[b]تحليل لقصيدة ابتسم لايليا أبو ماضي وفق المنهج الأسلوبي
الحمد لله وكفى , وصلاة وسلاما على النبي المصطفى , وعلى من سار على دربه واقتفى . أما بعد:
قصيدة الشاعر : إيليا أبو ماضي بعنوان : ابتسم ؟
قال السماء كئيبة ! وتجهما
قلت: ابتسم يكفي التجهم في السما !
قال: الصبا ولى! فقلت له: ابتــسم
لن يرجع الأسف الصبا المتصرما !!
قال: التي كانت سمائي في الهوى
صارت لنفسي في الغرام جــهنما
خانت عــــهودي بعدما ملكـتها
قلبي , فكيف أطيق أن أتبســما !
قلـــت: ابتسم و اطرب فلو قارنتها
لقضيت عــــمرك كــله متألما
قال: الــتجارة في صراع هائل
مثل المسافر كاد يقتله الـــظما
أو غادة مسلولة محــتاجة
لدم ، و تنفثـ كلما لهثت دما !
قلت: ابتسم ما أنت جالب دائها
وشفائها, فإذا ابتسمت فربما
أيكون غيرك مجرما. و تبيت في
وجل كأنك أنت صرت المجرما ؟
قال: العدى حولي علت صيحاتهم
أَأُسر و الأعداء حولي في الحمى ؟
قلت: ابتسم, لم يطلبوك بذمهم
لو لم تكن منهم أجل و أعظما !
قال: المواسم قد بدت أعلامها
و تعرضت لي في الملابس و الدمى
و علي للأحباب فرض لازم
لكن كفي ليس تملك درهما
قلت: ابتسم, يكفيك أنك لم تزل
حيا, و لست من الأحبة معدما!
قال: الليالي جرعتني علقما
قلت: ابتسم و لئن جرعت العلقما
فلعل غيرك إن رآك مرنما
طرح الكآبة جانبا و ترنما
أتُراك تغنم بالتبرم درهما
أم أنت تخسر بالبشاشة مغنما ؟
يا صاح, لا خطر على شفتيك أن
تتثلما, و الوجه أن يتحطما
فاضحك فإن الشهب تضحك و الدجى
متلاطم, و لذا نحب الأنجما !
قال: البشاشة ليس تسعد كائنا
يأتي إلى الدنيا و يذهب مرغما
قلت ابتسم مادام بينك و الردى
شبر, فإنك بعد لن تتبسم
المـــقدمـــــــــة :
إيليا أبو ماضي الشاعر المهجري الذي أسماه
بعض النقاد بشاعر التفاؤل , نلتقي معه هنا في دراسة لقصيدته التي تبعث
التفاؤل والسعادة, وتبرز شيئا من جمال الدنيا المشرق. فهي قد خاطبت النفس
البشرية بشكل فيه من النقاء والصفاء .
نجد هذه القصيدة تحمل كما هائلا من الروح العالية عند الشاعر , فهو قد جعل المتلقي يعيش في بحر السعادة بشكل مقنع ورائع .
إن الخطاب الشعري بشكل عام لابد أن يحوي
على مقصد ما , فنجد إيليا أبو ماضي في هذه القصيد قد وضح مقصده وبان , وذلك
بجعل اليآس متفائل , والحزين سعيد , بجمل متراكبة , وحوار شعري بارع .
إنني في دراسة هذا النص سأسير وفق المنهج الأسلوبي , الذي يجعل النص مادته ومساحته .
مــــــستوى الأصوات :
إن الشاعر قد جعل لقصيدته بحرا إيقاعيا
سهلا , ليتناسب ذلك البحر مع الموضوع الذي أنشأ من أجله القصيدة, وأيضا جعل
هذا البحر نظما إيقاعيا صوتيا رائعا , أضف إلى ذلك اختياره للكلمات
والأحرف التي امتزجت مع موضوع القصيدة.
