ظاهرة التكرار في شعر أبي القاسم الشابي
( دراسة أسلوبية )
د. زهير أحمد
المنصور
أستاذ مشارك بقسم النقد والبلاغة - كلية اللغة
العربية - جامعة أم القرى
ملخص البحث
يهدف هذا البحث إلى
الكشف عن ظاهرة التكرار في شعر أبي القاسم الشابي ، تلك الظاهرة التي ظهرت بوضوح
في شعره، التي ترتبط – إلى حد ما – ارتباطاً وثيقاً بنفسية الشاعر وبناء حياته، إذ يقوم التكرار على
جملة من الاختيارات الأسلوبية لمادة دون أخرى ولصياغة لغوية دون أخرى، مما يكشف في
النهاية عن سر ميل الشاعر لهذا النمط الأسلوبي دون غيره.
كما يهدف البحث إلى
محاولة التعرف على طبيعة هذه الظاهرة وكيفية بنائها وصياغتها وتركيبها وإلى أي مدى
استطاع الشاعر أن يوفق في بنائها ليجعل منها أداة فاعلة داخل النص الشعري وأن
يوظفها توظيفاً دقيقاً لتصبح أداة جمالية تحرك فضاء النص الشعري وتنقله من السكون
إلى الحركة والموسيقية.
كما يحاول البحث التعرف
على محاور التكرار وأنماطه عند الشابي التي تمثلت في تكرار الكلمة وتكرار اللازمة
وتكرار البداية، ودور هذه المحاور في بناء الجملة على اختلاف أشكالها عند الشاعر،
وإلى أي مدى كانت هذه المحاور قادرة على تكوين سياقات شعرية جديدة ذات دلالات قوية
ومثيرة لدى المتلقي تعمل على جذب انتباهه وشده ليعيش داخل الحدث الشعري الذي يصوره
الشاعر.
كما يكشف عن البناء
الفني الدقيق للتكرار الذي أنتجته عبقرية الشابي في النص الشعري حيث ورد عنده في
اتجاهين : الأول الاتجاه الرأسي، والثاني الاتجاه الأفقي، كل ذلك ليجعل منه أداة
جمالية تخدم النص الشعري فتمنحه القوة والفاعلية والتأثير .
• • •
يعد التكرار من الظواهر
الأسلوبية التي تستخدم لفهم النص الأدبي وقد درسها البلاغيون العرب وتنبهوا إليها
عند دراستهم لكثير من الشواهد الشعرية والنثرية وبينوا فوائدها ووظائفها([sup][i][/sup][1]) كما أن دراستهم للنص القرآني والبحث في إعجازه قد دفعتهم إلى البحث في مثل
هذه الظواهر، خصوصاً أنه قد وردت في القرآن الكريم بعض نماذج من التكرار في القرآن
الكريم، قام على دراستها وتفسيرها بعض البلاغيين فحاولوا تفسير هذه الظواهر وبيان
دلالتها ضمن السياق القرآني([sup][ii][/sup][2]). من هنا جاءت هذه الدراسة لشعر الشابي لمحاولة الكشف والاستكناه لهذه
القوالب الفنية لبيان أبعادها ودلالاتها على اختلاف مواقعها سواء أكان في الكلمة
أو العبارة أو الجملة أو الحرف.
إن مصطلح التكرار مصطلح عربي كان له حضوره عند البلاغيين العرب القدامى فهو
في اللغة من الكر بمعنى الرجوع. ويأتي بمعنى الإعادة والعطف يقول ابن منظور: الكرّ
: الرجوع يقال كرّه وكرّ بنفسه… والكر مصدر كرّ عليه يكرُّ كراً وكروراً وتكراراً: عطف عليه وكرّ
عنه: رجع…
وكرر الشيء وكركره: أعاده مرة بعد أخرى. فالرجوع إلى شيء وإعادته وعطفه هو تكرار،
وقد يأتي تصريف آخر بمعنى التكرار وهو التكرير يقول الجوهري (393هـ) الكرّ الرجوع،
يقال: كرّه وكرَّ بنفسه يتعدى ولا يتعدى وكررت الشيء تكريراً وتكراراً([sup][iii][/sup][3]). أما في الاصطلاح فهو تكرار الكلمة أو اللفظة أكثر من مرة في سياق واحد
لنكتة إما للتوكيد أو لزيادة التنبيه أو التهويل أو للتعظيم أو للتلذذ بذكر المكرر([sup][iv][/sup][4]).
