منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    خصائص خطاب السرد في روايات إبراهيم الكوني

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    خصائص خطاب السرد في روايات إبراهيم الكوني Empty خصائص خطاب السرد في روايات إبراهيم الكوني

    مُساهمة   الأربعاء مايو 04, 2011 4:01 am

    [خصائص خطاب السرد في روايات إبراهيم الكوني ـــ د.محمد الباردي

    1 ـ إن العالم الروائي الذي بناه إبراهيم الكوني في رواياته ينظمه سارد لاشك أنه واسطة بين القارئ والمؤلف الفعلي ولكنه لن يكون واسطة محايدة. وهو صوت يتحدث ويحكي وعين ترى وتصف. وضعه إزاء مروياته ثابت لا يتغير. وإذا أردنا أن نحدد هذه الوضع بمفردات الإنشائيين قلنا إنه خارج القصة، غيري القصة. فهو بهذا المعنى لا نرى لـه حضوراً داخل القصة التي يرويها وهو بطبيعة الحال لا علاقة لـه بالأحداث، إذ لا يشارك فيها فهو. المتكلم دائماً. وإن استعمل ضمير الغيبة فلا يحيد عنه البتة. وهو بهذا المعنى السارد الأول وليس موضوعاً للسرد.‏

    1.1 ـ تبدأ رواية "المجوس" بهذه الجملة السردية "لن يذوق طعم الحياة من لم يتنفس هواء الجبال. هنا فوق القمم العارية، يقتر ب من الآل هة يتحرر من البدن ويصبح بمقدوره أن يمدّ يده ويقطف البدر أو يجني النجوم. من هذا الموقع يروق لـه أن يراقب الناس في حضيضهم، يتسابقون بنشاط النمل فيظن أنهم قد حققوا المعجزة. ينزل إلى أرضهم فيجد أنهم دراويش أشقياء، يجدّون في البحث ولكنهم لا يجنون سوى الباطل. كم يبدو سعيهم مضحكاً وقبيحاً من المنازل العليا"(1). وتبدأ رواية "السحرة" بهذه الجملة السردية" عندما لاح في الأفق، يعتلي ألسنة السراب الزرقاء بدا عملاقاً مثل مارد ينوي أن يشق الفضاء، أو جبل عمودي سقط من السماء وغاص في مياه تفيض بها الصحراء كلما حلت القيلولة. استمات الشبح. جاهد الغلالات الزرقاء. عاند لعبور المستنقع الفاجع. حاول أن يتخلص من فخ لم يكتب لعابر أن ينجو منه يوماً ولكن المسافر لا بدّ أن يمضي إذا أراد أن يعبر المتاهة. وما على الصحراء إلا أن تتدفق بألسنتها النارية الزرقاء وتدفع في وجهه بأمواج بحر كاذب فاجع هو أقسى وأقدر على الغدر من كل البحار العظيمة التي تناقلت سيرتها ألسنة الرواة، وردّدها أهل الصحراء في الأساطير"(2) وتبدأ رواية "نزيف الحجر" بالجملة التالية "لا يروق للتيوس أن تتناطح أمام وجهه إلا عندما يشرع في الصلاة مع حلول العشية وتزحزح القرص الملتهب عن العرش في قلب السماء مودعاً مهددا بالعودة في الغد لتمام مهمته في إحراق ما لم يستطع إحراقه اليوم. يحشو "أسوف" ذراعيه في رمل الوادي ويبدأ في التيمم لإنجاز صلاة العصر"(3).‏

    تؤكد لنا بدايات الرّوايات الثلاث وضع السارد الذي وصفنا، خارج القصة ـ غيري القصّة. وهو وضع ثابت كما أشرنا. ولكنه وضع يحمل بعدا قصديا. فالسارد يريد أن ينفصل كلياً عن مروياته ويتخذ لنفسه مسافة فاصلة بينه وبينها تسمح لـه بأن يبلور صوته الخاص، بل خطابه الرّاجع لـه بالنظر. وهو إذ يكون فوق مروياته دائماً، يصوغ قولـه بكلّ حرية. ولا يكون مضطراً إلى التورّط مع شخصياته والتحدث بلسانها ضرورة. ولذلك تكثر في روايات إبراهيم الكوني تلك المقاطع السردية التي هي من باب الوقف والاستراحة. وهي مقاطع متنوعة ولكنّها ترجع بالنظر إلى السارد وحده. فعندما يقول على سبيل المثال "أمناي، إله القبلي، حفره الريح في فجّ بين أعلى جبلين شمال "تينبكتو" رأسه معمّم بقناع حجريّ موشى بطبقة من الحصى يغطي العينين وينسدل حتّى الأنف المكابر المنصوب إلى أعلى، نحو السّماوات..."(4) نجد أنفسنا إزاء خطاب خاص بالسّارد. وهو في هذه الحالة خطاب وصفيّ وقيمته ليست في وظيفته السردية التي تبدو لنا قليلة الأهمية إذ يمكن الاستغناء عنها دون أن يؤثر ذلك في مسار السرد ونموه بل في القول الذي يريد السارد أن يصوغه حول الصحراء. كذلك يمكن أن نقرأ هذا المقطع من رواية "السحرة" "أهل التيه يأتون دائماً. لا يفلح الجدب في اعتراضهم، ولم يوقف القبلي أسفارهم لم ترهبهم قلة الزاد ولم يعترفوا بالظمأ. اعتنقوا ديانة الأسفار، فصار لهم التجوال وطناً. ويقول العرّافون والسحرة القدامى.. إنّ الهجرة امتياز موقوف على أهل الصحراء. ولولا هذه العقيدة، لما كان أهل الصحراء أهلا لأن يحملوا لقب أهل الصحراء.."(5). وهو مقطع يؤكد الفكرة التي إليها أشرنا. والظاهرة المتعلقة بوضع السارد ليست جديدة في الرواية العربية ولكنّ تواترها وشساعة المساحة النصية التي تملؤها هما اللذان يثيران الانتباه. ومرد ذلك في اعتقادنا يعود إلى أمر أساسي وهو أنّ السارد يعرض نفسه في أغلب الروايات التي كتبها إبراهيم الكوني باعتباره صانع سيرة الصحراء ومؤلفها. فهو إذ يروي حكايات ويقدم شخصيات بشرية أو غير بشرية ويعبر عن أحداث، إنما يكتب سيرة الصحراء. وإذ هو مؤلف السيرة وصانعها فإن صوته السردي يتجلى عالياً ويتحول إلى كائن لا نراه ولكننا نسمعه ونتبع أصداء صوته التي تهيمن على العالم الروائي. إن السارد في روايات إبراهيم الكوني يستبد بالنصّ وهو حاضر فيه حضوراً مستمراً. يرفض أن يختفي وراء شخصياته أو أن يوهم بذلك. فهو المتصرف في القول اللاعب بالسرد. وهو في النهاية في وضع مريح يتيح لـه حرية واسعة للتحرك وتحديد المسافات بينه وبين مروياته. يبتعد ويقترب. يرفع صوته ويخفضه. يضيق الرؤية ويوسعها.‏

