[center]الدراسات الجاحظية بالمغرب
إن القراءة التجزيئية لا تنظر الى الخطاب النقدي والبلاغي باعتباره «وحدة سياقية صغرى» داخل «وحدة سياقية كبرى» هي سياق وحدة التراث عامة في تفاعل أنماطه, مما يجعلها قراءة «وصفية» لا ترقى حتما الى البحث في «النسق» الذي يشكل هذا الخطاب مقدار ما يوحده ويرسخه في تلك الدائرة من العلاقة التفاعلية مع باقي الخطابات الاخرى المشكلة للتراث. ولذلك فهي لا ترقى الى محاورة التراث وبالتالي إثراؤه على نحو يتم فيه اثراء الخطاب النقدي المعاصر ذاته. إن القراءة النسقية, التي سنعنى بها في هذا البحث, تحاول ان تشق لنفسها طريقا مغايرا وذلك عن طريق التعامل مع التراث باعتباره «كلا موحدا» ينطوي على نسق مخصوص يحقق هذه الوحدة. ونجد اكثر من ناقد باحث استطاع ان يعكس أفق هذه القراءة في خطابنا النقدي المعاصر, ومن دون شك بتفاوت حاصل بينهم. ونحصر هؤلاء في ادريس بلمليح ومحمد مفتاح ومحمد العمري وعبدالفتاح كيليطو الذين فتحوا حقا أفقا جديدا للدراسات التراثية في المغرب بحكم تشبعهم بالتراث أولا ثم بحكم تمكنهم من المناهج الغربية الحديثة ثانيا. وهو ما يمكن توضيحه عن طريق دراسة خطاب كل واحد من هؤلاء. وبما أن هذا البحث يتمحور حول «الدراسات الجاحظية بالمغرب» فاننا سنركز اكثر على قراءة ادريس بلمليح لجانب من خطاب الجاحظ, غير ان هذه القراءة لن تحول دون استحضار قراءات أخرى (مغربية وغير مغربية) اهتمت بالموضوع نفسه وعلى رأسها قراءة عبدالفتاح كيليطو التي تضمنت اشارات كثيرة الى الجاحظ. وتهمنا هنا القراءة التي تستند الى «الحس الاشكالي» (للقراءة ذاتها) الذي هو قرين «النسق الثقافي» للمقروء.ومن ثم فان ادريس بلمليح لم يلج «قارة التراث» إلا من داخل فضاء الجامعة المغربية التي كان لها تأثيرها البالغ عليه مثل جل النقاد المغاربة سواء من مجايليه او غير مجايليه. وهو تغلب عليه صفة الباحث الاكاديمي على صفة المبدع الروائي الذي اسهم حتى الآن بثلاثة أعمال روائية هي: «المرأة والبحر» (1993) و؛القصبة» (1987) و؛خط الفزع» (1998). وعلى صعيد النقد الأدبي, الذي يهمنا هنا, فانه قد أسهم حتى الآن بأربع دراسات نقدية, هي: «الرؤية البيانية عند الجاحظ» (1984), «البنية الحكائية» في رواية «المعلم علي» (1985), «المختارات الشعرية وأجهزة تلقيها عند العرب» (1995), و؛القراءة التفاعلية» (2000). بالإضافة الى ترجمته الموفقة لكتاب «نقد الشعر عند العرب حتى القرن الخامس الهجري» لأمجد طرابلسي (1993) الذي ظل منذ العام 1945 ينتظر من يقوم بنقله الى اللغة العربية.
ومن الواضح ان يستوقفنا, في هذا البحث, كتاباه «الرؤية البيانية عند الجاحظ» و؛المختارات الشعرية وأجهزة تلقيها عند العرب» لصلتهما بـ«قراءة التراث». الا ان ما سنكتفي به هنا هو الدراسة الاولى المتعلقة بخطاب الجاحظ, لأنها في نظرنا, تعكس القراءة النسقية التي نسعى الى الوقوف عندها ودراستها. غير أن هذا لا يحول دون القول بأن دراسة «المختارات الشعرية وأجهزة تلقيها عند العرب» لا تخلو من أهمية علمية, بل انها اول دراسة من نوعها في الخطاب النقدي المغربي المعاصر وربما الخطاب النقدي العربي بالنظر الى عدتها المنهجية وزادها المعرفي الجلي. بالإضافة الى ان أغلب النقاد العرب لم يفارقوا - في نطاق قراءة التراث النقدي عند العرب- دائرة قراءة النصوص النقدية «النظرية» مثل «عيار الشعر» لابن طباطبا أو (نقد الشعر) لقدامة بن جعفر او «منهاج البلغاء وسراج الأدباء» لحازم القرطاجني, او النصوص «التطبيقية» مثل «الموازنة» للآمدي او «الوساطة» للقاضي الجرجاني.. أما كتب الاخبار والطبقات والمختارات فغالبا ما تم استبعادها عن دائرة القراءة واذا ما تم التعامل معها ففي الغالب من أجل الاستئناس بها في اثناء دراسة قضية نقدية معينة. أجل ان كتب الطبقات والاخبار والمختارات لا تعكس التصور النقدي بـ«الإحكام النظري» ذاته الذي نجده في الكتب السابقة (النظرية والتطبيقية), لكن مع ذلك فهي (أي «المختارات») تنطوي على تصور/ تصورات نقدية تستلزم قراءة منهجية استقصائية عميقة بدلا من تلك القراءة التأريخية التي لا ترقى الى مستوى هذا الاستقصاء. ومن هنا فان «حماسة» أبي تمام لا تخلو من «تصور نقدي مضمر» إن لم نقل من «تنظير نقدي» كما في شروح المرزوقي لـ«الحماسة»(1). ولا بأس من ان نستعيد هنا تلك العبارة المكرورة التي تذهب الى ان ابا تمام في «حماسته» أشعر منه في شعره. ان أهمية دراسة «المختارات الشعرية وأجهزة تلقيها عند العرب» تكمن - في اعتقادنا- في هذا المستوى رغم الطابع المنهجي الغالب داخلها.
وسنركز على دراسة «الرؤية البيانية عند الجاحظ» (1984) التي تعكس بحق أفق القراءة النسقية, هذا إذا ما لم نقل انها أول دراسة تراثية من نوعها في الخطاب النقدي بالغرب بسبب هذه القراءة التي سنحاول أن نتبين آلياتها والمفاهيم الداعمة لها. وهي بمفارقتها للمنهج التاريخي الوصفي تقع في ذلك المتصل الذي يصلها بدراسة سابقة هي «محمد مندور وتنظير النقد العربي» لمحمد برادة (1979) وبأخرى لاحقة هي «الخطاب النقدي عند طه حسين» لأحمد بوحسن (1985). وهي كلها دراسات تدخل في نطاق نقد النقد التراث بشقيه البعيد (الجاحظ) والقريب (طه حسين ومحمد مندور). ولقد أجمع الباحثون المهتمون بالخطاب النقدي المغربي المعاصر على ان هذه الدراسات الثلاث مثلت «نقلة نوعية» داخل هذا الخطاب: لأن السمة التي كانت غالبة داخله, هي الجمع والتحقيق وعدم وضوح المنهج. وقد تحققت هذه النقلة بسبب البنيوية التكوينية التي حاولت هذه الدراسات الثلاث الافادة منها, لكن بنوع من المرونة والتصرف والانتقائية.(2) لقد كان رائد هذه البنيوية لوسيان كولدمان (1913- 1970) وبحق, علامة على بدايات انطلاقة الخطاب النقدي المغربي المعاصر الذي كان حتى ذلك الوقت يكرس الهيمنة المشرقية داخل الخطاب النقدي العربي.
وقد تقدم القول بأننا سوف نعنى بالقراءة التي تنتظم «الرؤية البيانية عند الجاحظ», وصاحب الدراسة بدوره لا يخفي وسيط القراءة والعدة المنهجية التي توسل بها في دراسة خطاب الجاحظ انطلاقا من مفهوم «الرؤية البيانية». والقراءة أو «الوعي القرائي» (La cosciece Lisante) بتحديد هانس جورج غادامير(3) أحد اكبر المهتمين بالهيرمينوطيقا التي سنحاول ان نفيد منها, هي ما يميز دراسة ادريس بلمليح, بل ان هذه القراءة هي مصدر أهمية هذه الدراسة ومكانتها داخل الخطاب النقدي المغربي المعاصر. فحدث القراءة أصبح لازما في الخطاب النقدي, بل ان القراءة عوضت النقد بسبب استراتيجيتها التي تسعى الى الانصات الى النص وبالتالي انتاج وعي معرفي حول موضوعها وذلك بدلا من السعي الى الرغبة في السيطرة عليه على نحو ما كان يفعل النقد التقليدي. ونحن سوف ندرس هذه القراءة بالاستناد الى عدة هيرمينوطيقية تعتمد ثلاثة مستويات هي: أولا: الوحدة المنهجية, ثانيا: الموضوعية والنسبية, ثالثا: التاريخية. وهي كلها متوسطات للقراءة وقواعد ضابطة للتأويل الذي ينتظم هذه القراءة, وكما انها تسعف على دراسة الأساس المعرفي لهذه القراءة ومدى استجابتها لـ«النسق الثقافي» للجاحظ.
وفيما يتعلق بالوحدة المنهجية فانه يمكن فهمها انطلاقا من مستويين: مستوى أول يتصل بقابلية النص النقدي (النظري) للتأويل, ومستوى ثان يتصل بالنظر الى النقد باعتباره «وحدة سياقية صغرى» داخل «وحدة سياقية كبرى» هي وحدة التراث عامة كما سبق ذكر ذلك. وعلى المستوى الاول يتضمن النص النقدي بدوره ثنائية الظاهر والباطن, مثلما ينطوي على «الإيحاء النقدي» الذي يلجأ اليه النقاد أحيانا لدوافع سياسية ودينية واجتماعية متعددة. فالنص النظري (Theorique), وضمنه النص الفلسفي, مثلا, شاهد على تعددية التأويل. والمثال على ذلك «كوجيطو» ديكارت وما لقيه من تأويلات متعددة داخل الفكر الفلسفي الغربي امتدت الى الترجمات العربية نفسها على نحو ما يعرض لها طه عبدالرحمن في الشق الاخير من الجزء الاول «الفلسفة والترجمة» (1995) من مؤلفه «فقه الفلسفة». وفي ثقافتنا العربية نجد نصوصا كثيرة تثبت هذه التعددية مثل «نظرية النظم» عند عبدالقاهر الجرجاني و؛مقدمة» ابن خلدون و؛في الشعر الجاهلي» لطه حسين... الخ. لكن هاهنا تطرح تلك الفكرة التي مفادها ان التأويل في النص الفلسفي, او النظري عامة, اكثر انضباطا منه في النص الأدبي.(4)
وفي هذا المنظور فان خطاب الجاحظ قابل للتأويل, فهو اكثر التراثيين قابلية للتأويل, بل ان التأويل هو فنه او «ان فن التأويل هو فن الجاحظ».(5) وهذا ما يفسر لنا كثرة الدراسات التي عنيت بخطابه اعتمادا على وجهات نظر مختلفة ومناهج نقدية متباينة, وهو ما استشعره صاحب «الرؤية البيانية» أيضا مما جعله يقدم «عرضا نقديا» (بتعبيره) لهذه الدراسات بعد ان قسمها الى قسمين: دراسات تهتم بحياة الجاحظ وثقافته وعصره وتراثه مثل «الوسط البصري وتكوين الجاحظ» لشارل بيلات (بالفرنسية 1953, الترجمة العربية 1961) و؛الجاحظ حياته وآثاره» لطه الحاجري (1962). ويمكن ان نضيف الى هاتين الدراستين دراسات اخرى يستأنس ببعضها باحثنا مثل «الجاحظ» لخليل مردم (1930) و؛أدب الجاحظ» لحسن السندوبي (1931) و؛الجاحظ» لحنا الفاخوري (1953), «الجاحظ ومجتمع عصره» لجميل جبر «8591) و؛الجاحظ والحاضرة العباسية» للدكتورة وديعة طه النجم (1965) و؛الجاحظ في حياته وأدبه وفكره» لجميل جبر (1968) و؛أبوعثمان الجاحظ» لمحمد عبدالمنعم خفاجة (1973) ... الخ. ودراسات اهتمت بجانب خاص من فكر الجاحظ وأدبه مثل «النزعة الكلامية في اسلوب الجاحظ» للأب فيكتور شلحت اليسوعي (1964), و؛المناحي الفلسفية عند الجاحظ» لعلي بوملحم (1980) (وسوف نتحدث عنه فيما بعد) ومن قبلهما «النثر ودور الجاحظ فيه» لعبدالحكيم بلبع (1995)... الخ.
بالإضافة الى الدراسات التي اهتمت بالجاحظ ضمن منحى او مشكل نقدي ادلى فيه الباحث بدلوه مثل «مفاهيم الجمالية والنقد في أدب الجاحظ» لميشال عاصي (1974) و؛مصطلحات نقدية وبلاغية في كتاب البيان والتبيين» للشاهد البوشيخي (1982) ... الخ. دون ان نغفل الدراسات التي اهتمت بالجاحظ ضمن حيز تاريخي مثل «نقد الشعر عند العرب» لأمجد الطرابلسي (1945) و؛البلاغة العربية في دور نشأتها» لسيد نوفل (1948) و؛البلاغة تطور وتاريخ» لشوقي ضيف (1965) و؛في تاريخ البلاغة العربية» لعبدالعزيز عتيق (1970) و؛البيان العربي» لبدوي طبانة (1972)... وصولا الى «البلاغة العربية- أصولها وامتدادها» لمحمد العمري (1999).
