منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    التطور التدريجي في الشعر الحديث:القســـــــم الأول

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    التطور التدريجي في الشعر الحديث:القســـــــم الأول Empty التطور التدريجي في الشعر الحديث:القســـــــم الأول

    مُساهمة   الخميس يونيو 30, 2011 5:03 am

    الفصل الأول: التطور التدريجي في الشعر الحديث:القســـــــم الأول
    الحركة الإحيائية:
    من أهم خصائصها، محاكاة القدامى، والسير على خطاهم، والنسج على منوالهم. وأهم هذه الحركات:
    1 ـ التيار الإحيائي: (ويسمى كذالك المدرسة الكلاسيكية، التيار المحافظ، التيار التقليدي).
    وكان من أهداف هذا التيار تنظيف القصيدة العربية من كل العوالق التي شوهت معالمها الجمالية طيلة فترة عصر الإنحطاط وبالتالي العودة بها إلى منابعها الصافي عند شعراء العصر العباسي، وشعراء الأندلس، وذالك باقتفاء أثرهم، في المعاني، والأفكار. وأرجع الباحث الأسباب كون أغلب شعراء هذا التيار لم يتصلوا بالثقافة الأجنبية، مما جعل تأثرهم بها ضئيلا، وأورد اسم البارودي كأحد ممثلي هذا الإتجاه.
    2 ـ التيار الذاتي:
    كان البحث عن الذات الفردية لدى الشاعر الإحيائي من أهم العوامل التي عمات على تغيير مسار الشعر العربي، وتجنيبه البقاء رهينة للقدماء. وتبلور هذا الإتجاه عند التيارات الشعرية التالية:
    2/1 ـ جماعة الديوان:
    تشكلت من زمرة من الشعراء الذين أخذوا على عاتقهم التبشير بقيم جديدة، تتماشى والتطورات التي عرفها المجتمع المصري بعد ظهور الطبقة البورجوازية على مسرح الأحداث. ويمثل هذا التيار كل من: عبد الرحمان شكري، عباس محمود العقاد، إبراهيم عبد القادر المازيني. انطلق هؤلاء من فكرة مفادها: "الشعر وجدان". ثم اختلفوا في تفسير دلالته:
    ـ شكري فهمه على أنه التأمل في أعناق الذات.
    ـ المازيني رآه في كل ما تفيض به النفس من شعور وعواطف وإحساسات.
    ـ العقاد اعتبره مزاجا من الفكر والشعور.
    وانتهى أحد أقطاب هذه الجماعة إلى القول أن الشاعر إذا لم تعرف حياته من ديوانه فما هو بشاعر ولو كان له عشرات الدواوين.
    وأرجع الباحث إيمان جماعة أبولو بقيمة العنصر الذاتي إلى عاملين:
    الأول: شخصية الفرد المصري التي تعاني من انهيار تام على مختلف الأصعدة مما تطلب منه رد الإعتبار إلى ذاته
    الثاني: تشبع رواد أبولو بالفكر الحر، الذي بسط ظله على العقل الغربي في تلك الفترة من تاريخ الأمة العربية.
    2/2 ـ تيار الرابطة القلمية:
    تأسست هذه الرابطة من أدباء وشعراء جمعتهم الغربة والبعد عن الأوطان. كان ذالك في أمريكا. وانطلق أقطاب هذا التيار ـ ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران ـ من مفهوم موحد للشعر باعتباره "وجدان"، ولكنه وجدان لا يقف عند حدود الذات، بل يتجاوزها ليشمل الحياة والكون. لقد آمنوا بوجود علاقة خفية تربط الفرد بالكون، وتقربه من الذات الإلهية.
    ولاحظ الباحث أن أقوال هؤلاء الشعراء تتناقض مع أفعالهم، ذالك أن أغلبهم هربوا من الناس، ومن
    الواقع، ومن الحضارة، وغنوا أحلامهم للغاب، والخلاء، حيث ـ من وجهة نظرهم ـ الصفاء، والنقاء:
    ـ جبران هرب إلى الطبيعة يناجيها ويبث لها أحلامه.
    ـ ميخائيل نعيمة هرب إلى ذاته يتأملها.
    ـ إيليا أبو ماض اعتصم بالخيال.
    وينتهي الباحث إلى خلاصة مؤداها أن ما في شعر هؤلاء من هيام بالطبيعة، والحنين إلى الصبا، واللهو في سوريا، وفي لبنان، ليس سوى لون من ألوان الهروب التي يلجأ إليها الشاعر الوجداني عندما يحتمي بذاته الفردية كشكل من أشكال المواساة، وتعويض عن قطعه الصلة بينه وبين الحياة.
    3/3ـ جماعة أبولو:
    اعتُبر أحمد زكي أبو شادي بمثابة الأب الروحي لهذه الجماعة التي تأسست سنة 1932م. وانطلقت من اعتبار ذات الشاعر هي المصدر الرئيسي لكل ما ينتجه من شعر. ومن أقطاب هذه الجماعة، وما تفرد به كل واحد منهما، وميز شعره ذكر الباحث:
    ـ إبراهيم ناجي: دار أغلب شعره حول المرأة، والحب.
    ـ أبو القاسم الشابي: هام بالجمال، وعشق الحرية.
    ـ عبد المعطي الهمشري: ولع بالطبيعة، واستشراف ما وراء الحياة، من خلال الحياة.
    ـ علي محمود طه: شعره حافل بمظاهر البهجة والمسرة، منغمس في متع الدنيا، وملذاتها.
    ـ أحمد زكي أبو شادي: كان حتى في شعره الموضوعي ذاتيا.
    القسم الثانـــــــــــــي

