[b]الاتجاه الوصفي التحليلي
1- الاتجاه الوصفي التحليلي:
قام الاتجاه الوصفي التحليلي على تقاليد النقد الأدبي التي توائم بين الشكل
والمحتوى، وتراعي اعتبارات الجنس الأدبي ومفرداته ومكوناته عناية بطبيعة
الشكل الأدبي واتصاله بضروب المعرفة المتاحة أو القابلة لسيرورة هذه
التقاليد في الممارسة النقدية، واستمرت فاعلية النقد الأدبي التقليدية وفق
نظرية أرسطو بوحداتها الثلاث حتى القرن التاسع عشر مع بعض التعديلات
والتطورات الفكرية والفنية.
ونظر النقاد إلى أصول هذه التقاليد في النقد التشريعي Legislative
Criticism الشامل للتفكير البلاغي الذي يضبط الأسلوب الأدبي من الملفوظية
الحقيقية (الوضعي أو المعجمي) إلى الملفوظية المجازية بمستوياتها المختلفة
(التشاكل مع قواعد الاستصحاب)، وفي النقد النظري Theoretical criticism أو
علم الجمال الأدبي Aesttic****iterary ، ويفيد ذلك تقعيد أو تسنين النقد
لفهم التخييلي والواقعي والتاريخي في بنية النص الأدبية، وفي النقد الوصفي
Descriptive Criticism أو تحليل الأعمال الأدبية القائمة، الذي ينتظم مع
ظاهرة الاستبطان لإبراز الذات أو المحتوى النصيّ، ويتعاضد الوصف والتحليل
مع ترميز التقاليد النقدية نحو التقويم الأدبي أو تقييمه، وصار للوصف
مضامينه ولغاته بما هي مجموعة الإجراءات والمصطلحات النافعة في إضاءة شكل
العمل الأدبي ومضمونه، واستنتج منظرو النقد الملاحظات التالية:
[b]
أ- بلوغ تطور الوصف النقدي مستوى القراءة الجادة مقاربة لطبيعة العمل الأدبي.
ب- تلازم المصطلحات النقدية في الوصف والتحليل مثل العقدة Plot والجهد أو
الحركة الدرامية business والفصل act والمشهد scence والاكتشاف discovery..
الخ.
جـ- تبسيط لغة النقد ضمن قواعده والسعي لإفصاح تقاناته.
د- الاهتمام التقويمي أو التقييمي للعمل الأدبي(1).
وبات جلياً أن النقد الأدبي لا تخرج سيرورة تقاليده عن الوصف والمعرفة
والحكم والفهم، وقد كان أرسطو ينطلق من وصف الأثر، ومن قدرة Dunamis الكلمة
الشعرية، حتى لو حاول بعد ذلك تفحصها ببرود، وتحليلها، والتحكم بها. إن
العمل الفني كمحاكاة Mimesis يعيد خلق الفعل Energeia الذي يكون
الحياة»(2).
وأفضى الوصف إلى آلية التحليل الأدبي في جوهر الاتجاه الوصفي التحليلي،
وتنابذت الآراء حول مقومات هذا الاتجاه في الجدل العقيم، حسب وصف بعض مؤرخي
النقد، مع دعاة النقد الجديد من جهة، والمؤمنين بالاستهداف النقدي
التاريخي والواقعي والعقائدي والسيري من جهة أخرى، وآل الحال إلى تمحيص
الدراسة النقدية والأذن المرهفة والاستجابة لدقائق التغيرات في الأنموذج
والمواقف كي تسند هذه كلّها، وتكمّل ما حققته الدراسات الموضوعية»(3).
وارتهن الاتجاه الوصفي التحليلي، تنمية لتقاليد النقد الإتباعي، بعناصر
أربعة هي العاطفة والخيال والمعنى واللغة، والعاطفة sentiment تكوّنها
الانفعالات، وتقوم هي بتكوين شخصية الأديب، مثلما قصد بهذه العاطفة
الانفعال Emotion أو الإحساس Sensation، والخيال هو وسيلة إبراز العاطفة من
خلال توليد صور واضحة مثل استخدام ارسطو كلمة Phanasia في معرض حديثه عن
المحاكاة، وأبسط أنواع هذه الصور هو الاستعارة، وأعقدها ما يتصل بالوهم
Fancy وبالأساطير Myths، ووضع الوهم إلى جانب الخيال الابتكاري Creative
imagination على أنه، حسب تعريف كولريدج، القوة التركيبية السحرية التي
تكشف عن ذاتها في إيجاد التوازن بين الصفات المتعارضة. ومنح النقاد عنصر
المعنى أهمية مطلقة نشداناً للإدراك الأخلاقي والإنساني والفلسفي
والاجتماعي.. الخ، حسب هذا التحليل النقدي أو ذاك لدى إظهار دلالات الألفاظ
والصور في الوصف والتحليل. وسُميت العبارة صراحة اللغة ملازمة للمعجم
ولقواعد الاستصحاب، وتوقف تفسير التأليف الأدبي وتنسيق الكلمات على
الاعتبارات التالية:
1- حين تكون الكلمة فصيحة أي خالصة من تنافر الحروف والغرابة وخاضعة للقياس اللغوي.
2- حين تكون الكلمة أو الكلمات مؤثرة من عدة أوجه دفعة واحدة مع أنها لا تعطي إلا حقيقة واحدة.
3- حين يستطاع تقديم الكلام بحسب مقتضى الحال من حاجة إلى القوة إلى حاجة إلى الرقة ونحو ذلك.
4- حين يكون التركيب معقداً، أي لا يكون الكلام ظاهر الدلالة على المراد به.