    2. 1 ـ إنّ هذا الحضور القويّ للسارد يكشف عنه المتلفظ السردي فاللغة في هذه الروايات تؤدي وظيفتين مزدوجتين. فهي من ناحية تتعلق بموضوعها، تخبر عنه وتشخصه وتحيل عليه وهي من ناحية ثانية تتعلق بمتلفظها، تعبّر عنه كذلك وتشخصه وتحيل عليه. فعندما تبدأ رواية "المجوس" بهذه الجملة التي أوردناها سابقاً" لن يذوق طعم الحياة من لم يتنفس هواء الجبال. هنا فوق القمم العارية، يقترب من الآلهة، يتحرر من البدن ويصبح بمقدوره أن يمد يده ويقطف البدر أو يجني النجوم" تكشف اللغة عن طبيعة متلفظها وهو السارد وعن رؤيته للحياة وعن موقفه من الوجود. وكم هي المقاطع السردية التي يظهر فيها صوت السارد ليعبر عن نفسه ويقول فكرة ويشخص موقفاً لـه من الحياة. وبالتالي فنحن عندما نقرأ هذه الروايات نقرأها من وجهة نظر السارد وبرؤيته الشخصية للعالم والأشياء ويمكن أن نقدم المثال التالي من رواية "المجوس" الغمامة الشفافة التي يتقنع بها "ايدينان" الضّال ازدادت قتامة ونزلت من البرج السماوي الأول إلى البرج الثالث. فجرد القبلي الجبل من جلاله وغموضه وغطرسته وأجبره أن يتحلى بالتواضع ويتشبه بقرينه الجنوبي الأقصر قامة. حامت فوق الجبل سحابة من التجهم والعبوس استمرت أياماً قبل أن يتمخّض الأفق عن الهباء والغبار.."(6). في هذه الجمل السردية تكثر التعابير الاستعارية "الضال ـ يتقنع ـ جلال ـ غطرسة ـ التواضع ـ سحابة من التجهم والغموض). وهي تعابير تعكس رؤية السارد الذاتية للأشياء ولا ترتبط بحقيقة الموضوع الذي تتحدث عنه وهو جبل إيدينان وقد هبّت عليه ريح القبلي. كذلك يمكن أن نذكر هذا المثال من رواية "السحرة" "بعيداً، بعيدا. على امتداد الخلوة الرمادية الصارمة. تدفق الفيض بفتنة التبر. واستعادت أشجار الطلح ظلالاً خسفتها الظهيرة فتمددت على الحضيض في قامات سخية كأنها أجرام المردة. تكاثف القطيع والتحم في دائرة. ارتفعت ذيول الغبار وتصدت للفيض السّخي، فازدهر نسيج الذرات وتبدّى من خلال الضوء كغلالة فاتنة"(7) إنّ هذه الجمل السردية لا تختلف في أسلوبها عن الجمل السابقة. إذ يهيمن عليها التعبير الاستعاري الذي يعكس رؤية السارد للإطار الطبيعي الذي يصفه. وهي رؤية ذاتية صرفة، توجه القراءة توجيهاً صارماً. وهو ما يجعلنا نلحّ على ذاتية السرد في هذه الروايات. فالعالم الروائي لا يشخص موضوع السرد وحده بل يشخص أيضاً قائله تشخيصاً قوياً. وإذ نلحّ على أهمية الظاهرة فلكونها ظاهرة مهيمنة ومتواترة وإن أعدت سمة أساسية من سمات الرواية التقليدية(Cool. فالسارد منذ البداية يعلن أنه ليس موضوعياً ولا محايدا. وبالتالي فهو الذي يفرض وجهة نظره على مروياته ولا يسمح لها البتة باستقلالية الحضور لتموضع العالم. وهذا يعني في النهاية أن السارد ليس داخل القصة ولا مشاركاً فيها ولكنه قريب من مروياته يغمرها برؤيته الأسطورية للعالم.‏

    3. 1 ـ "إن مختلف الأشكال الأدبية تقلد الواقع بدرجات مختلفة جداً. وتتيح ا لواقعية الشكلية للرواية تقليداً مباشراً للتجربة الفردية مستوعبة داخل محيطها الزّمكان ي، مباشرة تفوق ما تقوم به الأشكال الأدبية الأخرى. ومن ثم فإنّ مواضعات الرواية أقل تشدداً في منظور الجمهور من معظم القراء، منذ القرنين الماضيين، يجدون في الرواية الشكل الأدبي الأكثر قدرة على إشباع رغباتهم في توافق بين الحياة والفنّ"(9). ولكنّ روايات إبراهيم الكوني ليست روايات واقعية بمعناها الاصطلاحي. أو قل ليست واقعية وصفية إذا رمنا استعمال المصطلح الذي صاغه فيليب هامون وحدّد مفهومه(10).‏