الرؤية البيانية عند الجاحظ
من الجلي اذن ان خطاب الجاحظ حظي باهتمام كثير من الباحثين; وان امكانات «الاضافة الجديدة», كما يتصور ادريس بلمليح, في هذا المجال, ضيقة وعسيرة. وكما يلاحظ هذا الاخير اهمالا نسبيا لقضايا جوهرية تتعلق بالاهتمام الفكري متعدد الابعاد الذي عرف به الجاحظ, ثم ان اهمالا يكاد ان يكون مطلقا للربط بين فكرة البياني وفلسفة الاعتزال التي آمن بها وانعكست في مجمل آثاره. والدراسة الوحيدة التي تستوقفه هنا هي «المناحي الفلسفية عند الجاحظ» لعلي بوملحم (1980), وهي الدراسة التي ستظهر في طبعة ثانية عام 1994 وتحت العنوان نفسه بعد ان ضم اليها صاحبها جزءا آخر (ملحق لكتاب «رسائل الجاحظ الكلامية»). ويشدد باحثنا على هذه الدراسة ويعتبرها جديدة في موضوعها, اذ لم يسبق ان اهتم المعاصرون بالجاحظ فيلسوفا(6). والحق ان الدراسة ليست جديدة في موضوعها, وانما هي مستقلة فحسب; لأننا نجد اشارات كثيرة او فصولا بأكملها حول المناحي الفلسفية في اكثر من دراسة عنيت بخطاب الجاحظ. أجل لقد ركز صاحب الدراسة على المناحي الفلسفية في خطاب صاحب «الحيوان», وبالاعتماد على منظور فلسفي يحاول الاستناد الى منظور فلسفي حديث يجمع بين الاتجاه الفلسفي النقدي الذي ينصب على موضوع المعرفة ذاتها من حيث أسسها وطرق الوصول اليها والاتجاه الفلسفي القيمي الذي ينصب على الاحكام القيمية. ولقد عرض صاحب الدراسة للمناحي الفلسفية عند الجاحظ (المنحى الكلامي والاجتماعي والطبيعي والاخلاقي واللغوي), مثلما عرض لمنهجية تفكيره, الا ان الملاحظ على الدراسة, ورغم اهميتها, انها أبعد عن القراءة النسقية. ويعلق ادريس بلمليح هنا: «تناول (أي علي بوملحم) الجاحظ المتفلسف منفصلا عن اتجاهه الفكري العام الذي هو فلسفة المعتزلة. ومنه أيضا انه درس (المناحي الفلسفية) عنده دون ان يربط بينها, على اساس انها وحدات مستقلة لنسق فكري جاحظي ومعتزلي, بحكم العلاقات المتبادلة بينها, لا بحكم المنهج الذي يعكسه حديث أبي عثمان عنها على مستوى الفكر والتعبير».(7)
من الجلي إذن أن باحثنا سيركز على «الرؤية البيانية» عند الجاحظ, ومعنى ذلك انه سيركز على مشكل نقدي في خطابه, لكن بنوع من التصور الذي يسعى الى تلافي «النظرة التجزيئية» التي لا ترقى الى استقصاء النسق/ نسق الخطاب. وقبل ذلك, وحتى نبقى في نطاق المستوى الأول من «الوحدة المنهجية» ومدى قابلية النص الجاحظي للتأويل, فانه لا بأس من الحديث عن الصعوبة التي يستشعرها اغلب دارسي خطاب الجاحظ. ومن ثم فان الكثير من الدراسات التي عنيت بخطاب الجاحظ تكاد ان تجمع على عدم التنسيق والتبويب في كتابته وسرده و؛اختياراته العلمية». وتختلف الآراء حول هذا النسق, اذ هناك من يرى انه يؤدي بالقارئ الى الغموض والتشويش(, وهناك من رأى انه أساء اساءة كبيرة الى كتبه(9), بل وحد من قيمتها,(10) ويرد البعض هذا النمط التعبير الى العصر الذي عاش فيه الجاحظ, اذ كان هذا العصر يفتقد الى التعقيد والتعريف والتناول المنظم(11). وفي هذا الصدد يمكن أن نشير الى ما سماه أمجد الطرابلسي بـ«كتب الأدب» التي شهدها بداية القرن الثالث الهجري, و؛الأدب» هنا من حيث هو مجموع العلوم الدنيوية بعيدا عن اللاهوت والفلسفة والتشريع(12), والامثلة على ذلك الكتاب «البيان والتبيين» للجاحظ و؛عيون الأخبار» لابن قتيبة و؛الكامل» للمبرد(13). في حين رأى البعض في هذا «اللاتنسيق» «عجزا ذاتيا» كان نتيجة للمرض (الفالج النصفي) الذي ألم بالجاحظ في أواخر حياته (سنة 247 هجرية), يقول علي بوملحم هنا: «واذا كان الجاحظ لم يذكر سبب عجزه عن التبويب والتنضيد, فاننا نعرف ذلك السبب بالقياس على ما قاله في أماكن أخرى من كتاب البيان والتبيين وكتاب الحيوان. نجده في كتاب الحيوان يعتذر عن الاستطراد وعدم التدقيق والتبويب بالمرض الذي كان يعاني منه في اثناء تأليف الكتاب وهو مرض الفالج ومرض النقرس. واذا كان كتاب البيان والتبيين قد تم بعد الفراغ من كتاب الحيوان فمعنى ذلك ان المرض نفسه الذي أساء الى التبويب والتنسيق في الحيوان قد اساء الى التبويب والتنسيق في كتاب البيان والتبيين».(14)
وفي هذا الصدد يتصور شارل بيلات ان «التفكك» و؛التكرار» هما مصدر «روعة» كتب الجاحظ.(15)
واذا كان محمد عابد الجابري يتحدث عن «التصميم المنطقي المضمر» في كتاب «البيان والتبيين» فان كان العلامة أمجد الطرابلسي يرى ان في مجمل ابواب الكتاب مزجا اعتباطيا بين الشعر والنثر.(16) ثم ان مفكرا نابها في حجم عبدالله العروي ينبهنا- ولو في اشارة موجزة- الى ان الجاحظ كان يتلذذ بالنقاش, ولم يكن يهمه أن يصل الى نتائج.(17) وفي الوقت نفسه لم يسق الجاحظ الصور الفنية في تعريفات وتحديدات, فقد كان مشغولا بايراد النماذج البلاغية, وقلما عني بتوضيح دلالة المثال على القاعدة البلاغية التي يقررها.(18) فهو لا يثق بالتعريف دائما.(19) ويعود ذلك الى نظرته للحياة بشكل عام اذ لم يكن مولعا بتقسيمها, ولم يكن عبدا لمصطلحات او تناقضات, وكانت حركة الحياة عنده فوق النظر المنطقي والفلسفي.(20) الا ان القول بانه كان يتلذذ بالنقاش لم يجعله «سوفسطائيا», لأن ثمة منهجا في تفكيره كما يقرر ذلك أمين الخولي في كتابه «مناهج تجديد», بل ان منهج الجاحظ احدى علامات التجديد في العقل العربي.
وحاصل الكلام, مما تقدم, أن ادريس بلمليح من القائلين بـ«النسق» في خطاب الجاحظ رغم تبعثر أقواله وأحكامه, وهو ما عبر عنه- في نص التقديم- بمحاولة العثور على «منطق» داخلي لتراث الجاحظ يضمن الجهد البلاغي عنده.(21) ثم ان النتائج التي توصل اليها كفيلة بشرح ذلك.
اما الوجه الثاني للوحدة المنهجية فهو لا يقل أهمية عن الوجه الاول, ويتصل بالنظر الى التراث النقدي والبلاغي باعتباره «وحدة سياقية صغرى» داخل «وحدة سياقية كبرى» هي التراث عامة. والواقع ان عميد الأدب العربي كان قد أثبت هذه العلاقة منذ عشرينيات القرن العشرين عندما اشار الى الحاجة الى الفلسفة وفروعها لفهم المتنبي وأبي العلاء المعري, بل تطلب الامر علوم الدين كلها والنصرانية واليهودية ومذاهب الهند في الديانات لفهم شعر أبي العلاء المعري, ويضيف ان «همزية» أبي نواس لا تفهم دون الاطلاع على المعتزلة عامة والنظام خاصة(22).
مضامين القراءة لتراث الجاحظ
ويبقى إذن ان نسأل عن مضامين قراءته لتراث الجاحظ, مما يقودنا الى المستوى الثاني او المتوسط الثاني الذي عبرنا عنه بـ«الموضوعية» و»النسبية».
وفيما يتعلق بالموضوعية والنسبية فهما وجهان لصفة واحدة مؤداها ان القراءة طرف نقيض للاسقاط, لهذا ربطنا بينهما بهذا الشكل, ولتقريبهما اكثر نعرض لكل واحدة منهما على حدة, وبعد ذلك نقف عند أسس قراءة ادريس بلمليح وبعض الانتقادات التي يمكن أن توجه اليها. وتشير الموضوعية الى ان حدث القراءة يتضمن عناصر اساسية هي: القارئ والمقروء والانساق التي تصل ما بينهما, ثم ان حضور الموضوعية في القراءة رهين الحضور الفاعل لهذه العناصر في علاقاتها المتكاملة,(23) وإذا ما انتفى هذا التكامل فان القراءة تميل الى طرف دون آخر سواء كان القارئ او المقروء: وتمثل الحالة الاولى القراءة التاريخية التي تسعى الى التأريخ للتراث النقدي خاصة اذا كانت تفتقد للاستقصاء الدقيق للمعطيات التأريخية والمنهج المتكامل في المعالجة, فهذه القراءة تلغي «الوحدة الجزئية» القائمة بين الذات والموضوع أي تلك الوحدة التي تجعل من القارئ بعض المقروء في الحدث التاريخي للقراءة,(24) وهو ما يعبر عنه في الدراسات الهرمينوطيقية بـ«التذاوت» Intersubjectitive) أو «الرابطة الرمزية» (Noeud symbolique) التي لا تكف الهرمينوطيقا عن استجلائها.(25) وأما الطرف الثاني النقيض للقراءة التأريخية فهي القراءة التي تسعى الى - بتعبير جابر عصفور - اثبات «العصر» الخاص بالقارئ والالحاح بالتالي على دوره. وهي قراءة لا تخلو من اسقاط, هذا اذا ما لم نقل بأنها تعسف تأويل النص التراثي.
ويمكن حصر قراءة ادريس بلمليح ضمن القراءة الثانية, لكن من خارج دائرة الاسقاط, فقراءته لا تخلو من التأكيد على «عصر القارئ» لكن بنوع من «المرونة «التي تنأى عن تلك «العصرنة» (عصرنة التراث) التي تخل بنسق التراث. انه يستعين بدي سوسير وبنفينيست وتودوروف.. لكن دون ان يجعل من الجاحظ أحد هؤلاء, فهو يستعين بتصوراتهم وآرائهم لدراسة «الرؤية البيانية» عند الجاحظ ومحاولة الكشف بالتالي عن تصورات جديدة فيها. وفي هذا الصدد اهتدى باحثنا الى البنيوية التكوينية التي اقتنع بها لدراسة هذه الرؤية (من حيث هي «رؤية للعالم»), وعلم اللغة الحديث والسيميائيات المعاصرة لدراسة ما سماه «سمياء الجاحظ» داخل هذه الرؤية. فالخلاصة هنا هي ان الجاحظ صاحب رؤية بيانية للعالم قابلة لان تقارب بمعطيات اللسانيات والسيميائيات. ثم ان باحثنا يقول- في نص التقديم- ان ما يسعى اليه هو «العثور على المنطق الداخلي» الذي يضمن فهم الجهد البلاغي عند الجاحظ اكثر من سعيه الى تطبيق المنهج على خطابه.(26) ومن دون شك فان سؤال المنهج يطرح بالحاح خصوصا واننا نقصد هنا الى المنهج بمعناه الفلسفي العميق أي المنهج من حيث أسسه التصورية والفلسفية, وليس المنهج من حيث هو مجرد «طريقة ديداكتيكية» نرسمها بشكل مسبق لكي نصل الى نتائج جاهزة. فسؤال المنهج هنا جدير بابراز معالم «القراءة النسقية» وما يمكن ان يعتريها من قصور في حالة عدم مراعاة «تاريخية» المقروء متمثلا في تراث الجاحظ المشروط بـ«مجاله التداولي» المخصوص.
قلنا سابقا ان صاحب الدراسة يعتمد البنيوية التكوينية المدعمة بالانتقاء والتصرف, مما جعله يستعين بالسيمياء المعاصرة. فكانت الحصيلة- على مستوى تبويب الكتاب- قسمين لدراسة «الرؤية البيانية»: قسم يعتمد فيه البنيوية التكوينية, وقسم ثان يعتمد فيه السيمياء المعاصرة. ويتوزع القسم الاول الى ثلاثة فصول يدرس فيها «الرؤية للعالم» عند الجاحظ, وذلك اعتمادا على ثلاث خطوات هي:
أولا - تحديد عناصر هذه الرؤية وتوضيح تلاحمها, ويحصر هذه العناصر في: العالم, الحيوان, الانسان. وبعد ذلك يخلص الى ان العنصر الأساسي الذي يوحد هذه العناصر/ عناصر الرؤية فيجعلها منظومة ونسقا هو البيان (ضابط الرؤية). من هنا نكون - مع باحثنا - إزاء رؤية بيانية تتخذ طابع بنية فكرية, ويكون بالتالي جميع ما قاله الجاحظ عن البيان راجعا في أصله الى تصوره العام للعالم تصورا بيانيا.
ثانيا - وبعد تحديد الاجزاء المستقلة للبنية والعلاقات التي تجعل هذه الاجزاء كلا متناسقا ومنظما, تأتي مرحلة دمج هذه البنية في بنية أكثر شمولا واتساعا هي فلسفة المعتزلة باعتبار ان «الرؤية البيانية» للعالم هي احدى عناصر هذه الفلسفة.
ثالثا - دمج فلسفة هذه الفرقة في بنية اكثر اتساعا هي الفئة الاجتماعية التي أخذت بهذا الاتجاه الفكري. بكلام آخر: تفسير بنية الفكر الاعتزالي في ضوء الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي أنجبتها, فكانت خلاصته ان الفكر الاعتزالي كان عقيدة الطبقة المتوسطة في المدينة العربية القديمة. فهذه الفئة آمنت بالاعتزال مذهبا وعقيدة, وسعت الى نشره والدفاع عنه امام تيارات فكرية مخالفة ومعارضة.
