منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    الاتجاه الاجتماعي في القصة المغلربية

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    الاتجاه الاجتماعي في القصة المغلربية Empty الاتجاه الاجتماعي في القصة المغلربية

    مُساهمة   الخميس ديسمبر 17, 2009 5:20 am

    فريد أمعضشو
    “الاتجاهُ الاجتماعي” في القصة القصيرة المَغاربية الحديثة و المعاصرة
    إمدادات هذا الكاتب فريد أمعضشو 14 ديسمبر 2009

    “القصة القصيرة جنس إبداعي صعب جدا، جميل جدا، ممتع جدا”

    (إدريس الصغير)

    “أنا أخشى من المدارس خشيتي من الكوليرا”

    (شنفلوري)

    “الأدب مرآة صادقة للمجتمع”

    (طه حسين)

    1- كلمة البدء:

    إن القصة القصيرة – بمعناها الفني – جنس أدبي نثري حديث النشأة؛ ظهر أول الأمر في الغرب، و تَقَوّى على أيدي قصّاصيه البارزين، قبل أن يعرف طريقه إلى البِيئات الثقافية الأخرى. و من يتصفح النقود التي سايرت الحركة القصصية، يجد – بما لا يدع مجالا للشك – أن ثمة محاولات كثيرة اتجهت إلى تحديد ماهية القصة القصيرة، و ضبط مصطلحها، و تعقُّب تطورها و تلويناتها عبر مسيرتها التاريخية.

    يؤكد غير واحد من الدارسين أن القصة القصيرة فن زئبقي يتأبّى الانضباط لناموس محدد، و يرفض التقيد بإطار ستاتيكي معين. يقول – مثلا – المديني: “إن القصة القصيرة كانت دائما، و لا تزال، خارج أي تأطير متعسف و بعيدة عن أن تُبْتَسَر، كفن، في منظومة فكرية جاهزة”[1] . و مَرَدُّ ذلك إلى أنها “عالم ثري، رحب، شديد الاتساع، لأنه عالم الإنسان”[2] من وجهة، و من وجهة أخرى فهي “شكل غير مكتمل أو جزئي”[3] يوجد في طور التشكل و النضج باستمرار. و من هنا، ارتأى بعضهم أن التمادي في البحث عن حقيقة القصة القصيرة لن يقود إلا إلى متاهات التنظير التي ليس وراءها كبير طائل، و أكد أن المهم هو أن ننصت إلى ما تقوله هذه القصة.[4] و هناك إشكال آخر نال شيئا من اهتمام نقاد القصة؛ و هو إشكال المصطلح المُسْتَعمل للتعبير عن مسمَّى القصة القصيرة، بحيث يستعمل الباحثون و القاصّون مصطلحات عدة في هذا المجال[5]. و ذلك يُعزى في – المحلّ الأول – إلى قضية الترجمة من حقل ثقافي غربي إلى حقلنا الثقافي. و يبدو أن اصطلاح “القصة القصيرة” هو أكثرها سَيْرورة و دورانا في الكتابات النقدية القصصية.

    إن القصة القصيرة – رغم كثافة مضمونها و قصر حجمها – قادرة على استيعاب الأسئلة الكبرى المطروحة في اللحظة الحضارية الآنية[6]. كما أنها تمثل الشكل الفني الأنسب و الأصلح للتعبير عن روح هذه اللحظة المتسمة بتسارع إيقاعها الحياتي، و بتوالي أزماتها و توتراتها، و بتشظّي كيانها و تعقُّده. يقول موباسان Mauppassant (1893 – 1850) إن “في حياتنا لحظة عابرة، قصيرة و منفصلة، لا يصلح لها أدبيا سوى القصة القصيرة”[7]. و يقول محمد عزام: “إذا كانت الرواية … نتيجة لظروف موضوعية تمثلت في الوقت الفائض اللازم لقراءتها و كتابتها، فإن الحياة المعاصرة أصبحت أكثر تعقيدا، و تسارع إيقاعهابيشكل مذهل . الأمر الذي دفع إلى البحث عن فن موجز و سريع، له كثافة الشعر و تركيزه. فكانت القصة ثم القصة القصيرة و القصة القصيرة جدا، كتقنيات أدبية مستحدثة تأخذ بعين الاعتبار وقت القارئ و المبدع، وتعبر عن أزمة الفرد في عصر السرعة و الاختزال، من خلال ومضات هي إلى البرقيات المُوحِية أقرب”[8].

    إذا كان الدارسون يجمعون – أو يكادون- على أن الرواية هي الجنس الأدبي الأكثر انتشارا و مقروئية في الغرب، و أن القصة القصيرة هناك سائرة في تراجع مستمر لصالح الرواية، فإننا قد لا نبالغ إذا قلنا إن كفة القصة القصيرة في المشهد الثقافي العربي المعاصر راجحة على الرواية و القصيدة و غيرهما من صنوف الإبداع، و ذلك لاعتبارات عدة[9] . يقول الحبيب الدائم ربي: “صحيح أن القصة القصيرة خبا بريقها في أوربا و أمريكا لصالح الرواية، إن لم نقل لصالح السيرة الذاتية و البيوغرافيا. إلا أن القصة القصيرة في العالم العربي ما تزال تقف نِدًّا قويا في وجه الرواية. و ربما تحظى عليها ببعض الامتياز؛ إذ أن حجمها يساعدها، بخلاف الرواية، على الذيوع و الانتشار في ظل أزمة النشر و القراءة” [10]. و يقول خالد عبد اللطيف رمضان:” رغم أن القصة القصيرة قد استفادت من تقنيات الشعر و لغته الإيحائية، إلا أنها جارت على القصيدة الشعرية، و سرقت جمهورها”[11] … و يُعزى ذلك – بالأساس – إلى خصوصياتها الذاتية، و إلى كونها أكثر مطابقة لواقعنا المتوتر و المتشظّي الذي يفتقد إلى وعي جماعي. [12]

    و يؤكد الباحثون أن القصة القصيرة المغاربية متأخرة النشأة، و أنها عرفت منذ ظهورها إلى الآن تراكما كميا مهما، و تحولات جوهرية مست الجانبين الجمالي و الفكري معا. بل إن بعضهم يتحدث عن طغيان هذه القصة و تفوقها على سائر أشكال التعبير في الأدب المغاربي المعاصر. يقول عبد الحميد عقار: “إن أهم ما يثير الانتباه في الثقافة المغاربية راهنا، هو هذا التغير في الحساسية الأدبية لدى المبدع و المتلقي على السواء، حيث أصبحت أشكال التعبير القصصي و الروائي ذات حضور أقوى مما كانت عليه، بعدما ظل الشعر و النقد المرتبط به طَوال عصور، يكاد يحتل وحده هذا الموقع” [13].