والتكرار لا يقوم فقط على مجرد تكرار اللفظة في السياق الشعري، وإنما ما
تتركه هذه اللفظة من أثر انفعالي في نفس المتلقي، وبذلك فإنه يعكس جانباً من
الموقف النفسي والانفعالي، ومثل هذا الجانب لا يمكن فهمه إلا من خلال دراسة
التكرار داخل النص الشعري الذي ورد فيه، فكل تكرار يحمل في ثناياه دلالات نفسية
وانفعالية مختلفة تفرضها طبيعة السياق الشعري، ولو لم يكن له ذلك لكان تكراراً
لجملة من الأشياء التي لا تؤدي إلى معنى أو وظيفة في البناء الشعري ، لأن التكرار
إحدى الأدوات الجمالية التي تساعد الشاعر على تشكيل موقفه وتصويره ولابد أن يعتمد
التكرار بعد الكلمة المتكررة حتى لا يصبح التكرار مجرد حشو، فالشاعر إذا كرر عكس
أهمية ما يكرره مع الاهتمام بما يعده حتى تتجدد العلاقات وتثرى الدلالات وينمو
البناء الشعري([sup][v][/sup][5]). وهذا ما دفع بعض
البلاغيين إلى النظر لظاهرة التكرار من زاوية أخرى، إذ رأوا أن التكرار قد يقع في
المعنى دون اللفظ، فيري ابن الأثير الحلبي أن التكرار قسمان: أحدهما يوجد في اللفظ
والمعنى والآخر في المعنى دون اللفظ، فأما الذي يوجد في اللفظ والمعنى كقولك لمن
تستدعيه: أسرع أسرع. وأما الذي يوجد في المعنى دون اللفظ فكقولك: أطعني ولا تعصني
فإن الأمر بالطاعة هو النهي عن المعصية([sup][vi][/sup][6]). فمثل هذه الملاحظة
ترصد دقة الكشف عن حركة الملحظ البلاغي في السياق، فهي إشارة إلى أن التكرار يتشكل
في مستويين: الأول : مستوى لفظي ومعنوي والثاني معنوي([sup][vii][/sup][7]).
ولم يغفل الباحثون المعاصرون هذه الظاهرة في دراساتهم، فكلمة Repetition كلمة لاتنية ومعناها يحاول مرة أخرى ومأخوذة من Petere ومعناها يبحث، والتكرار إحدى الأدوات الفنية الأساسية للنص وهو
يستعمل في التأليف الموسيقي والرسم والشعر والنثر. والتكرار يحدث تيار التوقع
ويساعد في إعطاء وحدة للعمل الفني ومن الأدوات التي تبنى على التكرار في الشعر:
اللازمة، العنصر المكرر، الجناس الاستهلالي، التجانس الصوتي، والأنماط العروضية([sup][viii][/sup][8]).