من الجلي إذن أننا ازاء ثلاث بنيات, هي: «الرؤية البيانية» للعالم عند الجاحظ ومن حيث هي بنية متماسكة, وبنية الفكر الاعتزالي, وبنية العلاقات الاقتصادية والاجتماعية التي عاش الجاحظ وزملاؤه من أهل الاعتزال في شبكتها. وكما ان باحثنا يصل ما بين هذه البنيات الثلاث بواسطة البنيوية التكوينية, غير ان هذا لا ينفي ابداء بعض الملاحظات الناجمة عن توظيف هذه البنيوية. لكن قبل ذلك لابد من التوقف عند القسم الثاني الذي افاد فيه الباحث من السيمياء المعاصرة التي قادته الى ان التصور البياني للعالم عند الجاحظ كان يتضمن «نظرية لغوية» لا تقف عند حدود الانسان فحسب, بل تمتد الى الحيوان ثم الكون كذلك. ومن هذه الناحية فقد استطاع باحثنا, وبشهادة العالم الجليل أمجد الطرابلسي في نص التقديم, ان يستخلص من أقوال الجاحظ المبعثرة- هنا وهناك في كتبه ورسائله- نظاما اشاريا متكاملا أصيلا استطاع ان يقرأه في ضوء السييميائيات الدلالية والتواصلية المعاصرة.(27) فتوصل الى ان سيمياء الجاحظ جمعت بين محاولتين اثنتين لفهم منطق العالم الذي هو منطق اشاري: سيمياء دلالية تشكل النصبة او الحال وسيلتها التعبيرية الاساسية, وسيمياء تواصل تعد اللغة (البشرية) أهم ادواتها. لقد عد اللغة أهم وسيلة بين وسائل البيان الخمس, بل يصح اعتبارها أصلا لفروع هي: النصبة والعقد والاشارة والخط.(28)
إن الحديث عن ثابت الاعتزال في «الرؤية البيانية» عند الجاحظ- كما اختار ادريس بلمليح- لابد- في نظرنا- من أن يطرح صعوبات جمة, ومرد ذلك الى طبيعة الاسلوب الذي اعتمده الجاحظ في كتاباته, ثم كتبه الكثيرة التي بلغت 036 كتابا حسب ابن الجوزي(29) وقد ضاع أغلبها. غير ان هذا لا يحول دون الحديث عن اعتزاله. ولعل أول فكرة ينبغي التأكيد عليها في اثناء الحديث عن اعتزال الجاحظ هي كون أنه أديب في المقام الاول, أو بالأدق انه «سيد الكتاب بالعربية بلا منازع, وشيخ أدباء العرب بلا مرافع» كما يصفه حسن السندوبي.(30) ونحن نقول بهذه الفكرة لأن صورة الجاحظ المفكر غلبت على صورة الجاحظ الاديب في قراءة ادريس بلمليح, الا أن هذا لا ينفي البتة الحديث عن تأثير «الرؤية الاعتزالية» في هذا الأدب. إن أدب الجاحظ وفنه, ومما يقرب الاتفاق منه, كما يقول أمين الخولي, أغلب من علمه, وأبرز من تناوله العلمي, فيبقى بعد ذلك كلامه الذي هو بحثه الديني أو الطابع الفلسفي والنظر العقلي.(31) غير أن تأثير المنهج الكلامي في أدب الجاحظ غلب على اتجاهه الأدبي وصبغه.(32)
وربما, وقبل الحديث عن تأثير المنهج الكلامي هنا, توجب علينا النظر الى «الرؤية البيانية» في مستواها الابستمولوجي الصرف. مما يقودنا الى النظر الى هذه «الرؤية» في ضوء «نظرية العقل العربي», تلك الرؤية التي تعكس جانبا مهما من «تطور» هذا العقل ان لم نقل «نقلة ابستمولوجية» داخله بالنظر الى كتابات الجاحظ, ولا غرابة في أن يشبه بفولتير العرب مرة(33) وارسطو العرب مرة ثانية(34) وأن يوصف بالكاتب العربي الأكثر استحقاقا لماهية الانسية حتى وإن كان اطلاق هذه الماهية عليه ليس ضروريا لدعم مجده كما يقول شارل بيلات.(35) بالإضافة الى ان العصر الذي عاش فيه الجاحظ أطلق عليه «عصر الجاحظ», بل ان أديبا كبيرا ظهر في القرن الرابع للهجرة وهو ابوحيان التوحيدي لقب بـ«جاحظ القرن الرابع».... الخ. وحتى نعود الى موضوعنا فان «الرؤية البيانية» تقع في صلب «النظام المعرفي البياني» للعقل العربي. وهو الحقل المعرفي الذي بلورته وكرسته العلوم العربية الاسلامية الاستدلالية الخالصة التي يحصرها المفكر محمد عابد الجابري في النحو والفقه والكلام والبلاغة. إن صاحب «نقد العقل العربي» يقدم حقا خلاصات مدققة تفيدنا هنا في الكشف عن المستندات المعرفية «للرؤية البيانية» عند الجاحظ. ومن هذه الناحية فان أول خطأ كبير- في نظره- أن يعتقد الباحث ان الاهتمام بالبيان, بأساليبه وآلياته وأصنافه, كان من اختصاص علماء البلاغة وحدهم. فهؤلاء هم الذين جعلوا من «علم البيان» احد الاقسام الثلاثة التي ينقسم اليها علم البلاغة العربية (علم المعاني, علم البيان, علم البديع). فالبلاغيون- كما يواصل مفكرنا- الذين اتجهوا هذا الاتجاه كانوا آخر من ظهر على مسرح الدراسات البيانية, كما ان تصنيفهم ذلك لعلوم البلاغة لم يتقرر بصورة نهائية الا في مرحلة متأخرة وبكيفية خاصة مع السكاكي المتوفي سنة 626 هجرية.(36) فالبيان «اسم جامع» يفيد «الافهام» أو «التبليغ» أو «الفهم» والتلقي» وبكيفية عامة «التبيين».(37) ويقود التحليل الابستمولوجي مفكرنا إلى أن يقارن بين الجاحظ والشافعي, لينتهي الى أن الاول طور البحث البلاغي والثاني دشن البحث الاصولي, دون أن نغفل ان الجاحظ عاش بعد الشافعي مدة تزيد على خمسين سنة, والغاية مما تقدم أن يثبت مفكرنا تقسيما آخر رافق البلاغة0 في نظره- منذ قيامها بحيث انقسمت الى قسمين: قسم يعنى بـ«قوانين تفسير الخطاب», وقسم يهتم بـ«شروط انتاج الخطاب». ويتصور ان الاهتمام بالتفسير يعود الى زمن النبي (صلى الله عليه وسلم) والصحابة, فيما الاهتمام بوضع شروط لانتاج الخطاب البلاغي المبني لم يبدأ إلا مع ظهور الأحزاب السياسية والفرق الكلامية بعد حادثة «التحكيم» حينما اصبحت الخطابة والجدل «الكلامي» من وسائل نشر الدعوة وكسب الانصار وافحام الخصوم. ومن ثم فان الجاحظ كان يريد أن يقوم في مجال تحديد شروط انتاج الخطاب البياني بمثل ما قام به الشافعي في مجال وضع قوانين لتفسير ذات الخطاب, ولكن بطريقته الخاصة في الكتابة. وبعد ذلك يطرح فكرة في غاية من الاهمية تتصل بقضيتي «الفهم» و»الافهام» اذ لم يكن الجاحظ معنيا بقضية «الفهم», فهم كلام العرب وحسب, بل لقد كان مهتما أيضا, ولربما في الدرجة الاولى, بقضية «الافهام», افهام السامع واقناع وقمع المجادل وافحامه. إذن هو سيتجه باهتمامه غير اتجاه الشافعي الذي كان يهمه بالدرجة الاولى قصد «المتكلم» في القرآن والسنة. ان ما يشغله (أي الجاحظ) أساسا هو شروط انتاج الخطاب وليس قوانين تفسيره. ومن هذا المنطلق يتصور مفكرنا- كما لاحظنا سابقا- أن كتاب «البيان والتبيين» ينطوي على «تصميم منطقي مضمر» عرض من خلاله صاحبه «العملية البيانية» بمختلف مراحلها منطلقا من شروط «الارسال الجيد» الى متطلبات الحصول على «الاستجابة المرجوة», ويحصر هذه الشروط في: 1 - طلاقة اللسان. 2 - حسن اختيار الألفاظ. 3 - كشف المعنى. 4 - البلاغة (التوافق بين اللفظ والمعنى). 5 - سلطة البيان (تأثير الكلام على السامع).(38) ويمكن أن نشير هنا الى الملاحظة المركزة لعلي أومليل التي تقول إذا كان الجاحظ يمزج في محاولاته التنظيرية للبيان بين التحليل الفني والاحتجاج الديني فان مفهوم البيان عند الشافعي مفهوم ديني أصلا.(39) وقبل أن نفرغ من قراءة محمد عابد الجابري للفكر البياني عند الجاحظ فانه لا بأس من ايجاز الحديث عن قراءة تبدو قريبة من قراءة مفكرنا التي انتهت الى هيمنة «الافهام» في «تنظير» الجاحظ, ونقصد هنا الى قراءة محمد العمري المتضمنة في كتابه «البلاغة العربية» (1999). ويميز داخل البيان (بيان الجاحظ) بين «مستوى معرفي عام» يتمثل في «الفهم» (الوظيفة الفهمية) و؛مستوى اقناعي تداولي خاص» يتمثل في «الافهام» (الوظيفة الاقناعية). ويخلص الى ان المستوى الثاني «البلاغي» (كما ينعته) مستوى من مستويات المستوى الأول «اللغوي» و؛السيميائي». وحاصل الكلام ان قراءة محمد العمري تدرج الجاحظ ضمن النظرية البلاغية (بلاغة الخطاب), وتكشف عن غلبة للجاحظ المفكر وللفكر البلاغي, اضافة الى البعد «الكوني» الذي يلحقه باحثنا ببلاغة الجاحظ.(40)
لقد دافع الجاحظ عن الاعتزال بـ«كل اخلاص».(41) واعتنقه دفعة واحدة وحضر انتصاراته المؤقتة, وكان يشعر دوما دوره التحريري وحيويته في محاربة الالحاد الناشئ في قلب الاسلام من جهة والتأثيرات الفارسية من جهة أخرى, كما أصبح في أواخر حياته شاهدا بصيرا على انحطاط هذا المذهب.(42) وهو ما سنتطرق إليه لاحقا, ويهمنا الآن أن نشير الى أن الجاحظ رغم اعتناقه «الحزب المعتزلي» فانه لم يستفد من الوضع. لقد رشح لمنصب رئيس ديوان الكتاب, فقبله على مضض, ومكث في تلك الوظيفة ثلاثة أيام, ثم فر تاركا بيروقراطية الدولة للمتدربين عليها والمنفعلين بها.(43) ولو ثبت في الديوان كما تصور شارل بيلات لقدم خدمات جليلة, ولكنه لم يمكث فيه الا تلك الأيام المعدودة لعدم استطاعته الخضوع لنظمه وتقاليده.(44) لقد وضع الفكر والكتابة, أو «مهنة الأدب» كما يصفها علي أومليل في اثناء الحديث عن الموضوع نفسه.(45), قبل المنصب والوظيفة. بل انه كان يحتقر الوظيفة والموظفين, وقد بلغ به الأمر في هذا التحقير ان دخل يوما ديوان المكاتبات فرأى قوما قد صقلوا ثيابهم, وصففوا كمائمهم, ووشوا طرزهم, فقال: هؤلاء كما قال الله تعالى: «فأما الزبد فيذهب جفاء» ظواهر نظيفة وبواطن سخيفة.(47)
وفي موازاة ذلك خدم الجاحظ «القضية العباسية» بشكل يعكس صورة «المثقف النقدي». فذات المبدأ الذي حمل المعتزلة على ممارسة سائر الاديان, حملهم أيضا على مكافحة الفرق والأحزاب الاسلامية الأخرى. وكان الجاحظ الداعية الاول في هذا السبيل, لاسيما وان مصلحة العباسيين كانت تقضي بذلك. وبين هذه الفرق والشيع والاحزاب انتقد الجاحظ خصوصا الحشوية والرافضة والامويين والشعوبيين.(47) بل انه دافع عن الاعتزال حتى في تلك الفترات التي دخل فيها في لحظات الضعف والانكماش ليظل زهاء قرن ونصف القرن من الزمان تقريبا (100- 227 هجرية) مدرسة فكرية ذات سيادة عقلية في بلاد الاسلام, وذلك مع مجيء الخليفة المتوكل سنة 232 هجرية الذي سيعكس ما عبر عنه محمد عابد الجابري بـ«الانقلاب السني»(48), ذلك «الانقلاب» الذي سيترتب عنه الامعان في اضطهاد رجال المعتزلة وأفكارهم.