    و بالرغم من كل ما حققته القصة القصيرة المغاربية (و العربية عامة) من تراكم كَمّي، و تطور كيفي، و انتشار واسع بين جماهير القراء، فإن بعض النقاد يذهبون إلى أن هذه القصة لا تبرح في بواكيرها، و أنها لم تصل بَعْدُ إلى المستوى المنشود على كافة الصُّعُد. فهذا عبد الرحيم مودن – مثلا – يتساءل في مقال له : “ما وضع القصة في العالم العربي الآن؟”، فيجيب بأنها تعيش “في وضع لا تحسد عليه سواء على مستوى التلقي – قراء و نقادا – أو على مستوى تحفُّظ دور النشر- بالقياس إلى الرواية أو البحث الأدبي مثلا – أو على مستوى – و هذا مؤشر خطير – الدرس الأكاديمي”[14].

    2- القصة القصيرة المغاربية و سؤال الاتجاهات:[15]

    إذا حاولنا عقد مقارنة بين التراكم الذي حققته القصة القصيرة في الأدب المغاربي على امتداد حوالي نصف قرن من الزمن و بين النشاط النقدي الذي واكبها، فإننا واجدون – بالتأكيد – أن ثمة حيفا نقديا طال هذه القصة. إذ إنها لم تنل حظها الوافي من النقد المغاربي الذي ظل لعقود طويلة منصرفا إلى القصيدة. فكل ما هنالك مقالات صِحافية قليلة، و أبحاث أكاديمية معدودة، و دراسات نقدية محدودة. و قد ران على هذه الكتابات الهم التأريخي؛ إِذِ انْصب جلها على بحث أوليات القصة المغاربية و جذورها، و رصد تطورها و امتداداتها، و الوقوف عند بعض القُصَّاص و نموذجات من إبداعهم القصصي الذي ارتبط منذ نشوئه بالواقع و الإنسان معا.

    إن من يتصفح ما هو متاح من النقد القصصي الذي اتخذ القصة القصيرة المغاربية موضوعا له، يجد أن ثمة حديثا – صريحا أو ضمنيا – عن اتجاهات/ مدارس تنتظم في إطارها نصوص هذه القصة. و “الاتجاه القصصي” معناه – في نظرنا – وجود طائفة من القصاصين الذين يشتركون في معالجة قضايا ثيمية موحدة، و الذين يلتزمون – في معالجتهم تلك – جملة من الضوابط الفنية و الجمالية.

    ليست هناك – في حدود اطّلاعنا – دراسة جامعة شاملة تعرضت إلى تناول القصة القصيرة في الأدب المغاربي الحديث و المعاصر. بل إننا نُلْفي دراساتٍ و أبحاثاً تعالج الاتجاهات القصصية في أدب كل بلد مغاربي على حدة، و في أحايين كثيرة نجد الكاتب يفرد لهذه الاتجاهات بعض الحيز من دراسته فقط. و لعل ذلك مرده إلى تحفظ و عدم تجرؤ كثير من النقاد على الحديث الصُّراح عن هذه الاتجاهات في الأدب المغاربي الذي ما يزال حديثا بالقياس إلى الأدب المشرقي أو الغربي.

    إن مواقف الباحثين من قضية الاتجاهات في القصة المغاربية تَنُوس بين ثلاثة آراء. فأما الرأي الأول – و هو الغالب – فيؤكد صراحة وجود اتجاهات/ مدارس في القصة المغاربية المعاصرة، و أما الرأي الثاني فيتحدث عنها و لكن بتحفظ و تجوُّز، على حين ينفي أصحاب الرأي الثالث هذه الاتجاهات لاعتبارات عدة. و لبيان هذه المواقف لا بأس من أن نقف عند بعض الآراء؛ و هي آراء تخص – كما أسلفنا الإشارة – القصة في الآداب المغاربية كل منها على حدة.

    لقد عمد اليبوري في عمله الرائد ” فن القصة في المغرب : 1914 – 1966″ [16]- الباب الأول خاصةً – إلى تنضيد القصة القصيرة المغربية، و تصنيفها إلى خمسة اتجاهات/ أشكال قصصية؛ و هي : القصة القصيرة التاريخية (الفصل 3)، و القصة القصيرة المجتمعية (الفصل 4)، و الأقصوصة الاستِلابية (الفصل 5)، و الأقصوصة السياسية (الفصل 6)، و الأقصوصة التأملية (الفصل 7). و حاول المديني في رسالته لنيل د.د.ع. أن يدافع عن قضية الاتجاهات في القصة المغربية المعاصرة، حيث يقول في مقدمتها: ” و قد رأيتُ أن المادة القصصية ،لفترة الستينات، و عند القصاصين الذين انتظموا في كتابتها، قد سلكت مسالك فنية و مضمونية متعددة، أو أنها قابلة للخضوع للتعدد، ففرزتها فيما لمستُ أنها تمثله من اتجاهات تمثل وحدة في الشكل و المضمون؛ أي تقوم على أساسٍ من تجانس العناصر و الأدوات الفنية المستخدمة، و كذا من تماثل في الرؤية المطروقة. و هكذا، فإنني أعتقد أن إعطاء صفةِ أو تسميةِ الاتجاه ليست إسقاطا أو وضْعاً مسبقاً، و لكنها تعني الوحدة، أو على الأقل، التقارب في الرؤية الفنية و الفكرية” [17]. و قد حصر الرجل هذه الاتجاهات في ثلاثة، و هي:

    - الاتجاه القصصي الاجتماعي (الفصل 2 من الباب 4)

    - الاتجاه الواقعي النقدي (الفصل 3 من الباب 4)

    - الاتجاه الواقعي الجديد (الفصلان 4 و 5 من الباب 4)

    و صنف عبد الرحيم مودن في رسالته حول الشكل القصصي في القصة المغربية القصيرة هذه القصة إلى أربعة أشكال/ اتجاهات، و هي:

    – القصة التاريخية.