    نحو شكل جديد


    فرضت المضامين الجديدة التي نحت منحى جديدا على الشاعر العربي الحديث إعادة النظر في الموروث الشكلي للشعر العربي، فكان لزاما عليه أن يتوسل للتعبير عن تجربته الذاتية، بأشكال مختلفة من الصيغ التعبيرية، والصور الفنية، والإيقاعات الموسيقية.وترتب على ذالك أن جاءت القصيدة الوجدانية، أكثر يسرا وسهولة من القصيدة الإحيائية المتأثرة بالتراث القديم كما نلمسه في القاموس الشعري لدى محمود سامي البارودي المثقل بمفردات البيئة الصحراوية البدوية: (القطا ـ الكاسرات ـ الذئاب ـ أسماء النباتات ...).
    القصيدة الحداثية أصبحت أكثر قربا من الحديث اليومي للناس، وتجلت هذه الظاهرة أكثر في اللغة، عند كل من عباس محمود العقاد، في ديوانه: "عابر سبيل". وفي شعر إيليا أبو ماض. كما أن الشاعر الحديث وظف الصور البيانية بربطها بتجربته الشعرية ربطا وثيقا لشرح عواطفه، وبيان حاله، كما عند إبراهيم ناجي في ديوانه: "ديوان ناجي"، وليست مجرد وسائل للزينة. كما أن القافية لم تعد فقط وقفة عروضية شكلية، وإنما ارتبطت بأفكار الشاعر، وعواطفه. وينبهنا الباحث أن هذه المكتسبات لم تتحقق إلا لقلة من الشعراء المتميزين.
    ومع ذالك فقد ظلت المحاولات التجديدية محتشمة، ومحبوسة في حيز ضيق، ويرجع الأسباب إلى الحملة العنيفة التي شنها النقاد المحافظون على هذه الحركة. فهم ينطلقون من مفهوم محدد للغة باعتبارها موجود مقدس، وأي مساس بها يعتبر مساسا بالمقدس، ومن هؤلاء النقاد: مصطفى صادق الرافعي، طه حسين، وكذالك العقاد الذي تحامل على لغة الحركة التجديدية في بعض مقالاته، وإن تراجع/ارتد عن آراءه في آخر المطاف. ويكمن السر في تراجع هؤلاء النقاد عن مواقفهم أنهم لم يعثروا على حجج قوية تقف في وجه التطور والتجديد.
    وتحامل النقاد المحافظون أيضا على التجارب الشعرية التي مزجت بين الأوزان المختلفة في قصيدة واحدة، الشيء الذي لا تستسيغه الأذن التي تعودت على سماع الشعر التقليدي، كما فعل إيليا أبو ماض في قصيدته: "المجنون"، التي هاجمها طه حسين، واعتبرها ضرب من الجنون.
    لقد حققت حملة المحافظين غاياتها، وأثرت كثيرا في مسار الحركة التجديدية، فتراجع بعض الشعراء عن طموحاتهم التجديدية، في حين توقف البعض نهائيا عن نظم الشعر كما فعل صالح جودت بعد صدور ديوانه الأول، حيث قال: "عزيز علي والله أن أودع الشعر، وأسكب آخر قطراته من قلبي، وأقف موقف الجندي الذي يطمع في الإنتصار، فيلقي السلاح، وينتحر". (مجلة أبولو/ المجلد الثاني ص269).
    وانتهت هذه التيارات التجديدية نهاية محزنة ـ على حد تعبير الباحث ـ فالمضمون بقي مرتبطا بنغمة الكآبة، والأنين، والتوجع، والشكوى. كما أن الشكل فشل في الوصول إلى صورة تعبيرية ذات مقومات مكتملة، وناضجة، وذالك بسبب تحامل المحافظين عليها، هذا التيار المحافظ هو من سيتراجع، ويستسلم بعد هزيمة 1948م، وانتصار الكيان الصهيوني. ومع ذالك فقد عاود الشعر العربي محاولة التجديد متسلحا بالحرية التي أصبح الشاعر الحديث يمتلكها، ليخوض تجربة أخرى رائدة برؤية قوامها: الإيمان بالإنسان والمجتمع.