إلا ان الجاحظ استطاع في كل هذه الخدمة ان يحافظ على شخصيته المستقلة, لانه لم يخدم القضية العباسية وحدها بل خدم عقيدته المعتزلية أيضا. لقد «فلسف الاسلام واسلم الفلسفة». ورغم انه كان معتزليا يؤرخ للاعتزال ويوضح مفاهيمه, ويذود عنه, فانه لم يستطع أن يحبس نفسه ضمن اطار مبادئ الاعتزال, بل ينطلق منها, ويخرج عليها, ويأتي بآراء تميزه عن شيوخ المعتزلة حول مسائل النبوة والامانة والمعرفة والحرية.(49) لقد أخذ بمبادئ الاعتزال الخمسة (التوحيد, العدل, الوعد والوعيد المنزلة بين المنزلتين, الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر), لكنه افترق عن سائر المعتزلة بآراء خاصة انفرد بها مما جعله على رأس فرقة مميزة من فرق الاعتزال دعيت بـ«الجاحظية» نسبة الى اسمه. الا أن الجاحظ, ورغم كتاباته الكثيرة في شؤون الدين, ورغم توجيه نظراته الفلسفية توجيها دينيا, ما حظي مرة برضى الأئمة الذين لم يكونوا يثقون كثيرا بقوله ويخشون دوما ردات فعله وبعثه.(50) بل لقد رماه خصومه بالزندقة مع انه حارب الزندقة بلا هوادة, ولا نقع في جميع آثاره على كلمة تدل على شكه في الله او تعالم الدين.(51)
وبما أن «الرؤية البيانية» , كما يخوض فيها ادريس بلمليح, هي, في العمق, «رؤية للعالم» ضابطها «البيان»; فانه لا بأس من ان نلتفت الى ثابت ثان يتجاوب مع ثابت «الحس الديني» في هذه الرؤية. ويتعلق الأمر هنا بـ«مناهضة الشعوبية» التي حضرت بقوة في «رؤية» الجاحظ, الا ان باحثنا لا يوفيها حقها من الدراسة والتمحيص, وهي الفكرة التي نريد شرحها من بعض الجوانب. فـ«رؤية» الجاحظ لم تكن تخلو من «تحيز» في حقل الصراع الذي ولجه. فالقول بالاعجاز في النظم (نظم القرآن) كانت الغاية منه هي التأكيد على تميز القرآن عن كتب الحكمة الفارسية وأشباهها. فالجاحظ لم يلج حقل دراسة الاعجاز إلا بعد أن تقررت مصادره وتوزعت على الكتب المقدسة بوجه عام وتاريخ العرب والأساطير الشائعة, وما اتصل به من علوم الهند وفارس واليونان.(52) ويوازي الاعجاز على صعيد النقد ربط الجاحظ بين الشعر والعرف والشعر والغريزة. وفي هذا الصدد فان الدارس- كما يعلق احسان عباس- يأسف لأن الجاحظ لم يفرد للنقد كتابا خاصا أو رسائل, وانه اورد ما أورده من نظرات عرضا في تضاعيف كتبه كـ«الحيوان» و؛البيان والتبيين». ويستخلص احسان عباس أن تصور الجاحظ للشعر في الجماعات يعتمد على ثلاثة عناصر, هي: الغريزة (أي الطبع العام المواتي للشعر) والبلد (أي البيئة) والعرق (أي الصلة الدموية).(53) وفي جميع الاحوال فانه لم يكن خارج دائرة الدفاع عن الموروث العربي ضد الشعوبية. ويمكن التركيز هنا على موقفه من المثقفين في عصره حين أخذ عليهم قلة انصرافهم الى الفكر رغم تهيؤ الجو الملائم لازدهاره, كما أخذ عليهم انصرافهم الى شؤون اللغة فحشوا أدمغتهم قواعد وجوازات صرفية ونحوية حتى لم يعد مجال للعناية بالقضايا المفيدة... إلا أنه أغضى على الانصراف الى جمع الشعر القديم لأن ضرورة الرد على الشعوبية اقتضت هذا العمل, ولم يتوان هو نفسه عن القيام بهذه المهمة في كتابه «البيان والتبيين».(54) فهذه هي الميزة الاولى التي خص بها العرب وهي ميزة الفصاحة, اما الميزة الثانية فهي ميزة الكرم. وربما انه بالأضداد تتمايز الأشياء, أو أن «حقارة البخلاء», في كتابه «البخلاء» الذي ألفه في آخر عمره ويعد احد اهم الكتب في الثقافة العربية الكلاسيكية. وأكثر البخلاء هم من غير العرب, والغاية من ذلك هي أن يعظم من شأن هؤلاء عن طريق المقارنة بينهما. أجل هناك من رأي أن الجاحظ, في «البخلاء», سخر من نفسه ومن أصحابه ومن الناس جميعا. إلا أن ما يهمنا هنا, ضمن «رؤيته», حملته على الشعوبية التي جعلته يمتدح جود العرب ويظهر بخل الموالي. ان الجاحظ لا يصور بخلاءه في المطلق, بل ان أوضاع معينة تكشف عن بواطنهم.(55) ومن هنا فان كتاب «البخلاء», وعلاوة على كون انه يمثل نوعا جديدا في الأدب العربي, لا يمكن أن ينحصر في تصوير أخلاق الناس والمجتمع الاسلامي في حياته العادية فحسب, وكما ان عالم البخلاء لا يتصل بمجرد «فلسفة اجتماعية» للجاحظ مفادها أن الواقع الاجتماعي عنصر هام في التطور الانساني.(56) إن الجاحظ- هنا- ينصب نفسه- كما يقول شارل بيلات وهو صاحب الملاحظة السابقة- للدفاع عن العرب واجدا فيهم فضيلتين اساسيتين, هما: الفصاحة التي أطراها في كتاب «البيان والتبيين», والكرم الذي أطراه في كتاب «البخلاء» (57).
نخلص الآن الى تأصيل الكتابة عند الجاحظ التي كان يوازيها تأصيل القراءة, من هنا كان «بيانه الجديد» كما ينعته مصطفى ناصف في كتابه «محاورات مع النثر العربي». ومن هنا كان الخروج من ثقافة الشعر الى ثقافة الكتابة كذلك, وهو خروج من دائرة التعظيم الى دائرة الملاحظة.(58) والبيان الجديد يقرأ أكثر مما يسمع, يبحث عن الصداقة لا عن التعليم الخشن.(9595) وصداقة القارئ لم تكن واضحة في البيان المأثور الذي لا قارئ فيه, وانما السامع أولى بالرعاية من القارئ.(60) لقد أراد ان يهذب البيان فلا يصوت ولا يصيح ولا يصرخ ولا يزأر.(61) تلك إذن هي «ثقافة الكتابة الحديثة» التي سعى اليها الجاحظ, وكانت مهمة هذه الكتابة هي تصوير نشاط المدينة المضطر المائج الجذاب, هذا العالم المتغير.(62) مثلما كانت هذه الكتابة تستند الى السرد الذي أتقنه الجاحظ وأحبه وحماه من المزالق وأبعده عن اللهث وراء الرنين والكلمة والاقناع والاستحواذ. كان من الممكن ان يعنى صاحب «الرؤية البيانية عند الجاحظ» بهذا القارئ الذي اعتنى به الجاحظ وكان يفكر فيه اثناء الكتابة, لكن شيئا من هذا لم يتحقق. ويمكن ان نرد ذلك الى المنظور اللساني والسيميائي الذي استند اليه باحثنا في تدبر دلالات الجهد البلاغي عند الجاحظ, اضافة الى تغليب الجانب الفكري للجاحظ ضمن «رؤيته البيانية». اجل ان السيميائيات أولت بدورها أهمية للقارئ, لكن من اجل وضع نظرية للنص وليس للقارئ. ومعنى ذلك ان القارئ ونشاطه خاضعان للنص, ولا يمثلان من ثم إلا مرحلة لتحيين الامكانات المنكتبة التي يتم استجلاؤها بواسطة التحليل, وهو ما يعبر عنه بـ«شعريات القراءة».(63)
حتى الآن تكون قد اتضحت لنا أبعاد الموضوعية في قراءة ادريس بلمليح لتراث الجاحظ, وقد سعينا الى ان نضيف إليها بعض الآراء والأفكار من اجل اثرائها. وهي الموضوعية التي تحققت انطلاقا من التركيز على مصطلح «الرؤية البيانية» داخل هذا التراث الغني وبالاستناد الى عدة منهجية واضحة ومعلنة تتمثل في بعض مفاهيم البنيوية التكوينية والسيميائيات المعاصرة. وقد يتساءل القارئ لهذه الدراسة حول الجدوى من الجمع بين هذين الفرعين المعرفيين المتباعدين ومدى اهمية الجمع بينهما على مستوى دراسة خطاب الجاحظ. وفي هذا الصدد لا يرى البعض أي نوع من التنافر بين هذين الفرعين, إذ يمثل القسم الاول الاطار النظري العام فيما يقوم القسم الثاني مقام التطبيق العملي الذي يزكي المقولات النظرية الواردة في القسم الأول.(64) وكأن الأمر يتعلق بنوع من الانتقال من العام الى الخاص. يظهر أن ثمة تباعدا بين هذين الفرعين المعرفيين, ثم ان ما فرضه هو «الاختيار المنهجي» لصاحب الدراسة. لقد استشعر اكثر من مرة مدى صعوبة تطبيق مفاهيم البنيوية التكوينية في دراسته, ولذلك تعامل معها بنوع من «المرونة» جعلته يستعين بالسيميائيات لـ«تسييج» (إذا جازت هذه العبارة) «المستوى اللغوي» ضمن رؤية الجاحظ للعالم.
ومن هذه الناحية يبدو ادريس بلمليح موفقا باختياره للجاحظ لأنه أحد الاعلام البارزة في تراثنا او ثقافتنا العربية الكلاسيكية, تلك الأعلام التي تسعف على الحديث عن رؤية معينة على غرار ابن حزم وابن رشد وابن خلدون ... الخ, غير أن المأخذ الذي اتضح لنا, على قراءته «للرؤية البيانية», هي انه لم يركز على «اضافة» الجاحظ وجدته داخل دائرة انتمائه الاعتزالي, وهو ما حاولنا ان نقوم بجانب منه, ويمكن ان نرد ذلك الى طبيعة اختيار الباحث المنهجي اذ يقول في هذا الصدد: «لاشك ان محاولة رد حركة فكرية ذات اتجاهات متعددة, ومبادئ متنوعة, الى فرد من الأفراد, تبدو محاولة تعسفية الى حد كبير, لأن تاريخ الفكر الانساني يعلمنا أن الحركة الفلسفية او الثقافية او الادبية, انما منشؤوها فئة اجتماعية, للفرد مكانته بينها, لكنها تبقى بالرغم من ذلك جماعة, تؤمن بهذا الاتجاه او ذاك في مرحلة زمنية معينة, فيؤسسه بعض افرادها, ويطوره أو يغنيه او يدافع عنه افراد آخرون عبر الزمن».(65) وعلى هذا الهامش فانه من بين الانتقادات التي وجهت الى البنيوية التكوينية عدم تركيزها على الجهود الفردية, وفي مقابل ذلك التركيز على ما يبدو جوانب موضوعية في تحليل الظواهر الادبية والفكرية, فهي تلغي او تكاد تتجاهل الجهود الفردية ودور الصالة والعبقرية الذاتية في صياغة رؤية الفنان أو المفكر او العالم.(66) وهذا ما جعل عبدالله راجع- مثلا- يستعين بعلم النفس كما طبقه شارل موران والبحوث الاسلوبية على الرغم من تبنيه البنيوية التكوينية اطارا عاما لتحليل «بنية الشهادة والاستشهاد» في الشعر المغربي المعاصر خلال فترة السبعينيات. في الواقع لا يمكن تجاهل جانب الفرد او العبقرية عند الجاحظ في صياغة رؤيته للعالم. ان شارل بيلات مثلا- بدوره يؤكد- في كتابه السابق- على «الذكاء الحاد الفريد من نوعه عند الجاحظ وميله الوراثي للتفكير العقلي» مع انه سعى الى تحليل وتأكيد تأثير البصرة في فكر الجاحظ, وان عقل الجاحظ صيغ «لا شعوريا» (والتعبير له) انطلاقا من هذا التأثير.(67) وهو الذكاء الذي اعتنى به طه الحاجري حين تصور ان حياة الجاحظ سارت على ما يرام حين توارى القبيح خلف الذكي. ولا نود هنا ان نستعيد النقاش الطويل حول خلقة الجاحظ ومدى تأثيرها في ابداعه وسخريته.
إجمالا ان المنهج هو الغالب في قراءة إدريس بلمليح, وهذه الغلبة للمنهج والمصطلحات تميز باقي أعماله النقدية, وتدخل في اطار ما يسميه بـ«البحث العلمي».(68) من هنا كان حرصه على تقديم المنهج وتحديد مصطلحاته والتدقيق فيها. وفي ضوء هذه الغلبة يمكن ان نسأل حول الموضوعية القائمة على العلاقة المخصوصة التي تصل ما بين القارئ والمقروء دون اسقاط أي طرف على آخر: القارئ على المقروء او العكس. وتبقى هذه القراءة- وهي تتقوم على تلك العلاقة- بعيدة عن «الحياد الموهوم» او «الانفصال بين الذات والموضوع», لكن شريطة ان يوازي فيها الحضور النصي للمقروء الحضور المتناص للقارئ(69), لأن التراث لا يقرا نفسه بنفسه او بأدواته المعرفية كما حاولنا تأكيد ذلك منذ مقدمة البحث. ونستنتج ان عدم حياد القراءة لا يتنافى وقيام قراءة موضوعية, ومن ثم فقراءة صاحب «الرؤية البيانية عند الجاحظ» تخلو من «الموقف الشخصي» على نحو ما جاء في دراسة «ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب» لمحمد بنيس (1979) التي حاول فيها تطبيق البنيوية التكوينية او من «الأدلجة» على نحو ما حصل في دراسة «محمد مندور وتنظيم النقد العربي» لمحمد برادة (1979) التي حاول فيها الافادة من البنيوية التكوينية.
ونرد هذه الموضوعية لقراءة ادريس بلمليح الى «المنهجية» التي حاول من خلالها تطبيق «الابتعاد» عن القراءة الكلاسيكية التي ظلت مهيمنة منذ ثلاثينيات القرن العشرين, غير ان هذا - وحرصا منا على فهم اوسع للموضوعية ذاتها- لا ينفي امكانية تأكيد تثمين قراءات من هذا النوع الثاني لتراث الجاحظ على نحو ما فعل طه الحاجري (1963) وشارل بيلات (1953) وسواهما. وغاية القول هنا ان الموضوعية- ورغم انها تناقض الاسقاط- تبقى قرينة «النسبية». وهذا ما تطرحه الهرمينوطيقا ذاتها اذ اننا نظل مدعوين- كما قلنا مع بول ريكور- الى البحث عن الادلة الاكثر قوة لتغيير التأويل. والتأويل هنا بمعناه الفلسفي الأعمق, أي التأويل المتحقق من داخل النص ذاته الذي هو فضاء لمتغيرات تنطوي بدورها على التزامات تنفي امكانية الحديث عن تأويل واحد ووحيد للنص وتأويل غير متناه في ذات الوقت. فالتراث هنا لا يستنفد, وهو أشبه ما يكون بالبحر الذي لا تكف أمواجه عن التدفق.