    – القصة البوليسية.

    – القصة السّيريّة.

    – القصة الوقائعية و الواقعية.[18]

    و لم يتردد إبراهيم خليل في الإقرار بوجود اتجاهات متعددة في القصة القصيرة المغربية المعاصرة، رابطا هذا التعدد بتعدد البيئة المغربية و تنوعها. يقول: “و الواقع أن المتتبع للنَّتاج القصصي المغربي، في واقعه الراهن، يلاحظ تنوعا كبيرا في اتجاهاته، و اختلافا بيّناً بين مذاهبه، و تياراته. و كأن هذا النتاج، يعكس في حقيقة الأمر، تنوع البيئة المغربية، في أقاليمها المترامية. فمن بيئة جبلية إلى أخرى سهلية، و ثالثة شاطئية، و أخرى صحراوية … و لكل بيئة منها عاداتها، و قيمها الفنية المتوارثة، مع ما يجمع هذه البيئات من سمات مشتركة، أصيلة، أسهم التاريخ في صنعها، و سبكها، عبر أجيال و قرون [19]“.

    و قد أثرت مثل هذه الآراء في كثير من الدارسين المعاصرين، سواء المغاربة أم المشارقة الذين كتبوا عن القصة المغربية. و منهم على سبيل التمثيل المصري سيد حامد النساج الذي أطَّر القصة القصيرة المغربية في اتجاهات ثلاثة رئيسةٍ.[20]

    و نجد عددا من النقاد التونسيين يصرون على تقسيم القصة التونسية الحديثة و المعاصرة إلى اتجاهات أو تيارات. و منهم محمد فريد غازي في كتابه “الرواية و القصة في تونس من سنة 1930 إلى 1960″ ، و محمد الهادي العامري الذي عدد مجموعة من النزعات في القصة التونسية- و خاصة تلك التي تقوم على بناء كلاسيكي – (كالنزعة الواقعية الاجتماعية، و النزعة الواقعية النقدية، و النزعة الرمزية، و غيرها)[21]، و توفيق بكار[22]، و آخرون. و هناك نقاد في الجزائر آمنوا بوجود اتجاهات في القصة القصيرة الجزائرية، و منهم الدكتور عبد الله خليفة الركيبي[23].

    ويذهب أصحاب الرأي الثاني إلى أن من الصعوبة بمكان الإقرار بوجود ” تيارات” في القصة المغاربية، بمعناها الفني الذي عرفت به لدى الغربيين. و حتى عندما يتحدثون عنها، فإنما يفعلون ذلك بشيء غير قليل من التحوُّط و التجوز. فهذا محمد صالح الجابري يصرح بأن تصنيف القِصص التونسية الحديثة في اتجاهات ينطوي على كثير من التعسف، و لكنه يركب ذلك التصنيف لضرورة منهاجية ليس إلا. يقول: “و من اللازم أن أذكر أن تأطير هذه القصص في اتجاهات هو من المسائل الاجتهادية التي تنطوي في بعض حالاتها على جانب من التعسف، كما لا تخلو من المزالق. لكنما ذلك – كما بدا لي – هو الطريقة المثلى لصوغ هذا الشتات المتناثر و الذي لا يمكن دراسته إلا من خلال هذا التشابه … و هذه الملامح المتوحدة” [24]. و بناءً على هذا، تحدث الناقد عن ثلاثة اتجاهاتٍ بارزة في القصة التونسية (اتجاه قصص الحنين – الاتجاه الاجتماعي – الاتجاه السياسي)[25]. و نجد الشيء نفسه عند الأستاذ أحمد ولد حبيب الله الذي تحدث عن أنواع/ اتجاهات في القص الموريتاني القصير بتجوز، حيث يقول:” إذا جاز لنا أن نصنف القصة الموريتانية القصيرة، و هي لا زالت في ضحاها و مقْتَبَل عمرها، فإنه يخيل إلينا أن ما اطلعنا عليه من منشورات في الصحف أو مرقونا يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أنواع …” [26]. و يقر الباحث محمد عزام بأن في تصنيف الأدب – عامة – إلى اتجاهات بعضا من القسر و التعسف، و لكنه ” أمر لا بد منه، من أجل جمع المتشابه منه إلى بعضه البعض” [27]. و على هذا المسْتَنَد، اجتهد الرجل في تأطير القصة المغربية ضمن أربعة اتجاهات فنية كبرى، و هي:

    - الرؤية التقليدية (الباب 1).

    - الرؤيا الرومانسية (الباب 2).

    - الرؤية الواقعية (الباب 3).

    - الرؤيا الرمزية (الباب 5).

    و يرفض أنصار الرأي الثالث – و هم قلة – عملية تصنيف القصة القصيرة المغاربية الحديثة إلى اتجاهات. و دليلهم في ذلك أن هذه القصة حديثة الميلاد، و أنها ما تزال في طور المخاض و التشكل والتبلور. يقول العوفي – متحدثا عن القصة القصيرة المغربية – إن هذه العملية ” بقدر ما هي مريحة، تبدو متعسفة أو سابقة لأوانها. ذلك أن القصة القصيرة عندنا، و لنقر بهذا صراحة، ما تنفك تعاني آلام الولادة. ما تنفك تعيش مخاضا تجريبيا مستمرا، مُتَمَرْحِلَة من ولادة شاقة إلى ولادة أشق، على الرغم من الخطْوات الإيجابية الفِساح التي قطعتها على خط التطور” [28]. و هذا الكلام ينسحب على القصة في الآداب المغاربية الأخرى كافة، و ذلك بحكم تشابه الواقع القصصي فيها نشوءا و امتدادا و تلوينات وآفاقا.

