذا يستدعي نوعا خاصا من الوضعات : إما وضعة مواجهة ‘أنا’ مباشرةتتوجه إلى ‘أنت’"[31]،مثل أن تتقدم امرأة وتحكي جالسة أو واقفة عن أهمية المنتوج ‘س’، مظهرةفرحتها بالمنتوج ومركزة على بعض الأشياء الداعية إلى شراء السلعة (الجودةوالثمن مثلا) و"إما من خلال لقطة من بعيد تمثل لمشهد تطبيقي يراد به البرهنة العملية على صلاحية منتوج ما"[32]،كأن تدرك امرأة متقدمة في السن جارتها، مرشدة إياها إلى مسحوق جيد، لا يضرأو لا يلحق ضررا بالثوب وفي ذات الوقت يحدث بياضا هائلا …
هكذا إذن، تتآلفالإيماءات والحركات مع طبيعة الفضاء، لتقدم برنامجا بصريا خصص لنوع منالمنتوجات الملائمة للسياق المعروضة من خلاله، فهي إذن، اختيارات محكومةبدراسة للعمق الثقافي والحضاري الذي يؤطر الفئة المجتمعية المستهدفة، فلايعقل أن يسند عرض عطر باريسي لامرأة مسنة بلباس محتشم، يحجب تفاصيل الجسد،وفي غياب لأية شبقية جنسية تومئ إليها مواضعات الجسد وحركات العينوالشفتين واليدين مثلا، فكل هذه الحالات السالفة الذكر هي "في صميمهاأوضاع تحيل على تحديد مسبق للذات النسائية في صيغتها المحلية، حيث يطغىالدور العملي والجنسي / التناسلي (أدوار الأم والجدة والزوجة )… إنها حالةضبط طوعي للجسد أو هي انضباط جسدي تتخلى بموجبه المرأة عن فرديتها أوأنوثتها وجمالها، لتحتل موقعا داخل مؤسسة"[33]، وهي البيت والقيام بأعبائه.
وفي جانب آخر وعلىخلاف الحالة السابقة، هناك نمط إشهاري يقدم سلعة أخرى تتطلب تخصيص نوع منالنساء جديد، يختلف عن النموذج الأول في الحركة والإيماءة واللباس والجسد،إنها تعرض سلعة تتماشى والأنوثة التي تتدثر بها في الوصلة الإشهارية(عطور/شامبوان/سيارات فارهة/هواتف عالية التقنية …)، وهي لا تعرض المنتوجأو تدعو لاقتنائه، إنما تعرض جسدها وتقدم مناطق الرؤية والإغراء والاشتهاء"[34]، وبالتالي فهي تدرج المنتوج ضمن غطاء إيحائي لا تتسرب معه صورة المنتوج واسمه إلى اللاشعور إلا متدثرا بحالة إثارة أو رغبة جنسية"[35]، إنها المنتوج نفسه أو وجها من أوجهه التي يساهم في صنعها.
لقد سعت الوصلاتالإشهارية في هذا المستوى إلى اللعب على الطابوهات والممنوعات، والتركيزعلى طراوة الجسد وجماله، وإبراز شبقيته وإغوائه، في سبيل الكشف عن نتائجالمنتوج بمستعمله، والكشف عن ما يحصل للذات المستعملة له في حركات الأيديوالعينين والشفاه وطرق التنقل في الفضاء.
ويعتمد الإدراكالبصري في هذا المستوى الإغرائي المركب على سننين : عملي نفعي، والآخراستعاري متأصل من الأول، و"هكذا فإن البرمجة المسبقة للأفعال (التسنينالذي يفترضه الإدراك) تنتشل العضو من استعماله المباشر لكي تمنحه –صراحةأو ضمنا– استعمالا استعاريا، وعبر هذا الاستعمال الاستعاري نحصل علىالمضامين المتعلقة بالإغراء ومن هنا جاز لنا القول إن الإغراء في جوهرهكوني، أما الغسيل والتنظيف فمحليان"[36].
أما على مستوىالفضاء، فإنه على عكس الفضاء المغلق الضيق في الحالة الأولى، فإن المرأةفي الحالة الثانية تتحرك ضمن فضاءات ممتدة، وتكتنز دلالات وإيحاءاتإيجابية. "إنها تتحول في الشوارع (الإعجاب) أو تتهادى في ممرات الحرمالجامعي حيث المعرفة والعلم، وحيث الشباب والانطلاق واللامبالاة (التنافسبين الأقران)، أو وسط طبيعة غناء تعج بالحياة والحيوية"[37].
وتظل المناطق الشبقيةفي جسد هذه المرأة هي ما ترتكز عليها الوصلة الإشهارية في هذه الحالة.فالجسد هنا ينزاح عن الاستعمالات العملية النفعية، ويقدم نفسه على شكل عددمن الإيحاءات الرمزية والإستعارية الجنسية. إنه يثير ويغري ويصدم، على عكسالمرأة المحلية التي تحاصرها الغايات والحاجات اليومية، داخل فضاءات مغلقةتحد من قدرة الجسد على الحركة وتأليف الإيماءات الإيحائية، فضلا عن حواجزالغطاء والثوب الذي يلف تضاريس الجسد ويكبح إمكانية إنتاج دلالاتهالشبقية. وفي الحالة الثانية "عيون المرأة لا تمسك بالمنتوج ولا تحذق فيالمشاهد، وهي لا ترى الطريق .. إن عينيها تستوطنان حالة نشوة قصوى تشبهحالات الجذب أو حالات اللذة الجنسية القصوى"[38].
إن الصورة هنا تعيدخلق الأدوار والإيماءات، فكل من العينين والشفاه والشعر والرجلين … أعضاءتؤدي إيماءات وحركات غير طبيعية، وغير نفعية، بل تحيل على الرغبة والقبولوالبسمة والنشوة والمتعة. إنها الفردانية الممتدة في فضاءات التحرروالاحتفاء بالذات.
وإذا ما تتبعناتمظهرات الجسد عبر سيرورته التواصلية والدلالية، فإن حضوره في هذا المستوىيكون أكثر قوة وأداء في الوصلة الإشهارية، عكس حضوره بين الأيقونات الأخرى(الفيلم مثلا).
في هذه الحالة، فإنناننظر إلى الجسد بكونه حاملا ثقافيا فقط، يدخل في صراع مادي مع الآخر، يعبرعن قناعاته ويبدي نوازعه العاطفية وقد لا يثيرنا ولا يؤثر فينا بل في كثيرمن الأحيان نبدي تجاهه تعاطفا أو قسوة تبعا لقوة مضامينه التي يمررها فيسياقات متفاوتة، ومع ذلك ويبقي متخيلا في ذهننا من خلال مسار دلالي معين.
خاتمة
لما طرحنا هذاالموضوع، كنا راهنا على بلوغ مداه، وفي سيرورته البنائية، تبين لنا أن ذلكمن الصعوبة بمكان، حيث وجدنا أنفسنا أمام سيل من التساؤلات والإشكالاتوالعوائق الموضوعية والعلمية المعرفية والمنهجية والذاتية، حيث المدىالزمني المخصص لإنجاز بحث في مثل موضوعنا غير كاف نظرا لقلةالزاد المعرفي الذي راكمناه حول الخطاب البصري ومناهج تحليله من جهة، ومنجهة أخرى، لقلة المراجع والدراسات التي تبحث في هذا الميدان، على الأقلباللغة العربية، ورغم ذلك كان رهاننا أن نلج الموضوع ونتخطى صعوباته، ونحنالآن - وبعد الذي قمنا به - نرى أن استقصاء جميع مكونات الخطاب البصريومناهج تحليله، أمرا ليس بالهين، ونجزم أننا لم نحقق هذا الهدف بعد، فكلماتقدمنا في هذا البحث المتواضع كلما وجدنا أنفسنا غير قادرين على استجماعما يفيدنا في دراسة هذا الخطاب، وحسبنا إذن، أن نكون قد دشنا الحديث عن هذا الموضوع بنوع من الشمولية والإيجاز، آملين أن نعود إليه في دراستنا العليا لاستكمال المشوار.
لقد حاولنا -قدرالإمكان- أن نضمن تفاصيل موضوع بحثنا في صياغة العنوان، والذي يتضمن عدةعناصر، كل منها له أهمية بالغة في التفرد بالدراسة، فمن خمس قضايا كبرىاستطعنا أن نشكل عنوان البحث على ضوءها، وهي : السيميولوجيا والخطابالبصري والمعنى والدراسة التواصلية والدراسية النقدية.