وتتشكل ظاهرة التكرار في الشعر العربي بأشكال مختلفة متنوعة فهي تبدأ من
الحرف وتمتد إلى الكلمة وإلى العبارة وإلى بيت الشعر وكل شكل من هذه الأشكال يعمل
على إبراز جانب تأثيري خاص للتكرار، وتجدر الإشارة إلى أن الجانب الإيقاعي في
الشعر قائم على التكرار، فبحور الشعر العربي تتكون من مقاطع متساوية والسر في ذلك
يعود إلى أن التفعيلات العروضية متكررة في الأبيات فمثلاً في بحر الرجز: مستفعلن
مستفعلن، مستفعلن. هذا بالإضافة إلى أن التفعيلة نفسها تقوم على تكرار مقاطع
متساوية. إن هذا التكرار المتماثل أو المتساوي يخلق جواً موسيقياً متناسقاً،
فالإيقاع ما هو إلا أصوات مكررة وهذه الأصوات المكررة تثير في النفس انفعالاً ما
"وللشعر نواح عدة للجمال أسرعها إلى نفوسنا ما فيه من جرس الألفاظ وانسجام
توالي المقاطع وتردد بعضها بقدر معين وكل هذا ما نسميه بموسيقى الشعر([sup][ix][/sup][9]). وقد أشار إلى هذا
الناقد ريتشاردز بقوله "فالإيقاع يعتمد كما يعتمد على الوزن الذي هو صورته
الخاصة على التكرار والتوقع، فآثار الإيقاع والوزن تنبع من توقعنا سواء كان ما
نتوقع حدوثه يحدث أو لا يحدث([sup][x][/sup][10]). وتشير نازك الملائكة
إلى هذه الظاهرة في الشعر العربي وبينت أن التكرار في ذاته ليس جمالاً يضاف إلى
القصيدة وإنما هو كسائر الأساليب في كونه يحتاج إلى أن يجيء في مكانه من القصيدة
وأن تلمسه يد الشاعر تلك اللمسة السحرية التي تبعث الحياة في الكلمات، لأنه يمتلك
طبيعة خادعة فهو على سهولته وقدرته في إحداث موسيقي يستطيع أن يضلل الشاعر ويوقعه
في مزلق تعبيري، فهو يحتوي على إمكانيات تعبيرية تغني المعنى إذا استطاع الشاعر أن
يسيطر عليه ويستخدمه في موضعه وإلا فإنه يتحول إلى مجرد تكرارات لفظية مبتذلة([sup][xi][/sup][11]). كما أشارت إلى أنواع
التكرار وحصرتها في تكرار الكلمة والعبارة والمقطع والحرف وترى أن أبسط أنواع
التكرار تكرار كلمة واحدة في أول كل بيت من مجموعة أبيات متتالية في قصيدة، وهو
لون شائع في شعرنا المعاصر، يلجأ إليه صغار الشعراء ولا يعطيه الأصالة والجمال إلا
شاعر موهوب حاذق يدرك المعول لا على التكرار نفسه وإنما ما بعد الكلمة المكررة([sup][xii][/sup][12]).
أما التكرار عند الشابي فهو صورة لافتة للنظر، تشكلت في ديوانه ضمن محاور
متنوعة وقعت في الكلمة وتكرار البداية وتكرار اللازمة. وقد ظهرت في شعره بشكل واضح
وشكل منها إيقاعات موسيقية متنوعة تجعل القاريء والمستمع يعيش الحدث الشعري المكرر
وتنقله إلى أجواء الشاعر النفسية، إذ كان يضفي على بعض هذه التكرارات مشاعره
الخاصة فهي بمثابة لوحات إسقاطية يتخذها وسيلة للتخفيف من حدة الصراع الذي كان
يعيشه أو حدة الإرهاصات التي واجهها في حياته سواء ما تعلق بمحيطه الأسري أو محيطه
الخارجي أو قد تكون ناتجة عن تأثير الثقافات العربية التي اطلع عليها كجبران أو
الغربية كتأثيره بالشاعر الفرنسي لامارتيه،
إضافة إلى إحساس الشابي المرهف التي جعلته يعيش غربة روحية وفكرية، فحاول
التخلص منها برحلته الخيالية إلى الفردوس المفقود الذي ينشد فيه الكمال والسعادة.
فأصيب بخيبة أمل من هذا الواقع ، مما جعله يلح ويؤكد على التغيير والتبديل
للارتحال إلى عالم آخر، فوجد في التكرار غايته وطموحه، فثار على الحياة لتفاؤله
بما بعد الحياة وثار على إنسان عصره لإحساسه بوجود كوني آخر يتمثل فيه الإنسان
المثال أو النموذج، لذلك حاول أن يخلق من خلال التكرار واقعاً سياسياً واجتماعياً
جديداً ، فوظف هذه الصور التكرارية لرفض النمط التقليدي على مستوى الإنسان وعلى
مستوى المجتمع، وهذا التجديد لايختلف عن محاولات الشاعر التجديدية التي ظهرت في
شعره، فكان يكتب من فيض الروح ويستنطقها، لذلك كان شعره قريب الفهم والإدراك ، لأن
لغة الروح لغة كل زمان ومكان، وهذه اللغة تمثلت في عباراته البسيطة، لكنها كالسيف
القاطع تهوي في خط مستقيم غلب عليها أنها عبارات موسيقية راقصة([sup][xiii][/sup][13]).