    تلكم – إذاً – أهم الآراء التي عنَّت لنا من خلال ما تيسّر لنا الاطّلاع عليه من أبحاث و دراسات في هذا المجال. و الواقع، إن القصة القصيرة المغاربية المعاصرة، منذ بداياتها المتأخرة إلى الآن، قد شهدت تحولات ملموسة كما و كيفا، و أمسى صوتها مسموعا حتى خارج حدودها الجغرافية و الثقافية. و لكن هذا لا يجب أن يدفعنا إلى إصدار أحكام فَجة فطيرة عنها. فهذه القصة ما تنفك تعيش مرحلة المخاض، و لم تصل بَعْدُ إلى مرحلة الاختمار و النضج الذي يتيح لها الانتظام في مدارس فنية مستقلة. ثم إن هذه القصة لم تستقر فنيا بعد، و ذلك بحكم طبيعة الواقع الذي أفرزها … و عليه، فإن الحديث عن مسألة تأطير القصة المغاربية في اتجاهات فنية يبدو سابقا لأوانه. إذ إنها في حاجة إلى بذل مزيد من المجهود إبداعيا و نقديا، إذا أريد لهذه القصة – فعلا – أن ترقى إلى مستوى أنضج، يُمكّننا من تنضيدها و تصنيفها تحت اتجاهات فنية، كما هو الشأن بالنسبة إلى القصة في الأدب الغربي مثلا.

    3- القصة القصيرة المغاربية و المضمون الاجتماعي.

    توضَّح لنا – مما سلف – أن الجزم بوجود اتجاهات فنية في القصة القصيرة في الأدب المغاربي المعاصر أمر صعب و محفوف بكثير من المزالق. و لكننا – تجاوزا – سنصطنع هذا الأمر؛ تيسيرا للدراسة، و جمع المتشابه من النصوص بعضها إلى بعض … و لعل أبرز “الاتّجاهات” و أكثرها دوراناً في حقل القصة المغاربية الاتجاه الاجتماعي[29]، و الاتجاه السياسي، و الاتجاه الواقعي، و الاتجاه الرومانسي، و الاتجاه الرمزي. و لما كانت معالجة هذه الاتجاهات جميعها غير ممكنة في دراسة مثل هذه، فقد ارتأينا أن نقفها على الاتجاه الأول فحسب.

    إن القصة القصيرة ليست “بريئة من كل مضمون. إنها تحتفظ بمغزى اجتماعي محدد ورثتْه عن منشئِها في أحضان المجتمع الغربي، و تَبْذُرُه في كل عمل يتخذها وعاءً له أينما و متى أُنجز”[30] . و يرى الناقد و الروائي الغربي فرانك أوكنورأن من أساسيات القصة أن يتخذ كاتبها لنفسه جماعة مجتمعية يكون لسان حالها و مقالها.

    تهدف القصص ذات الطابع الاجتماعي أساسا إلى نقل ظواهر المجتمع و العلاقات بين أفراده، والتعبير عن آلام الجماهير و آمالها، و غير ذلك مما يقع في الواقع الاجتماعي من تغيرات و تحولات. ويتحدث النقاد كثيرا في هذا الإطار عن قضايا الالتزام؛ أي وجوب التزام القصاصين بقضايا شعوبهم، والصدق؛ أي ضرورة حضور الصدق في نقل الوقائع و التعبير عنها، حتى إن قارئ القصة الاجتماعية ليشعر” بأن ما تتناوله هو جزء من الحياة الواقعية ” [31]. إن صلة الفن – عامة – بالمجتمع و بالواقع الحياتي العام أمرمؤكَّد، و وارد منذ القدم، و حاضر في شتى الثقافات. بل إن هذه الصلة- حسبما يقول هـ . ريد- “ليست مقصودة و لا متكلَّفة، و لكنها تلقائية. فالفن مظهر من مظاهر النشاط الاجتماعي المتعددة، فإذا جرى على تلك المظاهر تغيير أو تبديل تبعا لضرورة ملحة، فكل هذا التغيير يجري على الفن أيضا، ما دامت كل المظاهر قائمة على أساس دينامي واحد” [32].

    لقد احتفلتِ القصة المغاربية – بشكل كبير – في الربع الثاني من القرن المنصرم بسؤال الوطن والهوية التي حاولت قُوى الاستعمار الغربي طمسها و محوها. و لكن بمجرد أن نالت أقطار المغرب العربي استقلالاتها السياسية، أخذت تطفو على الساحة القضية الاجتماعية و هاجس البناء و التشييد. وكان على الأدب – عموما – أن يسير في ركاب هذا التوجه الجديد. و يهمنا في هذا الإطار جنس القصة القصيرة الذي ارتبط – فعلا – بالمجتمعات المغاربية و التزم بقضايا شعوبها، مصورا محنها و تطلعاتها الكثيرة …

    و لعل هيمنة المضمون الاجتماعي على الإبداع المغاربي، خلال الفترات التي أعقبت استقلال الأقطار المغاربية، هي التي حدت معظم القصاصين على التركيز على هذا المضمون في أُقْصوصاتهم. بل إن كثيرين منهم كانوا يستفتحون مجاميعهم القصصية بالتنبيه على قوة علاقة قصصهم بالمجتمع. ومن هؤلاء المرحوم أحمد رضا حوحو الذي وضع لمجموعته القصصية ” نماذج بشرية” (1955) مقدمة قيمة، عَنْوَنَهَا بعبارة ” إلى القراء”، و مما ورد فيها قوله: ” التجأتُ إلى المجتمع و انتزعت منه مختلف طبقاته نماذج عشتُ مع بعضها، و سمعتُ عن بعضها، نماذج حية أقدمها للقارئ … فيلمس أنبل نفس في أحقر شخصية، و يلمس الإيمان القوي في قلب الرجل الضال، و الزيغ و الإلحاد تحت عمامة رجل الشرع ” . و نُلْفِي حديثا شبيها بهذا في مقدمة مجموعة حوحو الأولى ” صاحبة الوحي و قصص أخرى” (1954)[33] . و منهم أيضا محمد زنيبر[34]، و إدريس الخوري[35]، و آخرون. و كتب بعض القُصَّاص المغاربيين – ممن جمعوا إلى الإبداع النقد – دراسات و مقالات قيمة تُؤكد تلك العلاقة العضوية بين القص و المجتمع، و تَأْدِبُ القصاصين الآخرين – المبتدئين خاصة – إلى الكتابة في هذا الاتجاه … و إذا كانت الكثرة الكاثرة من النقّاد و القاصين المغاربيين حريصة – أشد الحرص – على ربط الإبداع القصصي المغاربي بالجماهير و بالقضايا الاجتماعية – و خاصة ذلك الإبداع الذي ظهر في الربع الثالث من القرن الماضي – ، فإن هناك آخرين يذهبون غير ذلك المذهب؛ و منهم محمد زفزاف الذي رأى أن القصة العربية عامة ” هي في أغلبها قصة مثقفين لا قصة مائة مليون عربي ” [36].