    فالسارد في هذه الروايات لا يشخص واقعاً بل يشخص أسطورة أو واقعاً مؤسطرا. في هذه الروايات يمتزج العقلي باللاعقلي، ويختلط الطبيعي بما فوق الطبيعة ويلتبس الممكن باللا ممكن إذ يهدم السارد الحدّ الفاصل بين الإنساني واللا إنساني وبين البشري والحيواني وبين العقلاني واللا عقلاني ليؤسس عالم الأسطورة الذي يسعى إلى تشخيصه في هذه الأعمال الروائية التي حللناها. تحدث تزيفتان طودوروف عن أشكال التعامل السردي مع الخارق من الأحداث والشخصيات وصنفها إلى أنواع ثلاثة.. الفانطاستيكي والغرائبي والعجائبي(11). ونحن في هذا السياق نقبل أن ندرج عدداً كبيراً من مرويات هذه ال أعمال ومواضيعها في إطار العجائبي. ففي حالة العجائبي "لا تثير العناصر فوق طبيعية أي انفعال خاص لدى الشخصيات الروائية أو لدى القارئ الضمني ذلك أن ما يميز العجائبية ليس مجرد موقف تجاه الأحداث المروية بل طبيعة هذه الأحداث في حدّ ذاتها"(12). ولكن العجائبي باعتباره نوعاً سردياً لا يكون خالصاً دائماً. ولذلك تحدث طودوروف عن أنواع من الأدب العجائبي منها العجائبي الخرافي (ألف ليلة وليلة) والعجائبي المبالغ فيه والعجائبي المتصل بما هو قادم من بلاد غريبة والعجائبي المتصل بالأدوات الغريبة(13). وهي تصنيفات لم تعد تقنع الباحث كثيراً وتحتاج إلى إعادة نظر. ومع ذلك يمكن أن نتحدث في هذه الروايات عن العجائبي الأسطوري. إن الخارق في مستوى طبيعة الأحداث وطبيعة الشخصيات والزمان والمكان ينبع من الأسطورة. فعلى القارئ الضمني أن يقبل هذا العالم الأسطوري الذي يرويه السارد. وهو عالم لا معنى لـه خارج منطق الأسطورة. ولذلك يمكن أن نقول إنّ البرنامج السردي الذي يتوخاه السارد(14) يقوم على تشخيص الأساطير. ولذلك تكثر على لسان السارد عبارات من نوع "هذا ما ترويه الأساطير عن ذلك الاجتماع الخفي" (15) و"هل أذكرك بالأسطورة" و"عاد الزعيم إلى الأسطورة"( 16) و"ظل يعيد عليها هذه الأسطورة سنوات"(17). إنّ مثل هذه العبارات تعني في ما تعني أن الحياة التي تعيشها الشخصيات الروائية مسطرة في حدّ ذاتها. في القسم الثاني من رواية المجوس وفي الفصل الثالث الذي يحمل عنوان "واو الأرض وواو السماء" نقرأ عنوانين مهمين هما "إخبار الأسطورة الأول "و"إخبار الأسطورة الثاني". في المقطع الأول تتحقق الأسطورة للمهاجر عندما كان تائهاً في الصحراء إذ تظهر لـه مدينة واو من الخفاء. "جاءت السماء بواو نفسها وأرست أسوارها المهيبة عند قدميه أسفل المرتفع الرملي.. رفع رأسه وشاهد أضواء واو اللعوبة، تضيء وتختفي، تقترب وتبتعد، تغمز وتتوارى، في إغراء العذراء. ظنّ أنه يقف على مشارف الملكوت فانتظر ملك القصاص واستعد للحساب. هذا من عجيب واو أيضاً"(18). وفي المقطع الثاني يروي السارد قصة المهاجر الثاني الذي ظهرت لـه واو فوجد نفسه في ضيافة أهلها ولكنّ نفسه سولت لـه سرقة ثلاث كؤوس من الذهب ولمّا رحل اكتشف أنها تحولت إلى نحاس "لم يصدق عينيه وكذّب خبرته التجارية الطويلة في التعامل بالذهب والمعادن في أسواق الواحات. قصد تجار الذهب واختلى بتاجر عجوز سبق أن تعامل معه في صفقات تجارية في زيارات سابقة. امتحن العجوز ا لبضاعة في النار وأعاد الكؤوس للتاجر قائلاً إنها نحاس، والغانية المنسوجة من فسيفساء الجواهر تحولت إلى غانية بائسة، مطفأة، منسوجة من حبات الخرز الأعمى.. فيا أهل الصحراء، إذا فتحت لكم واو أبوابها فاخرجوا منها عراة، لأنكم عراة دخلتم إليها"(19). ولئن وظف المؤلف في جلّ أعماله الروائية الخيال وطاقته الإبداعية الخلاقة في بناء أسطورة واو فإنه يعمد في أغلب الأحيان إلى تسريد بعض الأساطير الإفريقية أو المنسوبة إلى الهنود الحمر أو بعض الأساطير الدينية التي تروى في الكتب السماوية. من ذلك أن المؤلف يصدر المقطع الرابع والثلاثين من رواية السحرة وعنوانه "الحوار" بأسطورة من أساطير الطوارق "السماء مرعى تجاور فيه" "طامت" (الناقة) صغيرها "آورا" (الحوار)، الأم ترعى في الجوار، ا لوليد شقي مشدود إلى شجرة بعقال مفتول من عهن. ولكنّ الشقي يتوثب ولا يكف عن المحاولة. ويوم يتمكن من الإفلات، وفكّ القيد الهزيل ويصل إلى الضرع، يحين المعاد وتقوم الساعة.." ثم يسرد هذه الأسطورة ويجعل من الناقة والحوار شخصيتين أساسيتين من شخصيات رواية السحرة.(20) وفي المجوس يصدر المؤلف المقطع الثاني من الجزء الثالث بأسطورة من أساطير الهنود الحمر نقلاً عن جيمس فر يزر "الغصن الذهبي.. الفلكلور في الثورة" "عجن الإله جسد الإنسان من الطين وصعد إلى السماء لكي يعود لـه بالرّوح لإحيائه، تاركاً خلفه الكلب لحراسة البدن أثناء غيابه في هذا الوقت جاء إبليس ونفخ في الكلب ريحاً باردة فخدرته. دثره بغطاء من فرو حتى يضعف يقظته. ثم بصق على بدن الإنسان وغمره بالقاذورات إلى حدّ جعل الإله يشعر باليأس لاستحالة تطهير الجسد من العفن الشيطاني. من هنا قرر الإله أن يقلب جلد الإنسان ويجعل ظاهره في باطنه. هذا هو سبب عفونة باطن الإنسان"(21). وسيسرد المؤلف هذه الأسطورة عندما يروي تطور شخصية أوخا في صراعه مع أوداد.‏

    نضيف إلى ذلك كله أن سارد إبراهيم الكوني يبني أحياناً رواية بأكملها على أسطورة مركزية واحدة. فإذا كانت أسطورة واو شائعة في روايات كثيرة ويبدو أنها لا تستند إلى مرجعية محددة فإن رواية السحرة تقوم أساساً على أسطورة قرطاجينة معروفة. فتانيت ربّة في مدفن عظماء قرطاج وهي ربّة الخصوبة تحافظ على دلالتها الأسطورية وتصبح عاملاً سردياً هاماً في الرواية ويعرّفها المؤلف في الهامش بأنها (إلاهة الحب والخصوبة عند قدماء الليب يين(22). يحمل بطل الرواية جبّارين قلادة في عنقه تحوي رمز تانيت "تفحص الرّسوم فوجد خمس قطع مربعة حظت (كذا) بالرّموز واحتلت وسط القلادة وحوصر الحصن بقطعتين مثيلتين، آه مثلث تانيت، يحمي الاسم من الجهتين.. نعم لابدّ أن يكون جبارين هو الذي يرقد الآن بين يدي الإلهة تانيت"(22). وستحمي العلامة حاملها من الشرور "لقد أصبت الجني بعلامة تانيت، نحرته بالعلامة"(23). ثمّ تظهر علامة تانيت في شكلها المثلث على عظمة كتف قطعة اللحم لتنبئ بأنّ الوديان ستفيض بالسيول "تفقد الجسم المثلث الذي يخرقه عرق يشطره إلى نصفين غير متساويين لأن العرق يلتزم أحد الجانبين ليترك فضاء فسيحا لبقع العتمة، للخطوط الخفية، للنمنمات الغامضة، للآيات، للنبوءات.. أخيراً عاد الكاهن من ملكوت المعبد وتفوّه بالعبارة الصغيرة ـ ما أخبر به الرّعاة حق.. الوديان ستفيض بالسّهول"(24) ثم تظهر العلامة على فصّ الخاتم وقد وجد البطل الروائي نفسه في بلاد الجنّ فأنقذته مرة أخرى "القبس الخفي هو الذي سطع على فص الخاتم ليريه البشارة. كانت محفورة بصفوف من الأحجار الملونة التي لم ير لها مثيلاً قبل اليوم. كلّ ذرة لها لون يختلف عن لون الذرة التي سبقتها، وتليها ذرة لها لون ثالث يخت لف عن اللتين السابقين، وعلى هذا التنسيق تمضي النمنمة البديعة حتى تكتمل في جسد الرسم.. أطلق الشيخ الآمر الصارم.. اخرج"(25). وفي نهاية الرواية تتحقق دلالة الأسطورة عندما يهطل المطر ليعلن موعد الخصوبة "استوت الأرض وانطلقت تجري نحو الجهات الأربع. ارتفعت إلى أعلى حتى اقتربت من السماء استعارت منها النجوم، وفرشتها على صدرها حجارة. صنعت من الأفق طوقاً مزموما. وصلت لممالك الشّمال فقاسمتها الممالك مما ملكت وأرسلت لها سحب المطر.‏

    اغتسلت بالضوء. وتحممت بالمطر بعد الضوء. ففاحت بعطر الّرتم وأنجبت من جوفها الترفاس"(26).‏

    إنّ ما نودّ أن نؤكد عليه في النهاية هو أن سارد روايات إبراهيم الكوني يعمد إلى تشخيص الأساطير وبذلك يخرج هذه الروايات عن الواقعية بمعناها الاصطلاحي.‏