إن التكرار يعتمد في طبيعته على الإعادة لقوالب لغوية متنوعة ومختلفة في
إيقاعها وطاقاتها الإيحائية التي تعتمد على اللغة الشعرية ذات الدلالات والطاقات
المميزة عن لغة النثر وقد أدرك بالي – أهمية هذا الجانب في اللغة عندما فهم الأسلوبية على
أنها بحث –
أو علم الوسائل اللغوية من زاوية نظر وظيفتها الانفعالية والتأثيرية([sup][xiv][/sup][14]). واللغة الشعرية تعتمد
على الإثارة والانفعال فاللغة الشعرية هي لغة انفعالية ، تتوجه إلى القلب وتعتمد
بشكل رئيسي على اللغة الموسيقية التي يمكنها هي الأخرى أن تثير انفعالات وإحساسات
لا تحصى"([sup][xv][/sup][15]). وقد ظهرت هذه
الموسيقية عند الشابي في اتجاهين: الأول التكرار الأفقي (ما بداخل البيت الواحد)
والثاني: التكرار الرأسي (ما بداخل القصيدة) ولذلك سيحاول البحث دراسة هذه الظاهرة
التكرارية من خلال أنماط التكرار عند الشابي وربط ذلك بجانبها التأثيري.
تكرار الكلمة :
وتشكل الكلمة المصدر الأول من مصادر الشابي التكرارية، والتي تتشكل من صوت
معزول أو من جملة من الأصوات المركبة الموزعة داخل البيت الشعري أو القصيدة بشكل
أفقي أو رأسي، وهذه الأصوات تتوحد في بنائها وتأثيرها سواء أكانت حرفاً أو كلمة
ذات صفة ثابتة كالأسماء أو ذات طبيعة متغيرة تفرضها طبيعة السياق كالفعل، فهي تسعى
جميعها لتؤدي وظيفة سياقية تفرضها طبيعة اللغة المستخدمة، وإلا أصبح التكرار مجرد
إعادة ونمطي لا يثير في السامع أو القاريء أي انفعال أو إثارة ، ولكن الشابي كان
حريصاً أن يجعل من هذه الأصوات أو الكلمات قوة فاعلة – أحياناً – لإيقاظ الحسي القومي والثقافي في أبناء عصره، وبعث
الهمة والتبصير بالواقع وكشف زيفه على طريقة الرومانسيين لذلك نراه يركز على
الجملة الفعلية أكثر من الجملة الاسمية فالأولى قادرة على التأثير والتغيير وأكثر
قدرة على استيعاب الأحداث التي يعيشها الشاعر بينما الجملة الاسمية ذات طبيعة
ساكنة هادئة). وغير ممتدة داخل النص الشعري بينما الفعلية نمائية متغيرة ومتطورة
وقادرة على استيعاب هموم الشاعر وآلامه فيتفق التكرار في غالبه عند الشابي مع
طبيعته النفسية، لأنه يسعى إلى استخدام التكرار وسيلة للإعادة والإلحاح والتأكيد
على ما في ذهنه لإصلاح الواقع، ولهذا فهو لم يكرر ولم يكن معنياَ بتكرار اسم بعينه
فهو لا يبحث عن فرد وإنما يبحث عن قيم ومباديء تتمثل في الأشخاص من هنا جاء
اهتمامه بصورة الاسم أو هذا الجزء من الكلمة – قليلاً، فالأسماء الواردة عنده هي أسماء معان وليس
أسماء ذوات فالحب قيمة ومعنى يسعى أن يكون هذا الاسم هو محرك الشعوب ومعيار
علاقتها على مختلف المجالات فهو رمز الصفاء والنقاء ورمز الطهر والعفة يقول:
الحب جدول خمر من تذوقه | خاض الجحيم ولم يشفق من الحرق |
الحب غاية آمال الحياة فمـا | خوفي إذا ضمني قبري وما فرقي؟([xvi][16]) |
فهو يعلي من شأن الحب ويؤكد على قيمته ، لأنه ذات فضيلة تطهر النفوس كما
أنه وسيلة تجعل الإنسان يخوض غمار الحياة بكل ما فيها من مرارة وعذاب وهذا ما يسعى