    و الحق إن القصة القصيرة المغاربية لم تَنْصُل يوما عن مجتمعها، و لم تُزايل قضايا ملايين الجماهير، بل كانت منذ فجرها شديدة الارتباط بالواقع و الإنسان معا.

    لقد بدا لنا من خلال قراءة العديد من النصوص القصصية المغاربية – سواء في متونها ومجاميعها أم في نقود عنها – أنها قد عالجت قضايا اجتماعية متعددة و متنوعة، و أنها عبرت عن مشكلات شعوبها و تطلعاتها … و ليس من الهين تصنيف كل هذه القضايا في ثيمات بعينها. لذا، فإن التقسيم الذي سنقترحه – بعد حين – يظل مجرد اجتهاد حاولنا من خلاله تنضيد و جمع ما بدا لنا متشاكهاً من الأقصوصات ضمن محاور صغيرة، تسهيلا للدراسة و المقاربة.

    - أ- واقع الفقر و التهميش و ما يترتَّب عنه:

    يتفق نقاد القصة على أن الإنتاج القصصي المغاربي قد ارتبط بمجتمعه، و نقل مِحَنَه و إِحَنَه، وعبر عما يتخبط فيه من فقر و بؤس … و ذلك في عهدي الاستعمار و الاستقلال. و حتى لا يبقى هذا الكلام مجرد حبر على ورق، فإنه من الواجب علينا تقديم أمثلة قصصية من شتى الآداب المغاربية المعاصرة.[37]

    لقد كتب محمد إبراهيم بوعلو عدداً من القصص في تصوير واقع البؤس و الحرمان الذي عانى مرارته المغاربة طوال الستينيات. ونشر معظمها في الصِّحافة الوطنية، قبل أن يلملمها في مجموعة واحدة تحمل اسم “السقف”، صدرت عن دار النشر المغربية، عام 1970. و من هذه القصص”الحذاء الجديد” التي تقدم لنا شخصا فقيرا (عبّاس) يحلم بشراء حذاء جديد يرى فيه تحقيقا لأمل طالما راوده. و بعد جهد جهيد، سيحصل عباس على الحذاء. و لكن فرحته لن تطول، ذلك بأن البقال سينزع منه حذاءه مقابل ديونه عليه، و يتركه معذبا بحرمانه المستمر. و تصور قصة” الصياد” الحالة البئيسة التي تعيشها أسرة صياد بكاملها في كوخ خشبي. و تحضر هذه الحالة أيضا في قصص أخرى لبوعلو؛ ك” الكلب”، و” البغل”، و” المسخوط”. و الملاحَظ على هذه القصص و أمثالها أن السارد لا يكتفي فيها – حسب مودن – بتقديم ما آلت إليه الشرائح الاجتماعية من فقر و إذقاع و تهميش بعيد الاستقلال، بل يسعى إلى “إبراز أسباب هذا الفقر الذي لعب فيه الوسطاء و المرابون و تجار القيم و الشعارات دورا كبيرا”.[38]

    و يعد محمد أحمد اشماعو واحدا من القصاصين المغاربة الذين خصوا القضية الاجتماعية بقصص كثيرة، منها أقصوصته “قِدْرُ الْعَدَسِ” التي تصف أسرة فقيرة، يتحّلق أطفالها الجياع الستة حول قدر عدس. و عندما يفرغون من تناول طعامهم النزر، يتكومون في فراش رَثٍّ ممزق لا يقيهم شدة القُرّ. و في تلك الأثناء، يطرق الباب جنديان، فيفزع الأطفال و الأم جميعا. و كان هذان الجنديان ابني هذه الأسرة، غابا عنها ثمانية أعوام. معنى هذا، أن الفقراء – علاوة على كونهم ينتجون فائض القيمة لمصلحة الأغنياء – ينتجون مزيدا من الجنود لفائدة وطنهم. و عليه، فقد أدرج محمد عزام هذه القصة ضمن الاتجاه الاجتماعي – الوطني.[39]

    إلى جانب اشماعو بوعلو، يمكن أن نقرأ قصصا كثيرة في هذا الصدد لمحمد زفزاف – في مجموعتيه الأولى “حوار في ليل متأخر”، و الثانية” بيوت واطئة”، و في غيرهما – ، ولإدريس الخوري في – مجموعتِه “ظلال” مثلا – ،و لمحمد زنيبر … فهي تنقل لنا – بصدق واضحٍ – حال البؤس و الشقاء التي سادت – و ما تزال – الواقع المغربي. و لا تخرج عن هذا الإطار قصص الراحل محمد شكري الذي يعد ” سليل الهامش و لسان الهامش و المهمّشين”[40]، و قصص الجزائري أمين الزاوي. حيث يقول عنه عبد الله أبوهيف : “بؤس الفقراء هو موضوع قصص الزاوي أمين. و خلال هذا البؤس، يرى الكاتب – مثلما يريد لقارئه – حياة جماعته المغمورة”[41]. و من قصصه “بلخير الكارو” – التي تصف كدح الفقراء و شقوتهم، و هم يسعون لتأمين الخبز و الدفء -، و “الكلاب” ، و “عام البقوقا” … الخ.