إن إشكال الخطابالبصري كبير و خطير، خطورته تكمن في كونه قوي الأداء والإبلاغ، ما يجعلقراءته في كثير من الأحيان قراءة منحرفة. إذ غالبا ما نهتم بالمعنى و نغفلالصورة وكيفية أداءها، ووجدنا لذلك تبريراته الموضوعية والذاتية. إذ ماتزال الصورة تدرس وتحلل وفق مفاهيم لسانية وصفية، وإنه آن الأوان لتجاوزهذا الإشكال، و ذلك بإيجاد مصطلح خاص بالصورة، بل وندعو إلى وضع قاموسللخطاب البصري.
فالصورة لا تقدم لنابالفعل معنى، إنما تقدم لنا صورة هذا المعنى لأسباب أشرنا إليها، تتعلقأساسا بالرؤية الإخراجية وتوابعها، ولإدراك المعنى نحن بحاجة إلى وسائطإدراكية وثقافية وتقنية آلية. إن ما نظنه حقائق ليس كذلك، بل هي حقائقوسائطية.
وقد آن الأوان لدراسةوتحليل الصورة في ذاتها ولحد ذاتها، ومحاولة الكشف عن آليات إنتاجهاوأداءها للدلالة / المعنى، فالدراسات في هذا الميدان قليلة جدا في الساحةالعربية على عكس ما هو موجود لدى الغرب.
إن الخطاب حول الصورةخطاب بطيء إذا ما قورن بالمنجز البصري (الصورة)، مما يستلزم منا تدارك هذاالنقص، لما للصورة من قوة وسلطة تضاهي سلطة وقوة الكلمة.
وكل صورة هي اختيارمن بين الاختيارات الممكنة تبعا للقناعة و الرؤية الإخراجية، فهي محكومةبقصدية المنتج ورؤيته وأهدافه، وبالتالي فإن أي صورة تحمل أيديولوجيةخفية، تبعدها عن الحياد والموضوعية التي تبدو للناظر والمشاهد العادي.
ولهذا، كان وقوفناعلى بعض السنن والقوانين والآليات التي تنتج بها الصورة معانيهاودلالاتها، لتحقيق هذا المبتغى - أي لفهم طرق أداء المعنى من قبل الصورة -فتطرقنا إلى عدد من العناصر الأساسية، وحصرناها في ثلاثة أبعاد :
* البعد الأيقوني.
* البعد التشكيلي.
* البعد اللغوي.
وقد بينا ما لهذاالأخير من دور في تحصين القراءة من كل انزلاق تأويلي وانسياب معنوي، وفيتأطير معاني الإرسالية البصرية، خصوصا في الملصق الإشهاري، فاللغة تدعموترسخ المعنى، بل وتحصره منعا من التسرب الدلالي، إنها تحضر في الصورة علىشكل عنوان أو تعليق أو نص مواز.
واختيارنا للجسدوتأثيره على المتلقي، وخصوصا الجسد النسوي، لم يكن منطلقا من زاويةميتافيزيقية ونظرة فقهية محضة، بل أساسا من كونه نسقا إيمائيا تواصليا،يتم توظيفه عبر الصورة بهدف الإبلاغ، لما للجسد من حمولة بيولوجية وثقافيةيساهم في إغناء دلالات الصورة، و رأينا على أن الجسد النسائي يحضر فيالصورة الإشهارية أساسا على نمطين : المرأة المحلية المرتبطة بثقافتناوعاداتنا، والقائمة بأعباء البيت والتربية، والمحصورة في فضاءات ضيقة،وأخرى وافدة، ممشوقة وشبقية، مفتوحة على فضاءات واسعة كل ما فيها يثيرالإغراء واللذة، و في هذا النمط لاحظنا أن الإيماءة وحركة الجسد وفضاءالتنقل تحمل دلالات ومعاني بليغة ومكثفة.
إن الصورة في كلتمظهراتها، تظل إبداعا قصديا، يقوم منتجوها بعملية تأليفية وتوضيبية لعددمن العناصر المكونة لها، فهي –الصورة- ليست شيئا متجانسا، كما يبدو، وإنماهي نتيجة دراسة فنية وتقنية مسبقة، تساهم التقنيات الحديثة في إنتاجها مماينعكس على قوتها وجاذبيتها وإبلاغيتها، فمن الريشة ومرورا بآلة التصويرالفوتوغرافية وانتهاء بأحدث آليات صياغة وإنتاج الصورة عبر الحاسوبوالبرامج المخصصة لذلك، نجد أن الصورة سريعة التطور و قوية في التأثيروالإغراء.
وقد ارتبط ازدهارالصورة ، وخصوصا الإشهارية منها، بازدهار الاقتصاد الحر والرأسمالي، وماأفرزه من منافسة حادة بين الشركات و المنتجين، فكان لزاما لضمان سرعةالإنتاج و الاستهلاك، تطوير البعد الدعائي و الإشهاري لتحفيز المستهلك علىالاستهلاك، و حيث أن الحاجات الأساسية للفرد لم تكن وحدها مجال اشتغال هذهالشركات المتعددة و المتنامية فقد أصبحنا أمام منتجات كمالية، تتغيى مثلهذه الشركات إذن صياغة ثقافة استهلاكية جديدة و حاجات وهمية وزائفة من أجلإغراء و تحفيز الزبون على الشراء والاستهلاك، إنما - و لتحقيق هذا الهدف –تبحث كل يوم عن صياغة مثلى لإعلانات أكثر عددا وأقوى بلاغة و تأثيرا وإغراءا، و أشمل من حيث التوزيع و النشر، فلا تكاد اليوم ترتحل أو تتنقلبين البيت والشارع و المدرسة إلا و تحيط بك أعداد غفيرة من الصور عبرالتلفاز و الصحف و المجلات، و الملصقات وواجهات المحلات و الجدران، و علىاللافتات و الملصقات و عبر الأنترنيت و الملابس و المنتجات الغذائية وغيرها…..
ولما كانت للصورة هذهالقوة وتوافرت بالكم الذي يضاهي الكلمات، فإننا نقيم دعوة بإدراجها ضمنآليات التدريس، ليس وسيلة للإيصال فحسب، بل أن تصبح موضوعا يدرس قصد البحثفيها عن أوجه الاستدلال، ولذا، فإنه يلزمنا تحسيس المنظومة التربويةبأهميته وخطورة هذا الأنموذج العولمي الفعال، من أجل تدريس مناهج التعاملمع الصورة دلالة ونقدا وانتاجا.
إن تزويد الطالببثقافة بصرية فعالة، كفيلة بتحصينه من التلقي السلبي وتجنيبه مساوئ التلقيالغير الناضج، وبالتالي فنحن أحوج اليوم إلى تكوين متخصصين في دراسة عوالمالصورة وطرق اشتغالها وكيفية صياغتها، والأهداف الكامنة وراءها، ثم إدراجمادة الثقافة البصرية ضمن مواد التدريس وإيلاء الأهمية لجميع تمظهراتالخطاب البصري، التلفزي والسينمائي والفوتوغرافي والإشهاري والتشكيلي.
[1] - السيميائيات والتواصل، أحمد يوسف، مجلة علامات، ع24، 2005، ص، 38.
[2] - المرجع نفسه، ص، 46.
[3] - المرجع نفسه، ص، 40.
[4] - الصورة السينمائية : التقنية والقراءة، ص، 21، بتصرف.
[5] - الصورة السينمائية، ص، 24.
[6] - السيميائيات : مفاهيمها وتطبيقاتها، ص،89.
[7] - المرجع نفسه، ص،93.
[8] - المرجع نفسه، ص، 100.
[9] - السيميائيات، مفاهيمها وتطبيقاتها، ص، 165.
[10] سيميوطيقاالتواصل في الخطاب السينمائي: ميكانيزمات تمفصل المعنى بين الإنتاجوالإدراك، فيلم "مكتوب" لنبيل عيوش نموذجا، مقاربة في لسانيات الخطاب،رسالة لنيل دكتوراه الدولة في اللسانيات، جامعة ابن زهر، أكادير،2000/2001م، 1421/1422ه، ص،63.
[11] -المرجع نفسه، ص، 65.
[12] -المرجع نفسه، ص، 66.
[13] - السينما والتربية أية علاقة ، أيت همو يوسف، مجلة فكر ونقد، السنة الثامنة، ع، 73، نوفمبر 2005، ص، 40.
[14] جريدة حلول تربوية، ع، 33، ص، 5.
[15] - السيميائيات، مفاهيمها وتطبيقاتها، ص، 124.
[16] - المرجع نفسه، والصفحة نفسها.
[17] - الجسد في المسرح، لعبة المعنى والامتداد، محمد اشويكة، فكر ونقد، ع 76، ج 8، فبراير 2006، ص،33.