    الفصـــل الثانــــــــــــي
    تجربة الغربة والضياع.
    1. حركة الشعر الحديث تجربة الغربة والضياع:
    التمهيـــــــــــد:
    تحدث الباحث العوامل التاريخية، والسياسية التي أدت إلى خلخلة المنظومة الإجتماعية، والفكرية التقليدية السائدة بعد هزيمة الجيوش العربية سنة 1948م، وما رافق ذالك من إعادة مساءلة البُنى الثقافية التي كانت مهيمنة على العقلية العربية، هذه العقلية التي انفتحت في جزء منها على التيارات الفكرية الغربية، كالفلسفة، الأدب، النقد..فراحت تبحث عن الأجوبة وراء الهزيمة، وبالأخص الشاعر الذي كان وقع الهزيمة قاسيا عليه، وآمن أن الخلاص ( التقدم والتحضر)، يكمن في الإلمام بكل أنواع المعارف الإنسانية. وإذا ما تتبعنا الروافد التي استقى منه الشاعر الحديث ثقافته وجدناه متنوعة المشارب:
    1.1ـ روافد ثقافية معرفية: الفلسفة، علم النفس، التاريخ...
    2.1 ـ روافد شرقية روحية: الديانات الهندية، الدينات الفرسية، وتأثروا بالشاعر الهندي طاغور، والشعر الصوفي، عند جلال الدين الرومي، والجامي...
    3.1 ـ روافد شعرية التزمت بقضايا الإنسان: أوودن، نيرودا، إيلوار..
    4.1 ـ الثقافة الشعبية: سيرة عنترة، أبي زيد الهلالي، سيف بن ذي يزن، ألف ليلة وليلة..
    5.5 ـ التراث (الشعر العربي القديم، والقرآن): استمد منهما المهارات اللغوية.
    تفاعل الشاعر الحديث مع كل هذه الروافد، ونجح في المزج بينها، فخرج برؤية جديدة للشعر.يقول أدونيس:"الإبداع الشعري وسيلة لاكتشاف الإنسان، والعالم، وأنه فعالية جوهرية تتصل بوضع الإنسان ومستقبله إلى المدى الأقصى". (أدونيس/ تجربتي في الشعر، مجلة الآداب، مارس 1962م، ص196).
    2. علاقة الشكل بالمضمون:
    إن المضامين الجديدة التي دخلت الشعر العربي الحديث، جعلت من هذه التجربة تتسم بالخصوبة، والتفرد، فكريا وشعوريا، فكان لزاما عليها أن تفجر الشكل القديم الذي لم يعد يلاءم لتجربتهم الشعرية، بل يحد من انطلاقتها، وبعد محاولات، وتجارب عدة انتهى شعراء الحداثة إلى شكل جديد يقوم على أساس موسيقى هو: التفعيلة، واستقر هذا الشكل عند كل من بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور. واعتبر الباحث أن الشكل تابع للمضمون، ذالك أن المضامين الخصبة و المتطور في الشعر هي وحدها القادرة على على تحقيق الوسائل الفنية الجديدة، وتبرير وجودها.
    وتتبع الباحث أهم المضامين الجديدة التي ارتبطت بالحركة الشعرية الحديثة، وحددها في اتجاهين:
    الأول: تجربة الضياع والغربة:
    حصر الباحث أسباب هذه الظاهرة الملفتة للإنتباه في الشعر الحديث في:
    أ ـ التأثر ببعض شعراء الغرب، مثل: توماس إليوت، خصوصا في قصيدته الأرض الخراب.
    ب ـ أعمال بعض الروائيين الجدد مثل: جان بول سارتر، ألبير كامو. والنقاد الذين ترجمت أعمالهم إلى اللغة العربية، مثل: كوين، وويلسن.
    ج ـ العامل المعرفي، فاصطدام الأفكار المثالية بالواقع، تنعكس على النفس، فتصاب بالإحباط، والإنكسار
    وأهم ممثلي هذه التجربة: أدونيس، وصلاح عبد الصبور، وعبد المعطي حجازي.
    كما تتبع الباحث المظاهر التي تجلت فيها ألوان الغربة، والتي تمثلت في:
    أ ـ الغربة في الكون:
    هي نتاج نكبة فلسطين، وضياع أمجاد التاريخ، والشعور بالذل، والمهانة، فاعتزل الشاعر الحياة، وجرب وحدته، وغرق في غربته. ظهر هذا في شعر صلاح عبد الصبور، وأدونيس، ويوسف الخال....
    ب ـ الغربة في المدينة:
    أحس الشاعر العربي الحديث أن هندسة، وواقع مدينته قد تغير وإلى الأبد، بفعل غزو المدن الأوروبية لها، وأصبحت لا تناسب واقع العرب المهزوم، فجاء شعره تعبيرا عن هذا الإحساس بالغربة، فالمدينة قاسية، ومفرغة من كل إنسانية، وما يزيدها قسوة وعنفا عدم قدرة الشاعر على الهروب منها، فهي تحاصره، وتخنقه. عبر عن هذا كل من: أحمد عبد المعطي حجازي، بدر شاكر السياب...
    ج ـ الغربة في الحب:
    يرى الباحث أن الشاعر الحديث فشل في خلق علاقة حميمة مع المرأة، فالحب تحول إلى مرارة مميتة، فلا وجود لامرأة تحقق للشاعر ذاته، وتعيد له توازنه المنشود. وتمثل هذا الفشل المريع في أشعار خليل حاوي، والسياب، وصلاح عبد الصبور. ألم يقل عبد المعطي حجازي: "إن وقت الحب قد فات".(قصيدة نهاية، من ديوان: "لم يتبق إلا الإعتراف، ط/1، ص75 ـ 76).
    د ـ الغربة في الكلمة:
    إيمان الشاعر الحديث بأن الكلمة بمقدورها أن تغير، واكتشافه للحقيقة المرة، وهي أن الكلمة عاجزة على الفعل والحركة، ولن تستطيع تلبية طموحاته، جعلت يدخل حالة من اليأس قادته إلى الإغتراب، كما هو الحال عند صلاح عبد الصبور، وعبد الباسط الصوفي..
    ذ ـ ومن خلال تحليله لقصيدة: "فارس النحاس"، لعبد الوهاب البياتي اكتشف الباحث ألوان أخرى من الغربة: (ديوان سفر الفقر والثورة، ص41)، وهي كالتالي:
    أ ـ الغربة في المكان: الإدمان على التنقل والسفر، لعل الشاعر يجد ذاته.
    ب ـ الغربة في الزمان: عجزه على التواصل مع الماضي، أو المستقبل.
    ج ـ إحساسه بالعجز: لا يملك الإمكانيات ولا القدرة على خوض غمار الحياة.
    ح ـ تشبثه بالحياة: فهو عاجز على نيل شرف الشهادة.
    خ ـ الشعور بالموت: عجزه على الكشف عن تناقضات واقعه.
    ذ ـ الإحتماء بالصمت: لم يتبق له غير الصمت يلوذ به ما دامت الكلمة عاجزة عن إحداث التغيير المنشود.
    كل هذا يكشف عن التمزق النفسي والوجداني للشاعر الحداثي، والتمزق الروحي للإنسان العربي.