    إن هذا البؤس الذي ذكرنا له بعض الأمثلة، يطال أهل البوادي و الحواضر على حد سواء، ويمس الفلاح و العامل و المثقف جميعا. و قد برع محمد رشاد الحمزاوي في التعبير عن أجواء البادية، وحال الفلاحين و الفقراء؛ فهو صاحب ” قدرة فائقة، و مهارة نادرة في تصوير المجتمع الريفي ، بكل خصائصه و ملامحه الريفية. مما يجعل لقصصه الوقع الحسن في النفوس”[42]. و تعزى هذه المهارة إلى انحدار الحمزاوي من أصول ريفية ( بلدة تالة)، و مخالطته الريفيين كثيرا. و من أقاصيصه في هذا المضمار”شارب النهر” (1968)، التي تصور لنا حالة الفلاح التونسي الصغير الفقير الذي تتوقف حياته على التساقطات و الأحوال الجوية. و ممن أجاد في نقل واقع الفلاحين التونسيين أيضا محسن بن ضياف؛ كما في قصته” جامع الحَلْفَاء” (1969)، التي تصور فلاحا كادحا بئيساً أمضى وقته في اقتلاع الحلفاء الملتصقة بالأرض، لبيعها. و لكنه في النهاية، يُصاب بخيبة أمل، و يذهب جهده هباء منثورا. لأن الشركة كانت قد أنهت موسم اقتلاع الحلفاء، و أخذت أجرها. و يشكل الفضاء الريفي عند أحمد زيادي ” العالم الأثير الذي يُطلق فيه عنان رؤاه و تأملاته. و تبدو هموم القرية و مشاكلها الموضوع الرئيسي في نسيجه القصصي، و مدخله إلى نقد الواقع الاجتماعي ككل، و تعرية مثالبه و أمراضه. إنه – بعبارة – يكاد يتخصص فيما يمكن تسميته بالأقصوصة القروية أو الريفية”[43]. و هذا ما أكده زيادي نفسه، حين قال :” حضور البادية في إبداعي ليس حضور ذات بقدر ما هو حضور روح، و ليس حضور مجال بِيئي معين له حدوده و طقسه و طبيعته و خصوصياته بقدر ما هو حضور وطني يتآلف فيه الإنسان المغربي مثلما يتآلف فيه السهل و الجبل، و البحر و الصحراء، و الأغوار و الأنهار، وغيرها من معالم الوطن الموحد”[44] . و صور القاص الجزائري – من جهته – هموم الفلاح (قصص محمد أمين الزاوي مثلا)، و الثورة الزراعية التي عرفتها الجزائر بعد استقلالها (قصص محمد مرتاض و الطاهر وطار مثلا). و هناك أقاصيص كثيرة لليبيين (كقصة “رفاق في رحلة سفر” لسيد قذاف الدم)، و موريتانيين تسير في هذا المُتَّجَه… و بالمقابل، نجد قصاصين كُثْراً، تفوقوا في تصوير فضاء المدينة و ظواهره المختلفة. منهم إدريس الخوري في مجموعته ” ظلال” التي ترسم لنا صورة للواقع المديني المر، و ما يرتبط به من مظاهر؛ كأزمة الكراء، و الغلاء، و الفوارق الصارخة، و القمع، و سيادة النفَس الاغترابي بين قاطنيه و الوافدين عليه (أقصوصة “بقع سوداء في وجه المدينة ” مثلاً). و يحضر هذا الفضاء العاجّ بالمتناقضات – بقوة – في أقصوصات محمد شكري (طنجة خاصة)؛ إذ هي مرآة صادقة لواقع المنبوذين و المهمّشين و التعساء، و لتفسخ العلاقات الاجتماعية …(مجموعته ” مجنون الورد” نموذجاً).

    لقد كان ضرورياً أن يؤدي هذا الواقع البئيس إلى تذمر الجماهير الشعبية، و ظهور ردود أفعال متباينة. لعل أبرزها تفاقم الهجرة من الأرياف إلى المدن، و تزايد أعداد المحرومين، و ظهور ظواهر اجتماعية كثيرة.

    نتيجةً لتوالي سنوات الجدب، و تدهور أوضاع الفلاحين، نزح كثير من أهالي البوادي في اتجاه المدينة طلبا للرزق، و بحثا عن عمل في مصانع الأسياد و غيرها. و قد تركت هذه التحولات بصماتها في الإبداع القصصي المغاربي، فظهرت قصص كثيرة في هذا الإطار؛ منها على سبيل المثال” مِغْلاة في المدينة ” للموريتاني سيدي محمد ولد أبُّوه (1985)، و ” تعيش و تربي الريش” للحمزاوي (1961)، و” ثرثرة حول مسألة تافهة ” للتونسي رضوان الكوني (1973) [45].

    و قد صاحب هذا النزوح ظهور مشكلات اجتماعية، و سلوكات منحرفة عدة داخل المدينة خاصة؛ من ذلك تنامي ظواهر السرقة و الدعارة و التسول و الاستغلال، و تفاقم أعداد الفقراء و المهمشين والمعطّلين. و يمكن أن نستدل على ذلك بقصص “امرأة من الريف” للتونسي سالم دمدوم (1967)، و “الركن ” للموريتاني محمد كابر هاشم (1993)، و “ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء” للأستاذ المختار ولد أبيريك (1986)، و “أحزان ثغرة في الجدار” للتونسي إبراهيم بن مراد (1969)، و “أيام خديجة البيضاوية” للخوري (1977)، و “حكاية صاحبي” للّيبي زياد علي (1992)، و “المظلومة” لعبد الكريم غلاب (1965)…. إلخ.

    و فضّل بعض الناس – بدل النزوح إلى حواضر أوطانهم – الاغتراب و الهجرة إلى الديار الأوروبية طلبا للعيش الكريم. و لم تكن القصة المغاربية بعيدة عن هذا، بل واكبت هذه الهجرة، وصورت تفاصيلها و حياة أولئك الناس في المهاجر، بل و عودتهم إلى أوطانهم أحيانا. و من نموذجاتها قصة” في انتظار الوصول إلى اليابسة” للخوري (1977)، و التي تتحدث عن هجرة اليد النشيطة المغربية للعمل في أوروبا، و أحلامهم بالعودة المظفرة إلى أوطانهم. و منها أيضا قصص الجزائريَيْنِ العيد بن عروس، و نورة سعدي. و كتب علي أفيلال (قاص مغربي مقيم في باريس) قصصا كثيرة في هذا المنحى؛ منها “هبَّتِ الريح” (2003) التي تتحدث عن شخص قضى أعز أيام شبابه عاملا لدى الفرنسيين، حيث لم يكن يعرف في حياته سوى اتجاه واحد؛ و هو اتجاه المعمل و المنزل الذي يقطن فيه. و منها كذلك قصته “امرأة أنا” (2002) التي تصور بعض ما يؤول إليه حال المهاجرين من ضروب الانحراف في المجتمع الباريسي المغري … إلخ .