5- حين يربط بدقة ومهارة بين أجزاء العبارة وبين العبارة وما يجاورها من
عبارات بروابط الشرط والصلة وحروف العطف، فقد قيل إن البلاغة هي معرفة
الفصل بين الجمل من الوصل.
6- حين يكون التصوير سبيل نقل المعاني، لأن سبيل المعنى الذي يُعبّر عنه هو سبيل الشيء الذي يقع التصوير فيه.
7- حين يعرف وجوه تحسين الكلمات بعد نظمها(4).
ولا نغفل عن أن الاتجاه الوصفي التحليلي قائم على التوافق بين النظريات
الخلقية والنظريات الاجتماعية من جهة، وتركيبهما الفنّي من جهة أخرى،
لتخفيف وطأة التوتر بين الشكل والمضمون الخلقي ـ الاجتماعي، ,لتحقيق
التوازن الكامل لئلا يقدم قرينة خارجية مباشرة لحضوره عند تصوير الصراع بين
الأحوال والبناء(5).
وأفاد منظرو النقد الوصفي التحليلي أن هذا التوافق ينفي رؤية العمل الأدبي
على أنه دعاوة، مثلما يقلل من الولوغ في نظرية الفنّ للفنّ أو المنهج
التاريخي الذي يتنازع مع النقد وخصوصياته، وأشير إلى تعدد المعاني وظلالها
خارج المباشرة توازياً أو تطابقاً مع القواعد التاريخية والتعينية، ليكون
الإخلاص في الكتابة توصيفاً لوئام الكاتب مع عصره(6).
وتلازم الاتجاه الوصفي التحليلي مع مقياسين هما مقياس الذوق ومقياس المعرفة
وقوة التعبير عنها دون الرضوخ لمستوى واحد منهما، فالأدب جميعه أشدّ قوة
واستقصاء في انطباعاته وتذوقه من أدب المعرفة لما يجعله أكثر بقاء وخلوداً،
«وليكن كلّ شخص متأكداً من أنه يدين للكتب المنفعلة التي قرأها بعواطف
تزيد بآلاف على ما يستطيع شعورياً أن يرجعه منها إلى هذه الكتب، وهي على
غموض أصلها تنبعث في نفسه، وتكيّف حياته تماماً كحوادث طفولته
المنسية»(7).
وسُمي هذا الاتجاه بالمنهج التقليدي، عند النظر في كتاب «الوسيلة الأدبية»
للشيخ المرصفي، ومورس عند نقاد كثر، بعد تطوير منهجيته وطرائقه، أمثال عبد
العزيز الدسوقي ومحمد مندور ومحمد عبد الغني حسن وعبد الحي دياب وعبد
الحليم عباس وعبد الرحمن صدقي ومصطفى الشكعة في مصر على سبيل المثال،
وعرّفت ممارساتهم النقدية بمسعى التلاحم بين الشكل والمضمون(.
وشرح الناقد سيد البحراوي شغل بعض النقاد من مصر أمثال عباس محمود العقاد
وإبراهيم المازني وطه حسين ولويس عوض ومحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس
الذين مضوا طويلاً في البحث عن المنهج في النقد العربي الحديث، وبيّن طوابع
مساهماتهم النقدية في ترسيخ الاتجاه الوصفي التحليلي أو الخروج إلى مناهج
نقدية حديثة إثر تعاملهم مع النقد الأوروبي، ودعا إلى التطوير والتحديث
والإغناء، «عبر تخليص عناصره من محمولاتها الإيديولوجية كلما أمكن ذلك،
أو إدماجها في نسق جديد يحملّها ملامح نسقهم المنهجي الخاص الساعي للتكامل،
وإذا أمكن لهؤلاء أن يبنوا هذا النسق المنهجي الجديد على مزيد من تعميق
وعيهم بأسئلة الواقع الاجتماعي، فإن توجههم سوف يكون هو التوجه القادر على
تحقيق المنهجية النقدية، ومن ثم المساهمة في حل أزمة النقد العربي
المعاصر»(9).
وقد ظل الاتجاه الوصفي التحليلي سائداً في حركة النقد الأدبي العربي الحديث
إلى وقت قريب، وأراد غالبية النقاد أن يطوروه إلى النقد التكاملي أحياناً
الذي يدعم هذا الاتجاه بجوانب من مناهج نقدية حديثة.
وانتشر الاتجاه الوصفي التحليلي انطلاقاً من النزوع التعليمي عند عزيزة
مريدن إلى العديد من الباحثين الذين استفادوا من الشغل الأكاديمي لأن كتبهم
مأخوذة من أطروحاتهم الجامعية لنيل شهادة الماجستير أو الدكتوراة أمثال
فيصل سماق وعبد الرحمن برمو وسمر روحي الفيصل، واتجه آخرون إلى تثمير
عناصره التقليدية كما عند إبراهيم الخليل وأسعد فخري ومحمد قرانيا.
2- عزيزة مريدن «القصة والرواية»:
وضعت عزيزة مريدن كتابها «القصة والرواية» (1980)(10) في إطار تعليمي إثر
تدريسها لهذين الفنين في جامعة دمشق وجامعة محمد الخامس بالرباط، وبنت
الكتاب على التعريف بفنّ القصة ونشأتها وأشكالها ووجودها في الأدب العربي
القديم والحديث، وأنواعها من حيث القالب والمضمون وعناصرها ومقوماتها
كالحدث والشخصية والبيئة والهدف والأسلوب والمقدمة والحبكة والسرد والخيال،
ولغة الحوار ووظائفه، بالإضافة إلى ملاحظات عامة لدراسة القصة.