فلو تجولنا داخل القصيدة لوجدنا أن الشاعر
قد كرر جملا من الأصوات والأحرف التي تناسب مقام ومقصد القصيدة . فنشاهده
قد كرر حرف ( السين ) مثل قوله : السماء , وابتسم , نفسي , المواسم ,
المسافر. لما في حرف السين من تنفيس للحزين , وأيضا يعطي إيقاعا وصفيرا في
النطق.
كما نجد الشاعر قد جعل قافيته حرف (الألف)
الذي يعبر عن إخراج النفس من الصدر في آخر كل بيت , وكأنه يريد من ذلك
الحزين الشهيق والزفير , لإخراج حزنه وتجديد حياته. أضف إلى ذلك من سهولة
ذلك الحرف في نطقه.
كما أيضا نجد حرف (القاف) الذي نجده قد
تكرر كثيرا , وهو يعبر عن الإيقاع النفسي للحزين , ويجعله يبدي ما في نفسه
من حزن وألم . كما يجعل من تكرار هذا الحرف سلسلة من الإيقاعات الصوتية
المتكررة فيجعل للقصيدة بهاء ورونقا.
وإننا نلمح ملمحا لطيفا فالشاعر قد أبعد
الحروف المستثقلة في النطق كالحرف الضاد , وحرف الصاد , وحرف الثاء , وحرف
الظاد , وأعتقد أن الشاعر قد أجاد في ذلك , لأن القصيدة تحمل شيئا من قيم
السعادة والتفاؤل , فجعل جل الأصوات التي استخدمها سهلة وواضحة , كما نجد
في إيقاعها.
المعجم الأدبي الشعري:
المعجم الشعري هو لغة القصيدة والجدول
الذي يختار فيه الشاعر الكلمات التي تؤلف لغته الشعرية , وإن تمحور المعجم
الشعري يخضع لحركة القراءة التي يجريها القارئ في النص, فهو شكل من أشكال
إنتاج الدلالة النصية.
يخضع المعجم الشعري لمبدأ الإفادة , إذ لا
يمكن أن نعد جميع الكلمات معجما , بل ينبغي أن نستمع إلى إختيارالشاعر ,
وإلى الأقطاب الدلالية التي يستمد منها معجمه وفي هذه القصيدة يستمد إيليا
أبو ماضي لغته من أربعة معاجم وهي:
1) معجم الفلك .
2) معجم الحرب.
3) معجم السعادة.
4) المعجم الإقتصادي المادي.
أما معجم الفلك فنجده واردا في الأبيات
الأولى ففي قوله : السماء , والشهب , والنجوم . ففي قوله السماء ترددت
كثيرا , وأعتقد أن مراده من ذلك جعل الحزين فاقد السعادة , يتفكر في السماء
وما فيها من النجوم والشهب , لأن في ذلك تخفيفا للحزين وسعادة له ,
ونسيانا لما يمر به.
أما معجم الحرب فنراه جليا في أبيات معدودة مثل قوله :الدم , والقتل , والجرم , والعدى , والأعداء , والحِمى , وتخسر, ووجل.
وأرى أن معجم الحرب لم يكن موفقا للشاعر
في اختياره لهذه القصيدة ولا يمت لموضوعها بصله , لكن أتصور أن هذه من
العلامات التأريخية القديمة في الشعر العربي , فذكر الحرب سمة من سمات
الشعر العربي القديم , ولابد أن تكون موجودة في شعرهم.
أما معجم السعادة فهو المعجم المرجعي في القصيدة , أي أنه موضوعها ومكان الإحالة على أحداثها , وهو فضاؤها الحقيقي .
فنجد الكلمات التي دلت على ذلك في قوله :ابتسم , اطرب , البشاشة , اضحك.
ونجد الشاعر قد كرر ذلك كثيرا وخاصة كلمة :
ابتسم .فإن تكرار الكلمة التي تريدها مقصدا للقارئ قد توصل له المقصد , بل
قد ينثني لما تطلب , وهنا نجد الشاعر قد فعل ذلك , فهو يريد الإبتسامة لكل
من يقرأ النص .
أما المعجم الإقتصادي المادي فقد وجدناه محدودا مثل قوله : التجارة , ودرهم , ومغنم , وتخسر .