إليه الرومانسيون في التأكيد على حب الإنسان للإنسان فكانت ثورتهم على مجتمعاتهم
لخلق مجتمع مثالي ينشدونه في فردوسهم المفقود يقوم على دعائم من أهمها الحب الصافي
فهو غاية كل البشر، ولهذا اتخذ التكرار الشكل الرأسي الذي يحرص فيه على خلق صورة
شعرية جديدة لكل صورة تكرار . ولكنه قد يخضع للتداعي ويستسلم لصورة من التكرار
للأسماء لا داعي لها يمكن أن يستعاض عنها وعندئذ يستقيم الإيقاع الشعري يقول:
الكون كون شـــقاء | الكــون كون التباس |
الكون كون اختــلاف | وضجــة واختلاس |
سيان عندي فيه السرور | والابتئــــــاس([xvii][17]) |
فتكراره لكلمة الكون في صدر البيت وعجزه حاول أن يخلق منه ما سماه
البلاغيون برد العجز على الصدر للتأكيد على أهمية الكون وتناقضاته ، كي يحاول خلق
إيحاءات وإيقاعات موسيقية جديدة ففرّع وقسّم في أنواع الكون لأنه يبحث عن كون آخر
أكثر طهر وعفة ، فكونه شفي ومختلف عن كون الآخرين مما جعل بعض الدارسين يصفون هذا
التكرار بأنه ساذج فلو قال:
الكون كون شقاء والتباس | واختلاق واختلاس |
لم تتغير الدلالة، بل لأراحنا من هذا الملل والرتابة اللذين نجدهما عند
سماعنا لهذا المقطع([sup][xviii][/sup][18]). كما وظف الشابي بعض
صور تكرار أسماء المعاني للكشف عن لحظة الغربة والاغتراب التي يعيشها فهي ملازمة
له ثابتة بل إنها غربة تختلف عن غربة غيره من البشر ويؤكد على ذلك من خلال صورة
التكرار الرأسية التي جاءت لتعمق إحساس الشاعر بهذه الغربة والحيرة ، حتى أن
مسميات بعض القصائد قد أطلق عليها أسماء توحي بهذا الإحساس مثل "الأشواق
التائة" و"إلى قلبي التائه" يقول في قصيدته (الكآبة المجهولة):
فكرر كلمة كآبتي وبعض مشتقاتها في القصيدة ( كئب – يكتئب – اكتئابي ) وقد كرر هذه الصفة بشكل يعكس إلحاح الشاعر
للتأكيد على تفرده وتميزه حتى في عالم لحزن، لأن كآبته ثابتة لا تتغير بينما كآبة
الناس عابرة متغيرة: كآبة الناس شعلة ومتى مرّت ليال خبت مع الأمد)
أما اكتئابي فلوعة سكنت روحي وتبقى بها إلى الأبد ولذلك فهو يسعى من خلال
هذا التكرار أن يقدم وصفاً دقيقاً لواقعه الحزين الذي يعيشه ويسعى فيه إلى التغيير
أو التخلص من عذاباته وهمومه، كي يسمعها الناس يتعاطفوا معه ويشفقوا عليه، ولكنه
لم يجد من يسمعها، فهو غريب عن كل شيء ، غريب في مشاعره وإحساسه حتى جعل هذه
الكآبة غريبة غربة صاحبها. وكأن الشاعر بذلك يستغيث بالسامعين ليأخذوا بيده نحو
بناء مجتمع أفضل، ويندب حظه الذي عاش الكآبة منذ ولادته، ففقد الأمل بإنسان عصره
ولكنه يعود فيجعل من كآبته طاقة متفجرة فهي كالسكون الذي يسبق العاصفة، فيحاول
إعطاء الكآبة صورة جديدة يطرح من خلالها موقفه من الحزن الذي غطى معظم حياته
فيقول:
فهو وإن عمق من تكراره الرأسي لكلمة "كآبة" إلا أنه كان يمكن أن
يكتفي بما قاله في بداية القصيدة للتأكيد على تفرده وتميزه في كل شيء، فهي إضافات
كمية أثقل بها المعنى الشعري وأثقل بها بناء القصيدة.