    2. يعرض المؤلف نصوصه في هذه الروايات معتمداً أسلوب التقطيع. تنبني الروايات الثلاث التي اعتمدناها في هذه الدراسة على عدد من المقاطع تختلف شكلاً من رواية إلى أخرى.‏

    1. 2. تقوم الرواية الأولى التي كتبها إبراهيم الكوني "نزيف الحجر" على ستة وعشرين مقطعا سردياً. وهي مقاطع غير مرقمة ولكنها تحمل عناوين مختلفة من حيث بنيتها الشكلية. فقد يكون العنوان مركبا جزئياً (الأيقونة الحجرية ـ زائر الغسق ـ ثمن العزلة) أو نواة اسنادية كاملة (شيطان اسمه الإنسان ـ شبح من الهملايا ـ لن يشبع ابن آدم إلا التراب) أو لفظاً واحداً (البنية ـ النذر ـ الهاوية ـ العظاية ـ التحول) ومرة واحدة يقترح المؤلف عنوانين مختلفين للمقطع الواحد وهو المقطع الثاني في الرواية الذي يحمل عنوان "الصلاة أمام النصب التذكاري (العسّاس). على أننا نلاحظ أن العناوين التي تأتي في شكل ألفاظ مفردة هي العناوين المهيمنة في هذه الرواية. في هذه الرواية سعى المؤلف إلى الموازنة بين هذه المقاطع المختلفة. فجلّ المقاطع تتراوح بين ثلاث وست صفحات من صفحات الكتاب باستثناء القليل منها الذي كاد ينحصر في صفحتين اثنتين (نذكر على سبيل المثال مقطع العظاية ومقطع التحول) ولذلك يمكن أن نقول إنها مقاطع قصيرة مما يسرع السرد ويقر ب بين النوايات السردية. ثمّ إن العناوين ذات صلة موضوعاتية بمقاطعها. وهذا يعني أنّ العنوان هو علامة دالة على موضوع المقطع ومحتواه السردي. فالمقطع الذي يحمل عنوان البنية على سبيل المثال يروي الحالة التي كان عليها بطل الرواية "أسوف" نتيجة ما تلقاه من تربية، إذ ربّاه أبوه على الخوف من الناس فوصفته أمّه بأنه بُنَيَّة لعدم قدرته على المواجهة "أمّه معها حق. هو بنية. الرجل لا يهرب من لقاء الرّجال. الحياء للبنات"(27) ولذلك ظهر لفظ العنوان في المتن ذاته.‏

    كذلك تظهر صيغة عنوان المقطع "لن يشبع ابن آدم إلا التراب" في نهاية المتن عندما هدد قابيل أسوفا وهو يطلب منه أن يدل على سكن الودّان" فأجابه أسوف بتعويذته في إصرار طفولي ـ لن يشبع ابن آدم إلا التراب"(28).‏

    تبدو لنا هذه المقاطع وحدات سردية قائمة بذاتها، تحوي عددا من الوظائف السردية المغلقة داخلياً. بمعنى أن للوحدة السردية بدايتها ونهايتها وبين البداية والنهاية تنحشر الوظائف السردية لتنشئ مرويا خاصاً أو مضموناً س ردياً متكاملاً. فالمقطع الأول على سبيل ا لمثال يبدأ بهذه الجملة السردية "لا يروق التيوس أن تتناطح أمام وجهه إلا عندما يشرع في الصلاة"(29). وينتهي على هذا النحو" في اليوم التالي، اكتشف أن المعزاة الشقية التي خرجت عن القطيع وقادته إلى كهف الجنّ الأكبر، قد خنقها الذئب في تلك الليلة، فتذكر كيف تخلت عنه الظلمة وهربت ظلها عند لجوئها إليها بعد سقوطه من الصخرة"(30). وبين البداية والنهاية مجموعة من الوظائف السردية نحصرها في ما يلي ـ وقوف أسوف للصلاة ـ تناطح التيوس ـ انقطاعه عن الصلاة ـ أسوف يقف أمام صخرة في وادي "متخندوش" ليؤدي فريضة الصلاة ـ وصف الصخرة وما عليها من رسوم ـ استرجاع أقوال أبيه عن الجنّ الذين يسكنون الكهوف ـ محاولته تسلق الصخور كي يلبس قناع الجني ـ سقوطه".‏

    في بعض المقاطع ترتب الوظائف ترتيباً زمنياً مسترسلا وتترابط ترابطاً زمنياً واضحاً، ويطابق فيها زمن القصة زمن الحكاية. يبدأ المقطع الذي يحمل عنوان "زائر الغسق" بهذه الجملة السردية "استطاع أن يحشر الأغنام في الكهف الكبير قبل أن يصل الزوار"(31) وينتهي بهذه الجملة السردية "خي ل إليه أن ضحكاتهما وهمساتهما ما زالتا تترددان في صخور الوادي.. ضحكات وهمسات أزعجته دون أن يفهم السبب. أحس بقلبه"(32) وبين جملتي البداية والنهاية مجموعة من الوظائف السردية المترابطة ترابطاً سببياً (وصول الرجلين ـ الترحيب ـ الإعلان عن غرض الزيارة ـ طلب البحث عن آثار الودّان ـ رفض البدين أكل لحم الماعز ـ إخراج الأواني والصحون والأمتعة ـ البحث عن الحطب ـ عودة أسوف إلى أغنامه ـ خروج الرجل لتفقد الوديان القريبة). وفي مقاطع أخرى يختل الترتيب الزّمني. في بعضها تظهر علامة دالة على المفارقة الزمنية، ففي المقطع الذي يحمل عنوان "الصلاة أمام النصب الوثني (العسّاس)، تتخذ المفارقة الزّمنية شكلاً استرجاعياً تدلّ عليه العبارة "تذكر عندما جاء رجال مصلحة الآثار منذ سنوات بقافلة من السيارات"(33) وعندئذ ينقطع السارد عن الزمن الحاضر وهو يصف بطله أسوف الذي ينهي صلاته، ليعود إلى الماضي البعيد عندما جاء رجال مصلحة الآثار وعرضوا عليه وظيفة حراسة وادي متخندوش بمرتب شهري. لكنّه قبل الوظيفة ورفض المرتب "أنا أحرس الوادي. أنا أحرس كلّ وديان مساك صطفت بدون فلوس. ماذا أفعل بالفلوس في مسالك؟"‏

    (34) وفي المقطع المعنون بـ "شيطان اسمه الإنسان" ينطلق السارد من وضع تأملي قصير (القلب دليل من لم يعاشر الناس في فهم الناس.."أيدي" مثل القلب لا يخدع) لـه دلالة الحاضر الزّمني ليعود إلى الماضي ليرسم علاقة أسوف بوالده قبل أن يموت (أبوه أيضاً أوصاه بالقلب قبل أن يموت. كان يجلسه أمامه في ضوء القمر في ليالي الصيف.."(35). وثمة مقطع استرجاع لبعض أحداث الماضي يبدأ بهذه العبارة "وكانت لـه تجربة مع الودّان وإذا حاولنا النظر في العلاقة الزّمنية بين المقاطع، نلاحظ أنها لا تحترم الترتيب الكرونولوجي المعروف. فالمقاطع تشدّ بينها المفارقات الزّمنية غير المنتظمة ذلك أن المقاطع الأولى (الأيقونة الحجرية ـ الصلاة أمام النصب التذكاري ـ زائر الغسق) تبدو متتابعة تتابعاً زمنياً ثمّ ينقطع التتابع في المقطع الذي يحمل عنوان البنية ليعود في المقطع الموالي شبح من الهملايا، لينقطع من جديد (النذر ـ الهاوية ـ كلمة السرّ ـ العظاية ـ التحول ـ رحلة الجسد ـ النقيضان ـ راقد الرّيح) ثمّ يعود السّارد إلى حكاية أسوف مع الرّجلين وهي الحكاية الأصلية في الرّواية طيلة بقية المقاطع لا يشذّ في ذلك إلا مقطع واحد هو مقطع "ا لعهد".‏