وأتصور أن الشاعر في اختياره لهذا المعجم
يريد أن يبين أن من الحزن الأليم خسارة الإنسان في تجارته فأن ذلك يحزن
المرء حزنا شديدا , فهو يريد أن يبين للخاسر شيئا من التفاؤل الذي يعيد
عليه شيئا من بسمة الحياة وجمالها , مثل ذلك المهزوم في الحرب.
السياق التركيبي في القصيدة:
_الحوار : نجد القصيدة قد اتجهت في الخطاب الشعري نحو أسلوب قد يكون جديدا في الشعر العربي , وهو الحوار.
فالشاعر قد جعل القصيدة مكونة بين اثنين
متحاورين , أحدهما حزين , والآخر يرد عليه ويخفف عليه حدة الحزن والألم ,
فإن جل القصيدة مضت على هذا المنوال.
إن أفضل طريقة لتوصيل فكرة ما في الخطاب
العادي , هي طريقة الحوارالهادف فهو يجعل المعارض يقتنع بشكل سريع بل
بإقناع كبير , فكيف إذا كان هذا الحوار شعريا منسقا ومركبا تركيبا رائعا,
لاشك بأنه سيكون أبلغ وأنفع , وهذا ما وجدناه في هذه القصيدة.
إن ما يستوقف القارئ في هذه القصيدة قوة
وروعة سبك هذا الحوار الشعري الجميل , فالشاعر قد جعل الطرف الآخر الذي يرد
على من به حزن وألم يملك دررا من الحكمة ليحاور الآخر المعارض مثل قوله :
قال: الصبا ولى! فقلت له: ابتــسم
لن يرجع الأسف الصبا المتصرما !!
إن أسلوب الحوار يجعل القصيدة أكثر ووضوحا
وفهما , وأيضا أسرع في توصيل المقصد من تلك القصيدة , وأيضا يختصر عليك
مسافات لتحقيق الجمل والتراكيب مع بعضها , فهو كما يسمه البلاغيون المساواة
, أضف إلى ذلك أنه أكثر جذبا لقارئ القصيدة .
_ أسلوب الخطاب والغيبة :
نجد الشاعر في هذه القصيدة قد جعل الخطاب
لفرد واحد فكأن كل قارئ لهذه القصيدة يتصور أن الخطاب له شخصيا , وهذا من
أبلغ وأجمل المعاني التي تحملها القصيدة.
أضف إلى ذلك أنه لم يغفل عن ضمير الغيبة فقد أتى به لينوع في الخطاب , لئلا تفقد القصيدة نشاطها وحيويتها .
فإن التنوع في الخطاب يجعل القارئ لا يفتر عن متابعة قراءة القصيدة , وبيان ما فيها من معان .
أيضا نجد الشاعر استخدم أسلوب الاستفهام
بشكل واضح وبين , والإجابة على أي شخص في الخطاب العادي بأسلوب الاستفهام ,
يجعل الآخر يستلهم مراد المجيب , ويقتنع به , وهذا ما وجدنا في هذه
القصيدة فالشاعر يجيب بأسلوب الاستفهام مع شيئا من الحكمة مثل قوله :
أتُراك تغنم بالتبرم درهما
أم أنت تخسر بالبشاشة مغنما ؟
فهو يريد أن يقول له لن تخسر بالبشاشة شيئا , ولن تغنم وتحصل على شيء جميل بالترنم , فهو قد جعل الاستفهام بصيغة الإجابة .
_ التكرار : إن التكرار في القصيدة جاء
متوازنا ومحدودا فنحن لم نر إلا بعض الكلمات التي تكررت دون الجمل , وهذا
يدل على أن هناك مقصدا يريده الشاعر فضلا عن براعته في نظم الشعر .
فنجد مثلا كلمة (ابتسم ) قد تكررت كثيرا ,
وهذا دليل على أن الشاعر يبين مقصده من القصيدة , كما أيضا يريد أن يبعث
للمتألم الحزين شيئا من الابتسامة التي قد يتقبلها عقله الباطن.