وفي اطار الحديث عن الدراسات الجاحظية بالمغرب فانه لا يمكن أن نتغافل عن عبدالفتاح كيليطو الذي خصص حيزا مهما من قراءته للنص الجاحظي «الحيوان», لكن قبل ذلك يحسن بنا ان نتوقف عند قراءة أخرى جاءت في كتاب «بلاغة النادرة» لمحمد مشبال (1998) وقد كرسها صاحبها لدراسة الحكي عند الجاحظ أو «الاديب البارع» كما ينعته. ولا تخلو هذه القراءة من اهمية جلية طالما انها حاولت «الانصات» الى نصوص الجاحظ, مثلما حاولت الاستناد الى خلفية ترمي- على حد تعبير صاحبها- الى «الوعي بخصوصية التفكير الجمالي الأدبي العربي الموروث»(70) ويتوسل صاحب «بلاغة النادرة» بـ«أدوات تحليلية» نجد في طليعتها «الصورة» و؛السمة». وهما مفهومان بارزان في كتاب باحثنا السابق «مقولات بلاغية» (1994). وفي هذا المنظور يبحث في «بلاغة النادرة» في خطاب الجاحظ متعدد الأبعاد والأنواع, ويتصور ان النادرة هي الاطار الموحد او التسمية الأكثر شيوعا والقوى تمثيلا لهوية حكايات الجاحظ بتنويعاتها وتسمياتها التي اطلقها الجاحظ نفسه على حكيه.(71) ولا تنصرف البلاغة هنا الى معناها الكلاسيكي الجزئي, وفي ضوء الكتاب يستخلص انها تفيد فناء السرد (بدلا من هيكل الشعر) والعري (بدلا من البديع) والفكاهة والسخرية والملاحظة. وعلى ذكر الملاحظة فان الملاحظة التي قد تفرض نفسها هنا هي ان الجاحظ لم
إن القراءة التجزيئية لا تنظر الى الخطاب النقدي والبلاغي باعتباره «وحدة سياقية صغرى» داخل «وحدة سياقية كبرى» هي سياق وحدة التراث عامة في تفاعل أنماطه, مما يجعلها قراءة «وصفية» لا ترقى حتما الى البحث في «النسق» الذي يشكل هذا الخطاب مقدار ما يوحده ويرسخه في تلك الدائرة من العلاقة التفاعلية مع باقي الخطابات الاخرى المشكلة للتراث. ولذلك فهي لا ترقى الى محاورة التراث وبالتالي إثراؤه على نحو يتم فيه اثراء الخطاب النقدي المعاصر ذاته. إن القراءة النسقية, التي سنعنى بها في هذا البحث, تحاول ان تشق لنفسها طريقا مغايرا وذلك عن طريق التعامل مع التراث باعتباره «كلا موحدا» ينطوي على نسق مخصوص يحقق هذه الوحدة. ونجد اكثر من ناقد باحث استطاع ان يعكس أفق هذه القراءة في خطابنا النقدي المعاصر, ومن دون شك بتفاوت حاصل بينهم. ونحصر هؤلاء في ادريس بلمليح ومحمد مفتاح ومحمد العمري وعبدالفتاح كيليطو الذين فتحوا حقا أفقا جديدا للدراسات التراثية في المغرب بحكم تشبعهم بالتراث أولا ثم بحكم تمكنهم من المناهج الغربية الحديثة ثانيا. وهو ما يمكن توضيحه عن طريق دراسة خطاب كل واحد من هؤلاء. وبما أن هذا البحث يتمحور حول «الدراسات الجاحظية بالمغرب» فاننا سنركز اكثر على قراءة ادريس بلمليح لجانب من خطاب الجاحظ, غير ان هذه القراءة لن تحول دون استحضار قراءات أخرى (مغربية وغير مغربية) اهتمت بالموضوع نفسه وعلى رأسها قراءة عبدالفتاح كيليطو التي تضمنت اشارات كثيرة الى الجاحظ. وتهمنا هنا القراءة التي تستند الى «الحس الاشكالي» (للقراءة ذاتها) الذي هو قرين «النسق الثقافي» للمقروء.ومن ثم فان ادريس بلمليح لم يلج «قارة التراث» إلا من داخل فضاء الجامعة المغربية التي كان لها تأثيرها البالغ عليه مثل جل النقاد المغاربة سواء من مجايليه او غير مجايليه. وهو تغلب عليه صفة الباحث الاكاديمي على صفة المبدع الروائي الذي اسهم حتى الآن بثلاثة أعمال روائية هي: «المرأة والبحر» (1993) و؛القصبة» (1987) و؛خط الفزع» (1998). وعلى صعيد النقد الأدبي, الذي يهمنا هنا, فانه قد أسهم حتى الآن بأربع دراسات نقدية, هي: «الرؤية البيانية عند الجاحظ» (1984), «البنية الحكائية» في رواية «المعلم علي» (1985), «المختارات الشعرية وأجهزة تلقيها عند العرب» (1995), و؛القراءة التفاعلية» (2000). بالإضافة الى ترجمته الموفقة لكتاب «نقد الشعر عند العرب حتى القرن الخامس الهجري» لأمجد طرابلسي (1993) الذي ظل منذ العام 1945 ينتظر من يقوم بنقله الى اللغة العربية.
ومن الواضح ان يستوقفنا, في هذا البحث, كتاباه «الرؤية البيانية عند الجاحظ» و؛المختارات الشعرية وأجهزة تلقيها عند العرب» لصلتهما بـ«قراءة التراث». الا ان ما سنكتفي به هنا هو الدراسة الاولى المتعلقة بخطاب الجاحظ, لأنها في نظرنا, تعكس القراءة النسقية التي نسعى الى الوقوف عندها ودراستها. غير أن هذا لا يحول دون القول بأن دراسة «المختارات الشعرية وأجهزة تلقيها عند العرب» لا تخلو من أهمية علمية, بل انها اول دراسة من نوعها في الخطاب النقدي المغربي المعاصر وربما الخطاب النقدي العربي بالنظر الى عدتها المنهجية وزادها المعرفي الجلي. بالإضافة الى ان أغلب النقاد العرب لم يفارقوا - في نطاق قراءة التراث النقدي عند العرب- دائرة قراءة النصوص النقدية «النظرية» مثل «عيار الشعر» لابن طباطبا أو (نقد الشعر) لقدامة بن جعفر او «منهاج البلغاء وسراج الأدباء» لحازم القرطاجني, او النصوص «التطبيقية» مثل «الموازنة» للآمدي او «الوساطة» للقاضي الجرجاني.. أما كتب الاخبار والطبقات والمختارات فغالبا ما تم استبعادها عن دائرة القراءة واذا ما تم التعامل معها ففي الغالب من أجل الاستئناس بها في اثناء دراسة قضية نقدية معينة. أجل ان كتب الطبقات والاخبار والمختارات لا تعكس التصور النقدي بـ«الإحكام النظري» ذاته الذي نجده في الكتب السابقة (النظرية والتطبيقية), لكن مع ذلك فهي (أي «المختارات») تنطوي على تصور/ تصورات نقدية تستلزم قراءة منهجية استقصائية عميقة بدلا من تلك القراءة التأريخية التي لا ترقى الى مستوى هذا الاستقصاء. ومن هنا فان «حماسة» أبي تمام لا تخلو من «تصور نقدي مضمر» إن لم نقل من «تنظير نقدي» كما في شروح المرزوقي لـ«الحماسة»(1). ولا بأس من ان نستعيد هنا تلك العبارة المكرورة التي تذهب الى ان ابا تمام في «حماسته» أشعر منه في شعره. ان أهمية دراسة «المختارات الشعرية وأجهزة تلقيها عند العرب» تكمن - في اعتقادنا- في هذا المستوى رغم الطابع المنهجي الغالب داخلها.
وسنركز على دراسة «الرؤية البيانية عند الجاحظ» (1984) التي تعكس بحق أفق القراءة النسقية, هذا إذا ما لم نقل انها أول دراسة تراثية من نوعها في الخطاب النقدي بالغرب بسبب هذه القراءة التي سنحاول أن نتبين آلياتها والمفاهيم الداعمة لها. وهي بمفارقتها للمنهج التاريخي الوصفي تقع في ذلك المتصل الذي يصلها بدراسة سابقة هي «محمد مندور وتنظير النقد العربي» لمحمد برادة (1979) وبأخرى لاحقة هي «الخطاب النقدي عند طه حسين» لأحمد بوحسن (1985). وهي كلها دراسات تدخل في نطاق نقد النقد التراث بشقيه البعيد (الجاحظ) والقريب (طه حسين ومحمد مندور). ولقد أجمع الباحثون المهتمون بالخطاب النقدي المغربي المعاصر على ان هذه الدراسات الثلاث مثلت «نقلة نوعية» داخل هذا الخطاب: لأن السمة التي كانت غالبة داخله, هي الجمع والتحقيق وعدم وضوح المنهج. وقد تحققت هذه النقلة بسبب البنيوية التكوينية التي حاولت هذه الدراسات الثلاث الافادة منها, لكن بنوع من المرونة والتصرف والانتقائية.(2) لقد كان رائد هذه البنيوية لوسيان كولدمان (1913- 1970) وبحق, علامة على بدايات انطلاقة الخطاب النقدي المغربي المعاصر الذي كان حتى ذلك الوقت يكرس الهيمنة المشرقية داخل الخطاب النقدي العربي.
وقد تقدم القول بأننا سوف نعنى بالقراءة التي تنتظم «الرؤية البيانية عند الجاحظ», وصاحب الدراسة بدوره لا يخفي وسيط القراءة والعدة المنهجية التي توسل بها في دراسة خطاب الجاحظ انطلاقا من مفهوم «الرؤية البيانية». والقراءة أو «الوعي القرائي» (La cosciece Lisante) بتحديد هانس جورج غادامير(3) أحد اكبر المهتمين بالهيرمينوطيقا التي سنحاول ان نفيد منها, هي ما يميز دراسة ادريس بلمليح, بل ان هذه القراءة هي مصدر أهمية هذه الدراسة ومكانتها داخل الخطاب النقدي المغربي المعاصر. فحدث القراءة أصبح لازما في الخطاب النقدي, بل ان القراءة عوضت النقد بسبب استراتيجيتها التي تسعى الى الانصات الى النص وبالتالي انتاج وعي معرفي حول موضوعها وذلك بدلا من السعي الى الرغبة في السيطرة عليه على نحو ما كان يفعل النقد التقليدي. ونحن سوف ندرس هذه القراءة بالاستناد الى عدة هيرمينوطيقية تعتمد ثلاثة مستويات هي: أولا: الوحدة المنهجية, ثانيا: الموضوعية والنسبية, ثالثا: التاريخية. وهي كلها متوسطات للقراءة وقواعد ضابطة للتأويل الذي ينتظم هذه القراءة, وكما انها تسعف على دراسة الأساس المعرفي لهذه القراءة ومدى استجابتها لـ«النسق الثقافي» للجاحظ.
وفيما يتعلق بالوحدة المنهجية فانه يمكن فهمها انطلاقا من مستويين: مستوى أول يتصل بقابلية النص النقدي (النظري) للتأويل, ومستوى ثان يتصل بالنظر الى النقد باعتباره «وحدة سياقية صغرى» داخل «وحدة سياقية كبرى» هي وحدة التراث عامة كما سبق ذكر ذلك. وعلى المستوى الاول يتضمن النص النقدي بدوره ثنائية الظاهر والباطن, مثلما ينطوي على «الإيحاء النقدي» الذي يلجأ اليه النقاد أحيانا لدوافع سياسية ودينية واجتماعية متعددة. فالنص النظري (Theorique), وضمنه النص الفلسفي, مثلا, شاهد على تعددية التأويل. والمثال على ذلك «كوجيطو» ديكارت وما لقيه من تأويلات متعددة داخل الفكر الفلسفي الغربي امتدت الى الترجمات العربية نفسها على نحو ما يعرض لها طه عبدالرحمن في الشق الاخير من الجزء الاول «الفلسفة والترجمة» (1995) من مؤلفه «فقه الفلسفة». وفي ثقافتنا العربية نجد نصوصا كثيرة تثبت هذه التعددية مثل «نظرية النظم» عند عبدالقاهر الجرجاني و؛مقدمة» ابن خلدون و؛في الشعر الجاهلي» لطه حسين... الخ. لكن هاهنا تطرح تلك الفكرة التي مفادها ان التأويل في النص الفلسفي, او النظري عامة, اكثر انضباطا منه في النص الأدبي.(4)
وفي هذا المنظور فان خطاب الجاحظ قابل للتأويل, فهو اكثر التراثيين قابلية للتأويل, بل ان التأويل هو فنه او «ان فن التأويل هو فن الجاحظ».(5) وهذا ما يفسر لنا كثرة الدراسات التي عنيت بخطابه اعتمادا على وجهات نظر مختلفة ومناهج نقدية متباينة, وهو ما استشعره صاحب «الرؤية البيانية» أيضا مما جعله يقدم «عرضا نقديا» (بتعبيره) لهذه الدراسات بعد ان قسمها الى قسمين: دراسات تهتم بحياة الجاحظ وثقافته وعصره وتراثه مثل «الوسط البصري وتكوين الجاحظ» لشارل بيلات (بالفرنسية 1953, الترجمة العربية 1961) و؛الجاحظ حياته وآثاره» لطه الحاجري (1962). ويمكن ان نضيف الى هاتين الدراستين دراسات اخرى يستأنس ببعضها باحثنا مثل «الجاحظ» لخليل مردم (1930) و؛أدب الجاحظ» لحسن السندوبي (1931) و؛الجاحظ» لحنا الفاخوري (1953), «الجاحظ ومجتمع عصره» لجميل جبر «8591) و؛الجاحظ والحاضرة العباسية» للدكتورة وديعة طه النجم (1965) و؛الجاحظ في حياته وأدبه وفكره» لجميل جبر (1968) و؛أبوعثمان الجاحظ» لمحمد عبدالمنعم خفاجة (1973) ... الخ. ودراسات اهتمت بجانب خاص من فكر الجاحظ وأدبه مثل «النزعة الكلامية في اسلوب الجاحظ» للأب فيكتور شلحت اليسوعي (1964), و؛المناحي الفلسفية عند الجاحظ» لعلي بوملحم (1980) (وسوف نتحدث عنه فيما بعد) ومن قبلهما «النثر ودور الجاحظ فيه» لعبدالحكيم بلبع (1995)... الخ.
بالإضافة الى الدراسات التي اهتمت بالجاحظ ضمن منحى او مشكل نقدي ادلى فيه الباحث بدلوه مثل «مفاهيم الجمالية والنقد في أدب الجاحظ» لميشال عاصي (1974) و؛مصطلحات نقدية وبلاغية في كتاب البيان والتبيين» للشاهد البوشيخي (1982) ... الخ. دون ان نغفل الدراسات التي اهتمت بالجاحظ ضمن حيز تاريخي مثل «نقد الشعر عند العرب» لأمجد الطرابلسي (1945) و؛البلاغة العربية في دور نشأتها» لسيد نوفل (1948) و؛البلاغة تطور وتاريخ» لشوقي ضيف (1965) و؛في تاريخ البلاغة العربية» لعبدالعزيز عتيق (1970) و؛البيان العربي» لبدوي طبانة (1972)... وصولا الى «البلاغة العربية- أصولها وامتدادها» لمحمد العمري (1999).