    – ب – قضايا المرأة و الأسرة:

    لقد استأثر موضوع المرأة باهتمام العديد من القاصّين و القاصّات في الأدب المغاربي الحديث والمعاصر، و ذلك بالنظر إلى أهميته و خطورته. و عولج من زوايا مختلفة، و عبر محطات متعددة. فقد تطرقت القصة القصيرة المغاربية إلى إثارة قضايا الحجاب و السفور، و خروج المرأة للعمل و اختلاطها بالرجال، و نظرة المجتمع إليها. كما تناولت هذه القصة موضوع الأسرة انطلاقا من بدايتها (الزواج)، مرورا برصد العلاقات بين الزوجين أو بينهما و بين أبنائهما، و انتهاء إلى ما قد تؤول إليه رابطة الزواج من انفصام و انحلال (الطلاق). و لم يفت القصاصين المغاربيين التعريجُ على قضايا أخرى ذات صلة بموضوع المرأة و الأسرة كالعنوسة؛ و الخيانة، و إهمال الأسرة و تفككها، و تشرد الأطفال، و تعدد الزوجات … إلخ. و لتوضيح هذا الكلام – الذي يبدو عاما و فضفاضا – لا مناص من الإتيان بأمثلة من القصة القصيرة المغاربية.

    توسلت قصة “حكاية من عنبر الأطفال” لأحمد إبراهيم الفقيه (1992) بالأسلوب الرمزي و بالعنصر العجائبي، لنقل موقف المجتمع الليبي المحافظ من خروج المرأة و اختلاطها بالرجال. و حاولت قصة ” يد ” للتونسي رشيد الغالي (1978) أن تبرز انعكاسات خروج المرأة من بيتها للعمل على الجو العائلي. و عبّر زفزاف – بلغة ساخرة مفارِقة – في قصته “السابع” عن موقف المجتمع من اختلاط النساء بالرجال في مجلس واحد. و كتبت القاصة المغربية سعاد الرغاي جملة من الأقصوصات في تصوير المشكلات و التناقضات التي تحكم الواقع الاجتماعي للمرأة، و في انتقاد امرأة الداخل (ربة البيت)، و الدفاع عن امرأة الخارج (المرأة المتعلمة العاملة خارج المنزل). و ألفت خناثة بنونة و نورة سعدي و الجزائرية زهور ونِّيِسي قصصا عدة في الاحتفال بالمرأة و قضاياها، و إدانة كل أشكال الإساءة إليها.

    حظيت قضية الزواج بحصة وافرة من المُنْجَزِ القصصي المغاربي. و هذه القضية تتخذ ألوانا عديدة، مثل الزواج القسري الذي يتم بغير رضا أحد الطرفين؛ كما في قصة ” ليلة الزفاف” لليبي وهبي البوري (1936)، و قصة “ليلة الوطية” للبشير خرّيف … و مثل الزواج بالأجنبيات، كما في قصة “سّر خديجة” للتونسية آمنة مصطفى (1967) … و ظهرت أقاصيص تلحّ على حق المرأة في اختيار شريك حياتها بكل حرية؛ كما في قصة “أسلم السير في الضياء” للتونسية هند عزوز (1967).

    و تعرضت القصة المغاربية إلى قضية تعدد الزوجات و آثارها على الأسرة الأولى و الأطفال. من ذلك قصة ” زوجة الأب” لوهبي البوري (1936)، و قصة “الزواج الثاني” لمحمد زفزاف (1979)… و صورت هذه القصة أيضا بعض العادات المتبعة في تزويج البنات، كما في قصة “منزل اليمام” لمحمد عز الدين التازي (1990).

    و تَشُوب الرابطة الزوجية أحيانا بعض الشوائب، كالخيانة و الإهمال. و ذلك بفعل تهور أو صدور تصرفات غير لائقة سواء من جانب الزوج أم من جانب الزوجة. و يمكن أن نستشهد في هذا الإطار بقصص “تبكيت الضمي” لوهبي البوري (1938)، و “قوتان” (1935) لأحمد راسم قدري (قاص ليبي كان يوقّع قصصه بحرف “ر”)، و “صحائف الشباب” للقاص نفسه (1936)، و “لهاث في مرآة الماء” لأحمد بنميمون (2001)… فهذه القصص كلها تعالج موضوع الحب والخيانة و العلاقات غير المشروعة … و من النصوص التي يمكن التمثيل بها لمسألة الإهمال (و خاصة إهمال الزوج لزوجته و أسرته عامة) قصة “في سبيل تلك اللحظة” لمحمد زنيبر (1971)، و قصة “اللهم اكسر رجله” لوهبي البوري (1939).

    و إلى جانب إهمال الزوج أو الأب، نجد أن القصة المغاربية قد عالجت الإهمال الذي يأتي من جهة المرأة . و ذلك كما في قصة “امرأة أضاعت البوصلة” للمغربي محمد زيدون (2003)، و التي تتحدث عن امرأة كانت تعيش مع زوجها و أبنائها عيشة بسيطة سعيدة. و لكن بخروجها إلى العمل واختلاطها بالرجال ، بدأت عنايتها بأسرتها تَفْتُر و تضعف. بل إنها أهملتها، و تخلصت منها نهائيا بزواجها برجل موسر كان يَعِدُها بأشياء عظيمة و مغرية. و بعد وقت قصير من زواجها الثاني، تستحيل حياتها إلى جحيم، و تندم على ما فعلته، و تتعرض إلى الذل و المهانة، و تفقد زوجها المخلص وأبناءها و كل شيء.