وخصصت ثلث الكتاب لدراسة الرواية أو القصة الطويلة (ص73-120)، ووضعت
تعريفاً لها، وفرّقت بينها وبين القصة، وعنيت بنشأة الرواية في الأدب
العربي الحديث، وأفردت صفحات عن نجيب محفوظ وشذرات من حياته، وعرضت تلخيصاً
ودراسة لروايتي «زقاق المدق» و«اللص والكلاب»، ووازنت بينهما. واعتمدت على
مراجع تقليدية وتاريخية، وفي مقدمتها
«تطور الرواية العربية الحديثة» لعبد المحسن طه بدر، و«الجهود الروائية من
سليم البستاني إلى نجيب محفوظ» لعبد الرحمن ياغي، و«في الرواية الغربية
المعاصرة» لفاطمة موسى، و«في الرواية المصرية» لفؤاد دوارة، و«قضية الشكل
الفّني عند نجيب محفوظ» لنبيل راغب، ووضعت كتاب «نحو رواية جديدة» لآلان
روب جرييه في المراجع، ونسبته لمترجمه مصطفى إبراهيم مصطفى، ولم نلحظ
الاستفادة منه في متن الكتاب.
وأوجزت تعريفها بالفنون النثرية في «التمهيد» مثل فنون «الخطبة» و«الرسالة»
و«المقامة» و«المقالة» و«المسرحية» و«السيرة» و«النقد»، وانتقلت في حديثها
عن الرواية أو القصة الطويلة إلى تغليب الوصف دون عناية كافية بالتحليل
الفنّي لهذا الجنس الأدبي، واقتصر التعريف على «أن الرواية، كالقصة، ولكنها
تختلف عنها عامة في الأحداث والشمول والتصوير والحيز الذي تدور فيه،
والزمن الذي تستغرقه» (ص73).
وتوقفت عند الفروق التالية بين القصة والرواية:
أ- من حيث الأحداث والشخصيات:
فالقصة تتضمن ـ عادة ـ حادثة واحدة، تدور حول شخصية أو أشخاص معدودين. أما
الرواية فتقوم على حادثة أساسية واحدة، تتفرع عنها حوادث أخرى. وعلى الرغم
من تركيزها حول شخصية بطل أو بطلين، فإنها تعرض في ثنايا الأحداث شخصيات
أخرى ثانوية.
ب- من حيث الشمول والتصوير:
فالرواية أكثر حياة وحيوية وحركة من القصة. ويمتاز كاتبها لذلك بنظرة أكثر
شمولاً، كما يمتاز موضوعها بأنه أجل وأوسع، إذ يصور الكاتب فيه أحداثاً في
زمن ممتد، ويحيط ببيئة أو مجتمع من المجتمعات، بينما تلتفت القصة إلى إحكام
الشكل، والاقتصار على نقطة معينة تدور حولها الأحداث، منطلقة من وحدة
الانطباع الخاصة، أو الإحساس الشخصي للكاتب.
جـ- من حيث القالب والحجم:
وتبعاً لما تقدم فإن الرواية يمكن أن يطيلها الكاتب أو يوجزها، دون أن يمسّ
جوهر العمل الفني، أو يؤثر فيه، بينما القصة لابد فيها من التقيد بطول
مناسب، كما لابد فيها من التقيد بقالب خاص ملائم لمضمونها، ولهذا يرى بعضهم
أن القصة أكثر فناً من الرواية، لأنها تحتاج إلى دقة أكبر، ومهارة أبرع.
د- من حيث طريقة المعالجة:
فكاتب الرواية أشبه بالباحث الاجتماعي، أو المؤرخ أو العالم النفسي، وقد
يكون فيه من هؤلاء جميعاً نسب متساوية، فينظر إلى موضوع روايته وأشخاصها من
زوايا متعددة. أما كاتب القصة فيقتصر على زاوية واحدة، يرى بطله منها في
أزمة معينة، تستولي على مشاعره واهتمامه دون غيرها، فيحاول الكشف عنها.
هـ- من حيث النظرة والتوجيه:
فلا يستطيع مؤلف القصة أن يعبر عن وجهة نظره الخاصة، ولا أن يتدخل تدخلاً
مباشراً في توجيه أحداثها، بل عليه أن يبدو دائماً موضوعي فيها، بينما
الروائي، يستطيع ـ بطريق غير مباشر ـ أن يتدخل، ويوجه، ويغير، ويبدل كما
يشاء، وذلك لرحابة الرواية، واتساع آفاقها وتفاصيلها.
ولا يخفى أن مثل هذا التعريف وهذه الفروق لا تبتعد عن المنهج الوصفي
التعليمي، وتابعت مريدن حديثها عن نشأة الرواية في الأدب العربي الحديث
بإيجاز أكبر لما كتبه عبد المحسن طه بدر في كتابه المذكور في مصر على وجه
الخصوص، فقد أسهم كلّ منهم في دفع عجلة هذا الفن. لكن النهضة الحقيقية
للرواية، كانت على يد جيل ممن تخرجوا في الجامعات المصرية خاصة. فنالوا
حظاً من هذه الثقافة، مكنّهم من بذل جهود كبيرة محمودة في هذا الميدان،
منهم علي أحمد باكثير ـ عبد الحميد جودة السحار ـ يوسف السباعي ـ يوسف
إدريس، وكان منهم (نجيب محفوظ) الذي خصّته بالدراسة (ص78).