كما نجد كلمة (السماء) قد تكررت, فالشاعر
يريد من تكرارها أن يوحي للقارئ شيئا من صفاء السماء وبهائها ليجعلها
متنفسا للحزين , وباعثا هاما للسعادة والابتسامة.
كما نجد أيضا كلمة (قال) قد كررها الشاعر
كثيرا, وهذا دليل على أن سر سعادة الحزين حينما يبدي ما في نفسه , فالحزين
كلما أبدى حزنه وبينه كلما خفف على نفسه تلك الحزن .
_التقديم والتأخير :
إن التقديم والتأخير في القصيدة العربية
إذا كان له مقصودا عد عدولا فنيا مميزا , ونجد في هذه القصيدة ندرة ذلك ,
وذلك راجع لسهولة المفرادات وخطاب الشاعر . لكن استوقفتني قول الشاعر :
قال البشاشة ليس تسعد كائنا .. يأتي إلى الدنيا ويذهب مرغما
فإن البشاشة مؤنث , لكنه قال تسعد ,
وأتصور أن حقيقة الكلام : قال ليس تسعد البشاشة كائنا , فهنا استقام الكلام
, وقد يكون ذلك لاستقامة الوزن.
السمات المميزة لنظام التمثيل :
إن ما يزيد من رونق إيقاع القصيدة وبهائها
, كثرة الصور البلاغية التي تعتبر سمة أسلوبة مميزة , وهذا ما نجده في هذه
القصيدة فنجد الجناس في الكلمات التالية :
حولي _ حولي , قال _ قلت , تجهما _ التجهم , السماء _ السماء ,
الصبا _ الصبا , مجرما _ مجرما , جرعتني_ جرعت , العلقما , العلقما , مرنما _ مرنما.
ونجد الطباق في الكلمات التالية :
متألما _ مبتسما , دائها_ شفائها , الكآبة
_ البشاشة , تعرضت _بدت , كانت _صارت , تغنم _ تخسر , يأتي_ يذهب , معدم
_حيا ابتسم _لن تبتسما.
كما نجد هنالك صورا تشبيهية رائعة فنجد في البيت الأول قوله :
قال السماء كئيبة ! وتجهما
قلت: ابتسم يكفي التجهم في السما !
فقد شبه تغير مناخ الجو بأن السماء تحمل الكآبة والحزن , وهذا شبيه بمن يحمل الحزن في قلبه فكأن قلبه قد شابه شيء من الغبار.
أيضا نجد في قول الشاعر في البيت الثالث :
قال: التي كانت سمائي في الهوى
صارت لنفسي في الغرام جــهنما
حيث شبه حبه وغرامه بحبيبته بأنها جهنم في نفسه , فقد جعل القارئ يعرف مدى لوعته وحبه بحبيبته هذه .
أيضا نجد من الصور التمثيلية قوله في البيت السادس :
قال: الــتجارة في صراع هائل
مثل المسافر كاد يقتله الـــظما
حيث شبه التجارة مثل ذلك الرجل المسافر المتعب وزيادة على تعبه أنه ظمآن لدرجة أن هذا الظما كاد أن يقتله .
أيضا في البيت التاسع عشر نجد قوله :
فاضحك فإن الشهب تضحك و الدجى
متلاطم, و لذا نحب الأنجما !
فهنا نجده قد جعل الشهاب الذي في السماء
عبارة عن ضحكه في السماء , وهذا من براعة الشاعر حينما ربط تلك التشبيهات
بمقصده , حيث جعل جميع الصور سواء محسوسة أو معنوية موظفة نحو النص وما
يحتويه من معاني.
الخــــــاتــــــــمة :
نجد إيليا أبو ماضي في قصيدته قد أجاد في
سبك هذا الحوار الرائع , فإن ما يشد القارئ في هذه القصيدة الحوار الجميل
المشتمل على بعض الحكمة وكثير الإقناع.
وقد سخر لبنائها عدة سمات أسلوبية أضفت
على القصيدة صبغة جمالية , وهذه السمات تجمع بين بلاغة الشعر وبلاغة
التمثيل الخطابي , لأن غاية الشعر منها الحمل على الإقناع و الجمال , و قد
حقق الشاعر هنا هذين الهدفين.
هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[/b]الحمد لله وكفى , وصلاة وسلاما على النبي المصطفى , وعلى من سار على دربه واقتفى . أما بعد:
قصيدة الشاعر : إيليا أبو ماضي بعنوان : ابتسم ؟
قال السماء كئيبة ! وتجهما
قلت: ابتسم يكفي التجهم في السما !
قال: الصبا ولى! فقلت له: ابتــسم
لن يرجع الأسف الصبا المتصرما !!
قال: التي كانت سمائي في الهوى
صارت لنفسي في الغرام جــهنما
خانت عــــهودي بعدما ملكـتها
قلبي , فكيف أطيق أن أتبســما !
قلـــت: ابتسم و اطرب فلو قارنتها
لقضيت عــــمرك كــله متألما
قال: الــتجارة في صراع هائل
مثل المسافر كاد يقتله الـــظما
أو غادة مسلولة محــتاجة
لدم ، و تنفثـ كلما لهثت دما !
قلت: ابتسم ما أنت جالب دائها
وشفائها, فإذا ابتسمت فربما
أيكون غيرك مجرما. و تبيت في
وجل كأنك أنت صرت المجرما ؟
قال: العدى حولي علت صيحاتهم
أَأُسر و الأعداء حولي في الحمى ؟
قلت: ابتسم, لم يطلبوك بذمهم
لو لم تكن منهم أجل و أعظما !
قال: المواسم قد بدت أعلامها
و تعرضت لي في الملابس و الدمى
و علي للأحباب فرض لازم
لكن كفي ليس تملك درهما
قلت: ابتسم, يكفيك أنك لم تزل
حيا, و لست من الأحبة معدما!
قال: الليالي جرعتني علقما
قلت: ابتسم و لئن جرعت العلقما
فلعل غيرك إن رآك مرنما
طرح الكآبة جانبا و ترنما
أتُراك تغنم بالتبرم درهما
أم أنت تخسر بالبشاشة مغنما ؟
يا صاح, لا خطر على شفتيك أن
تتثلما, و الوجه أن يتحطما
فاضحك فإن الشهب تضحك و الدجى
متلاطم, و لذا نحب الأنجما !
قال: البشاشة ليس تسعد كائنا
يأتي إلى الدنيا و يذهب مرغما
قلت ابتسم مادام بينك و الردى
شبر, فإنك بعد لن تتبسم
المـــقدمـــــــــة :
إيليا أبو ماضي الشاعر المهجري الذي أسماه
بعض النقاد بشاعر التفاؤل , نلتقي معه هنا في دراسة لقصيدته التي تبعث
التفاؤل والسعادة, وتبرز شيئا من جمال الدنيا المشرق. فهي قد خاطبت النفس
البشرية بشكل فيه من النقاء والصفاء .
نجد هذه القصيدة تحمل كما هائلا من الروح العالية عند الشاعر , فهو قد جعل المتلقي يعيش في بحر السعادة بشكل مقنع ورائع .
إن الخطاب الشعري بشكل عام لابد أن يحوي
على مقصد ما , فنجد إيليا أبو ماضي في هذه القصيد قد وضح مقصده وبان , وذلك
بجعل اليآس متفائل , والحزين سعيد , بجمل متراكبة , وحوار شعري بارع .
إنني في دراسة هذا النص سأسير وفق المنهج الأسلوبي , الذي يجعل النص مادته ومساحته .
مــــــستوى الأصوات :
إن الشاعر قد جعل لقصيدته بحرا إيقاعيا
سهلا , ليتناسب ذلك البحر مع الموضوع الذي أنشأ من أجله القصيدة, وأيضا جعل
هذا البحر نظما إيقاعيا صوتيا رائعا , أضف إلى ذلك اختياره للكلمات
والأحرف التي امتزجت مع موضوع القصيدة.
فلو تجولنا داخل القصيدة لوجدنا أن الشاعر
قد كرر جملا من الأصوات والأحرف التي تناسب مقام ومقصد القصيدة . فنشاهده
قد كرر حرف ( السين ) مثل قوله : السماء , وابتسم , نفسي , المواسم ,
المسافر. لما في حرف السين من تنفيس للحزين , وأيضا يعطي إيقاعا وصفيرا في
النطق.