    و صورت القصة المغاربية أيضا العلاقة بين الأب و أبنائه؛ كما في قصة “أبي و الحمار” للتونسي حسن نصر (1969)، بحيث يصر الأب فيها – بعناد و تحجُّر – على تنفيذ رغبته في الرحيل إلى الجبل و الاستقرار هناك، رغم معارضة أبنائه الذين حاولوا مناقشة أبيهم – برصانة و تعقّل – ليعدل عن قراره ذاك …

    من المعلوم أن للأب مكانة مهمة في المجتمعات الأبيسية عامة، و منها المجتمع المغاربي. لذلك، فمن المنطقي أن تكون وفاة الأب خسارة كبيرة لأسرته، و بداية لآلامها و شقائها. و قد عبر القصاصون المغاربيون في بعض قصصهم عن هذا الأمر. و من ذلك قصة “الفزع الدائم” للتونسي محمد الهادي عياد (1968)، و قصة “سنوات العمر الضائعة” لليبي محمد بالقاسم الهوني (1982). و تجسد قصة “أفريل و الذكرى” للتونسي سالم دمدوم (1967) ما يعانيه الأطفال من آلام و مشاقّ، من جراء التّيتم و فِقدان الأب خاصة.

    و من الموضوعات الاجتماعية التي تعرضت إليها القصص المغاربية باستمرار الطلاق الذي يكون – في أغلب الأحيان – نتيجة سوء التفاهم بين الزوجين. كما في قصة “المبلغ المكتوم” للموريتاني محمد ولد أحظانا (1987).

    و مما عالجته القصة القصيرة المغاربية أيضا قضية الطفولة المشردة؛ كما في قصة “الوقوف” للخوري (1977)، و قصة “عندما تنطق أشجار النخيل” لرشيد الميموني (2000). و كذلك قضية العنوسة التي تمس قطاعا واسعا من المجتمع المغاربي. و مثالها قصة “وهبّت العاصفة” للتونسية حياة بن الشيخ (1982).

    - ج – التفاوت الطبقي و الاستغلال.

    ناضل الشعب المغاربي ، و ضحّى بالنفس و النفيس؛ ابتغاء تحرير أراضيه، و طرد الاستعمار الأجنبي الظالم، و العيش في وطنه عزيزا كريما حرا. و لكن بعد جلاء المستعمر، وجد هذا الشعب نفسَه أمام وضع مغاير تماما للذي كان يحلم به؛ فران عليه شعور باليأس و الانكسار و الاستياء المرير. ذلك بأن فئة من الموسرين والعملاء، تمكنت من الاستيلاء على الخيرات و المناصب، على حين ظلت معاناة السواد الأعظم من الجماهير مستمرة. و بما أن القصاصين المغاربيين – أو أكثرهم – كانوا من ضمن هذه الجماهير، فكان لا مناص من أن ينفعلوا بهذا الجو المشحون بالتناقضات، و يتذمروا منه.

    لقد صورت لنا أقاصيص زفزاف و بوعلو و زنيبر و الخوري و شكري الواقع الانتهازي و التفاوت الطبقي اللذين شهدهما مغرب الاستقلال في عقدي الستينيات و السبعينيات. و من ذلك مجموعة زفزاف القصصية ” الأقوى” التي تصف الطبقات الدنيا في ذلتها و جوعها و فقرها و تشردها و بِطالتها وحرمانها، و الطبقات العليا في صَلَفها و استغلالها للآخرين و تخطيط مصائر حيواتهم. ثم تصف اصطدام هاتين الطبقتين المتناقضتين. و من ذلك قصة ” الكلب” لبوعلو التي تقدم لنا الهوة السحيقة بين الأثرياء الذين يخصصون للكلب حارسا و راتبا، و بين الأطفال/ الفقراء الذين ينتظرون فضلات وجبة الكلب ليلتهموها بشراهة و لذاذة. و للقاص نفسه قصة رائعة عنوانها “السّقف”، و هي تعكس الاستغلال الشامل الذي تتعرض إليه أسرة بكاملها من قِبَلِ رب العمل و الحجرة التي تسكن فيها.

    عِلاوة على هذا، نجد قصصا كثيرة تتناول مسألة استغلال الأغنياء و أرباب العمل للعمال و الفلاحين. كما في قصة ” إصرار” للتونسي الناصر التومي، و قصة ” الخمّاس” للمغربي محمد بيدي، و كما في عديد من قصص التونسيَيْن أحمد مُمُّو و عروسية النالوتي … و تصور قصة “الكلاب” للتونسي محمد باردي (1969) نظرة البورجوازيين إلى الكادحين التعساء؛ كأنهم كلاب ينبغي الترفع عنها، وعدم مخالطتها … و تعبر قصص أخرى عن واقع الظلم و القهر الذي تعانيه الفئات الفقيرة، من جراء تسلط السلطة و الأقوياء. و ذلك كما في قصة “الأقوى” لزفزاف (1978)، و قصة “الغابر الظاهر” (1985) لأحمد بوزفور، و قصة “نَبْس” للّيبي سالم الهنداوي (1992)…

    و عالجت القصة المغاربية – إلى جانب ما تقدم – أشكالاً أخرى من الاستغلال و الاستعباد، كاستغلال بعض الشرائح (مثل الأولياء) لسذاجة الجماهير و جهلهم. و من ذلك قصة “سيدي سالم” للتونسي محمود بلعيد (1967) التي تنقل لنا استغلال سيدي سالم/ الولي للنساء، و الاستيلاء على أموالهن؛ بإيهامهن بقدرته على شفاء العليل، و خلق الألفة بين الأزواج. و من ذلك أيضا قصة المغربي عبد “نصار” المستغِلِّ لهم، و عدم تجرؤ أحد منهم على معارضة أي قرار من قراراته …

    تلكم إذاً أهم القضايا و الظواهر و العلاقات الاجتماعية التي شكلت موضوعات القصة القصيرة المغاربية ذات المغزى الاجتماعي. و لا شك في أن ثمة قضايا أخرى لم نأت على ذكرها و معالجتها لاعتبارات معلومة. و يمكن أن تكون محور دراسة أو دراسات مستقلة أخرى.

    4- خــلاصة:

    نخلص مما سبق إلى أن القصة القصيرة في أدبنا المغاربي الحديث و المعاصر حققت مكاسب هامة، و عرفت تحولات ملموسة كما و كيفا. ثم إنها لم تبعد يوما عن ملامسة قضايا المجتمع، بل كانت على الدوام لسان الجماهير و المعبِّر الصادق عن آلامهم و آمالهم …

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 6:31 pm