    يؤدي بنا هذا التحليل إلى أن الكاتب في هذه الرواية الأولى التي ألفها انخرط على مستوى البناء المقطعي في الأسلوب الذي تتوخاه الرواية العربية الحديثة المتمثل في الخروج على خطية الزّمن. ذلك أن بناء المقاطع يخضع أساساً لكيفية تعامل الروائي مع الزمن. وإذا كان الالتزام بخطية الزمن سمة من سمات الرواية التقليدية فإنّ تقطيع الزمن الذي يؤدّي بدوره إلى تقطيع السرد سمة أساسية من سمات الحداثة الروائية. ولكن إلى حدّ سيلتزم إبراهيم الكوني بهذا التصور في بناء المقاطع في رواياته الأخرى؟‏

    2. 2. في رواية "المجوس" يبدو بناء المقاطع على مستوى الشكل أكثر تعقيداً. قسّم المؤلف روايته إلى أربعة مقاطع كبرى سمّاها أجزاء. وقسم كل جزء من الأجزاء الأربعة إلى مقاطع صغرى معنونة. فالقسم الأول يحوي أحد عشر مقطعاً هي على التوالي (القبلي ـ شيخ الطريقة ـ الرّسول ـ القرين الضّال ـ طائر الفردوس ـ أهل الردّة ـ واو ـ بنو آوى ـ الميعاد ـ الرؤيا ـ الدّرويش ـ ). وكل مقطع صغير من المقاطع يقوم على مجموعة من المقاطع الدّنيا تكون هذه المرّة مرقمة. فالمقطع الصغير الأول (القبلي) على سبيل المثال ينبني على أربعة مقاطع دنيا. وعلى هذا النحو تمضي بقيّة المقاطع.‏

    وما يلفت الانتباه في مستوى بناء المقاطع أن المؤلف يتبع خطة مدروسة واضحة. فلئن كانت أجزاء الرواية تكاد تكون متساوية في عدد صفحاتها باستثناء الجزء الأخير، فإن الكتابين يبدوان لنا متوازيين مقطعياً. فالقسم الأول والقسم الثالث يتضمن كلّ واحد منهما أحد عشر مقطعاً ثانوياً. والقسمان الثاني والرابع يحوي كلّ قسم منها ثلاثة مقاطع. وهكذا يتوازى الكتابان. كما نلاحظ أنّ المؤلف يلتجئ أحياناً قليلة إلى توزيع بعض مقاطعه الدنيا إلى مقاطع أقل حجماً. فالمقطع الثالث عشر من القسم الأول يوزع إلى ثلاثة مقاطع معنونة. أ ـ مراثي العذارى ب ـ مراثي الفتيان. ج ـ مراثي الفرسان. بيد أنّ الاختلال يكون في مستوى توزيع المقاطع الصغرى إلى مقاطع دنيا. فهاهنا لا يتقيد المؤلف بحدّ معين ولذلك جاءت متراوحة بين الطول والقصر. أقصر المقاطع يتضمّن أربعة مقاطع دنيا وأطولها يحوي ستة وعشرين مقطعا. وما نستنتجه ف ي النهاية أن المؤلف على وعي شديد بأهمية التقطيع في هذه الرّواية وقد اتبع فيه خطة هندسية واضحة على مستوى الشكل.‏

    وإذا نظرنا إلى هذه المقاطع في مستوى ترتيب وظائف السرد فيها وانتظامها الزّمني، ندرك أنها تميل عموماً إلى ضرب من التتابع الحدثي السببي. وقليلة هي المقاطع التي تخرج عن هذا السياق وتحدث تقطيعاً زمنياً أو سردياً. وهذا يعني أن المفارقات الزمنية بين زمن الحكاية وزمن القصة أو زمن الحكاية وزمن الخطاب قليلة. فعندما ننظر على سبيل المثال في المقاطع الأولى من الجزء الأول للرواية نلاحظ أن المقاطع الأربعة الأولى (القبلي ـ شيخ الطريقة ـ الرسول ـ القرين الضال) هي مقاطع متكاملة. وهي جميعاً تحقق نواة سردية مركزية في الرواية. في المقطع الأول يروي السارد مجيء الأميرة "تينيرى" من آير لتجاور الزّعيم في السهل. وقد عاد من هجرته إلى صحراء الحمادة بعد موت الفقيه. وفي المقطع الثاني يملأ السارد ثغرة سردية في المقطع الأول عندما يروي حكاية الفقيه التيجاني مع الزعيم وقبيلته. ثم يواصل السارد في المقطع الثالث ما كان قد بدأه في المقطع الأول عندما يروي ا ستقبال الزعيم لرسول الأميرة. وفي المقطع الرابع والأخير يعود السارد مرة أخرى إلى حكاية الفقيه التيجاني ولكنه ليسرد هذه المرة كيف قُضي على مملكة شيخ الطريقة "وعندما قضى الجيش الخفيّ على مملكة شيخ الطريقة أشار إصبع الاتهام إلى الجبل لأن نقطة ضعف شيخ الطريقة في جهله بما يعنيه أن تملك في أمتعتك صندوقاً من التبر"‏

    (37). وبعد هذه المقاطع ينقطع السارد عن ذكر حكاية الفقية ليواصل سرد تتابع الأحداث. فالمقطع الموالي (طائر الفردوس) يتحرك السرد في اتجاه شخصية مركزية جديدة ظهرت ظهوراً خافتاً في المقطع الأول وهي شخصية أوداد التي سيكون لها شأن مع الأميرة. وبالتالي فإن السرد في هذا المقطع يدفع في اتجاه تطوير العلاقة بين الشخصيات والتبشير بمعالم الحبكة التي تقوم عليها الرواية، إذ يصف ملامح شخصيته الأسطورية ويحدد علاقتها بالأمّ وبالدّرويش وبابنة العمّ التي لم تطلب منه الطلاق بل "هاجرت مع أهلها إلى مراعي" "مساك ملت" وهو لم يذهب إلى الإمام ليطلقها. استمر يتطاول في القمم الحجرية، يصغي لطائر الفردوس ويرقب السهول من عليائه في السّماوات بعد شهور جاءه الر ّعاة بالبشارة. الحورية المهجورة أنجبت لـه وريثاً يخلفه في قلبها"(38). وفي المقطع الموالي "أهل الردة" ينتقل السارد إلى تشخيص الحالة التي أصبحت عليها سلطنة "تنبكتو" فاختفاء الذهب ضرب التجارة وحركة القوافل مع الشمال توقفت والناس جياع(39). وهذه الحالة هي التي دفعت بآخر سلاطين "تنبكتو" إلى التفكير في الهجرة وبناء واو الجديدة في سهول الحمادة ولذلك هرب ابنته الأميرة لتجاور الزعيم وتشرع في بناء المدينة الجديدة وتسويرها. وعلى هذا النحو تتتالى الأحداث لتبلغ ذروتها عند إعلان القطيعة بين الزعيم والسلطان وقد بنيت واو الجديدة. وتنفرج الحبكة في نهاية الرواية عندما تزول هذه المدينة ويعود الزعيم إلى حياته القديمة. ويتقاطع هذا الخيط السردي المحكم البناء مع خيوط سردية ثانية تتعلق ببعض الشخصيات المركزية في الرواية أهمها ما يتعلق بشخصية الدّرويش وما يتعلق بالثالوث (الأميرة تينيرى وأوخا وأوداد). إنّ ما نريد أن نؤكد عليه يتمثل في أنّ الاسترجاعات السردية قليلة في هذه الراوية. وتقطيع السرد محدود وثمة ميل إلى مطابقة زمن القصة لزمن الحكاية. وهذا كله يعني أن ترتيب المقاطع السردية يراعي الحبكة وأن الحبكة بدورها تنمو نمواً يقوم على التوا صل وليس على الانقطاع.‏