وقدمت إشارة عن سيرة نجيب محفوظ وحياته وفنّه الروائي مستفيدة من عدد
«الهلال» الخاص عنه (فبراير 1970). ودخلت في المنهج الوصفي التحليلي عند
تناولها لروايتيه «زقاق المدق» و«اللص والكلاب»، وأحاطت قليلاً بأحداثهما
وشخصياتهما، ووحدتي الزمان والمكان والشخصيات والأسلوب.
ووصف الرواية الأولى بأنها «واقعية، واستمد الكاتب أحداثها من واقع هذا
الحي، كما استمد شخصياتها من أناس حقيقيين يعيشون فيه، ويعكسون قطاعاً
خاصاً من المجتمع المصري، قد لا يكشف عن المجتمع بكامله، لكنه ـ على كل حال
ـ يوجد من شخصياته نماذج متكررة، أو تكاد تتكرر في معظم أحياء مصر
المشابهة لحي الحسين وما حوله» (ص89).
وعالجت الزمان والمكان والشخصيات والحبكة والبناء والفكرة والهدف، وأجابت
على قضيتين فنيين فيما يخصّ الصراع والبنية الفنية، وأخذت على الكاتب لجؤه
إلى الافتعال أحياناً، ولا سيما في الاعتماد على عنصر المصادفة في تطوير
الأحداث، وتغيير المواقف.
وصفوة القول، في تحليلها، أن نجيب محفوظ استطاع أن يصور في هذه الرواية
جانباً هاماً من المجتمع المصري، وكانت غايته إبراز الصراع الاجتماعي بين
شخصيات «زقاق المدق» المختلفة، نتيجة التفاوت الطبقي بينها، والتغيير الذي
طرأ على حياة كل منها بسبب ظروف الحرب.
وشرحت أحداث «اللص والكلاب» فصلاً فصلاً، وعمدت إلى إيراد ملاحظات حول
مراحل تأليف نجيب محفوظ للرواية، وهي المرحلة التاريخية الرومانسية
والمرحلة الواقعية الاجتماعية والمرحلة الفلسفية الدرامية التي تنتمي إليها
هذه الرواية، وتناولت الأحداث والشخصيات والأسلوب بعامة، ونقدت الرواية في
أسطر قليلة.
ثم وازنت مريدن بين الروايتين في أسطر قليلة أيضاً، فقد وجدت أن «اللص
والكلاب» أقدر على إجراء الأحداث، وأكثر تمكناً من تصوير الشخصيات، وإدارة
الحوار، وإحكام الحبكة والسياق وإذا كان الصراع في «زقاق المدق» لا يبدو
واضحاً ـ كما نوهت ـ إلا في بعض المواضع، فإن رواية «اللص والكلاب» تكاد
تقوم من أولها إلى آخرها على الصراع المستمر في نفس الشخصية الرئيسية:
الصراع بينها وبين المجتمع الخارجي، وبين الفضيلة والرذيلة أو بين الخير
والشر.
وأجملت مريدن الرأي في الروايتين على أن نجيب محفوظ حاول في روايته الأولى
تصوير المجتمع المصري عامة، وتصوير حي من أحياء الطبقة الوسطى خاصة، لأنه
يرى أنه حي المشكلات التي هي المنبع الصافي والغزير للروائي. مثلما عني
بتصوير آثار الحرب العالمية الثانية في هذه الطبقة، وما خلفته فيها من
تخلخل وتمزق، واضطراب وانحلال، في حين أنه رسم في روايته الثانية «اللص
والكلاب» قضية اجتماعية واقعية. وما يجمع بين الروايتين، إنما هي الواقعية
العميقة الواضحة.
واعترفت بمنهجها التطبيقي العملي الآخذ بالنظرية الوضعية، آملة ألا يكتفي
الطلاب، بما قدمته عن القصة والرواية، ليتطلعوا إلى «آفاق أوسع، فيرجعوا
إلى الكتب المشار إليها في هوامش البحث، ولتكون دراستهم جامعية حقيقية»
(ص122).
لجأت عزيزة مريدن في كتابها «القصة والرواية» إلى الاتجاه الوصفي التحليلي
اعتماداً على الأصول النقدية الإتباعية الأرسطية، وغلب عليها الشرح
والتفسير لإبانة كيفية ضبط الأسلوبية وإفصاحها عن المضمون، وراعت الناقدة
اعتبارات جنس الرواية وخصائصه إزاء أشكال النثر القصصي الأخرى، وهذا الشغل
يندرج في البحث الأكاديمي الهادف إلى وصف المضمون وتحليله.
3- فيصل سماق «الرواية السورية»:
طوّر فيصل سماق الاتجاه الوصفي التحليلي كثيراً في كتابه الثاني «الرواية
السورية: نشأتها وتطورها، مذاهبها» (1984)(11)، وأعلن في مقدمته إتباعه
لهذا المنهج ودراسة النماذج الدالة على فنية الرواية في سورية والمعبرة عن
«المرحلة التاريخية والفنية لخيط تطور هذا الفنّ الأدبي الوليد» (ص5).
وعرض في الباب الأول بدايات نشوء هذا الفنّ الحديث، ودرس النواة، وأسماها
الرواد ومراحل التكوين، واهتم بنهض الرواية وأسماها مرحلة الانطلاق. و تتبع
في الباب الثاني أهم المذاهب الأدبية التي تأثر بها هذا الفنّ،
كالكلاسيكية والرومانسية والواقعية الانتقادية، أما الواقعية الاشتراكية
فقد أفرد لها باباً خاصاً.
ودرس في الاتجاه «الكلاسي» نماذج لعلي الطنطاوي ومعروف الأرناؤوط في
رواياته «سيد قريش» و«عمر بن الخطاب» و«طارق بن زياد» و«فاطمة البتول».