الرؤية البيانية عند الجاحظ
من الجلي اذن ان خطاب الجاحظ حظي باهتمام كثير من الباحثين; وان امكانات «الاضافة الجديدة», كما يتصور ادريس بلمليح, في هذا المجال, ضيقة وعسيرة. وكما يلاحظ هذا الاخير اهمالا نسبيا لقضايا جوهرية تتعلق بالاهتمام الفكري متعدد الابعاد الذي عرف به الجاحظ, ثم ان اهمالا يكاد ان يكون مطلقا للربط بين فكرة البياني وفلسفة الاعتزال التي آمن بها وانعكست في مجمل آثاره. والدراسة الوحيدة التي تستوقفه هنا هي «المناحي الفلسفية عند الجاحظ» لعلي بوملحم (1980), وهي الدراسة التي ستظهر في طبعة ثانية عام 1994 وتحت العنوان نفسه بعد ان ضم اليها صاحبها جزءا آخر (ملحق لكتاب «رسائل الجاحظ الكلامية»). ويشدد باحثنا على هذه الدراسة ويعتبرها جديدة في موضوعها, اذ لم يسبق ان اهتم المعاصرون بالجاحظ فيلسوفا(6). والحق ان الدراسة ليست جديدة في موضوعها, وانما هي مستقلة فحسب; لأننا نجد اشارات كثيرة او فصولا بأكملها حول المناحي الفلسفية في اكثر من دراسة عنيت بخطاب الجاحظ. أجل لقد ركز صاحب الدراسة على المناحي الفلسفية في خطاب صاحب «الحيوان», وبالاعتماد على منظور فلسفي يحاول الاستناد الى منظور فلسفي حديث يجمع بين الاتجاه الفلسفي النقدي الذي ينصب على موضوع المعرفة ذاتها من حيث أسسها وطرق الوصول اليها والاتجاه الفلسفي القيمي الذي ينصب على الاحكام القيمية. ولقد عرض صاحب الدراسة للمناحي الفلسفية عند الجاحظ (المنحى الكلامي والاجتماعي والطبيعي والاخلاقي واللغوي), مثلما عرض لمنهجية تفكيره, الا ان الملاحظ على الدراسة, ورغم اهميتها, انها أبعد عن القراءة النسقية. ويعلق ادريس بلمليح هنا: «تناول (أي علي بوملحم) الجاحظ المتفلسف منفصلا عن اتجاهه الفكري العام الذي هو فلسفة المعتزلة. ومنه أيضا انه درس (المناحي الفلسفية) عنده دون ان يربط بينها, على اساس انها وحدات مستقلة لنسق فكري جاحظي ومعتزلي, بحكم العلاقات المتبادلة بينها, لا بحكم المنهج الذي يعكسه حديث أبي عثمان عنها على مستوى الفكر والتعبير».(7)
من الجلي إذن أن باحثنا سيركز على «الرؤية البيانية» عند الجاحظ, ومعنى ذلك انه سيركز على مشكل نقدي في خطابه, لكن بنوع من التصور الذي يسعى الى تلافي «النظرة التجزيئية» التي لا ترقى الى استقصاء النسق/ نسق الخطاب. وقبل ذلك, وحتى نبقى في نطاق المستوى الأول من «الوحدة المنهجية» ومدى قابلية النص الجاحظي للتأويل, فانه لا بأس من الحديث عن الصعوبة التي يستشعرها اغلب دارسي خطاب الجاحظ. ومن ثم فان الكثير من الدراسات التي عنيت بخطاب الجاحظ تكاد ان تجمع على عدم التنسيق والتبويب في كتابته وسرده و؛اختياراته العلمية». وتختلف الآراء حول هذا النسق, اذ هناك من يرى انه يؤدي بالقارئ الى الغموض والتشويش(, وهناك من رأى انه أساء اساءة كبيرة الى كتبه(9), بل وحد من قيمتها,(10) ويرد البعض هذا النمط التعبير الى العصر الذي عاش فيه الجاحظ, اذ كان هذا العصر يفتقد الى التعقيد والتعريف والتناول المنظم(11). وفي هذا الصدد يمكن أن نشير الى ما سماه أمجد الطرابلسي بـ«كتب الأدب» التي شهدها بداية القرن الثالث الهجري, و؛الأدب» هنا من حيث هو مجموع العلوم الدنيوية بعيدا عن اللاهوت والفلسفة والتشريع(12), والامثلة على ذلك الكتاب «البيان والتبيين» للجاحظ و؛عيون الأخبار» لابن قتيبة و؛الكامل» للمبرد(13). في حين رأى البعض في هذا «اللاتنسيق» «عجزا ذاتيا» كان نتيجة للمرض (الفالج النصفي) الذي ألم بالجاحظ في أواخر حياته (سنة 247 هجرية), يقول علي بوملحم هنا: «واذا كان الجاحظ لم يذكر سبب عجزه عن التبويب والتنضيد, فاننا نعرف ذلك السبب بالقياس على ما قاله في أماكن أخرى من كتاب البيان والتبيين وكتاب الحيوان. نجده في كتاب الحيوان يعتذر عن الاستطراد وعدم التدقيق والتبويب بالمرض الذي كان يعاني منه في اثناء تأليف الكتاب وهو مرض الفالج ومرض النقرس. واذا كان كتاب البيان والتبيين قد تم بعد الفراغ من كتاب الحيوان فمعنى ذلك ان المرض نفسه الذي أساء الى التبويب والتنسيق في الحيوان قد اساء الى التبويب والتنسيق في كتاب البيان والتبيين».(14)
وفي هذا الصدد يتصور شارل بيلات ان «التفكك» و؛التكرار» هما مصدر «روعة» كتب الجاحظ.(15)
واذا كان محمد عابد الجابري يتحدث عن «التصميم المنطقي المضمر» في كتاب «البيان والتبيين» فان كان العلامة أمجد الطرابلسي يرى ان في مجمل ابواب الكتاب مزجا اعتباطيا بين الشعر والنثر.(16) ثم ان مفكرا نابها في حجم عبدالله العروي ينبهنا- ولو في اشارة موجزة- الى ان الجاحظ كان يتلذذ بالنقاش, ولم يكن يهمه أن يصل الى نتائج.(17) وفي الوقت نفسه لم يسق الجاحظ الصور الفنية في تعريفات وتحديدات, فقد كان مشغولا بايراد النماذج البلاغية, وقلما عني بتوضيح دلالة المثال على القاعدة البلاغية التي يقررها.(18) فهو لا يثق بالتعريف دائما.(19) ويعود ذلك الى نظرته للحياة بشكل عام اذ لم يكن مولعا بتقسيمها, ولم يكن عبدا لمصطلحات او تناقضات, وكانت حركة الحياة عنده فوق النظر المنطقي والفلسفي.(20) الا ان القول بانه كان يتلذذ بالنقاش لم يجعله «سوفسطائيا», لأن ثمة منهجا في تفكيره كما يقرر ذلك أمين الخولي في كتابه «مناهج تجديد», بل ان منهج الجاحظ احدى علامات التجديد في العقل العربي.
وحاصل الكلام, مما تقدم, أن ادريس بلمليح من القائلين بـ«النسق» في خطاب الجاحظ رغم تبعثر أقواله وأحكامه, وهو ما عبر عنه- في نص التقديم- بمحاولة العثور على «منطق» داخلي لتراث الجاحظ يضمن الجهد البلاغي عنده.(21) ثم ان النتائج التي توصل اليها كفيلة بشرح ذلك.
اما الوجه الثاني للوحدة المنهجية فهو لا يقل أهمية عن الوجه الاول, ويتصل بالنظر الى التراث النقدي والبلاغي باعتباره «وحدة سياقية صغرى» داخل «وحدة سياقية كبرى» هي التراث عامة. والواقع ان عميد الأدب العربي كان قد أثبت هذه العلاقة منذ عشرينيات القرن العشرين عندما اشار الى الحاجة الى الفلسفة وفروعها لفهم المتنبي وأبي العلاء المعري, بل تطلب الامر علوم الدين كلها والنصرانية واليهودية ومذاهب الهند في الديانات لفهم شعر أبي العلاء المعري, ويضيف ان «همزية» أبي نواس لا تفهم دون الاطلاع على المعتزلة عامة والنظام خاصة(22).
مضامين القراءة لتراث الجاحظ
ويبقى إذن ان نسأل عن مضامين قراءته لتراث الجاحظ, مما يقودنا الى المستوى الثاني او المتوسط الثاني الذي عبرنا عنه بـ«الموضوعية» و»النسبية».
وفيما يتعلق بالموضوعية والنسبية فهما وجهان لصفة واحدة مؤداها ان القراءة طرف نقيض للاسقاط, لهذا ربطنا بينهما بهذا الشكل, ولتقريبهما اكثر نعرض لكل واحدة منهما على حدة, وبعد ذلك نقف عند أسس قراءة ادريس بلمليح وبعض الانتقادات التي يمكن أن توجه اليها. وتشير الموضوعية الى ان حدث القراءة يتضمن عناصر اساسية هي: القارئ والمقروء والانساق التي تصل ما بينهما, ثم ان حضور الموضوعية في القراءة رهين الحضور الفاعل لهذه العناصر في علاقاتها المتكاملة,(23) وإذا ما انتفى هذا التكامل فان القراءة تميل الى طرف دون آخر سواء كان القارئ او المقروء: وتمثل الحالة الاولى القراءة التاريخية التي تسعى الى التأريخ للتراث النقدي خاصة اذا كانت تفتقد للاستقصاء الدقيق للمعطيات التأريخية والمنهج المتكامل في المعالجة, فهذه القراءة تلغي «الوحدة الجزئية» القائمة بين الذات والموضوع أي تلك الوحدة التي تجعل من القارئ بعض المقروء في الحدث التاريخي للقراءة,(24) وهو ما يعبر عنه في الدراسات الهرمينوطيقية بـ«التذاوت» Intersubjectitive) أو «الرابطة الرمزية» (Noeud symbolique) التي لا تكف الهرمينوطيقا عن استجلائها.(25) وأما الطرف الثاني النقيض للقراءة التأريخية فهي القراءة التي تسعى الى - بتعبير جابر عصفور - اثبات «العصر» الخاص بالقارئ والالحاح بالتالي على دوره. وهي قراءة لا تخلو من اسقاط, هذا اذا ما لم نقل بأنها تعسف تأويل النص التراثي.
ويمكن حصر قراءة ادريس بلمليح ضمن القراءة الثانية, لكن من خارج دائرة الاسقاط, فقراءته لا تخلو من التأكيد على «عصر القارئ» لكن بنوع من «المرونة «التي تنأى عن تلك «العصرنة» (عصرنة التراث) التي تخل بنسق التراث. انه يستعين بدي سوسير وبنفينيست وتودوروف.. لكن دون ان يجعل من الجاحظ أحد هؤلاء, فهو يستعين بتصوراتهم وآرائهم لدراسة «الرؤية البيانية» عند الجاحظ ومحاولة الكشف بالتالي عن تصورات جديدة فيها. وفي هذا الصدد اهتدى باحثنا الى البنيوية التكوينية التي اقتنع بها لدراسة هذه الرؤية (من حيث هي «رؤية للعالم»), وعلم اللغة الحديث والسيميائيات المعاصرة لدراسة ما سماه «سمياء الجاحظ» داخل هذه الرؤية. فالخلاصة هنا هي ان الجاحظ صاحب رؤية بيانية للعالم قابلة لان تقارب بمعطيات اللسانيات والسيميائيات. ثم ان باحثنا يقول- في نص التقديم- ان ما يسعى اليه هو «العثور على المنطق الداخلي» الذي يضمن فهم الجهد البلاغي عند الجاحظ اكثر من سعيه الى تطبيق المنهج على خطابه.(26) ومن دون شك فان سؤال المنهج يطرح بالحاح خصوصا واننا نقصد هنا الى المنهج بمعناه الفلسفي العميق أي المنهج من حيث أسسه التصورية والفلسفية, وليس المنهج من حيث هو مجرد «طريقة ديداكتيكية» نرسمها بشكل مسبق لكي نصل الى نتائج جاهزة. فسؤال المنهج هنا جدير بابراز معالم «القراءة النسقية» وما يمكن ان يعتريها من قصور في حالة عدم مراعاة «تاريخية» المقروء متمثلا في تراث الجاحظ المشروط بـ«مجاله التداولي» المخصوص.
قلنا سابقا ان صاحب الدراسة يعتمد البنيوية التكوينية المدعمة بالانتقاء والتصرف, مما جعله يستعين بالسيمياء المعاصرة. فكانت الحصيلة- على مستوى تبويب الكتاب- قسمين لدراسة «الرؤية البيانية»: قسم يعتمد فيه البنيوية التكوينية, وقسم ثان يعتمد فيه السيمياء المعاصرة. ويتوزع القسم الاول الى ثلاثة فصول يدرس فيها «الرؤية للعالم» عند الجاحظ, وذلك اعتمادا على ثلاث خطوات هي:
أولا - تحديد عناصر هذه الرؤية وتوضيح تلاحمها, ويحصر هذه العناصر في: العالم, الحيوان, الانسان. وبعد ذلك يخلص الى ان العنصر الأساسي الذي يوحد هذه العناصر/ عناصر الرؤية فيجعلها منظومة ونسقا هو البيان (ضابط الرؤية). من هنا نكون - مع باحثنا - إزاء رؤية بيانية تتخذ طابع بنية فكرية, ويكون بالتالي جميع ما قاله الجاحظ عن البيان راجعا في أصله الى تصوره العام للعالم تصورا بيانيا.
ثانيا - وبعد تحديد الاجزاء المستقلة للبنية والعلاقات التي تجعل هذه الاجزاء كلا متناسقا ومنظما, تأتي مرحلة دمج هذه البنية في بنية أكثر شمولا واتساعا هي فلسفة المعتزلة باعتبار ان «الرؤية البيانية» للعالم هي احدى عناصر هذه الفلسفة.
ثالثا - دمج فلسفة هذه الفرقة في بنية اكثر اتساعا هي الفئة الاجتماعية التي أخذت بهذا الاتجاه الفكري. بكلام آخر: تفسير بنية الفكر الاعتزالي في ضوء الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي أنجبتها, فكانت خلاصته ان الفكر الاعتزالي كان عقيدة الطبقة المتوسطة في المدينة العربية القديمة. فهذه الفئة آمنت بالاعتزال مذهبا وعقيدة, وسعت الى نشره والدفاع عنه امام تيارات فكرية مخالفة ومعارضة.