كما نجد الشاعر قد جعل قافيته حرف (الألف)
الذي يعبر عن إخراج النفس من الصدر في آخر كل بيت , وكأنه يريد من ذلك
الحزين الشهيق والزفير , لإخراج حزنه وتجديد حياته. أضف إلى ذلك من سهولة
ذلك الحرف في نطقه.
كما أيضا نجد حرف (القاف) الذي نجده قد
تكرر كثيرا , وهو يعبر عن الإيقاع النفسي للحزين , ويجعله يبدي ما في نفسه
من حزن وألم . كما يجعل من تكرار هذا الحرف سلسلة من الإيقاعات الصوتية
المتكررة فيجعل للقصيدة بهاء ورونقا.
وإننا نلمح ملمحا لطيفا فالشاعر قد أبعد
الحروف المستثقلة في النطق كالحرف الضاد , وحرف الصاد , وحرف الثاء , وحرف
الظاد , وأعتقد أن الشاعر قد أجاد في ذلك , لأن القصيدة تحمل شيئا من قيم
السعادة والتفاؤل , فجعل جل الأصوات التي استخدمها سهلة وواضحة , كما نجد
في إيقاعها.
المعجم الأدبي الشعري:
المعجم الشعري هو لغة القصيدة والجدول
الذي يختار فيه الشاعر الكلمات التي تؤلف لغته الشعرية , وإن تمحور المعجم
الشعري يخضع لحركة القراءة التي يجريها القارئ في النص, فهو شكل من أشكال
إنتاج الدلالة النصية.
يخضع المعجم الشعري لمبدأ الإفادة , إذ لا
يمكن أن نعد جميع الكلمات معجما , بل ينبغي أن نستمع إلى إختيارالشاعر ,
وإلى الأقطاب الدلالية التي يستمد منها معجمه وفي هذه القصيدة يستمد إيليا
أبو ماضي لغته من أربعة معاجم وهي:
1) معجم الفلك .
2) معجم الحرب.
3) معجم السعادة.
4) المعجم الإقتصادي المادي.
أما معجم الفلك فنجده واردا في الأبيات
الأولى ففي قوله : السماء , والشهب , والنجوم . ففي قوله السماء ترددت
كثيرا , وأعتقد أن مراده من ذلك جعل الحزين فاقد السعادة , يتفكر في السماء
وما فيها من النجوم والشهب , لأن في ذلك تخفيفا للحزين وسعادة له ,
ونسيانا لما يمر به.
أما معجم الحرب فنراه جليا في أبيات معدودة مثل قوله :الدم , والقتل , والجرم , والعدى , والأعداء , والحِمى , وتخسر, ووجل.
وأرى أن معجم الحرب لم يكن موفقا للشاعر
في اختياره لهذه القصيدة ولا يمت لموضوعها بصله , لكن أتصور أن هذه من
العلامات التأريخية القديمة في الشعر العربي , فذكر الحرب سمة من سمات
الشعر العربي القديم , ولابد أن تكون موجودة في شعرهم.
أما معجم السعادة فهو المعجم المرجعي في القصيدة , أي أنه موضوعها ومكان الإحالة على أحداثها , وهو فضاؤها الحقيقي .
فنجد الكلمات التي دلت على ذلك في قوله :ابتسم , اطرب , البشاشة , اضحك.
ونجد الشاعر قد كرر ذلك كثيرا وخاصة كلمة :
ابتسم .فإن تكرار الكلمة التي تريدها مقصدا للقارئ قد توصل له المقصد , بل
قد ينثني لما تطلب , وهنا نجد الشاعر قد فعل ذلك , فهو يريد الإبتسامة لكل
من يقرأ النص .
أما المعجم الإقتصادي المادي فقد وجدناه محدودا مثل قوله : التجارة , ودرهم , ومغنم , وتخسر .