[18]- نساؤهم ونساؤنا، سعيد بنكراد، علامات، ع 12، 1999، ص،75.
ص، 127. - السيمائيات، مفاهيمها وتطبيقاتها
الفصل الثالث :
البعد التواصلي والنقدي للخطاب البصري
"فإذا كان لسلسلة من الكلمات معنى، فإن مقطعا من الصور له ألف معنى"
[ريجيس دوبري]
الفصل الثالث :
البعد التواصلي والنقدي للخطاب البصري :
المبحث الأول : إشكال التواصل البصري :
1. مفهوم التواصل وشموليته :
لقدجرى الحديث عن مفهوم التواصل باعتباره مرتبطا أساسا باللغة أداة للتواصل،وساهمت اللسانيات التواصلية في تأسيس هذا المعطى، إلى أن ظهرت السيميائياتعلما قائم الذات، حيث أصبح التواصل منفتحا على كل الأشياء والعلامات التيتحمل في طياتها دلالة ما، فتجاوزت بذلك حدود البعد اللساني في العمليةالتواصلية إلى أبعاد وأنساق تواصلية أخرى أحدثها الإنسان في إطار حاجتهللتبادلات الاجتماعية.
ولعلما تتميز به اللغة من قوة في التواصل بين المرسل باعتباره صاحب المبادرةفي التواصل، والمرسل إليه باعتباره هدفا مباشرا للرسالة اللغوية، وقدرتهاعلى استيعاب جل تفاصيل الحياة اليومية للإنسان والتعبير عنها، هو ما حذابالبعض إلى أن يمايز بين الأنساق التواصلية الدالة، والتركيز على البعداللغوي في أي عملية تواصلية، "فقلما ارتفعت عقيرة السيميائيين للقول بأنلا تفاضل بين الأنساق الدالة، وأن النسق اللساني لا امتياز له على بقيةالأنساق الأخرى، بل خلافا لذلك زعم البعض من السيميائيين ومنهم بارتوكريستيفا بأنه من الصعوبة بمكان قيام أي مشروع سيميائي بمعزل عن الأنموذجاللساني الذي يعد علما قائدا للسيميائيات، وقد خالفوا بذلك دوسوسير شيخاللسانيات وأمام السيميائيات في العصر الحديث"[1].
وإذا كانت السيميولوجيا تعد "العلم العام لكل أنساق التواصل اللسانية وغير اللسانية"[2]،فإن مفهوم التواصل بدوره سيتغير تبعا لذلك، إذ، إن الوظيفة التواصلية لاتقتصر على اللغة وحدها وإنما هي مرتبطة بجميع الأنساق التواصلية القصديةوالدالة، ونعني هنا بالقصدية ذلك الوعي الإنساني الذاتي الذي يدفعهلممارسة سلوك تواصلي، فالقصد جوهر السيرورة التواصلية وعماد المعنى، ولايمكن أن يكون فعلا نابعا من الضرورات الطبيعة التي تمليها الحاجات العضويةللإنسان، ذلك أن القصد توجه مباشر إلى الموضوع ليتماهى مع فعل الإدراك منلدن الذات، ومن هنا ينبثق الوعي الذي يؤلف ما يطلق عليه كاسيرر [Cassierer] بالمبدأ الرمزي"[3].
وككل عملية تواصلية فإن التواصل البصري يمكن إجماله وتوضيحه في الخطاطة التالية :[4]
المرجع
المرسل
المرسل إليه
الرمز
قناة التواصل
الخطاب
* المرسل : هو الذي يخلق الخطاب، ويمكن أن يكون فردا أو هيئة معينة.
* المرسل إليه : هوالذي يستقبل الخطاب، ويمكن أن يكون فردا أو هيئة أو حيوانا أو آلة(كمبيوتر…)، لكن في جميع الحالات لا يمكن أن يحصل التواصل إلا إذا خلفوقعا وتأثيرا بينا على المتلقي، وهذا بدوره لا يعني أن عملية التواصلمفهومة، حيث يجب التمييز بين الاستقبال (استقبال الخطاب) والفهم (إدراكالخطاب).
* الخطاب :هو موضوع التواصل، ويتكون من المضمون الذي تحمله المعلومات التي يحويها،فالأشخاص-في مجال السينما أو داخل منظومة السينمائي-يحققون إيصال خطابهمأو عقدتهم المجهولة ويصحبون موضوع تواصل مباشر مع الجمهور عبر الخطابالمرئي الذي يقدمونه.
* قناة التواصل :تعني الطريق الذي يسلكه الخطاب ليصل إلى المتلقي، ويمكن أن يتحدد بواسطةالوسائل التقنية التي يستعملها المرسل من أجل ضمان تسلسل خطابه نحو المرسلإليه، يمكن لهذه الوسائل أن تكون صوتية كالراديو مثلا، أو مرئيةكالتليفزيون والسينما… فكل نوع من التواصل المباشر، خاصةالذي تتداخل فيه الشخصيات والجمهور، يتحقق عبر الرجوع إلى وضعيات مشتركةونماذج لغوية وحركية تتموقع داخل نظام التواصل المتداول.
* الرمز : le code : هو عبارة عن مجموعة من المساطير والعلامات التي يبحث عنها المرسل لتركيب وتبليغ خطابه encodage.
* المرجع le référent : يتم استخلاصه من خلال مضمون الخطاب، أو وضعية المرسل والمتلقي أو من خلال الأشياء الحقيقية التي يرجع إليها الخطاب أو ينبعث منها"[5].
إن الخطاب البصريبجميع أنواعه وتشكلاته، ليس خطابا تلقائيا تم إنتاجه بالصدفة، وإنما تحكمهالقصدية التي تتغيى منه إنتاج معنى ما، و"عليه يمكن القول أن اللغةالبصرية التي يتم عبرها توليد مجمل الدلالات داخل الصورة هي لغة بالغةالتركيب والتنوع، وتستند من أجل بناء نصوصها إلى مكونين :
1-ما يعود إلى العلامة الأيقونية
2- ما يعود إلى العلامة التشكيلية.
فالصورة تستند من أجلإنتاج معانيها إلى المعطيات التي يوفرها التمثيل الأيقوني كإنتاج بصريلموجودات طبيعية تامة (وجوه، أجسام، حيوانات، أشياء من الطبيعة…) وتستندمن جهة ثانية إلى معطيات من طبيعة أخرى أي إلى عناصر ليست لا من الطبيعة ولا من الكائنات التي تؤثث هذه الطبيعة.
ويتعلق الأمر بما يطلق عليه التمثيل التشكيلي للحالات الإنسانية أي العلامة التشكيلية : الأشكال والخطوط والألوان والتركيب"[6].
إلا أن كلا منالعلامة الأيقونية والعلامة التشكيلية، لا يمكنها أن يؤديا معنى في ذاتهماوفي مادتهما إلا في حدود السياق الذي وظفا فيه وضمن النظام الثقافي المحيطبعملية إنتاج هذا الخطاب، وبعبارة أخرى فإن تأويل الصورة مثل كل تأويليحتاج إلى بناء السياقات المفترضة من خلال ما يعطى بشكل مباشر، ولا يمكنلهذا التأويل أن يتم دون استعادة المعاني الأولية للعناصر المكونة للصورة،وضبط العلاقات التي تنسج بينها ضمن نص الصورة.
وفي جميع الحالات،فإن الأمر يتعلق باستحضار التمثلات الثقافية الكبرى التي لها علاقة بـ"الأنا" و"الآخر"، ولها علاقة بإكراهات "الزمان" و"الفضاء"، ولها أيضاعلاقة بمجمل الروابط الإنسانية وما تفرزه من قيم وأحكام وتصورات يتمإيداعها داخل عضو أو داخل نظرة أو وضعة أو موضوع من الموضوعات المؤثثةللمحيط الإنساني، لتصبح هذه العناصر دالة خارج إطارها النفعي"[sup][7][/sup].
وهنا نؤكد على أنمكونات الصورة الأيقونية والتشكيلية، لا تحمل معنى في ذاتها ، إنها تكتسبهذا المعنى ضمن الجماعة الإنسانية وتجربتها ، فالخطاب الثقافي هو الذييمنح المعنى والدلالة لهذه المكونات .