    3. 2. لا تختلف رواية "السحرة" في مستوى بنائها المقطعي الشكلي كثيراً عن رواية "المجوس". أربعة مقاطع كبرى هي قوام هذه الرواية. وهي كلها تحوي ستة وأربعين مقطعاً رئيسياً. والمقاطع كلها وقد جاءت معنونة، موزعة على جزأين توزيعاً متشابهاً ويكاد يكون متساوياً. فالجزء الأول من الرواية يقوم على مقطعين كبيرين (أو قسمين). يتضمّن المقطع الأول تسعة مقاطع رئيسية. ويتضمّن المقطع الثاني ثلاثة عشر مقطعاً. وكذا الشأن بالنسبة إلى الجزء الثاني. ففي الجزأين يتجاوز عدد المقاطع في القسم الثاني عددها في القسم الأول. لكننا لاحظنا أنّ بعض العناوين المتعلقة بمقاطع الجزء الأول تتكرر. فمقاطع (الحية ـ ا لدّائرة ـ الحجر) تتكرّر عناوينها بين القسم الأول والقسم الثاني. فهي الحية أ والدائرة أ والحجر أ في القسم الأول. وهي الحيّة ب والدّائرة ب والحجر ب في القسم الثاني. كما لاحظنا أن بعضها في القسم الثاني يتكرر (الخروج أ ـ الخروج ب ـ والخروج ج). أما في الجزء الثاني فقد لاحظنا أنّ عنوان مقطع واحد يتكرر (العلامة أ والعلامة ب). ولكننا لاحظنا كذلك أنّ عنواني مقطعين ذكرا في الجزء الأول يتكرران وهما الخروج د. والدائرة ج.‏

    إنّ هذه الملاحظة الشكلية تؤكد أمرين أساسيين. عناية المؤلف بمسألة التقطيع وإدراكه لأهميته في البناء الروائي ثم إصراره على التماسك السردي أو تماسك ا لشكل بصفة عامة. إذ لا يمكن الحديث عن انحلال للشكل الروائي كما تروج لـه الحداثة الرّوائية في الأدب العربيّ المعاصر. تتأكد هذه الملاحظة الأخيرة عندما ننظر في بناء الوظائف السردية.‏

    يبدأ القسم الأول من الجزء الأول بالمقطع الرئيسي "بورو" وهو مقطع طويل يقوم على عشرة مقاطع جزئية. في المقطع الجزئي الأول يقدم السارد بطله الرئيسي "بورو" وهو يعبر الصحراء ويمضي لاستقبال المهاجر وفي المقطع الثاني يلتقي بورو المسافر ويدرك أنه توأمه "والآن أنت توأم المسافر. أنا هو المسافر والمسافر هو أنت"(40). ويواصلان معا الرّحلة في الصحراء" خلفه مشى المسافر حائراً ولكن الخوف من العار جعله لا يترنح"(41). وفي المقطع الثالث ينشغل السارد بتحديد العلاقة بين بورو وقر ينه (المسافر) وهما يستريحان بعد تعب الرحلة (صنع لـه وسادة من تراب عند الجذع ـ أنصت بورو لمناورات القبلي في دغل الفروة ـ تنتقل العدوى إلى الجمال فتستجيب الحيوانات للاستنفار ـ تقلب المسافر واستلقى على ظهره ـ عاد بورو إلى الموقد وواصل معاندة الزند ـ الحروف الخمسة المحروسة بمثلثين من مثلثات تانيت نجحت في استجلاب النار من قعر المجهول).‏

    وفي نهاية المقطع ينخرط السارد في استطراد طويل يمتدّ على المقاطع الثلاثة الموالية، يبدأ بهذه العبارة "في تلك السنوات تعلم أن يتسلى بالغناء في المراعي، لأنه كان قد عشق الأشعار كما عشق الجمال"(42). وينتهي بهذه العبارة "هناك في رحاب الماضي، حيث ينطبع الأجداد بقامات المردة على صدور الصخور المطفأة، ويستعير الصيادون العظماء ليس أقنعة الودّان فقط، أو قرونها، أو أجسامها الجليلة وإنما هيبتها أيضاً"(43). ثم تتواصل الوظائف السردية متلاحقة في المقاطع الأربع الأخيرة. في هذا الاستطراد يعود السارد إلى ماضي الشخصية المركزية "بورو" ومن خلال مجموعة من الأفعال السردية وبعض الحكايات يسعى إلى تحديد طبيعة هذه الشخصية الأسطو رية (حلوله في الحوار ـ قتله ودفنه ثمّ خروجه من القبر بعد موت دام أيّما ـ ظهور مولا ـ مولا ومنحه إيّاها الرّغيف الذي طهاه). لاشك أن استطراداً كهذا يقطع السرد ويحدث المفارقة الزّمنية بين زمن الحكاية وزمن الخطاب. ولكنه يختلف عن الاستعمالات المعروفة في الرّواية الحديثة أسلوباً وغاية.‏

    أسلوباً يهيئ السارد قارئه للعودة إلى الوراء بعبارات عديدة معروفة في هذا السياق (في تلك السنوات ـ هناك في رحاب ـ يومها ـ في ليلة من الليالي ـ لا يذكر السحرة للرقع تاريخا ـ تذكر ـ قبل أن يدخل على الحسناء تذكر ـ الحنين إلى حوار الطفولة لم ينطفئ منذ اختطفه الغناء ـ في السّنوات الأولى من زمان طواه النسيان ولم يعد يذكره أحد ـ في تلك الليلة ـ استدار الزّمان..) وهي كلها إشارات زمنية تنبّه القارئ إلى الخروج من الحاضر والعودة إلى الماضي وهي عودة تأتي على سبيل الاستطراد. فالحدث يحيل على حدث سابق والصورة ترجع إلى صورة قديمة والفكرة لها بدايتها في زمن سابق. إنّ أسلوباً كهذا لا يضع القارئ أمام مواجهة زمنية حادة كما تفعل عادة الرواية الحديثة وإنما توحي بأن الماضي امت داد للحاضر، يبرّره ويفسره ويرجعه إلى أصوله.‏

    وبالتالي ثمة امتداد زمني والأسطورة لا تعترف بالقطيعة الزمنية. فالأسطوري "يشمل الماضي والحاضر والمستقبل ويخترق تبعاً لذلك كل ثقافة من الثقافات مهما كان موقعها من التاريخ"(44).‏