وأتصور أن الشاعر في اختياره لهذا المعجم
يريد أن يبين أن من الحزن الأليم خسارة الإنسان في تجارته فأن ذلك يحزن
المرء حزنا شديدا , فهو يريد أن يبين للخاسر شيئا من التفاؤل الذي يعيد
عليه شيئا من بسمة الحياة وجمالها , مثل ذلك المهزوم في الحرب.
السياق التركيبي في القصيدة:
_الحوار : نجد القصيدة قد اتجهت في الخطاب الشعري نحو أسلوب قد يكون جديدا في الشعر العربي , وهو الحوار.
فالشاعر قد جعل القصيدة مكونة بين اثنين
متحاورين , أحدهما حزين , والآخر يرد عليه ويخفف عليه حدة الحزن والألم ,
فإن جل القصيدة مضت على هذا المنوال.
إن أفضل طريقة لتوصيل فكرة ما في الخطاب
العادي , هي طريقة الحوارالهادف فهو يجعل المعارض يقتنع بشكل سريع بل
بإقناع كبير , فكيف إذا كان هذا الحوار شعريا منسقا ومركبا تركيبا رائعا,
لاشك بأنه سيكون أبلغ وأنفع , وهذا ما وجدناه في هذه القصيدة.
إن ما يستوقف القارئ في هذه القصيدة قوة
وروعة سبك هذا الحوار الشعري الجميل , فالشاعر قد جعل الطرف الآخر الذي يرد
على من به حزن وألم يملك دررا من الحكمة ليحاور الآخر المعارض مثل قوله :
قال: الصبا ولى! فقلت له: ابتــسم
لن يرجع الأسف الصبا المتصرما !!
إن أسلوب الحوار يجعل القصيدة أكثر ووضوحا
وفهما , وأيضا أسرع في توصيل المقصد من تلك القصيدة , وأيضا يختصر عليك
مسافات لتحقيق الجمل والتراكيب مع بعضها , فهو كما يسمه البلاغيون المساواة
, أضف إلى ذلك أنه أكثر جذبا لقارئ القصيدة .
_ أسلوب الخطاب والغيبة :
نجد الشاعر في هذه القصيدة قد جعل الخطاب
لفرد واحد فكأن كل قارئ لهذه القصيدة يتصور أن الخطاب له شخصيا , وهذا من
أبلغ وأجمل المعاني التي تحملها القصيدة.
أضف إلى ذلك أنه لم يغفل عن ضمير الغيبة فقد أتى به لينوع في الخطاب , لئلا تفقد القصيدة نشاطها وحيويتها .
فإن التنوع في الخطاب يجعل القارئ لا يفتر عن متابعة قراءة القصيدة , وبيان ما فيها من معان .
أيضا نجد الشاعر استخدم أسلوب الاستفهام
بشكل واضح وبين , والإجابة على أي شخص في الخطاب العادي بأسلوب الاستفهام ,
يجعل الآخر يستلهم مراد المجيب , ويقتنع به , وهذا ما وجدنا في هذه
القصيدة فالشاعر يجيب بأسلوب الاستفهام مع شيئا من الحكمة مثل قوله :
أتُراك تغنم بالتبرم درهما
أم أنت تخسر بالبشاشة مغنما ؟
فهو يريد أن يقول له لن تخسر بالبشاشة شيئا , ولن تغنم وتحصل على شيء جميل بالترنم , فهو قد جعل الاستفهام بصيغة الإجابة .
_ التكرار : إن التكرار في القصيدة جاء
متوازنا ومحدودا فنحن لم نر إلا بعض الكلمات التي تكررت دون الجمل , وهذا
يدل على أن هناك مقصدا يريده الشاعر فضلا عن براعته في نظم الشعر .
فنجد مثلا كلمة (ابتسم ) قد تكررت كثيرا ,
وهذا دليل على أن الشاعر يبين مقصده من القصيدة , كما أيضا يريد أن يبعث
للمتألم الحزين شيئا من الابتسامة التي قد يتقبلها عقله الباطن.
كما نجد كلمة (السماء) قد تكررت, فالشاعر
يريد من تكرارها أن يوحي للقارئ شيئا من صفاء السماء وبهائها ليجعلها
متنفسا للحزين , وباعثا هاما للسعادة والابتسامة.