إن مجمل الدلالاتالتي تثيرها الصورة من خلال بعديها الأيقوني والتشكيلي ليست وليدة مادةمضمونية دالة من تلقاء ذاتها، وليست وليدة معان قارة ومثبتة في أشكال لاتتغير، إنها أبعاد أنتروبولوجية مشتقة من الوجود الإنساني ذاته.[8]
لكن هذا التعددالدلالي والمعنوي الذي تسمح به قراءة أي شكل من أشكال الخطاب البصري ،يحيل إلى أن هذا المعنى لا يمكن الحصول عليه وتحديده ، فهذه الحقيقة التينبحث عنها إنما هي وسائطية –كما سبق التطرق لذلك- ونسبية ، ترتهن إلىالخطابات الثقافية المشكلة لها، والتي تختلف من بيئة إلى أخرى وترتهن أيضاإلى نوعية المتلقي . إن المعنى إذن، يظل سرابا نجري ونلهث وراءه، ومانستطيع إدراكه هو تمظهراته.
وعليه، فدور الباحثفي هذا المجال، هو السؤال عن الكيف، أي كيف تؤدي الصورة معانيهاودلالاتها، دون البحث عن خارجيات هذا الخطاب البصري، ولهذا فإننا استأنسنابمفهوم سيميائي يؤطر هذا القصد، وهو مفهوم المحايثة الذي يعني تحليل النص، سواء كان نصا لغويا أو بصريا أو إيمائيا، باعتباره نصا منتهيا في الزمانوالمكان، أي كبنية مغلقة، فلا نربطه بالظروف التاريخية والاجتماعية..،"فالمقصود بالتحليل المحايث أن النص لا ينظر إليه إلا في ذاته مفصولا عنأي شيء يوجد خارجه"[9].ويفيدنا هذا النهج السيميائي في تركيز قراءتنا على النص البصري وتفكيكه منأجل إدراك ومعرفة أوجه إنتاجه وطرق أدائه للمعنى. وقد ساهم عدد منالباحثين في هذا المجال إلى صياغة نماذج نظرية للتحليل والدراسةالسيميائية، مثل بارث وفلاديمير بروب وغريماص. حاول هذا الأخير وضع صيغةنظرية أساس في تحليل النصوص السردية التي ترتكز على الحكي، وهي لا تتمثلفي النصوص اللغوية فقط، بل تتعداها إلى كل النصوص المعقدة والمركبةكالإشهار والسينما والإيماءة.
وقد استطاع غريماص أن يضع خطاطة سردية Le schema narratif، "تستطيع احتواء كل النصوص كيفما كانت وأيا كان وسيطها الإدراكي "[10].وتتمفصل هذه الخطاطة إلى أربعة عناصر: القدرة والإنجاز والمناورةوالمصادقة. ينتمي العنصران الأولان إلى المستوى العملي، وينتمي الآخرانإلى المستوى المعرفي . ويهمنا الحديث عن المستوى المعرفي باعتباره الغالبفي الخطاب البصري. فالمناورة بنية تعاقدية تواصلية، تهدف فعل معرفة، يحاولمن خلاله المرسل دفع المرسل إليه إلى وضع من انعدام الحرية (اللاستطاعةالفعل)/(الطاعة)، "وفي إطار المناورة تطرح مسألة الإقناع ، وهنا تمفصل بينالفعل الإقناعي للمرسل والفعل التأويلي للمرسل إليه"[11]،كل واحد منهما منوط به فعل يجب القيام به: فعل إقناع يشترط القدرةالإقناعية لدى المرسل، والمرسل إليه مطالب بفعل تأويلي يشترط أن يمتلكقدرات كي يؤول. في حال إذا اقتنع بهذا الفعل الإقناعي نقول إن فعل الإقناعقد نجح.
أما المصادقة "فيقومبها عادة مرسل حاكم، وممارستها تتطلب منه قدرة مطلقة، قدرة لا تحتملالخطأ، لأنه ضامن الحقيقة وضامن الجميل والحسن، وضامن كل القيم، وهو حارسكل التعاقدات. والمصادقة، سواء أكانت عملية – حين تصادق إنجاز الذات – أومعرفية – حين تصادق كينونة الذات – فهي فعل إبستيمي مصداقي يقوم به المرسلالنهائي للتأكد من مدى مطابقة أو عدم مطابقة إنجاز البرنامج السردي، الذيقامت به الذات ، للنظام الخلاقي الذي يعلن عنه أثناء التعاقد البدئي"[12].
إننا حينما نستأنسبمعطيات غريماص السيمبائية، فإننا نسعى إلى فهم ميكانيزمات إنتاج الصورةلدلالاتها وأشكال العلاقات التواصلية التي تعقب عملية الإنتاج والتلقي،فالنصوص الإشهارية مثلا هي نصوص مناورة بامتياز، إذ كل شيء يتم توظيفه منأجل غرض الإقناع، والمستهلك يحاول بشتى الإغراءات الممارسة عليه شراء منتوجX .فإذن، يكون هدف المرسل في الخطاب الإشهرية إقناعيا ، ويبقى على المرسلإليه أن يمارس فعلا تأويليا، قد يسعى إلى تحقيق هدف المرسل(الوجوب) وقديحدث أن يظهر المرسل إليه اللارغبة في الفعل (مقاومة)، فيرفض القيم الممررة إليه، ويصبح بذلك منتجا لقيم بديل.
2 . إشكال تلقي الخطاب البصري :
يمتاز المجال البصريبتعدد واجهاته وتنوع أشكاله. وقد اكتسحت الصورة حياتنا اليومية داخل البيتوفي الشارع والمؤسسة، مما أفرز نسقا جديدا في أنظمة التواصل، ولم تعداللغة تحتكر هذا الدور، إذ غدت الصورة هي الأخرى تزاحم الأنساق التواصليةالمتداولة، لكن من دون أن تأخذ مكانها .
وتحيط قراءة الرسائلالبصرية قراءة مستوعبة، عددا من الإشكالات المعرفية والثقافية التي لاتساهم في بناء فهم سليم لطبيعة الخطاب البصري، ولذلك أحطنا موضوع قراءةالصورة البصرية بنوع من الاهتمام، وذلك للمساهمة في خلق ثقافة بصرية،حاولنا أن نعتمد في سبيل ذلك على عدد من المفاهيم والمناهج السيميائيةالتي قدمت تجارب نظرية، أسست طرقا علمية لقراءة وفهم الصورة البصرية.
لكن المخاض الذيلازالت تعيشه السيميائيات البصرية، والمحاولات الضئيلة في هذا الميدان،جعل مسألة تلقي الخطاب البصري يطغى عليها طابعين :
- طابع إيديولوجي :إذ الملاحظ أن بعض تجارب قراءة الصورة بأنواعها المختلفة، لا تستند إلىمناهج علمية خاصة ومحددة، وإنما تذهب إلى فهم دلالات الصورة من منظورالذات و الإيديولوجية التي ينتمي إليها المتلقي/المشاهد، فقبل أن يتمدراسة صورة أو لقطة ما بطريقة علمية وشاملة، تربط فيها بين أدوار العناصرالمشكلة لها وعلاقة أي لقطة مع سابقتها وما بعدها، فإن الأحكام والتقييماتالتي تلي عرض الصورة / الفيلم، تعتريها انطباعات إيديولوجية وذاتية، تسقطقيم الواقع والأخلاق والدين على فهم الصورة. وبالتالي نكون أمام مفترقكبير بين ما يسعى المرسل إلى إيصاله من قيم وبرامج وبين مواقف هشة، لاتستند إلى وعي وإدراك آليات إنتاج الصورة وأوجه دلالاتها، وإنما تسعى إلىتنميط هذا الخطاب، وإسقاط قيم خارجية عليه. إن أي تلقي للخطاب البصري يغيبفيه استحضار المناهج الخاصة في تحليله ودراسته، وأي قراءة غير متأنية وغيرشاملة وغير متفحصة، فإن مآلها سيكون مآل القراءات الساذجة والذاتيةوالإيديولوجية.
- طابع أدبي :أمام النقص الحاصل في مناهج تحليل الخطاب البصري، سعى البعض إلى التعاملمع الصورة وفق نماذج تحليل النصوص الأدبية، إذ تكتفي مثل هذه المقارباتبالاهتمام بالبعد الجمالي الإستيتيقي والانطباعي، دونما بحث عميق فيتجاويف هذه الصورة أو تلك، قصد إدراك تمظهرات المعنى الذي تؤديه. نجد ذلكواضحا في مجال الفن التشكيلي، الذي لازالت مناهجه النقدية تعتمد علىالأدوات اللسانية / الأدبية، والمناهج الاجتماعية التاريخية في تحليلها.
لقد بدا لنا أن ضعفالإنتاجات النقدية في مجال تحليل وتلقي الصورة، هو نتيجة غياب منهجسيميائي علمي واضح، هذا الغياب هو أيضا راجع إلى تعقد تركيبة البنىالداخلية والتواصلية للنصوص البصرية، حتى أصبحنا اليوم أمام تضخم كبيرللصورة وتقنياتها العالية على حساب الخطاب الموازي لها.