من الجلي إذن أننا ازاء ثلاث بنيات, هي: «الرؤية البيانية» للعالم عند الجاحظ ومن حيث هي بنية متماسكة, وبنية الفكر الاعتزالي, وبنية العلاقات الاقتصادية والاجتماعية التي عاش الجاحظ وزملاؤه من أهل الاعتزال في شبكتها. وكما ان باحثنا يصل ما بين هذه البنيات الثلاث بواسطة البنيوية التكوينية, غير ان هذا لا ينفي ابداء بعض الملاحظات الناجمة عن توظيف هذه البنيوية. لكن قبل ذلك لابد من التوقف عند القسم الثاني الذي افاد فيه الباحث من السيمياء المعاصرة التي قادته الى ان التصور البياني للعالم عند الجاحظ كان يتضمن «نظرية لغوية» لا تقف عند حدود الانسان فحسب, بل تمتد الى الحيوان ثم الكون كذلك. ومن هذه الناحية فقد استطاع باحثنا, وبشهادة العالم الجليل أمجد الطرابلسي في نص التقديم, ان يستخلص من أقوال الجاحظ المبعثرة- هنا وهناك في كتبه ورسائله- نظاما اشاريا متكاملا أصيلا استطاع ان يقرأه في ضوء السييميائيات الدلالية والتواصلية المعاصرة.(27) فتوصل الى ان سيمياء الجاحظ جمعت بين محاولتين اثنتين لفهم منطق العالم الذي هو منطق اشاري: سيمياء دلالية تشكل النصبة او الحال وسيلتها التعبيرية الاساسية, وسيمياء تواصل تعد اللغة (البشرية) أهم ادواتها. لقد عد اللغة أهم وسيلة بين وسائل البيان الخمس, بل يصح اعتبارها أصلا لفروع هي: النصبة والعقد والاشارة والخط.(28)
إن الحديث عن ثابت الاعتزال في «الرؤية البيانية» عند الجاحظ- كما اختار ادريس بلمليح- لابد- في نظرنا- من أن يطرح صعوبات جمة, ومرد ذلك الى طبيعة الاسلوب الذي اعتمده الجاحظ في كتاباته, ثم كتبه الكثيرة التي بلغت 036 كتابا حسب ابن الجوزي(29) وقد ضاع أغلبها. غير ان هذا لا يحول دون الحديث عن اعتزاله. ولعل أول فكرة ينبغي التأكيد عليها في اثناء الحديث عن اعتزال الجاحظ هي كون أنه أديب في المقام الاول, أو بالأدق انه «سيد الكتاب بالعربية بلا منازع, وشيخ أدباء العرب بلا مرافع» كما يصفه حسن السندوبي.(30) ونحن نقول بهذه الفكرة لأن صورة الجاحظ المفكر غلبت على صورة الجاحظ الاديب في قراءة ادريس بلمليح, الا أن هذا لا ينفي البتة الحديث عن تأثير «الرؤية الاعتزالية» في هذا الأدب. إن أدب الجاحظ وفنه, ومما يقرب الاتفاق منه, كما يقول أمين الخولي, أغلب من علمه, وأبرز من تناوله العلمي, فيبقى بعد ذلك كلامه الذي هو بحثه الديني أو الطابع الفلسفي والنظر العقلي.(31) غير أن تأثير المنهج الكلامي في أدب الجاحظ غلب على اتجاهه الأدبي وصبغه.(32)
وربما, وقبل الحديث عن تأثير المنهج الكلامي هنا, توجب علينا النظر الى «الرؤية البيانية» في مستواها الابستمولوجي الصرف. مما يقودنا الى النظر الى هذه «الرؤية» في ضوء «نظرية العقل العربي», تلك الرؤية التي تعكس جانبا مهما من «تطور» هذا العقل ان لم نقل «نقلة ابستمولوجية» داخله بالنظر الى كتابات الجاحظ, ولا غرابة في أن يشبه بفولتير العرب مرة(33) وارسطو العرب مرة ثانية(34) وأن يوصف بالكاتب العربي الأكثر استحقاقا لماهية الانسية حتى وإن كان اطلاق هذه الماهية عليه ليس ضروريا لدعم مجده كما يقول شارل بيلات.(35) بالإضافة الى ان العصر الذي عاش فيه الجاحظ أطلق عليه «عصر الجاحظ», بل ان أديبا كبيرا ظهر في القرن الرابع للهجرة وهو ابوحيان التوحيدي لقب بـ«جاحظ القرن الرابع».... الخ. وحتى نعود الى موضوعنا فان «الرؤية البيانية» تقع في صلب «النظام المعرفي البياني» للعقل العربي. وهو الحقل المعرفي الذي بلورته وكرسته العلوم العربية الاسلامية الاستدلالية الخالصة التي يحصرها المفكر محمد عابد الجابري في النحو والفقه والكلام والبلاغة. إن صاحب «نقد العقل العربي» يقدم حقا خلاصات مدققة تفيدنا هنا في الكشف عن المستندات المعرفية «للرؤية البيانية» عند الجاحظ. ومن هذه الناحية فان أول خطأ كبير- في نظره- أن يعتقد الباحث ان الاهتمام بالبيان, بأساليبه وآلياته وأصنافه, كان من اختصاص علماء البلاغة وحدهم. فهؤلاء هم الذين جعلوا من «علم البيان» احد الاقسام الثلاثة التي ينقسم اليها علم البلاغة العربية (علم المعاني, علم البيان, علم البديع). فالبلاغيون- كما يواصل مفكرنا- الذين اتجهوا هذا الاتجاه كانوا آخر من ظهر على مسرح الدراسات البيانية, كما ان تصنيفهم ذلك لعلوم البلاغة لم يتقرر بصورة نهائية الا في مرحلة متأخرة وبكيفية خاصة مع السكاكي المتوفي سنة 626 هجرية.(36) فالبيان «اسم جامع» يفيد «الافهام» أو «التبليغ» أو «الفهم» والتلقي» وبكيفية عامة «التبيين».(37) ويقود التحليل الابستمولوجي مفكرنا إلى أن يقارن بين الجاحظ والشافعي, لينتهي الى أن الاول طور البحث البلاغي والثاني دشن البحث الاصولي, دون أن نغفل ان الجاحظ عاش بعد الشافعي مدة تزيد على خمسين سنة, والغاية مما تقدم أن يثبت مفكرنا تقسيما آخر رافق البلاغة0 في نظره- منذ قيامها بحيث انقسمت الى قسمين: قسم يعنى بـ«قوانين تفسير الخطاب», وقسم يهتم بـ«شروط انتاج الخطاب». ويتصور ان الاهتمام بالتفسير يعود الى زمن النبي (صلى الله عليه وسلم) والصحابة, فيما الاهتمام بوضع شروط لانتاج الخطاب البلاغي المبني لم يبدأ إلا مع ظهور الأحزاب السياسية والفرق الكلامية بعد حادثة «التحكيم» حينما اصبحت الخطابة والجدل «الكلامي» من وسائل نشر الدعوة وكسب الانصار وافحام الخصوم. ومن ثم فان الجاحظ كان يريد أن يقوم في مجال تحديد شروط انتاج الخطاب البياني بمثل ما قام به الشافعي في مجال وضع قوانين لتفسير ذات الخطاب, ولكن بطريقته الخاصة في الكتابة. وبعد ذلك يطرح فكرة في غاية من الاهمية تتصل بقضيتي «الفهم» و»الافهام» اذ لم يكن الجاحظ معنيا بقضية «الفهم», فهم كلام العرب وحسب, بل لقد كان مهتما أيضا, ولربما في الدرجة الاولى, بقضية «الافهام», افهام السامع واقناع وقمع المجادل وافحامه. إذن هو سيتجه باهتمامه غير اتجاه الشافعي الذي كان يهمه بالدرجة الاولى قصد «المتكلم» في القرآن والسنة. ان ما يشغله (أي الجاحظ) أساسا هو شروط انتاج الخطاب وليس قوانين تفسيره. ومن هذا المنطلق يتصور مفكرنا- كما لاحظنا سابقا- أن كتاب «البيان والتبيين» ينطوي على «تصميم منطقي مضمر» عرض من خلاله صاحبه «العملية البيانية» بمختلف مراحلها منطلقا من شروط «الارسال الجيد» الى متطلبات الحصول على «الاستجابة المرجوة», ويحصر هذه الشروط في: 1 - طلاقة اللسان. 2 - حسن اختيار الألفاظ. 3 - كشف المعنى. 4 - البلاغة (التوافق بين اللفظ والمعنى). 5 - سلطة البيان (تأثير الكلام على السامع).(38) ويمكن أن نشير هنا الى الملاحظة المركزة لعلي أومليل التي تقول إذا كان الجاحظ يمزج في محاولاته التنظيرية للبيان بين التحليل الفني والاحتجاج الديني فان مفهوم البيان عند الشافعي مفهوم ديني أصلا.(39) وقبل أن نفرغ من قراءة محمد عابد الجابري للفكر البياني عند الجاحظ فانه لا بأس من ايجاز الحديث عن قراءة تبدو قريبة من قراءة مفكرنا التي انتهت الى هيمنة «الافهام» في «تنظير» الجاحظ, ونقصد هنا الى قراءة محمد العمري المتضمنة في كتابه «البلاغة العربية» (1999). ويميز داخل البيان (بيان الجاحظ) بين «مستوى معرفي عام» يتمثل في «الفهم» (الوظيفة الفهمية) و؛مستوى اقناعي تداولي خاص» يتمثل في «الافهام» (الوظيفة الاقناعية). ويخلص الى ان المستوى الثاني «البلاغي» (كما ينعته) مستوى من مستويات المستوى الأول «اللغوي» و؛السيميائي». وحاصل الكلام ان قراءة محمد العمري تدرج الجاحظ ضمن النظرية البلاغية (بلاغة الخطاب), وتكشف عن غلبة للجاحظ المفكر وللفكر البلاغي, اضافة الى البعد «الكوني» الذي يلحقه باحثنا ببلاغة الجاحظ.(40)
لقد دافع الجاحظ عن الاعتزال بـ«كل اخلاص».(41) واعتنقه دفعة واحدة وحضر انتصاراته المؤقتة, وكان يشعر دوما دوره التحريري وحيويته في محاربة الالحاد الناشئ في قلب الاسلام من جهة والتأثيرات الفارسية من جهة أخرى, كما أصبح في أواخر حياته شاهدا بصيرا على انحطاط هذا المذهب.(42) وهو ما سنتطرق إليه لاحقا, ويهمنا الآن أن نشير الى أن الجاحظ رغم اعتناقه «الحزب المعتزلي» فانه لم يستفد من الوضع. لقد رشح لمنصب رئيس ديوان الكتاب, فقبله على مضض, ومكث في تلك الوظيفة ثلاثة أيام, ثم فر تاركا بيروقراطية الدولة للمتدربين عليها والمنفعلين بها.(43) ولو ثبت في الديوان كما تصور شارل بيلات لقدم خدمات جليلة, ولكنه لم يمكث فيه الا تلك الأيام المعدودة لعدم استطاعته الخضوع لنظمه وتقاليده.(44) لقد وضع الفكر والكتابة, أو «مهنة الأدب» كما يصفها علي أومليل في اثناء الحديث عن الموضوع نفسه.(45), قبل المنصب والوظيفة. بل انه كان يحتقر الوظيفة والموظفين, وقد بلغ به الأمر في هذا التحقير ان دخل يوما ديوان المكاتبات فرأى قوما قد صقلوا ثيابهم, وصففوا كمائمهم, ووشوا طرزهم, فقال: هؤلاء كما قال الله تعالى: «فأما الزبد فيذهب جفاء» ظواهر نظيفة وبواطن سخيفة.(47)
وفي موازاة ذلك خدم الجاحظ «القضية العباسية» بشكل يعكس صورة «المثقف النقدي». فذات المبدأ الذي حمل المعتزلة على ممارسة سائر الاديان, حملهم أيضا على مكافحة الفرق والأحزاب الاسلامية الأخرى. وكان الجاحظ الداعية الاول في هذا السبيل, لاسيما وان مصلحة العباسيين كانت تقضي بذلك. وبين هذه الفرق والشيع والاحزاب انتقد الجاحظ خصوصا الحشوية والرافضة والامويين والشعوبيين.(47) بل انه دافع عن الاعتزال حتى في تلك الفترات التي دخل فيها في لحظات الضعف والانكماش ليظل زهاء قرن ونصف القرن من الزمان تقريبا (100- 227 هجرية) مدرسة فكرية ذات سيادة عقلية في بلاد الاسلام, وذلك مع مجيء الخليفة المتوكل سنة 232 هجرية الذي سيعكس ما عبر عنه محمد عابد الجابري بـ«الانقلاب السني»(48), ذلك «الانقلاب» الذي سيترتب عنه الامعان في اضطهاد رجال المعتزلة وأفكارهم.