كما نجد أيضا كلمة (قال) قد كررها الشاعر
كثيرا, وهذا دليل على أن سر سعادة الحزين حينما يبدي ما في نفسه , فالحزين
كلما أبدى حزنه وبينه كلما خفف على نفسه تلك الحزن .
_التقديم والتأخير :
إن التقديم والتأخير في القصيدة العربية
إذا كان له مقصودا عد عدولا فنيا مميزا , ونجد في هذه القصيدة ندرة ذلك ,
وذلك راجع لسهولة المفرادات وخطاب الشاعر . لكن استوقفتني قول الشاعر :
قال البشاشة ليس تسعد كائنا .. يأتي إلى الدنيا ويذهب مرغما
فإن البشاشة مؤنث , لكنه قال تسعد ,
وأتصور أن حقيقة الكلام : قال ليس تسعد البشاشة كائنا , فهنا استقام الكلام
, وقد يكون ذلك لاستقامة الوزن.
السمات المميزة لنظام التمثيل :
إن ما يزيد من رونق إيقاع القصيدة وبهائها
, كثرة الصور البلاغية التي تعتبر سمة أسلوبة مميزة , وهذا ما نجده في هذه
القصيدة فنجد الجناس في الكلمات التالية :
حولي _ حولي , قال _ قلت , تجهما _ التجهم , السماء _ السماء ,
الصبا _ الصبا , مجرما _ مجرما , جرعتني_ جرعت , العلقما , العلقما , مرنما _ مرنما.
ونجد الطباق في الكلمات التالية :
متألما _ مبتسما , دائها_ شفائها , الكآبة
_ البشاشة , تعرضت _بدت , كانت _صارت , تغنم _ تخسر , يأتي_ يذهب , معدم
_حيا ابتسم _لن تبتسما.
كما نجد هنالك صورا تشبيهية رائعة فنجد في البيت الأول قوله :
قال السماء كئيبة ! وتجهما
قلت: ابتسم يكفي التجهم في السما !
فقد شبه تغير مناخ الجو بأن السماء تحمل الكآبة والحزن , وهذا شبيه بمن يحمل الحزن في قلبه فكأن قلبه قد شابه شيء من الغبار.
أيضا نجد في قول الشاعر في البيت الثالث :
قال: التي كانت سمائي في الهوى
صارت لنفسي في الغرام جــهنما
حيث شبه حبه وغرامه بحبيبته بأنها جهنم في نفسه , فقد جعل القارئ يعرف مدى لوعته وحبه بحبيبته هذه .
أيضا نجد من الصور التمثيلية قوله في البيت السادس :
قال: الــتجارة في صراع هائل
مثل المسافر كاد يقتله الـــظما
حيث شبه التجارة مثل ذلك الرجل المسافر المتعب وزيادة على تعبه أنه ظمآن لدرجة أن هذا الظما كاد أن يقتله .
أيضا في البيت التاسع عشر نجد قوله :
فاضحك فإن الشهب تضحك و الدجى
متلاطم, و لذا نحب الأنجما !
فهنا نجده قد جعل الشهاب الذي في السماء
عبارة عن ضحكه في السماء , وهذا من براعة الشاعر حينما ربط تلك التشبيهات
بمقصده , حيث جعل جميع الصور سواء محسوسة أو معنوية موظفة نحو النص وما
يحتويه من معاني.
الخــــــاتــــــــمة :
نجد إيليا أبو ماضي في قصيدته قد أجاد في
سبك هذا الحوار الرائع , فإن ما يشد القارئ في هذه القصيدة الحوار الجميل
المشتمل على بعض الحكمة وكثير الإقناع.
وقد سخر لبنائها عدة سمات أسلوبية أضفت
على القصيدة صبغة جمالية , وهذه السمات تجمع بين بلاغة الشعر وبلاغة
التمثيل الخطابي , لأن غاية الشعر منها الحمل على الإقناع و الجمال , و قد
حقق الشاعر هنا هذين الهدفين.
هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.