إن هذا الوضع أفرزلنا شكلين من أشكال تلقي الخطاب البصري: تلقي إيجابي وتلقي سلبي. يعتمدالأول المناهج العلمية المستحدثة لتحليل الخطاب البصري باعتباره نسقاتواصليا سيميائيا، والثاني يجهل أو يتجاهل هذه المناهج، مما ينعكس سلباعلى نتائج دراسته.
وفي هذا الصدد، نرىأن الصورة شأنها شأن الخطاب اللغوي.فهي وسيط تواصلي تمرر بواسطته عددا منالمعاني والدلالات والقيم، مما يلزم على المتلقي امتلاك قدرات منهجيةومعرفية في سبيل إدراك آلياتها ودلالاتها السيميائية والتواصلية.وعليه،فإننا بحاجة إلى توفير ثقافة بصرية متكاملة لدى المتلقي، تسعفه في قراءةوتحليل الفيلم السينمائي والوصلة الإشهارية واللوحة الفنية والصورةالفوتوغرافية والملصق…وغيرها.
ومن هنا نرى أنالمدرسة والجامعة هما فضاءان كفيلان بصقل معارف المتلقين وتطعيمهم بثقافةبصرية، من خلال إدماجها في البرامج والمقررات وضمن الأهداف المسطرة، وذلكبتدريس الصورة، ليس باعتبارها وسيلة بيداغوجية بسيطة لإيصال المعلومةفحسب، وإنما تخصيص مواد خاصة بها تدرسها في ذاتها ولذاتها. وترجع ضرورةوأهمية هذا المطلب إلى ازدياد "الأمية الأيقونية والسمعية بصرية تفاقمابكل أوساط ومستويات المجتمع، فكثيرون هم الذين لا يفقهون تفكيك رموز الصوروغوص أعماقها الدلالية والجمالية والتواصليةَََ[والتقنية]"[13].
وقصد تجنب مساوئالتلقي السلبي للصورة، "فعلى مدرستنا إذن، العمل على تكوين الفرد بتزويدهبثقافة بصرية، تساعده على تعزيز ردوده الانتقائية والدفاعية"[14].
المبحث الثاني : الجسد والأداء البصري :
1. الجسد لغة للتواصل :
يعتبر الجسد أحدالأدوات التي يوظفها الخطاب البصري لبناء إرساليته البصرية، وذلك لمايوافره من إمكانات تواصلية، وهو الأمر الذي ركزت عليه التجربة السيمولوجيةفي تعاملها معه باعتباره نسقا إيمائيا تواصليا، فهو يعبر عن تمثلاتناالبيولوجية والثقافية. إنه وسيلة للعيش والتواصل وإنتاج الدلالات، وهوالواجهة التي تفضح دواخلنا وأداة لتحديد هوياتنا وأشكالنا فـ "الجسد يحتلمكانة هامة في حياتنا اليومية. إنه المبدأ المنظم للفعل، وهو الهوية التيبها نعرف وندرك ونصنف، وهو أيضا الواجهة التي تخون نوايانا الأكثر سرا"[15].
إذن، يمكن القول إنالجسد لغة من اللغات أو هو لغات -حسب أشكال الإيماءات التي يؤديها- لهاقواعدها ومنهجيتها الخاصة في إنتاج الدلالات، هذه الأخيرة هي كل ما يقدمهالجسد من طاقات تعبيرية، وهو موضوع اشتغالنا في هذه الفقرات، بحيث نتجاوزهنا الجانب النفعي في الجسد إلى ما هو قصدي، أي إلى "استعمالاتهالاستعارية المتنوعة"[16].
إن الجسد يوافر عددامن الإمكانات الإيمائية والحركات العضوية التي تنشئ لنا دلالات وإيحاءات،لكنه ينشئ هذه الدلالات في سياق ثقافي وحضاري، يتم إدراكها من خلاله. فمادمنا نتحدث عن لغة الجسد باعتبارها لغة قصدية، فإننا نستبعد كل الحركاتوالإيماءات التي تكون بمحض الصدفة أو الناشئة عن جسد لذات غير مدركة وغيرمؤهلة (حالة السفيه والمجنون).
ويشكل النظر إلىالجسد من زاوية أنطولوجية مبدأ أساسا في البعد التواصلي، فـ "يمكن أن نبدأالكلام عن الجسد من الإشكالية الفلسفية التي وضعها سارتر أثناء تحديدهلمفهوم الآخر، بحيث أصبح الوجود لا يكتمل إلا من خلاله وبالتالي من خلالرؤيته وحكمه"[17]. وإذن، يعتبر الآخر مكملا لكينونة هذا الجسد وحاملا لإدراك تفاصيله بايجابياته ونقائصه والآخر أساس أيضا لتكتمل عملية التواصل و التلقي.
وبعد ذلك، لابد منالتأكيد على أن لغة الجسد ترتكز على تقنيات وقواعد خاصة لفهم دواخل الذات.فهذه التقنيات هي "الطريقة التي يستخدم بها الإنسان جسده من أجل خلق حالاتتعبيرية موغلة في التفرد والخصوصية، كأشكال الوضعة والاستخدام الإستعاريلليدين ودلالات النظرة، ونبرة الصوت، وشكل الجلوس، وكذا اللباس، والنحافةوالبدانة … فكل ما يعود إلى هذه التقنيات له موقع داخل السجل الثقافي /الاجتماعي الذي يؤوله ويمنحه دلالاته"[18].
إن مجموعة كثيرة من الاعتبارات تتحكم فينا لتوظيف الجسد، وهي اعتبارات لا تختزل فيه لكونه هيكلا من لحم وعظام ودم، ولكن لكونهأساسا يحتوي على شيء أسمى من ذلك هي الذات الإنسانية / الروح، والتي تشكلالمحرك الأساس له بما هو كيان بيولوجي وثقافي، فمن خلال الثنائية الجسديةالطبيعي والمكتسب / الثقافي يمكننا فرز شكلين من أشكال الحركات الجسدية :
أ- الحركات العملية وهي الحركات الطبيعية التي تعود إلى المشترك الإنساني.
ب- الحركات الثقافيةوهي تنطلق من الأولى، إنها انزياح يتم انطلاقا من الحركات العملية، فكلالأفعال لا تدرك إلا وفق السياق الثقافي الذي أنتجت فيه.
فلما كان الجسد عبرتنقله في الفضاء ينتج وحدات إيمائية مختلفة "فإن هذه الوحدات تخلق سلسلةمن الإنزياحات تقود إلى نوعين من النصوص الجسدية :
إما نصوص "طبيعية" : وهي كذلك لأنها تدرك وفق النص الثقافي العادي أي ما يعود إلى التجربة المشتركة (إنه يأكل إنه يشرب …).
- وإما نصوص ثقافية :تدرك باعتبارها خروجا عن المعيار المحدد للفعل الحركي العملي وفي هذهالحالة فان الانزياح يتم انطلاقا من الفعل الحركي العملي"[19].
ويمكننا الحديث هناعن تداخل هذه المستويات فيما بينها. فما ينتمي إلى هذا البعد قابل لأنيشتغل داخل البعد الآخر، ويبقى الحل في استحضار البعد الثقافي العام الذييؤطر هذه المستويات، وإن كان الاستحضار بدوره قد لا يجدي نفعا في فهم حدودالعملي والثقافي في سلوكات الجسد.
إن الجسد في كليته أوفي عضو من أعضائه محكوم بالاستعمالات الوظيفية النفعية والغريزية ومحكومكذلك بالاستعمالات الثقافية وفي كل هذا فإن الأهم فيما يؤديه الجسد بصرياليس هو الإيماءة في ذاتيتها، وإنما ما تؤديه من دلالات، "فالجسد باعتبارهبؤرة لتجلي العملي والغريزي والوظيفي والأسطوري / الثقافي، يعيش بشكل دائمتحت التهديدات المستمرة للاستعمالات الإيحائية (الاستعارية)، إننا من خلالهذه الاستعمالات لا نقرأ الحركة ولا نقرأ الإيماءة، ولا نقرأ ترابط هذهالحركات وهذه الإيماءات ولكننا نقرأ فقط النصوص التي تولدها هذه الحركات"[20].