واعتبر شكيب الجابري الرائد الحقيقي للرواية الفنية السورية، فهو نموذج
بارز للحركة الرومنتية السورية، فبعد روايته «قوس قزح» (عام 1946) صمت أربع
عشرة سنة حتى أخرج روايته «وداعاً يا أفاميا» التي أثارت ضجة كبيرة لا تقل
عن الضجة التي أثارتها روايته الأولى.
وتلمس سماق جوهر الصورة الرومنتية وطبيعة الهوى الناجم عنها لدى روائية
مُقلّة هي إنعام مسالمة في روايتها «الحب والوحل»، ولدى قمر كيلاني في
روايتها «الهودج» «على الرغم من أنها تعالج موضوعاً وطنياً هو القضية
الفلسطينية والصراع مع الصهيونية» (ص81).
واعتقد سماق أن النزعة الرومنتية سوف تبقى مستمرة في الرواية السورية ما
دامت النزعة الفردية الحادة والحماسة العاطفية متأججة عند الأدباء، «وما
دامت تغمر حياتنا أحداث عنيفة دامية وظلم إنساني ليس في هذا العصر مشابهاً
لـه، على أنه يتواجد في رحم هذه الصورة الفنية تيار واقعي قوي يكاد يلف
حياتنا الأدبية» (ص82).
واختار سماق روايات لهاني الراهب وحيدر حيدر وأديب نحوي وحسيب كيالي وعبد
النبي حجازي وصدقي إسماعيل وغيرهم ممثلين للواقعية الانتقادية، والنموذج
الصادق والحار لهذا الاتجاه، عنده، هو فارس زرزور في روايته «المذنبون»
التي صوّرت عالماً قاسياً ومرعباً للريف.
وفصّل سماق القول في اتجاه الواقعية الاشتراكية، وبحث في نشأته وتطوره
ومرتسماته في الرواية السورية عند الروائيين هاني الراهب وصلاح دهني وفارس
زرزور ونبيل سليمان وأديب نحوي بعامة وحنا مينة بخاصة في رواياته «الشراع
والعاصفة» و«الثلج يأتي من النافذة» و«الشمس في يوم غائم» و«الياطر»
و«بقايا صور» و«المستنقع»، ورأى سماق أن روايات حنا مينة شديدة التعبير عن
التحولات الاجتماعية، فقد «كانت الحياة نفسها بآلامها ومعاناتها، هي المعين
الذي غرف منه حنا ألوان لوحته فأتت ناطقة بكلّ بؤس هذه الحياة وكلّ الأمل
فيها، وذلك من خلال فهمه لقوانين تطورها التاريخية فأبطاله لم يناضلوا ضد
سيطرة المستعمر فقط، لقد فهموا أن هذا النضال سيبقى وحيد الجانب إذا لم يكن
نضالاً شاملاً ضد كل أشكال السيطرة والقمع والاستغلال التي أوجدها
المستعمر وأذنابه المحليين. وهكذا أطلق حنا صرخة مدوية ومقنعة تطرح البؤس
الإنساني من الداخل وتمزق حاجز الزمان والمكان بكلمات بسيطة صادقة تنادي
لقضية العدالة المفقودة وصراع الإنسان من أجلها على مرّ العصور»
(ص180-181).
استأنس فيصل سماق في كتابه «الرواية السورية» بعناصر الاتجاه الوصفي
التحليلي إزاء خصوصيات جنس الرواية ولغته وأسلوبيته من أجل الاهتمام
التقويمي أو التقييمي للعمل الأدبي، وتجاوز سماق، وهذه مزية من مزايا هذا
الاتجاه، الأحكام الخارجية كالتحزب والانتماء وتصريحات الروائي أو
اعترافاته.. الخ، وتغلغل في البنية الروائية للكشف عن معانيها أو أغراضها
أو مضمونها تكثيفاً وإيجازاً.
4- عبد الرحمن برمو «الرواية التاريخية»:
تكون الرواية أكثر امتلاء بزمنها، وبشواغله المدنية والاجتماعية والفكرية،
حين توثّق صلتها بالتاريخ، وتسري في مسراه، وتندغم في سيرورته، لأنّ
الرواية، وهي تتحدث عن مصائر فردية، تغدو أكثر تمثيلاً لحركة مجتمعها كلما
قاربت هذه المصائر الفردية الاشتراطات العامة، وأفلحت في صوغ تاريخها
الخاص؛ أي أن الرواية قرينة التاريخ في صيغتها الفنية والسردية التي تتوسل
بها إلى هذا التاريخ الخاص. ولربما كانت الروايات التاريخية أو الروايات
التي تنسج بناءها من وقائع التاريخ هي الأكثر أهمية. وتشير تجربة الرواية
العربية إلى أن ذراها الأهم هي الروايات التاريخية أو روايات التأرخة، وهي
الروايات التي توسّع استعمال التاريخ فكرة أو معنى لحركة المجتمع، وليس
مقترنأً باستعمال حوادث التاريخ ووقائعه فحسب. وخير مثال لذلك روايات نجيب
محفوظ الكثيرة التي تروي تاريخ مصر الحديث خلال قرن مضى بأفضل مما في كتب
التاريخ، وإذا كان محفوظ بدأ كتابته الروائية بالروايات التاريخية
الفرعونية، فإنه ما لبث أن خالط غالبية رواياته اللاحقة بالتاريخ على سبيل
التأرخة كشفاً لجوهر حركة التاريخ في معانيها ومغازيها ودلالاتها الأعمق.