أما تكرار "الفعل" فقد كان له حضور فاعل عند الشاعر، لتزاحم
الأحداث التي مرت في حياته، وكثرة المصائب والهموم التي واجهته منذ الولادة حتى
الموت، فكان الفعل أكثر قدرة على التعبير عن هذه التحولات الزمانية بأشكالها
المختلفة لنقل تجربته الخاصة به لتثير إحساساً لدى المتلقي وتكسب الشاعر جمهوراً
متعاطفاً "فالشاعر بشر يتحدث إلى بشر ويعمل جاهداً ليعثر على أجود الألفاظ في
أجود نسق لكي يجعل تجربته تعيش مرة أخرى لدى الآخرين"([sup][xxi][/sup][21]).
لقد سعى الشابي من تكرار الفعل إلى أن يجعل منه حدثاً فاعلاً سواء أكان
ماضياً أم حاضراً أم مستقبلاً، ليستوعب جزئيات حياته وهمومه وآلامه بتراتب وتناسق
في شكل الكلمة وحروفها، فتلاحم أجزائها ومخارجها تعنى توحد الرسالة التي يحملها
الشاعر، فيلغي دور الفاعل والمفعول الظاهرين ويغيبهما في ذاته فتتماهى هذه
الفاعليات وتنصهر في ذات الشاعر ليؤكد قوته وتصميمه على إحداث التغيير يقول:
لكنني سمعت رنتهــا | بمهجتي في شبابي الثمـــل | ||
سمعتها فانصرفت مكتئباً | أشدو بحزني كطائر الجبــل | ||
سمعتها أنةً يرجعهــا | صوت الليالي ومهجـة الأزل | ||
سمعتها صرخة مضعضعة | كجدول في مضايق السـبل | ||
سمعتها رنة يعانقهـــا | شوق إلى عالم يضحضحهـا([xxii][22]) | ||
| | | |
فكرر الفعل (سمعتها) مرات متتالية بنغمة موسيقية واحدة وتشكيل أسلوبي موحد
(فعل+ فاعل+ مفعول به) وعمل على ربط هذا المكوّن الأسلوبي بمميز يستوعب ذات الشاعر
وهمومه (أنةً، صرخة، رنةً) بشكل يتفق مع آلام الشاعر وصرخاته التي يسعى للبحث لها
عن مخرج وتنفيس، لأنه الوحيد الذي يسمع شكوى نفسه وعذاباتها منذ الولادة ولذلك جعل
من كل فعل من هذه الأفعال وسيلة للتأكيد على هذا المعنى لإظهار التجبر والإرادة
القوية ليحول هذه الصرخات والأنات إلى أشواق وآمال تسمو فوق الجسد والروح، لتنقل
وعي الناس من الجهل إلى النور عبر هذه التناغمات الموسيقية المتشابهة التي تستوعب
غربته واغترابه، لم يكن ليتحقق له ذلك لو اختلفت الكلمات وتنوعت لأن التعبيرات إذا
اختلفت شكلاً فإنها تختلف معنى كما يقول بلومفيلد([sup][xxiii][/sup][23]). وقد ساعده على ذلك
أيضاً اعتماده على الطبيعة ولجوئه إليها ليجعل من هذه الصور أكثر فاعلية وقدرة على
إحداث التغيير (طائر الجبل، صوت الليالي، كجدول…). وهذا اللجؤ إلى الطبيعة وانعتاقه إلى أسرارها
وجمالها جعله يتخذ بعض صور التكرار للتعبير عن رؤيته الخاصة تجاه عالم الغاب
بعيداً عن الوصف والرصف بحثاً عن الحرية والفرح والمثال الذي يسعى إليه، لذلك نراه
يصر على أداء هذه الرؤية بأسلوب معين وبكلمات تثري هذه التجربة وتنمي التفاعل بينه
وبين المتلقي، فيختار الكلمات التي تستطيع أن تستوعب هذا الحب والانعتاق للطبيعة
والتماهي في جوهرها بحيث يصبح جزءاً منها يقول:
كبليني بهاته الخضل المرخاة | في فتنة الدلال الملول | ||
كبلي بكل ما فيك من عطر | وسحر مقدسي مجهول | ||
كبليني يا سلاسل الحب أفكا | ري وأحلام قلبي الضليل | ||
كبليني فإنما يصبح الفنـــان | حراً في مثــل هذي الكبول([xxiv][24]) | ||
| | | |
(فكبليني)
تفيد الانعتاق في عالم الطبيعة ، لذلك نراه يشكل هذا التوحد الأسلوبي توحداً في
المشاعر والأحداث، لتشكل صوتاً قوياً يدوي في أعماق هذا الغاب الساحر، لا يستطيع
أي فعل آخر أن يقوم مقامه وأن يعطي هذه القوة المؤثرة في نفس المتلقي، وهكذا يقوم
التكرار الصوتي والتوتر الإيقاعي بمهمة الكشف عن القوة الخفية في الكلمة([sup][xxv][/sup][25]).