ولعل عملية التأويل الدلالي لما ترمي إليه حركات وإيماءات الجسد في كليته أو في جزء منه خاضعة في كل ذلك للسياق الثقافي، على مستوى القصدي منها، وتشكل هذه الحركات الجسدية من حيث إيحاءاتها الاستعارية اكتمالادلاليا، و"إن الجسد في هذه الحالات شبيه بالوحدات المعجمية، لا يملك معنى،إنه يعيش على وقع الاستعمالات، الأمر الذي يجعل من إيماءة واحدة منبعالسلسلة كبيرة من التأويلات"[21]،وأن أي توظيف له في الخطاب البصري بشتى أنواعه تكون وراءه عدد من المعاييروالدوافع التقنية والجمالية التي يتخذه المخرج في اختيار الممثلين،ويتبناها الرسام في لوحاته التشكيلية، ويعتمد عليها مدراء المؤسساتالإشهارية في تحديد الأكفأ بتمثيل منتوجه في الملصق الإشهاري أو الوصلةالإشهارية المتلفزة.
إنها اعتبارات تكونقصدية ومسبقة، تحكم نوعية الجسد الموظف ونوعية الإيماءة المراد التعبيرعنها. وفي هذا الصدد نرى أن الأهمية التي تكتسيها مورفولوجية الجسد ونبرةالصوت وبلاغة الإيماءة وإبلاغيتها هو ما يحدو بالمخرجين إلى تخصيص عدد منفترات تدريب الجسد والصوت لترويض عضلات الممثل ومقاماته الصوتية، ونجد ذلكأيضا لدى مستشاري المرشحين لرئاسة الدول الكبرى على الخصوص حيث تلقن لهمدروس في الإتيكيت*،وتقنيات الحركة والمشي والمصافحة والابتسامة ورفع الرأس إلى أعلى ونبرةالصوت والأكل … وذلك حتى يكون ظهوره على الشاشة وأمام الجماهير مؤثراوأنيقا ولبقا. هذا فضلا على أن هذا الإخراج الجسدي المسبق والمهيأ له تضافإليه لمسات تقنية أخرى قصد تكثيف أدائه السيميائي، إذ يركز الاهتمام علىحسن الهندام وملائمته للدور المنوط به، وتكون للمؤثرات الضوئية أثر فيإيضاح الصورة فكلما كانت هذه المؤثرات متوافرة وعالية الجودة كلما انعكسذلك على جمالية الجسد وبلاغته وإبلاغيته والعكس
2. جسد المرأة في الوصلات الإشهارية :
سنحاول في هذه الفقرةالوقوف على نمط اشتغال الوصلات الإشهارية على جسد المرأة، وكيف يتم توظيفالحامل الثقافي / الاجتماعي لهذه الذات. وسنقف عند التوزيع الوظيفي لهذاالجسد بين "المحلي" و"الوافد" : المعيش والمتخيل.
تتوزع المرأة المتداولة في الإشهار المغربي بين نمطين اثنين هما :
أ- نمط محلي عربي أصيل يتكفل بإدارة شؤون اليومي.
ب- نمط أجنبي متحرر شبقي وافد وظيفته تشخيص حالة الإغراء والاحتفاء بالذات .
فالشكل الأول يبرزلنا ملامح امرأة "منبثقة من الفعل اليومي بجزئياته وتفاصيله .. إنها امرأةلا تدرك إلا باعتبار كلية جسدها وأبعاده الوظيفية، إنها تغسل، تنظف، تطبخ… ، فلا وجود لهذه المرأة إلا من خلال تفاصيل ما يحيط بها"[22].
أما الثاني فيعكس لناخصائص امرأة "تعيش في الذاكرة على شكل موضوع جنسي لا حدود له. إنها اللذةالقصوى أو هي الإغراء في شكله الكلي، ولهذا فإنها تحضر عبر جزيئات جسدهابكامل طاقاته التعبيرية : شكل العينين واستفزازية اللباس ولهاث النهدين،وامتداد الذراعين والساقين"[23].
ويبقى التوظيفالإشهاري لكلا النمطين مرتبطا بتنوع المنتوجات، فتارة يتم عرض منتوجاتمرتبطة باليومي المباشر/الضروري : الغسيل، خرق الأطفال، القضاء علىالناموس .. وهنا نكون أمام النموذج المحلي، حيث تظهر لنا المرأة المغربيةبلباسها المنزلي اليومي وحماسها وتوقدها … وتارة أخرى يتم الاحتفاء بالذاتويختفي الحجب عن الجسد المقدم/العارض، وذلك لعرض أشياء لها ارتباط بالمتعةالكمالية والإغراء الجنسي وأشكال الوضعات والجلوس والمشي، إنها لا تحكيشيئا عن المنتوج، ولكنها "تحكي قصصا شتى عن الجسد الحامل للمنتوج"[24].
ولعل ما يثيرنا فيهذا الصدد، هو تلك العلاقة بين المنتوجات المعروضة وبين الأوضاع الجسديةوتعابير الأعضاء، ثم تفاعل هذين العنصرين داخل نوعية من الفضاءات المخصصةللعرض والتداول، يتم اختيارها بعناية فائقة.
تقدم الوصلاتالإشهارية صورا عن عدد من المنتوجات الخاصة بمواد التنظيف والطهي ومحاربةبعض الآفات والحشرات …وغيرها من المتوجات التي تعود إلى شؤون البيت، تتولىتقديمها وعرضها "نساء من مختلف الأعمار، وذلك ضمن مؤسسة الأسرة، ووفقتقاليدها في العيش والتربية وتوزيع الأدوار [جدة وأم أو زوجة أو عروس]"[25].
ويرجع إسناد هذه المهمة إلى هذه الفئة، إلى عدد من الاعتبارات منها "الطابع الشعبي"[26]الذي تحيل عليه هذه النساء، سواء في الإسم الذي يكشف عنه في بعض الوصلات(خديجة / عائشة / زهرة)، أو المحيط الذي يدور بها من ديكور وفضاء (سطحالمنزل / الشارع / إمام البيت / البادية / الأحياء الشعبية بالمدينة …)،أو على مستوى الوضعات الجسمانية المرتبطة بالحياة اليومية الاعتياديةوالبسيطة، حيث تحضر السيدات "من خلال بعد واحد يتخلل الوصلة من أولها إلىآخرها"[27].فلا تكاد تجد لتضاريس جسدها أثرا أمام ما يحيط به من أثواب تخفي معالمهمما يغيب لدى المشاهد تفاصيل وجزئيات هذا الجسد، فالموضوع البصري لا ينبنيفي جميع هذه الوصلات، انطلاقا من تبئير للجسد في جزئياته ومكامن الرغبةفيه، وإنما انطلاقا من حجم الحضور الثقافي"[28].
في هذا الصدد نكونفقط ملزمين بالحديث، ليس عن تفاصيل هذا الجسد ومراميه الدلالية ولكن عن مايخدم الفعل و الحاجة. ففي هذا النمط المقدم نجد "الاستعمال المفرط لليدينوالرجلين والرأس وتعد هذه الأعضاء كما هو شائع في التواصل الإيمائي عناصربالغة الأهمية وأكثرها قدرة على توصيل الإرساليات ونشرها"[29].فالاستعمال المفرط لليدين هو الغالب في هذه الوصلات، لأنها مرتبطة بالحركةفي عملية "الفريك" و"التصبين" و"تخريق الطفل"، أما الأرجل فهي تتحرك علىمستوى الفضاء وينذر الحديث عن إيماءة الرأس، اللهم في حدود الصوت، ورسمالوجه والمحيى الذي يظهر الإعجاب والانبهار أو التردد، ولا حديث أيضا عنالشعر والعينين أو الشفتين، فهي إذن، أعضاء يتم تغييب إيماءاتها ودلالاتهافي مثل هذه الوصلات الإشهارية، وإذن فإن هذه الوضعات الجسدية التيتقدم في هذا النمط. يسهل إبرازها من خلال الصورة كما لا يحتاج إدراكها إلىعناء وجهد، إن الوصلة هنا "تقصي أي استعمال استعاري لهذه الأعضاء. إنهاتركز على البعد التقريري الوظيفي الذي يستند في إدراكه إلى التجربةالمشتركة فقط"[30].