إلا ان الجاحظ استطاع في كل هذه الخدمة ان يحافظ على شخصيته المستقلة, لانه لم يخدم القضية العباسية وحدها بل خدم عقيدته المعتزلية أيضا. لقد «فلسف الاسلام واسلم الفلسفة». ورغم انه كان معتزليا يؤرخ للاعتزال ويوضح مفاهيمه, ويذود عنه, فانه لم يستطع أن يحبس نفسه ضمن اطار مبادئ الاعتزال, بل ينطلق منها, ويخرج عليها, ويأتي بآراء تميزه عن شيوخ المعتزلة حول مسائل النبوة والامانة والمعرفة والحرية.(49) لقد أخذ بمبادئ الاعتزال الخمسة (التوحيد, العدل, الوعد والوعيد المنزلة بين المنزلتين, الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر), لكنه افترق عن سائر المعتزلة بآراء خاصة انفرد بها مما جعله على رأس فرقة مميزة من فرق الاعتزال دعيت بـ«الجاحظية» نسبة الى اسمه. الا أن الجاحظ, ورغم كتاباته الكثيرة في شؤون الدين, ورغم توجيه نظراته الفلسفية توجيها دينيا, ما حظي مرة برضى الأئمة الذين لم يكونوا يثقون كثيرا بقوله ويخشون دوما ردات فعله وبعثه.(50) بل لقد رماه خصومه بالزندقة مع انه حارب الزندقة بلا هوادة, ولا نقع في جميع آثاره على كلمة تدل على شكه في الله او تعالم الدين.(51)
وبما أن «الرؤية البيانية» , كما يخوض فيها ادريس بلمليح, هي, في العمق, «رؤية للعالم» ضابطها «البيان»; فانه لا بأس من ان نلتفت الى ثابت ثان يتجاوب مع ثابت «الحس الديني» في هذه الرؤية. ويتعلق الأمر هنا بـ«مناهضة الشعوبية» التي حضرت بقوة في «رؤية» الجاحظ, الا ان باحثنا لا يوفيها حقها من الدراسة والتمحيص, وهي الفكرة التي نريد شرحها من بعض الجوانب. فـ«رؤية» الجاحظ لم تكن تخلو من «تحيز» في حقل الصراع الذي ولجه. فالقول بالاعجاز في النظم (نظم القرآن) كانت الغاية منه هي التأكيد على تميز القرآن عن كتب الحكمة الفارسية وأشباهها. فالجاحظ لم يلج حقل دراسة الاعجاز إلا بعد أن تقررت مصادره وتوزعت على الكتب المقدسة بوجه عام وتاريخ العرب والأساطير الشائعة, وما اتصل به من علوم الهند وفارس واليونان.(52) ويوازي الاعجاز على صعيد النقد ربط الجاحظ بين الشعر والعرف والشعر والغريزة. وفي هذا الصدد فان الدارس- كما يعلق احسان عباس- يأسف لأن الجاحظ لم يفرد للنقد كتابا خاصا أو رسائل, وانه اورد ما أورده من نظرات عرضا في تضاعيف كتبه كـ«الحيوان» و؛البيان والتبيين». ويستخلص احسان عباس أن تصور الجاحظ للشعر في الجماعات يعتمد على ثلاثة عناصر, هي: الغريزة (أي الطبع العام المواتي للشعر) والبلد (أي البيئة) والعرق (أي الصلة الدموية).(53) وفي جميع الاحوال فانه لم يكن خارج دائرة الدفاع عن الموروث العربي ضد الشعوبية. ويمكن التركيز هنا على موقفه من المثقفين في عصره حين أخذ عليهم قلة انصرافهم الى الفكر رغم تهيؤ الجو الملائم لازدهاره, كما أخذ عليهم انصرافهم الى شؤون اللغة فحشوا أدمغتهم قواعد وجوازات صرفية ونحوية حتى لم يعد مجال للعناية بالقضايا المفيدة... إلا أنه أغضى على الانصراف الى جمع الشعر القديم لأن ضرورة الرد على الشعوبية اقتضت هذا العمل, ولم يتوان هو نفسه عن القيام بهذه المهمة في كتابه «البيان والتبيين».(54) فهذه هي الميزة الاولى التي خص بها العرب وهي ميزة الفصاحة, اما الميزة الثانية فهي ميزة الكرم. وربما انه بالأضداد تتمايز الأشياء, أو أن «حقارة البخلاء», في كتابه «البخلاء» الذي ألفه في آخر عمره ويعد احد اهم الكتب في الثقافة العربية الكلاسيكية. وأكثر البخلاء هم من غير العرب, والغاية من ذلك هي أن يعظم من شأن هؤلاء عن طريق المقارنة بينهما. أجل هناك من رأي أن الجاحظ, في «البخلاء», سخر من نفسه ومن أصحابه ومن الناس جميعا. إلا أن ما يهمنا هنا, ضمن «رؤيته», حملته على الشعوبية التي جعلته يمتدح جود العرب ويظهر بخل الموالي. ان الجاحظ لا يصور بخلاءه في المطلق, بل ان أوضاع معينة تكشف عن بواطنهم.(55) ومن هنا فان كتاب «البخلاء», وعلاوة على كون انه يمثل نوعا جديدا في الأدب العربي, لا يمكن أن ينحصر في تصوير أخلاق الناس والمجتمع الاسلامي في حياته العادية فحسب, وكما ان عالم البخلاء لا يتصل بمجرد «فلسفة اجتماعية» للجاحظ مفادها أن الواقع الاجتماعي عنصر هام في التطور الانساني.(56) إن الجاحظ- هنا- ينصب نفسه- كما يقول شارل بيلات وهو صاحب الملاحظة السابقة- للدفاع عن العرب واجدا فيهم فضيلتين اساسيتين, هما: الفصاحة التي أطراها في كتاب «البيان والتبيين», والكرم الذي أطراه في كتاب «البخلاء» (57).
نخلص الآن الى تأصيل الكتابة عند الجاحظ التي كان يوازيها تأصيل القراءة, من هنا كان «بيانه الجديد» كما ينعته مصطفى ناصف في كتابه «محاورات مع النثر العربي». ومن هنا كان الخروج من ثقافة الشعر الى ثقافة الكتابة كذلك, وهو خروج من دائرة التعظيم الى دائرة الملاحظة.(58) والبيان الجديد يقرأ أكثر مما يسمع, يبحث عن الصداقة لا عن التعليم الخشن.(9595) وصداقة القارئ لم تكن واضحة في البيان المأثور الذي لا قارئ فيه, وانما السامع أولى بالرعاية من القارئ.(60) لقد أراد ان يهذب البيان فلا يصوت ولا يصيح ولا يصرخ ولا يزأر.(61) تلك إذن هي «ثقافة الكتابة الحديثة» التي سعى اليها الجاحظ, وكانت مهمة هذه الكتابة هي تصوير نشاط المدينة المضطر المائج الجذاب, هذا العالم المتغير.(62) مثلما كانت هذه الكتابة تستند الى السرد الذي أتقنه الجاحظ وأحبه وحماه من المزالق وأبعده عن اللهث وراء الرنين والكلمة والاقناع والاستحواذ. كان من الممكن ان يعنى صاحب «الرؤية البيانية عند الجاحظ» بهذا القارئ الذي اعتنى به الجاحظ وكان يفكر فيه اثناء الكتابة, لكن شيئا من هذا لم يتحقق. ويمكن ان نرد ذلك الى المنظور اللساني والسيميائي الذي استند اليه باحثنا في تدبر دلالات الجهد البلاغي عند الجاحظ, اضافة الى تغليب الجانب الفكري للجاحظ ضمن «رؤيته البيانية». اجل ان السيميائيات أولت بدورها أهمية للقارئ, لكن من اجل وضع نظرية للنص وليس للقارئ. ومعنى ذلك ان القارئ ونشاطه خاضعان للنص, ولا يمثلان من ثم إلا مرحلة لتحيين الامكانات المنكتبة التي يتم استجلاؤها بواسطة التحليل, وهو ما يعبر عنه بـ«شعريات القراءة».(63)
حتى الآن تكون قد اتضحت لنا أبعاد الموضوعية في قراءة ادريس بلمليح لتراث الجاحظ, وقد سعينا الى ان نضيف إليها بعض الآراء والأفكار من اجل اثرائها. وهي الموضوعية التي تحققت انطلاقا من التركيز على مصطلح «الرؤية البيانية» داخل هذا التراث الغني وبالاستناد الى عدة منهجية واضحة ومعلنة تتمثل في بعض مفاهيم البنيوية التكوينية والسيميائيات المعاصرة. وقد يتساءل القارئ لهذه الدراسة حول الجدوى من الجمع بين هذين الفرعين المعرفيين المتباعدين ومدى اهمية الجمع بينهما على مستوى دراسة خطاب الجاحظ. وفي هذا الصدد لا يرى البعض أي نوع من التنافر بين هذين الفرعين, إذ يمثل القسم الاول الاطار النظري العام فيما يقوم القسم الثاني مقام التطبيق العملي الذي يزكي المقولات النظرية الواردة في القسم الأول.(64) وكأن الأمر يتعلق بنوع من الانتقال من العام الى الخاص. يظهر أن ثمة تباعدا بين هذين الفرعين المعرفيين, ثم ان ما فرضه هو «الاختيار المنهجي» لصاحب الدراسة. لقد استشعر اكثر من مرة مدى صعوبة تطبيق مفاهيم البنيوية التكوينية في دراسته, ولذلك تعامل معها بنوع من «المرونة» جعلته يستعين بالسيميائيات لـ«تسييج» (إذا جازت هذه العبارة) «المستوى اللغوي» ضمن رؤية الجاحظ للعالم.
ومن هذه الناحية يبدو ادريس بلمليح موفقا باختياره للجاحظ لأنه أحد الاعلام البارزة في تراثنا او ثقافتنا العربية الكلاسيكية, تلك الأعلام التي تسعف على الحديث عن رؤية معينة على غرار ابن حزم وابن رشد وابن خلدون ... الخ, غير أن المأخذ الذي اتضح لنا, على قراءته «للرؤية البيانية», هي انه لم يركز على «اضافة» الجاحظ وجدته داخل دائرة انتمائه الاعتزالي, وهو ما حاولنا ان نقوم بجانب منه, ويمكن ان نرد ذلك الى طبيعة اختيار الباحث المنهجي اذ يقول في هذا الصدد: «لاشك ان محاولة رد حركة فكرية ذات اتجاهات متعددة, ومبادئ متنوعة, الى فرد من الأفراد, تبدو محاولة تعسفية الى حد كبير, لأن تاريخ الفكر الانساني يعلمنا أن الحركة الفلسفية او الثقافية او الادبية, انما منشؤوها فئة اجتماعية, للفرد مكانته بينها, لكنها تبقى بالرغم من ذلك جماعة, تؤمن بهذا الاتجاه او ذاك في مرحلة زمنية معينة, فيؤسسه بعض افرادها, ويطوره أو يغنيه او يدافع عنه افراد آخرون عبر الزمن».(65) وعلى هذا الهامش فانه من بين الانتقادات التي وجهت الى البنيوية التكوينية عدم تركيزها على الجهود الفردية, وفي مقابل ذلك التركيز على ما يبدو جوانب موضوعية في تحليل الظواهر الادبية والفكرية, فهي تلغي او تكاد تتجاهل الجهود الفردية ودور الصالة والعبقرية الذاتية في صياغة رؤية الفنان أو المفكر او العالم.(66) وهذا ما جعل عبدالله راجع- مثلا- يستعين بعلم النفس كما طبقه شارل موران والبحوث الاسلوبية على الرغم من تبنيه البنيوية التكوينية اطارا عاما لتحليل «بنية الشهادة والاستشهاد» في الشعر المغربي المعاصر خلال فترة السبعينيات. في الواقع لا يمكن تجاهل جانب الفرد او العبقرية عند الجاحظ في صياغة رؤيته للعالم. ان شارل بيلات مثلا- بدوره يؤكد- في كتابه السابق- على «الذكاء الحاد الفريد من نوعه عند الجاحظ وميله الوراثي للتفكير العقلي» مع انه سعى الى تحليل وتأكيد تأثير البصرة في فكر الجاحظ, وان عقل الجاحظ صيغ «لا شعوريا» (والتعبير له) انطلاقا من هذا التأثير.(67) وهو الذكاء الذي اعتنى به طه الحاجري حين تصور ان حياة الجاحظ سارت على ما يرام حين توارى القبيح خلف الذكي. ولا نود هنا ان نستعيد النقاش الطويل حول خلقة الجاحظ ومدى تأثيرها في ابداعه وسخريته.
إجمالا ان المنهج هو الغالب في قراءة إدريس بلمليح, وهذه الغلبة للمنهج والمصطلحات تميز باقي أعماله النقدية, وتدخل في اطار ما يسميه بـ«البحث العلمي».(68) من هنا كان حرصه على تقديم المنهج وتحديد مصطلحاته والتدقيق فيها. وفي ضوء هذه الغلبة يمكن ان نسأل حول الموضوعية القائمة على العلاقة المخصوصة التي تصل ما بين القارئ والمقروء دون اسقاط أي طرف على آخر: القارئ على المقروء او العكس. وتبقى هذه القراءة- وهي تتقوم على تلك العلاقة- بعيدة عن «الحياد الموهوم» او «الانفصال بين الذات والموضوع», لكن شريطة ان يوازي فيها الحضور النصي للمقروء الحضور المتناص للقارئ(69), لأن التراث لا يقرا نفسه بنفسه او بأدواته المعرفية كما حاولنا تأكيد ذلك منذ مقدمة البحث. ونستنتج ان عدم حياد القراءة لا يتنافى وقيام قراءة موضوعية, ومن ثم فقراءة صاحب «الرؤية البيانية عند الجاحظ» تخلو من «الموقف الشخصي» على نحو ما جاء في دراسة «ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب» لمحمد بنيس (1979) التي حاول فيها تطبيق البنيوية التكوينية او من «الأدلجة» على نحو ما حصل في دراسة «محمد مندور وتنظيم النقد العربي» لمحمد برادة (1979) التي حاول فيها الافادة من البنيوية التكوينية.
ونرد هذه الموضوعية لقراءة ادريس بلمليح الى «المنهجية» التي حاول من خلالها تطبيق «الابتعاد» عن القراءة الكلاسيكية التي ظلت مهيمنة منذ ثلاثينيات القرن العشرين, غير ان هذا - وحرصا منا على فهم اوسع للموضوعية ذاتها- لا ينفي امكانية تأكيد تثمين قراءات من هذا النوع الثاني لتراث الجاحظ على نحو ما فعل طه الحاجري (1963) وشارل بيلات (1953) وسواهما. وغاية القول هنا ان الموضوعية- ورغم انها تناقض الاسقاط- تبقى قرينة «النسبية». وهذا ما تطرحه الهرمينوطيقا ذاتها اذ اننا نظل مدعوين- كما قلنا مع بول ريكور- الى البحث عن الادلة الاكثر قوة لتغيير التأويل. والتأويل هنا بمعناه الفلسفي الأعمق, أي التأويل المتحقق من داخل النص ذاته الذي هو فضاء لمتغيرات تنطوي بدورها على التزامات تنفي امكانية الحديث عن تأويل واحد ووحيد للنص وتأويل غير متناه في ذات الوقت. فالتراث هنا لا يستنفد, وهو أشبه ما يكون بالبحر الذي لا تكف أمواجه عن التدفق.
وفي اطار الحديث عن الدراسات الجاحظية بالمغرب فانه لا يمكن أن نتغافل عن عبدالفتاح كيليطو الذي خصص حيزا مهما من قراءته للنص الجاحظي «الحيوان», لكن قبل ذلك يحسن بنا ان نتوقف عند قراءة أخرى جاءت في كتاب «بلاغة النادرة» لمحمد مشبال (1998) وقد كرسها صاحبها لدراسة الحكي عند الجاحظ أو «الاديب البارع» كما ينعته. ولا تخلو هذه القراءة من اهمية جلية طالما انها حاولت «الانصات» الى نصوص الجاحظ, مثلما حاولت الاستناد الى خلفية ترمي- على حد تعبير صاحبها- الى «الوعي بخصوصية التفكير الجمالي الأدبي العربي الموروث»(70) ويتوسل صاحب «بلاغة النادرة» بـ«أدوات تحليلية» نجد في طليعتها «الصورة» و؛السمة». وهما مفهومان بارزان في كتاب باحثنا السابق «مقولات بلاغية» (1994). وفي هذا المنظور يبحث في «بلاغة النادرة» في خطاب الجاحظ متعدد الأبعاد والأنواع, ويتصور ان النادرة هي الاطار الموحد او التسمية الأكثر شيوعا والقوى تمثيلا لهوية حكايات الجاحظ بتنويعاتها وتسمياتها التي اطلقها الجاحظ نفسه على حكيه.(71) ولا تنصرف البلاغة هنا الى معناها الكلاسيكي الجزئي, وفي ضوء الكتاب يستخلص انها تفيد فناء السرد (بدلا من هيكل الشعر) والعري (بدلا من البديع) والفكاهة والسخرية والملاحظة. وعلى ذكر الملاحظة فان الملاحظة التي قد تفرض نفسها هنا هي ان الجاحظ لم