ويتشكل تكرار الفعل عند الشابي بأنماط أسلوبية متنوعة تبعاً لتنوع أنماط
حياته وهمومها، وقد استوحى مظاهر هذا التكرار في غالبه من الطبيعة بمظاهرها
المختلفة، فيصور من خلالها مراحل حياته وكأنه يكتب ويرسم صفحات حياته من خلال
الطبيعة التي يتوحد معها فتتماهى ذات الشاعر الفاعلة لتبرز بوضوح حدثية الفعل
والمفعولية عبر منظومة زمنية واحدة تحمل في ثناياها مفاجآت عديدة واحتمالات كثيرة
جاءت عبر حرف الفاء والواو التي وقعت بعد المنظومة الزمنية:
ويرى الآفاق فيبصرها | زمراً في النور تراصده |
ويرى الاطيار فيحسبها | أحلام الحب تغرده |
ويرى الأزهار فيحسبها | بسمات الحب توادده |
ويرى الينبوع ونضرته | ونسيم الصبح يجعده |
ويرى الأعشاب وقد سمقــت | بين الأشـــجار تشـاهده([xxvi][26]) |
فكرر الفعل ( يرى ) في بداية كل سطر شعري وأخذ حيزه المكاني والزماني في ذاكرة
الشاعر لأنه يقوم على اليقين فيؤكد الحضور للذات الغائبة في عالم الطبيعة، ليظهر
الصدق في نقل تجربته وتصوير مراحل حياته وأفكاره. وتتعدد لوحات الرؤيا والآمال
التي يبحث عنها الشاعر (الأطيار، الأزهار، الينبوع، الأعشاب) وهي من جزئيات
الطبيعة ملازمة لها متوحدة معها، فجسد في هذا التتابع والتعاقب عبر حرفي الفاء في
(فيحسبها) والواو في (ونضرته وقد) التي تشير إلى نسق زمني مختلف عن نسق البداية من
حيث التشكيل، لكنها تتفق معها في المعنى (فيحسبها أحلام) وبذلك يكشف التكرار عن
دلالات وإيحاءات تعكس لهفة الشاعر لاستغلال كل لحظات حياته لاحداث التغير النوعي
في المجتمع الذي سبب له صدمة اجتماعية وسياسية جعلته ينسحب من حلبة الحياة والتحلل
من قيودها الذي منحه بعض العزاء في العودة إلى الحياة الأولى إلى نوع من البكارة
البدائية في تلمس حقائق الوجود، عاد إلى طفولة الإنسان وبذلك عثر على شيء من
فردوسه الضائع فماتت فيه حياة الجماعة وبقيت حياته الخاصة القائمة على النشوة
الصوفية في معانقة الكون([sup][xxvii][/sup][27]). فكان تكرار الفعل (
يرى ) بمثابة البؤرة المركزية لهذه النشوة الكونية. وكأنه بذلك يتعبد في محراب
الطبيعة ليكشف سر نفسه وسر الطبيعة بفعل يقيني لأن عزلته كانت عزلة تأمل ومعرفة.
لقد وظف الشابي تكرار الفعل فجعل منه أداة للتعبير عن الأمة وهمومه سواء
منها الخاصة أو العامة، وجاء ذلك بشكل رأسي يعمق إحساسه بهذه الهموم ويحفر في عمق
النص بشكل متوال عبر طرائق أسلوبية منها:يتبع في word المرفق
( [viii][8] ) التكرار في الشعر
الجاهلي، د. موسى ربايعة (بحث مقدم لمؤتمر النقد الأدبي الثاني 1988م، جامعة
اليرموك، إربد. وانظر دراسات أخرى، بناء الاسلوب في شعر الحداثة، محمد عبدالمطلب،
القاهرة، 1988م، ص390، وأسلوب التكرار بين البلاغيين وإبداع الشعراء، شفيع السيد،
مجلة إبداع القاهرة، ع6، سنة 2، 1984م، ص7، وظاهرة التكرار في شعر أمل دنقل، مجلة
إبداع، القاهرة، سنة 30، ع5، 1985م، ص70.