    وغاية، تبدو لنا هذه المفارقات الزمنية المحدودة وقد جاءت على سبيل الاستطراد في شكل خطاب خاص بالسّارد من خلاله يسعى إلى أن يؤرخ لمروياته ويقدم عنها صورة كلية. هي صورة أسطورية لا شك ولكنها متكاملة العناصر. فالمفارقات الزمنية ـ على قلتها ـ لا تعكس وعياً حاداً لدى الشخصية بالزمن وإحساسها بالتمزق وتعارض الرؤى بقدر ما تجسد وظيفة السارد التاريخية وهو يقدم نفسه على أساس أنه حامل لتاريخ الصحراء ومبشر بزمنها الأسطوري. إنّ الخلاصة التي نريد أن نتوقف عندها هي أن نظام المقاطع في روايات إبراهيم الكوني نظام صارم البناء ولكنه لا يعكس مفارقات زمنية واضحة، واسعة وحادة. فالسرد يتقدم دائماً في اتجاه اتمام عناصر الحكاية والعودة إلى الوراء لا تكون إلا على سبيل الاستطراد في مستوى المقاطع الدنيا وهو استطراد تاريخي باعتبار أن السارد يسعى إلى أن يعرض صورة كلية عن أسطورة الصحراء.‏

    بيد أن هذا الاستطراد يباعد بين نوايات السرد كثيراً. فعلى سبيل المثال نلاحظ أن السارد في رواية "المجوس" يقدم رسول الأميرة إلى الزعيم في الصفحة الخامسة عشرة ولكن المقابلة لا تتم على مستوى السرد إلا في الصفحة الحادية والأربعين وينتج عن ذلك أيضاً أن السارد يهمل شخصيته طويلاً أحياناً إذ يلهيه الاستطراد عن مواصلة حكاية الشخصية. فالزّعيم أوكل لأوخا مهمة وضع التحصينات حول البئر في الصفحة الثالثة عشرة من الرواية ذاتها ولا يعود السارد إلى ذكره إلا في الصفحة الأربعين. ثم إن الانتقال من مقطع رئيس إلى آخر يكون في أغلب الأحيان بدون رابط سببيّ مباشر أو رابط حدثي ظاهر. إذ يدخل السارد في استطراد مبرره أحياناً اشتراك في التيمة أو الموضوع. وهو ما يوسع هذا التباعد بين نوايات السرد ويجعله سرداً بطيئاً ويقترب السرد الروائي من السرد التاريخي إذ ينشغل السارد بتفسير الأحداث وبتقديم المبررات الملائمة لها.‏

    ولاشك أن هذا المبدأ (تباعد السرد) لا تحبّذه الرواية الواقعية التقليدية على حد رأي ف. هامون‏

    (45) الذي يعتقد أن إنشائيتها تقتضي ضرباً من الاستعجال عندما تقارب بين نوايات السرد. ولكنّه أيضاً أسلوب لا تجسمّه الرواية الحديثة التي تخلت عن الحبكة ولم تعد هذه المسألة من إشكالياتها المركزية.‏

    3. 2 إن السارد في روايات إبراهيم الكوني كائن ورقي مستبد بالنص. فهو يروي وينقل الأحداث ويفسرها ويبررها وينظر لها. والسؤال الذي يطرح والمتعلق بالمقامات السردية هو كيف يروي السارد مروياته وعلى من يعول في سرده وما علاقة المقام السردي بزمن القصة؟.‏

    1. 3 في كل روايات إبراهيم الكوني ثمّة مقام سردي رئيسي واحد. طرفاه سارد خارج القصة ـ غيري القصة ومسرود لـه ضمني. وإذا كان السارد في المدونة المحدودة التي اعتمدناها يتجلى من خلال صوته فإننا لم نلحظ حضوراً نحوياً للمسرود لـه. وبالتالي فإن المسرود لـه الضمني هو بدوره خارج القصة (ليس طرفاً في الأحداث المروية) يلتبس بالقارئ الضمني وقد يتماهى معه كل قارئ حقيقي. هذا المقام السردي ليس معيناً زمنياً أو مكانياً.‏

    وإذا كان من الطبيعي أن يكون المقام لاحقاً للمرويات فإن المدة الزمنية الفاصلة بين زمن رواية هذه الأحداث وزمن وقوعها لا يمكن تحديدها. وإذا اعتبرنا أن زمن القصة هو زمن أسطوري فإن المدة الفاصلة بين زمن المقام السردي (زمن رواية الأحداث) وزمن وقوعها مدة ممتدة امتدادا لا نهائياً. فعندما يتحدث السارد مثلاً في "المجوس" عن ملك الجنّ الذي يريد أن يستقر برعيته في الأرض ويبني لشتلتهم وطناً(46) لا ندرك زمن هذا الحدث ولو على سبيل التقريب وكذا الشأن في رواية السحرة عندما يقول السارد "يروي الرعاة في تادارات أن الطفل والطفلة اللذين أنجبهما آكا من جنيته الحسناء كانا توأمين.."(47) إذ لا نستطيع أن نحدد في أي زمن وقعت الحادثة. والنتيجة هي أن المدة الزمنية التي تجري فيها الأحداث لا يمكن حدّها وبالتالي فإن موضع المقام السردي الزمني في علاقته بمر وياته غير ثابت. إذ يدنو أحياناً من الحدث ولكنّه أحياناً أخرى يتباعد عنه تباعدا لا نهائياً.‏

    2.3. إنّ هذا المقام السردي الرئيسي هو المقام المركزي المهيمن. فالحكايات التي تروى يرويها هذا السارد الذي يتردد صداه كلما تقدمنا في قراءة النصّ. ولذلك لا مجال للحديث عن تعدد السردة والإشكاليات التي يطرحها كما يبدو لنا في الرواية الحديثة. ولذلك يمكن أن نقول إن المقامات السردية الداخلية أو المضمنة محدودة. فعلى سبيل المثال يتضمن مقطع الحصن من رواية "السحرة" مقاما سردياً قصيرا، سارده الراعي والمسرود لهم الرعاة وموضوع السرد حكاية "بابا" والذئب(48). كما تتضمن رواية "المجوس" مقاماً سردياً داخلياً عندما يروي الزعيم لحكماء القبيلة الروايات الثلاث المختلفة والمتعلقة بإحدى الشائعات(49). وتحوي كذلك رواية "نزيف الحجر" مقاماً سردياً داخلياً سارده أبو البطل والمسرود لـه البطل ذاته وموضوعه قصة الأب مع الودان(50).‏