تستلزم هذه الوصلاتالإشهارية المرتكزة على الحاجات اليومية، إقناع المشاهد بضرورة اقتناءالسلعة واستهلاكها، ولتحقيق هذا الهدف تنشأ مواضعات خاصة في عملية العرض،تتسم بالكلاسيكية، "فالوصلة في حاجة لكي تقنع، إلى الكلام وحركات اليدوالرأس، وهذا يستدعي نوعا خاصا من الوضعات : إما وضعة مواجهة ‘أنا’ مباشرةتتوجه إلى ‘أنت’"[31]،مثل أن تتقدم امرأة وتحكي جالسة أو واقفة عن أهمية المنتوج ‘س’، مظهرةفرحتها بالمنتوج ومركزة على بعض الأشياء الداعية إلى شراء السلعة (الجودةوالثمن مثلا) و"إما من خلال لقطة من بعيد تمثل لمشهد تطبيقي يراد به البرهنة العملية على صلاحية منتوج ما"[32]،كأن تدرك امرأة متقدمة في السن جارتها، مرشدة إياها إلى مسحوق جيد، لا يضرأو لا يلحق ضررا بالثوب وفي ذات الوقت يحدث بياضا هائلا …
هكذا إذن، تتآلفالإيماءات والحركات مع طبيعة الفضاء، لتقدم برنامجا بصريا خصص لنوع منالمنتوجات الملائمة للسياق المعروضة من خلاله، فهي إذن، اختيارات محكومةبدراسة للعمق الثقافي والحضاري الذي يؤطر الفئة المجتمعية المستهدفة، فلايعقل أن يسند عرض عطر باريسي لامرأة مسنة بلباس محتشم، يحجب تفاصيل الجسد،وفي غياب لأية شبقية جنسية تومئ إليها مواضعات الجسد وحركات العينوالشفتين واليدين مثلا، فكل هذه الحالات السالفة الذكر هي "في صميمهاأوضاع تحيل على تحديد مسبق للذات النسائية في صيغتها المحلية، حيث يطغىالدور العملي والجنسي / التناسلي (أدوار الأم والجدة والزوجة )… إنها حالةضبط طوعي للجسد أو هي انضباط جسدي تتخلى بموجبه المرأة عن فرديتها أوأنوثتها وجمالها، لتحتل موقعا داخل مؤسسة"[33]، وهي البيت والقيام بأعبائه.
وفي جانب آخر وعلىخلاف الحالة السابقة، هناك نمط إشهاري يقدم سلعة أخرى تتطلب تخصيص نوع منالنساء جديد، يختلف عن النموذج الأول في الحركة والإيماءة واللباس والجسد،إنها تعرض سلعة تتماشى والأنوثة التي تتدثر بها في الوصلة الإشهارية(عطور/شامبوان/سيارات فارهة/هواتف عالية التقنية …)، وهي لا تعرض المنتوجأو تدعو لاقتنائه، إنما تعرض جسدها وتقدم مناطق الرؤية والإغراء والاشتهاء"[34]، وبالتالي فهي تدرج المنتوج ضمن غطاء إيحائي لا تتسرب معه صورة المنتوج واسمه إلى اللاشعور إلا متدثرا بحالة إثارة أو رغبة جنسية"[35]، إنها المنتوج نفسه أو وجها من أوجهه التي يساهم في صنعها.
لقد سعت الوصلاتالإشهارية في هذا المستوى إلى اللعب على الطابوهات والممنوعات، والتركيزعلى طراوة الجسد وجماله، وإبراز شبقيته وإغوائه، في سبيل الكشف عن نتائجالمنتوج بمستعمله، والكشف عن ما يحصل للذات المستعملة له في حركات الأيديوالعينين والشفاه وطرق التنقل في الفضاء.
ويعتمد الإدراكالبصري في هذا المستوى الإغرائي المركب على سننين : عملي نفعي، والآخراستعاري متأصل من الأول، و"هكذا فإن البرمجة المسبقة للأفعال (التسنينالذي يفترضه الإدراك) تنتشل العضو من استعماله المباشر لكي تمنحه –صراحةأو ضمنا– استعمالا استعاريا، وعبر هذا الاستعمال الاستعاري نحصل علىالمضامين المتعلقة بالإغراء ومن هنا جاز لنا القول إن الإغراء في جوهرهكوني، أما الغسيل والتنظيف فمحليان"[36].
أما على مستوىالفضاء، فإنه على عكس الفضاء المغلق الضيق في الحالة الأولى، فإن المرأةفي الحالة الثانية تتحرك ضمن فضاءات ممتدة، وتكتنز دلالات وإيحاءاتإيجابية. "إنها تتحول في الشوارع (الإعجاب) أو تتهادى في ممرات الحرمالجامعي حيث المعرفة والعلم، وحيث الشباب والانطلاق واللامبالاة (التنافسبين الأقران)، أو وسط طبيعة غناء تعج بالحياة والحيوية"[37].
وتظل المناطق الشبقيةفي جسد هذه المرأة هي ما ترتكز عليها الوصلة الإشهارية في هذه الحالة.فالجسد هنا ينزاح عن الاستعمالات العملية النفعية، ويقدم نفسه على شكل عددمن الإيحاءات الرمزية والإستعارية الجنسية. إنه يثير ويغري ويصدم، على عكسالمرأة المحلية التي تحاصرها الغايات والحاجات اليومية، داخل فضاءات مغلقةتحد من قدرة الجسد على الحركة وتأليف الإيماءات الإيحائية، فضلا عن حواجزالغطاء والثوب الذي يلف تضاريس الجسد ويكبح إمكانية إنتاج دلالاتهالشبقية. وفي الحالة الثانية "عيون المرأة لا تمسك بالمنتوج ولا تحذق فيالمشاهد، وهي لا ترى الطريق .. إن عينيها تستوطنان حالة نشوة قصوى تشبهحالات الجذب أو حالات اللذة الجنسية القصوى"[38].
إن الصورة هنا تعيدخلق الأدوار والإيماءات، فكل من العينين والشفاه والشعر والرجلين … أعضاءتؤدي إيماءات وحركات غير طبيعية، وغير نفعية، بل تحيل على الرغبة والقبولوالبسمة والنشوة والمتعة. إنها الفردانية الممتدة في فضاءات التحرروالاحتفاء بالذات.
وإذا ما تتبعناتمظهرات الجسد عبر سيرورته التواصلية والدلالية، فإن حضوره في هذا المستوىيكون أكثر قوة وأداء في الوصلة الإشهارية، عكس حضوره بين الأيقونات الأخرى(الفيلم مثلا).
في هذه الحالة، فإنناننظر إلى الجسد بكونه حاملا ثقافيا فقط، يدخل في صراع مادي مع الآخر، يعبرعن قناعاته ويبدي نوازعه العاطفية وقد لا يثيرنا ولا يؤثر فينا بل في كثيرمن الأحيان نبدي تجاهه تعاطفا أو قسوة تبعا لقوة مضامينه التي يمررها فيسياقات متفاوتة، ومع ذلك ويبقي متخيلا في ذهننا من خلال مسار دلالي معين.
خاتمة
لما طرحنا هذاالموضوع، كنا راهنا على بلوغ مداه، وفي سيرورته البنائية، تبين لنا أن ذلكمن الصعوبة بمكان، حيث وجدنا أنفسنا أمام سيل من التساؤلات والإشكالاتوالعوائق الموضوعية والعلمية المعرفية والمنهجية والذاتية، حيث المدىالزمني المخصص لإنجاز بحث في مثل موضوعنا غير كاف نظرا لقلةالزاد المعرفي الذي راكمناه حول الخطاب البصري ومناهج تحليله من جهة، ومنجهة أخرى، لقلة المراجع والدراسات التي تبحث في هذا الميدان، على الأقلباللغة العربية، ورغم ذلك كان رهاننا أن نلج الموضوع ونتخطى صعوباته، ونحنالآن - وبعد الذي قمنا به - نرى أن استقصاء جميع مكونات الخطاب البصريومناهج تحليله، أمرا ليس بالهين، ونجزم أننا لم نحقق هذا الهدف بعد، فكلماتقدمنا في هذا البحث المتواضع كلما وجدنا أنفسنا غير قادرين على استجماعما يفيدنا في دراسة هذا الخطاب، وحسبنا إذن، أن نكون قد دشنا الحديث عن هذا الموضوع بنوع من الشمولية والإيجاز، آملين أن نعود إليه في دراستنا العليا لاستكمال المشوار.
لقد حاولنا -قدرالإمكان- أن نضمن تفاصيل موضوع بحثنا في صياغة العنوان، والذي يتضمن عدةعناصر، كل منها له أهمية بالغة في التفرد بالدراسة، فمن خمس قضايا كبرىاستطعنا أن نشكل عنوان البحث على ضوءها، وهي : السيميولوجيا والخطابالبصري والمعنى والدراسة التواصلية والدراسية النقدية.
إن إشكال الخطابالبصري كبير و خطير، خطورته تكمن في كونه قوي الأداء والإبلاغ، ما يجعلقراءته في كثير من الأحيان قراءة منحرفة. إذ غالبا ما نهتم بالمعنى و نغفلالصورة وكيفية أداءها، ووجدنا لذلك تبريراته الموضوعية والذاتية. إذ ماتزال الصورة تدرس وتحلل وفق مفاهيم لسانية وصفية، وإنه آن الأوان لتجاوزهذا الإشكال، و ذلك بإيجاد مصطلح خاص بالصورة، بل وندعو إلى وضع قاموسللخطاب البصري.