( [ix][9]
) موسيقى الشعر، د. إبراهيم أنيس، ص8.
( [x][10] ) مباديء النقد الأدبي،
أ . ريتشارز ، ترجمة: د. مصطفى بدوي، ص 188 .
( [xi][11] ) قضايا الشعر المعاصر،
نازك الملائكة، ص 263 ومابعدها.
( [xii][12] ) المصدر السابق ، ص
278 .
( [xiii][13] ) دراسات عن الشابي،
أبو القاسم محمد كرو، ص52 ومابعدها.
( [xiv][14] ) التكرار في الشعر
الجاهلي، د. موسى ربايعه، ص 5 .
( [xv][15] ) الصورة الشعرية في
الكتابة الفنية، د . صبحي البستاني، ص49.
( [xvi][16] ) أغاني الحياة ، ص 45
.
( [xvii][17] ) المصدر السابق، ص 15
.
( [xviii][18] ) الصورة الشعرية عند
أبي القاسم الشابي، مدحت الجبار، ص 54.
( [xix][19] ) أغاني الحياة ، ص 22
.
( [xx][20] ) المصدر السابق، ص 24
، وانظر نماذج أخرى ، ص 14 .
( [xxi][21] ) الشعر كيف نفهمه
ونتذوقه، اليزابيث درو، ص 29 .
( [xxii][22] ) أغاني الحياة ، ص 22
.
( [xxiii][23] ) الأسلوبية والأسلوب،
كراهام هاف، ص 21.
( [xxiv][24] ) أغاني الحياة ، ص 162
.
( [xxv][25] ) الأفكار والأسلوب، أ
. ف . تشترين، ترجمة د. حياة شرارة، ص50.
( [xxvi][26] ) أغاني الحياة ، ص
106، وانظر ص 109، 44 .
( [xxvii][27] ) دراسات عن الشابي،
أبو القاسم محمد كرو ، ص 258.
( [xxviii][28] ) أغاني الحياة، ص
169،وانظر نماذج أخرى، ص 42.
( [xxix][29] ) النص الأدبي وقضاياه
عند ميشال ريفاتير من خلال كتابه صناعة النص ، وجون كوهين من خلال كتابه (الكلام
السامي) ، مجلة فصول، ص28، المجلد الخامس، العدد الأول، 1984م نقلاً عن التكرار في
الشعر الجاهلي، د. موسى ربايعه، ص22.
( [xxx][30] ) الصورة الشعرية عند
الشابي، مدحت الجبار، ص47.
( [xxxi][31] ) أغاني الحياة ، ص 96.
( [xxxii][32] ) علم الأسلوب مبادئه
وإجراءاته، د. صلاح فضل، ص27.
( [xxxiii][33] ) نظرية الأدب ، رينيه
ويليك، ترجمة حسام الخطيب، ص165.
( [xxxiv][34] ) انظر نماذج من
الديوان ، ص 86، 109، 114، 121، 134، 155، 183.
( [xxxv][35] ) أغاني الحياة، ص43،
73، 78، 81، 93، 175، 156، 151، 115، 188.
( [xxxvi][36] ) أغاني الحياة ، ص 20
،وانظر ص 22 .
( [xxxvii][37] ) أغاني الحياة ، ص 89
.
( [xxxviii][38] ) دراسات عن الشابي،
أبو القاسم محمد كرو ، ص 160.
( [xxxix][39] ) انظر نماذج من ذلك في
ديوانه ، ص 35، 18، 19، 129، 119، 159.
( [xl][40] ) أغاني الحياة ، ص 95،
وانظر نماذج أخرى، ص 134، 152.
( [xli][41] ) الصورة الشعرية عند
الشابي، مدحت الجبار، ص68.
( [xlii][42] ) أغاني الحياة، ص 121،
وانظر ص171 تكرار حرف اللام في بداية الأسطر الشعرية.
- المرفقات
- ظاهرة التكرار عند الشابي.doc
- لا تتوفر على صلاحيات كافية لتحميل هذه المرفقات.
- (288 Ko) عدد مرات التنزيل 0