    ولكنها مقامات محدودة وقصيرة ولا تتيح ذاك التلاعب بين المقامات السردية وتبادل الأدوار بين المتلفظين الذي تمارسه الرواية الحديثة(51). ومع ذلك فكثيرة هي الحكايات و الأحداث التي يكون فيها السارد من الدرجة الأولى مجرد ناقل وتتضمن مقامات سردية ضمنية لا يصرّح السارد بطرفيها(السارد والمسرود لـه) وهي مقامات نستنتجها من عبارات على نحو "يروى أيضاً أن أصوات الطبول.. ما هي إلا نداء الصحراء الرّملية للمطر"(52) أو "يقولون أن مملكة تانس هي واو الموعودة "(53) أو "ويروى أن عواء الوداع استمرّ عاما كاملا"(54) "يروى في الصحراء أن "وانتهيط" اللئيم هو الذي أنقذ "تامدّورت" وحررها من أسر الحجر"(55)" تناقل الرعاة في الحمادة أن الساحر تنقل في صحراء الشمال(56) أو كذلك "يؤكد الرّواة" "وكثيرون أكدوا" و"ورد في السيرة القديمة"(57) "وتناقل الأجيال عن الأجيال كيف ابتعد الزعيم"(58). إنّ هذه العبارات توحي بأنّ السارد الرئيسي هو مسرود لـه في هذه الحكايات التي يرويها وهو مجرد ناقل لها. ولكنّ المقامات السردية المتعلقة بهذه الحكايات والأحداث مجهولة الهوية، تنسب إلى المجهول أو إلى أعوان سرديين لا يمكن التحقق من هويتهم (رعاة ـ رواة ـ أجيال ـ أساطير) وبطبيعة الحال والأمر على هذا النحو لا يمكن أن نتحقق من الزمن الذي سردت فيها ولا من المكان الذي فيه رويت. وكم هي كثيرة مثل هذه العبارات في المدونة التي اعتمدناها. إنّ هذا النوع من السرد والذي هو أقرب إلى السرد الخرافي يقوي حضور السارد في حكاياته ويؤكد أنه لا صوت يعلو على صوته.‏

    3.3. ينتج عن ذلك كله أن يهيمن السرد المفرد في هذه المدونة التي اعتمدناها. فالحدث دائماً لا يقع إلا مرة واحدة ولا يروى كذلك إلا مرة واحدة. فالسارد لا يعدد الروايات ولا يكرر رواية الحدث الواحد. لاشك ـ كما لاحظنا ـ نقرأ عبارات على نحو (يرددون ـ يروى ـ تناقل ـ الرعاة) وهي عبارات توحي بأن الحدث الواحد قد روي مرات كثيرة قبل أن يصل إلى السارد (من الدرجة الأولى). ولكن هذا الافتراض لا يتجسد على مستوى السرد. إنّ هذا النمط من السرد تحبذ الرواية التقليدية أن تنتهجه وفيه يكون السارد ـ عادة ـ مقتصداً فيروي الحدث الذي وقع مرة واحدة بدون إعادة أو تكرار. وهو في الحقيقة نوع من التواتر لا يمكن أن تستغني عنه أية حكاية تروى ولكن ميزة الرواية التقليدية في احتكارها لـه وعدم السعي إلى تنويع علاقات التواتر. وهو ما تسعى الرواية الحديثة إلى ت حقيقه وجعله عنصراً هاماً من عناصر إنشائيتها(59). إن رواية إبراهيم الكوني هي رواية أحداث بالدرجة الأولى. ولذلك ينشغل السارد بالتصنيف والترتيب والتنضيد. ونظراً لغزارتها فإنه لا يجد الفرصة لإجراء لعبة تعدد الروايات. ثمّ إن غايتها الأساسية هي كتابة ملحمة الصحراء بأبطالها وحكايتها وأحداثها الأسطورية. ولذلك يهمه أن يتقدم السرد دائماً في اتجاه بناء هذه الملحمة ولا يجد الفرصة للإعادة والتكرار اللذين ينتجان ضرباً من الشعرية الحديثة في الرواية المعاصرة وهو ما تحبّذه رواية إبراهيم الكوني.‏

    4. إن صيغة السرد عموماً تكون حكاية أفعال وحكاية أحوال وحكاية أقوال وحكاية أفكار. والإشكالية المركزية في هذا المستوى من التحليل بعدما أثرنا طبيعة التشخيص في روايات إبراهيم الكوني عامة ولا سيما من خلال هذه المدونة المحدودة التي اعتمدناها تنحصر في هاتين المسألتين الأخيرتين.‏

    1. 4 إنّ ما يلفت الانتباه في هذه الروايات أهمية ما يمكن أن نسميه بحكاية الأفكار. ذلك أن السارد كثيراً ما يقطع السرد ليسترسل في خطاب فكري يتعلق بالصحراء وبحياة الناس فيها كأن يقول مثلاً في "نزيف الحجر" "القلب جليل من لم يعاشر الناس في فهم الناس. القلب هو النار التي يهتدي بها البدوي في صحراء الدنيا كما يهتدي التائه في الخلاء بنجم "أيدي"، كل النجوم تتحول وتنتقل وتبدل مكانها وتغيب. أما هو فيبقى ثابتا حتى الصباح"(60). أو يقول كذلك في "المجوس" "ولكن الخبراء أكدوا أن الصحراء عندما تتلثم بالعتمة والحداد فإن أكثر السحب جودا بالمطر سرعان ما تتخلى عن عزمها وتسلم الأمر للقبلي وتروي العجائز أن الخصمين الأبديين قد قاما من قديم الزمان بتقسيم الصحراء، فأصبحت الصحراء الجنوبية منطقة نفوذ القبلي وفاز المطر بالحمادة الشمالية ولم يخل الطرفان بالميثاق إلا في حالات نادرة"(61). ويقول أيضاً في "السحرة" على سبيل المثال "وإذا كان الزمان الذي يروق للشيوخ الحكماء أن يسموه حكيماً، فقد أصدق القول وأبرَّ الوعد دائماً، فإنه عايش فواجع الجدب في النجوع ورأى كيف يقترف الجوع في ا لقبائل فظائع تفوق في وحشيتها تلدّد الشمس بقطع الحجارة واستطعام ألسنة السراب لطين الحمادة الأحمر"(62).‏

    إن خطاب السارد هاهنا يكاد يكون خطاباً مستقلاً خاصاً به. وتكاد تكون الأعوان السردية الأخرى مجرد تبرير لهذا الخطاب الفكري الذي يقوله السارد عن الصحراء ففي هذا المثال "ولكن إرادة الحياة عرفت دائماً كيف تنتصر، فغلبت الأمهات تدابير الآباء. وقد سمع جبارين السحرة يثنون على هذه الإرادة الغامضة سراً، ويعترفون أن أهل الصحراء مدينون لها عبر الدهور بالبقاء على قيد الحياة.."(63). ينطلق السارد من إنشاء صلة بين الفكرة وبطل الرواية ولكنه سرعان ما يهمل بطله ويسترسل في خطاب فكري طويل يمتد على أكثر من ثلاث صفحات. إن هذا الخطاب الفكري المتواتر الذي يتخلل سرد الأفعال، يقدم معرفة بعالم الصحراء، أساليب عيش وثقافة وأساطير ولكنها ليست معرفة محايدة بل تتخذ في أغلب الأحيان بعدا تبشيريا. كأن السارد من أهل الصحراء يتبنى ثقافتهم ويشيد بحياتهم ولذلك يكون الخطاب الفكري مجالاً لتحليل الأبعاد الفلسفية والوجودية بل والميتافيزيقية أحياناً. وبذلك يضع الإطار الفكري العام الذي تنخرط فيه أعمال الشخصيات وسلوكاتهم. ففي هذا المقطع القصير من رواية "السحرة" قال السحرة إنها أنبل من المحبة لأن في المحبة انتظاراً لمحبة مقابل المحبة. قالوا إ نها أنبل من الجود، لأن الجود صيت والصيت نفوذ، والنفوذ دائماً سلطان السلاطين في كل زمان. قالوا إنها أنبل من الفضيلة لأن الكثيرين من أهل الاعتزال رأوا

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 07, 2024 8:02 pm