فالصورة لا تقدم لنابالفعل معنى، إنما تقدم لنا صورة هذا المعنى لأسباب أشرنا إليها، تتعلقأساسا بالرؤية الإخراجية وتوابعها، ولإدراك المعنى نحن بحاجة إلى وسائطإدراكية وثقافية وتقنية آلية. إن ما نظنه حقائق ليس كذلك، بل هي حقائقوسائطية.
وقد آن الأوان لدراسةوتحليل الصورة في ذاتها ولحد ذاتها، ومحاولة الكشف عن آليات إنتاجهاوأداءها للدلالة / المعنى، فالدراسات في هذا الميدان قليلة جدا في الساحةالعربية على عكس ما هو موجود لدى الغرب.
إن الخطاب حول الصورةخطاب بطيء إذا ما قورن بالمنجز البصري (الصورة)، مما يستلزم منا تدارك هذاالنقص، لما للصورة من قوة وسلطة تضاهي سلطة وقوة الكلمة.
وكل صورة هي اختيارمن بين الاختيارات الممكنة تبعا للقناعة و الرؤية الإخراجية، فهي محكومةبقصدية المنتج ورؤيته وأهدافه، وبالتالي فإن أي صورة تحمل أيديولوجيةخفية، تبعدها عن الحياد والموضوعية التي تبدو للناظر والمشاهد العادي.
ولهذا، كان وقوفناعلى بعض السنن والقوانين والآليات التي تنتج بها الصورة معانيهاودلالاتها، لتحقيق هذا المبتغى - أي لفهم طرق أداء المعنى من قبل الصورة -فتطرقنا إلى عدد من العناصر الأساسية، وحصرناها في ثلاثة أبعاد :
* البعد الأيقوني.
* البعد التشكيلي.
* البعد اللغوي.
وقد بينا ما لهذاالأخير من دور في تحصين القراءة من كل انزلاق تأويلي وانسياب معنوي، وفيتأطير معاني الإرسالية البصرية، خصوصا في الملصق الإشهاري، فاللغة تدعموترسخ المعنى، بل وتحصره منعا من التسرب الدلالي، إنها تحضر في الصورة علىشكل عنوان أو تعليق أو نص مواز.
واختيارنا للجسدوتأثيره على المتلقي، وخصوصا الجسد النسوي، لم يكن منطلقا من زاويةميتافيزيقية ونظرة فقهية محضة، بل أساسا من كونه نسقا إيمائيا تواصليا،يتم توظيفه عبر الصورة بهدف الإبلاغ، لما للجسد من حمولة بيولوجية وثقافيةيساهم في إغناء دلالات الصورة، و رأينا على أن الجسد النسائي يحضر فيالصورة الإشهارية أساسا على نمطين : المرأة المحلية المرتبطة بثقافتناوعاداتنا، والقائمة بأعباء البيت والتربية، والمحصورة في فضاءات ضيقة،وأخرى وافدة، ممشوقة وشبقية، مفتوحة على فضاءات واسعة كل ما فيها يثيرالإغراء واللذة، و في هذا النمط لاحظنا أن الإيماءة وحركة الجسد وفضاءالتنقل تحمل دلالات ومعاني بليغة ومكثفة.
إن الصورة في كلتمظهراتها، تظل إبداعا قصديا، يقوم منتجوها بعملية تأليفية وتوضيبية لعددمن العناصر المكونة لها، فهي –الصورة- ليست شيئا متجانسا، كما يبدو، وإنماهي نتيجة دراسة فنية وتقنية مسبقة، تساهم التقنيات الحديثة في إنتاجها مماينعكس على قوتها وجاذبيتها وإبلاغيتها، فمن الريشة ومرورا بآلة التصويرالفوتوغرافية وانتهاء بأحدث آليات صياغة وإنتاج الصورة عبر الحاسوبوالبرامج المخصصة لذلك، نجد أن الصورة سريعة التطور و قوية في التأثيروالإغراء.
وقد ارتبط ازدهارالصورة ، وخصوصا الإشهارية منها، بازدهار الاقتصاد الحر والرأسمالي، وماأفرزه من منافسة حادة بين الشركات و المنتجين، فكان لزاما لضمان سرعةالإنتاج و الاستهلاك، تطوير البعد الدعائي و الإشهاري لتحفيز المستهلك علىالاستهلاك، و حيث أن الحاجات الأساسية للفرد لم تكن وحدها مجال اشتغال هذهالشركات المتعددة و المتنامية فقد أصبحنا أمام منتجات كمالية، تتغيى مثلهذه الشركات إذن صياغة ثقافة استهلاكية جديدة و حاجات وهمية وزائفة من أجلإغراء و تحفيز الزبون على الشراء والاستهلاك، إنما - و لتحقيق هذا الهدف –تبحث كل يوم عن صياغة مثلى لإعلانات أكثر عددا وأقوى بلاغة و تأثيرا وإغراءا، و أشمل من حيث التوزيع و النشر، فلا تكاد اليوم ترتحل أو تتنقلبين البيت والشارع و المدرسة إلا و تحيط بك أعداد غفيرة من الصور عبرالتلفاز و الصحف و المجلات، و الملصقات وواجهات المحلات و الجدران، و علىاللافتات و الملصقات و عبر الأنترنيت و الملابس و المنتجات الغذائية وغيرها…..
ولما كانت للصورة هذهالقوة وتوافرت بالكم الذي يضاهي الكلمات، فإننا نقيم دعوة بإدراجها ضمنآليات التدريس، ليس وسيلة للإيصال فحسب، بل أن تصبح موضوعا يدرس قصد البحثفيها عن أوجه الاستدلال، ولذا، فإنه يلزمنا تحسيس المنظومة التربويةبأهميته وخطورة هذا الأنموذج العولمي الفعال، من أجل تدريس مناهج التعاملمع الصورة دلالة ونقدا وانتاجا.
إن تزويد الطالببثقافة بصرية فعالة، كفيلة بتحصينه من التلقي السلبي وتجنيبه مساوئ التلقيالغير الناضج، وبالتالي فنحن أحوج اليوم إلى تكوين متخصصين في دراسة عوالمالصورة وطرق اشتغالها وكيفية صياغتها، والأهداف الكامنة وراءها، ثم إدراجمادة الثقافة البصرية ضمن مواد التدريس وإيلاء الأهمية لجميع تمظهراتالخطاب البصري، التلفزي والسينمائي والفوتوغرافي والإشهاري والتشكيلي.
[1] - السيميائيات والتواصل، أحمد يوسف، مجلة علامات، ع24، 2005، ص، 38.
[2] - المرجع نفسه، ص، 46.
[3] - المرجع نفسه، ص، 40.
[4] - الصورة السينمائية : التقنية والقراءة، ص، 21، بتصرف.
[5] - الصورة السينمائية، ص، 24.
[6] - السيميائيات : مفاهيمها وتطبيقاتها، ص،89.
[7] - المرجع نفسه، ص،93.
[8] - المرجع نفسه، ص، 100.
[9] - السيميائيات، مفاهيمها وتطبيقاتها، ص، 165.
[10] سيميوطيقاالتواصل في الخطاب السينمائي: ميكانيزمات تمفصل المعنى بين الإنتاجوالإدراك، فيلم "مكتوب" لنبيل عيوش نموذجا، مقاربة في لسانيات الخطاب،رسالة لنيل دكتوراه الدولة في اللسانيات، جامعة ابن زهر، أكادير،2000/2001م، 1421/1422ه، ص،63.
[11] -المرجع نفسه، ص، 65.
[12] -المرجع نفسه، ص، 66.
[13] - السينما والتربية أية علاقة ، أيت همو يوسف، مجلة فكر ونقد، السنة الثامنة، ع، 73، نوفمبر 2005، ص، 40.
[14] جريدة حلول تربوية، ع، 33، ص، 5.
[15] - السيميائيات، مفاهيمها وتطبيقاتها، ص، 124.
[16] - المرجع نفسه، والصفحة نفسها.
[17] - الجسد في المسرح، لعبة المعنى والامتداد، محمد اشويكة، فكر ونقد، ع 76، ج 8، فبراير 2006، ص،33.
[18]- نساؤهم ونساؤنا، سعيد بنكراد، علامات، ع 12، 1999، ص،75.
ص، 127. - السيمائيات، مفاهيمها وتطبيقاتها