ويعول كثيراً على الروايات التاريخية أو روايات التأرخة في تدعيم أبحاث
الهوية القومية. وثمة إقبال واسع على تأمل فهم التاريخ وتغيره في الرواية
العربية الحديثة في العقود الأخيرة إجابة على أسئلة الوجود القومي ووعي
الذات، كما هو الحال مع عبد الرحمن برمو، في كتابه «الرواية التاريخية في
الأدب السوري المعاصر» (دمشق 1996)(12)، وقد أعّد بالأصل لنيل درجة
الدكتوراه في الأدب من أكاديمية العلوم الروسية بموسكو.
أقرّ الباحث في مقدمته لبحثه أن «نمو الرواية التاريخية هو نتيجة تطورات
أخلاقية في الأدب العربي المعاصر، وثمرة مطالب عهد الفتح الثقافي والعلمي
الماضي، كما هو نتيجة نشوء الوعي القومي الذاتي وتطوره الفعال وظهور
الطموحات المحبة للحرية عند العرب». ويصح هذا الرأي على نشوء الرواية
التاريخية وتطورها حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، حين صار للعرب
الاستقلال وجلاء المستعمر الأجنبي عن أراضيهم، فبدا التحول في استخدام
التاريخ لنقد الواقع أو لنقد الذات القومية المخذولة أو المحبطة أو
المهزومة؛ وقد أصبح اتجاه نقد الذات في الرواية التاريخية أو رواية التأرخة
غالباً في العقود التي تلت هزيمة حزيران 1967 لمعرفة الماضي الاستعماري
وأسبابه وعناصر مجاوزته.
وقسم الباحث بحثه لثلاث مراحل أساسية في تطور الرواية التاريخية في سورية، وهي:
الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وحتى العقود الأولى من القرن العشرين،
إذ نشأت الرواية التاريخية في السبعينيات من القرن التاسع عشر.
من العشرينيات إلى الأربعينيات من القرن العشرين.
فترة ما بعد مرحلة الاستعمار في سورية.
ويفيد هذا التقسيم أن الباحث اقتصر على الرواية التاريخية دون رواية
التأرخة، وأنه مّد مصطلح سورية ليشمل مرحلة تاريخية لم يكن فيها كيان سورية
قد ظهر إلى حركة التاريخ، لأن مصطلح سورية وليد ثلاثينات هذا القرن، وقبل
ذلك كان مصطلح «شامي» أو «بلاد الشام» يضمّ سورية بالإضافة إلى أقطار عربية
تكّونت دولاً في الأربعينيات كلبنان والأردن.
أما مفهوم الباحث للرواية التاريخية فناً أدبياً فهو مرتبط «بالانسجام بين
الأحداث التاريخية الحقيقية والخيالية الفنية القصد»، وهكذا اقتصر جهده على
تشكيل صورة عن تطور فنّ الرواية التاريخية في سورية وفق العناصر التالية:
وصف المراحل الأساسية في تطور فنّ الرواية التاريخية، وتحليل هذه المراحل من النواحي المختلفة.
إدراك جوهر الظروف السياسية الاجتماعية والبيئية التاريخية الحضارية خلال مراحل نشوء الرواية التاريخية وتطورها.
تحليل الروايات التاريخية من النواحي الفنية والخيالية، ومن وجهة نظر الموضوع والفكر في هذا الفّن.
تعيين الخصائص الفنية والفكرية وتحديدها في نطاق دراسات الفن التاريخي أثناء المراحل المختلفة من تطوره.
استخراج الحقيقة والخيال من الروايات التاريخية وتعيين الحدود الأولى والثانية منهما بالمقارنة بينهما.
حمل الفصل الأول عنوان «الموضوع التاريخي في الأدب السوري في القرن التاسع
عشر إلى بداية القرن العشرين»، وفيه دراسة كاملة لجهود الرواد في الرواية
التاريخية وهم سليم البستاني وجرجي زيدان وفرح انطون. وفصّل الباحث في
الفصل الثاني القول في روايات معروف الأرناؤوط، وهو الأبرز في عقود
العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين.
ويعدّ الفصلان الأول والثاني تمهيداً للفصل الثالث «الرواية التاريخية في
الأدب السوري فيما بعد مرحلة الاستعمار» حيث زادت اهتمامات الكتاب الوطنيين
بالماضي التاريخي للشعب العربي؛ ثم تجسدّت في المرحلة الجديدة من تطور فن
الرواية التاريخية في اتجاهاته الرومانسية لدى خليل السباعي ومحمد إبراهيم
المرجاني وعبد الرحمن الباشا، والواقعية لدى فارس زرزور وسلامة عبيد وصلاح
مزهر وعاصم الجندي، ويتفق جميعهم على إحياء أحداث التاريخ البعيد والقريب،
مثلما يظهر البحث أهمية الروايات التاريخية المؤلفة في إطار الفن الواقعي،
وأهمية تنوع الأشكال الفنية في كتابة الرواية التاريخية.
وأوضحت خاتمة البحث النتائج التي يشير إليها تطور الرواية التاريخية في
سورية، ولاسيما المرحلة الأخيرة التي تعكس النضال البطولي للشعب العربي
السوري وكادحيه الذين بدأوا الدفاع عن حريتهم السياسية واستقلال وطنهم، حين
أصبحت هذه المرحلة نقطة تحول لفكرة إبراز الشخصية التاريخية مبدعاً
للتاريخ، من التاريخ الخاص عند الارناؤوط ومعاصريه، إلى إعلان الدور الحاسم
للجماهير الشعبية في العملية التاريخية، والروائي المعبّر عنها خير تعبير
هو فارس زرزور في مذهبه الواقعي وتصويره المبدع للحركة التحررية الوطنية
بما يكشف عن مصير كل فرد في سياق المصائر القومية.
ولا يغفل الباحث عن النواقص في النثر الروائي التاريخي في مرحلة الخمسينيات
والسبعينيات على سبيل المثال، وأشار إلى بعض جوانب هذه النواقص مثل الفقر
اللغوي أحياناً أو النظر إلى اللغة كقيمة جمالية أو تزيينية، أو الخلل في
انسجام التاريخي والخيالي، أو «مبالغة تمجيد الشخصيات التاريخية وإبرازها
بصورة أكثر من الواقع»، أو في الكثرة الزائدة للمعلومات الجغرافية
والتاريخية واليومية في النصوص الروائية، أو في الكثرة الزائدة لوعظ الكاتب
وغلبة روح التعليم بدلاً من تصوير الأحداث الحقيقية فنياً وأدبياً.
ثم استخلص الباحث بعض الخصائص الإيجابية للرواية التاريخية مثل تصويرها
لتطور البلاد الاجتماعي أو تداخل الوطني-القومي مع الاجتماعي في رؤية
الواقع، أو توكيد الروائيين المستمر على تشبث الشعب العربي في سورية
بحريته، وتمسكه بفكرة الوحدة العربية الحديثة في وعي الشعب العربي على
الدوام.
وكما هو واضح، فإن كتاب عبد الرحمن برمو «الرواية التاريخية في الأدب
السوري المعاصر» يجدد الحديث حول الرواية التاريخية في فهمها وحدود مصطلحها
ونشأتها وتطورها، وفي مدى تعبيرها عن الذات القومية ورؤيتها رؤية واقعية،
وفي القضايا الفنية المتصلة بها: موقع التاريخي (الصدق والحقيقة) وموقع
الخيالي، وفي أساليب أو اتجاهات الرواية التاريخية، ملحمية انسيابية كما
عند نبيل سليمان، أو واقعية نقدية كما عند عبد السلام العجيلي، أو تسجيلية
كما عند عاصم الجندي. وأذكر بعض الآراء حول هذا الكتاب الجديد.
خاض عبد الرحمن برمو في كتابه موضوعاً راهناً وحساساً لاتصاله الوثيق
بالتغير الاجتماعي والتاريخي في سورية المعاصرة، وهو موضوع قلما التفت إليه
الباحثون والنقاد على الرغم من أهميته النقدية والتاريخية في فهم تشكل
دولة عربية، أو تصارع فكرة الوجود العربي السياسي والاجتماعي مع العوامل
المحلية والداخلية والمكونات والمؤثرات الأجنبية بفعل الاستعمار العثماني
أو الأوروبي الغربي، أو بفعل الاستيطان الصهيوني في مرحلة لاحقة.
ويتلمس هذا الكتاب تجليات الوعي التاريخي بالذات الوطنية والتقدمية في
سورية منذ أوائل القرن العشرين حتى الثمانينات، وهي فترة تاريخية طويلة
نسبياً وحافلة بالصراعات التاريخية والاجتماعية، وإن كان البحث قد ضيّق فهم
التاريخ إلى حدود الرواية التي يكون قوامها الأحداث والشخصيات التاريخية،
بعيداً عن تجليات فكرة التاريخ في التخيل الروائي، فثمة بعد تاريخي لغالبية
الأعمال الروائية، وثمة روايات يحرّكها مجرى التاريخ، وإن خلت من وقائع
وشخصيات تاريخية، ونشير في هذا الإطار إلى الروايات الجيلية أوالإنسيابية
أو النهرية التي تنفجر أحداثها وشخصياتها من قلب التاريخ، ثم تنساب معه
جبارة مثل نهر كبير جارف.
وتناول الكتاب عمل الروائيين في المادة التاريخية مستنداً إلى تحليل تاريخ
سورية المعاصر على وجه الخصوص والتاريخ العربي والإسلامي على وجه العموم،
كشف في الحالات جميعها البعد الواقعي والمأساوي غالباً للمصائر القومية
التي عكستها الرواية التاريخية في سورية، وربط تحليله للروايات بالمسار
الصعب والمعقد لوعي الذات القومية.
نقرأ في هذا الكتاب صوراً مختلفة للوطن بما هي أشكال فنية روائية أو سردية
للتاريخ، غير أنه، وهو يباشر كتابته التاريخية، يثير أسئلة ما تزال بحاجة
إلى إجابات: مكانة الخطاب التاريخي إزاء الخطاب الروائي، مدى الاعتماد على
الواقعية التاريخية ومدى التخييل فيها، النظرة إلى رواية التأرخة، وهي
الشكل الروائي الذي يتقدم تجربة الرواية العربية الحديثة خلال العقود
الخمسة الأخيرة، وهذا كله يعني بالمضمون في الرواية التاريخية.
5- من «الميراث الدموي» إلى «أنين السرو»:
5-1- إبراهيم الخليل: صورة «الآخر» التركي:
كُتبت أبحاث ومقالات متعددة عن «الآخر» العدو الصهيوني كما هو الحال مع ملف
العدد الأول من مجلة «مشارف» الصادرة في فلسطين المحتلة، ومن الآخر ممن
عاشوا بين ظهرانينا، أو في بلدانهم بين أقوامهم «الآخر الأرمني» أو «الآخر
التركي». وقد لفت نظري في هذا الاتجاه صدور ثلاثة كتب
(عن دار الحوار باللاذقية) هي:
1. أنين السرو: تجليات الآخر الأرمني في الرواية العربية (تأليف: أسعد فخري)(13).
2. صورة التركي في الشعر العربي الحديث (تأليف: د. نعيم اليافي وماهر المنجد)(14).
3. الميراث الدموي: قراءة نقدية في الأدب الحديث (تأليف: ابراهيم الخليل)(15).
وربما كان هذا الاهتمام بالآخر الأرمني أو التركي متأخراً، ولا سيما
الأخير، فلقد عانى العرب طويلاً من الحقبة العثمانية الاستعمارية التي آلت،
أو يسرت، إلى الاستعمار الغربي الأوربي، ولا نغفل في هذا المجال الالتباس
الذي طال هذه الحقبة العثمانية الاستعمارية، بما في ذلك، وفي أساسه، التباس
الإسلام بالخلافة التي اغتصبها التاج العثماني. ويتساءل المرء كثيراً حول
غياب بحوث الآخر التركي، على الرغم من هذه الضغوط القاسية التي يمثلها هذا
الآخر في الوجدان العربي عموماً، وفي الوجدان الثقافي العربي خصوصاً؛ فقد
كان هذا الآخر التركي حاضراً بقوة في التعبير الأدبي العربي، في مختلف
أجناسه. ولا يخفى أن هذه الكتب الثلاثة قد كتبت وطبعت بدعم «نادي الشبيبة
السورية ـ اللجنة الثقافية» بحلب، وهو نادٍ أرمني.
كان كتاب نعيم اليافي وماهر المنجد «صورة التركي في الشعر العربي الحديث»
هو الأسبق للظهور، ومن الواضح أن الكاتب الأول، وهو ناقد وباحث معتبر، سبق
الآخرين إلى التعامل أو التعاون مع النادي الأرمني المذكور، وإلى تأليف
الكتب عن الأرمن ومجازرهم ومآسيهم، مثل «مجازر الأرمن وموقف الرأي العام
العربي منها» (دار الحوار ـ اللاذقية 1992).
أما الكتاب الثالث عن صورة التركي فهو كتاب إبراهيم الخليل «الميراث
الدموي: قراءة نقدية في الأدب الحديث»، ويصفه مؤلفه بأنه «صورة التركي في
وعي الآخر»، والآخر هنا بالنسبة لإبراهيم الخليل هو كل من هو غير تركي ازاء
التركي، فعالج المؤلف صورة التركي في نماذج أدبية روائية وقصصية، أي منظور
الآخر للتركي بوصفه «آخر». ويضم الكتاب مدخلاً عاماً يشابه مدخل اليافي
والمنجد عن التركي في الميثولوجية والتاريخ، و يوزع الكتاب إلى قسمين، وقد
ضمّ القسم الأول أربعة فصول، بينما ضم الثاني فصلين، وخصص القسم الأول
لصورة التركي في الأدب العربي الحديث، والثاني لصورة التركي في الأدب
الحديث، واختتم الكتاب بملحق حوى نصوصاً مختارة لجرجي زيدان، ومحمد سعيد
العريان، والرئيس جمال عبد الناصر، وأمين معلوف، وتوفيق يوسف عواد، ونادية
الغزي، وجبران مسعود، وهاني الراهب، وعبدالكريم ناصيف، وفائزالغصين، وفيصل
خرتش، ونهاد سيريس، ونبيل سليمان، والمنفلوطي، وإبراهيم الخليل، وعبده جير،
وأسعد مفلح داغر، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، وحنامينة، ويوسف السباعي،
وإبراهيم الكوني، وكمال أبو ديب (قصيدة)، أما الملحق الأخير فهو مختارات عن
صورة التركي في الأدب العالمي لعدد أقل من أدباء العالم.
اعتمد الخليل، على لغة أقرب إلى النقد، اذ يمازجها في كثير من الأحيان
الولع بالعبارات المجازية، وبعض فيض الإنشاء، وبعض أحكام القيمة المطلقة
على الأعمال، معزولة عن سياقها التاريخي والإبداعي الخاص بمؤلفها، فلا
يعرّف بالمؤلف، ولا بمكانة عمله الروائي أو القصصي ضمن إبداع المؤلف بعامة،
وغالباً ما يقتطع الخليل مقطعاً سردياً أو فصلاً روائياً عن مجمل العمل
الروائي أو القصصي، ولا يدقق الخليل أحكامه، أو يمحّصها، كما هو الحال مع
لورنس، في كتابه «أعمدة الحكمة السبعة»، فالكتاب سيرة ذاتية، وليس رواية،
وقد حوّل الخليل السيرة إلى حادثة اغتصابه من قبل الآغا التركي، ويقول
الخليل بحكم قاطع، إن «لورنس رجل حالم مسكون بالوهم» (ص 221)، ولا يعلل
حكمه أو يسوّغه، ويحوّل الخليل الإهداء بحكم قاطع أيضاً إلى بداية للكتاب،
ويحوّل الاهداء، بحكم قاطع مرة ثالثة الموجه لامرأة، إلى رجل، أي يجعله
موجهاً إلى رجل، على أن لورنس لواطي، بينما الاهداء موجه إلى امرأة معروفة
اليوم في الأدبيات التاريخية التي تناولت المرحلة، هي اليهودية سارة
بيورونسون، ويراجع بشأن ذلك الكتاب المترجم عن التركية «سارة، المرأة التي
أسقطت الامبراطورية» (دار طلاس- دمشق 1994). إنّ مثل هذه الملاحظات لا تقلل
من أهمية كتاب ممتع في اسلوبه، وفي الكثير من تحليلاته البارعة إضاءة
لصورة التركي في الأدب الحديث.[/b][/b]