    الفصـــــل الثالـــــــــث
    تجربة الحياة والموت

    كانت لهزيمة 1948م، ونكبة فلسطين، والحركات والتغييرات الهائلة التي عرفها المجتمع العربي أثره الكبير في تشكيل رؤية الشاعر العربي والتي طبعها اليأس، والضياع، والقلق، والإحساس بالغربة، التي أثمرت تجربة الموت. إلا أنه وسط هذا الدمار الشامل، والإحساس بالاانتماء، لم يفقد الشاعر الحداثي الأمل في المستقبل، فظل يحلم بالتجديد، والبعث: بعث المجتمع العربي من موته.
    هكذا تراوحت تجربة الشاعر الحديث بين الأمل، واليأس. لم يستسلم للواقع المهزوم، بل كان إيمانه بالبعث، لا تفارق فكره وإحساسه، وانتهى بعد صراع طويل مع ذاته إلى تبني نظرة أكثر واقعية، وارتهنت تجربته الشعرية بمدى إيمانه بجدلية الحياة والموت.
    فالشاعر الحديث يؤمن بأن "عظمة الشاعر وقوته، تكمنان في قدرته على تحمل النبذ، والغربة، والوحشة، والصمت، في عالم حكمت عليه فيه الآلهة بهذا العذاب، لأنه سرق منها النار الإلهية لإخوته البشر". (عبد الوهاب البياتي، تجربتي الشعرية، 1868م، ص71).
    أما أدونيس، فآمن بأن "الإنسان هو جدال بين حياته، وموته، بين بدايته، ونهايته، بين ما هو، وما سيكون".(أدونيس، تجربتي الشعرية، 1966م، ص196 )، هذه الجدلية هي التي من شأنها أن تخلق الشاعر الثوري، وهي الثورة المطلقة، ليست محددة بزمان أو مكان.
    وتجربة الحياة والموت باعتبارها مشدودة إلى المستقبل، ومرتبطة بالحاضر، هي نوع من المعاناة المتضمنة للموت، وحافز مفعم بالحياة والتجدد مستقبلا، واعتبر الباحث هذه التجربة في الشعر العربي فريدة من نوعها في تاريخه، باستثناء بعض محاولات الشعراء المهجريين التي عبرت عن فكرة تناسخ الأرواح، كما تجلت في أقصوصة: "رماد الأجيال والنار الخالد، لجبران. (عرائس المروج، المجموعة الكاملة لجبران، ج/1ن ص 47). وعند ميخائيل نعيمة، في قصيدته: "أوراق الخريف".(همس الجفون، ص47). لكن تجربة المهجريين بقيت في حدود ضيقة، وتفتقد التماسك، باستثناءات قليلة.
    وتبقى فكرة الحياة والموت في الشعر الحديث، أقرب إلى فكرة الفداء عند المسيحيين، ومن ثمة كانت رسالة الشاعر الحديث أن يحيل إحساسنا بالموت، إلى إحساس بالحياة. وليقنع بهذا التصور الجديد، راح يضمن أشعاره رموزا مستقاة من الأساطير الوثنية، والبابلية، والفينيقية، والمسيحية، والتراث العربي الإسلامي، والفكر الإنساني، ومن التاريخ الإنساني. وبالتالي ترددت في أشعارهم أسماء أسطورية، رمزية مثل: تموز، عشتار، أورفيوس، أوريديس، العنقاء، طائر الفينيق، مهيار، السندباد، الخيام ومعشقته عائشة، الحلاج...والهدف من توظيف هذه الرموز تقديم التجربة الشعرية بشكل يتفاعل فيها الإحساس بالفكر. ومن أهم الشعراء الذين تبلورت في أشعارهم تجربة الموت والحياة:

    أحمد سعيد أدونيس:

    تحت عنوان: "التحول عبر الحياة والموت"، تتبع الباحث تجربة أدونيس الذي ربط الصلة بين جدلية الموت والحياة منذ مطلع تجربته الشعرية، فقد ارتبطت ذات الشاعر بأمته العربية، وقرن موتها وحياتها، بموته وحياته، واعتمد الباحث في رصد تجربة أدونيس على ديوانين شعريين: "أوراق الريح"، و"كتاب التحولات والهجرة في أقاليم الليل والنهار". وخلص إلى الإستنتاجات التالية:
    ـ تجربة أدونيس مع الحياة والموت، تصدر عن ذات مليئة بالتاريخ العربي إبان عظمته، وزهوه، في الوقت الذي أصبح فيه اليوم مخذولا.
    ـ الإعتزاز بالحضارة العربية في أبهى مراحلها، وقبل أن تتعرض للغزو والإستعمار.
    لكن أدونيس يؤمن بأن الشاعر قادر على إعادة الحياة إلى هذا الواقع الميت. وعموما، فقد سارت تجربة الشاعر في مسارين:
    الأول: ينطلق من الحيرة، والبحث عن وسائل البعث.
    الثاني: محاولة الكشف عن مفهوم التحول، للدفع بالواقع العربي نحو البعث والتجدد.
    لقد آمن أدونيس بأن التحول، ممكن، والبعث ممكن، وحاول إقناعنا بهذا التصور،وحالفه الحظ في بعض القصائد، وخانه في بعضها الآخر. وهذا هو موقف الباحث.

    خليل حاوي:

    حاول الباحث أن يرصد تجربة خليل حاوي من خلال ما سماه: "معاناة الحياة والموت". فقد انطلق الشاعر من منطلق مختلف تماما عن منطلق أدونيس، فهو يرفض مبدأ: "التحول"، ويستبدله بمبدأ: "المعاناة". ومن خلال دراسة الباحث لدواوين الشاعر، يستنتج أن معاناته، هي معاناة حقيقية للخراب، والدمار، والجفاف، والعقم، والبعث نفسه.
    ففي واقع يتسم بتفسخ القيم، سواء في ذات الشاعر، أو في الواقع المنظور، سعى الشاعر أن يبعث شعلة الأمل في النفوس المنكسرة، والمهزومة، في غد مشرق جميل، لكن سطوة الواقع المتفسخ، وقف سدا منيعا أمام تحقيق الآمال، فبقي الشاعر يحترق بصعوبة التحول، وبالتالي معاناة القحط، والموت، والدمار، وفي نفس الآن الحياة.
    وعندا يلتفت الشاعر إلى واقعه، ويبحث عن الأسباب الكامنة وراء هذا الموت الذي يخيم عليه، تتكشف له الحقيقة المتمثلة في جانب حضاري مهم، وهي العلاقة بين الجنسين التي تدهورت بفعل انهيار كيان الفرد، والأسرة، وبالتالي انهيار المجتمع انهيارا حضاريا شاملا: (قصائد: نعش السكارى ـ جحيم بارد ـ بلا عنوان). وكما عاش الشاعر الموت في هذه القصائد، فقد عاش الحياة كذالك والموت مجتمعين: (قصائد بعد الجليد ـ حب وجلجلة ـ المجوس في أوروبا).
    إن التحول الذي ينشده الشاعر لا يتجه نحو التجدد والبعث، بل نحو السكون والموت، فيتجمد الشاعر لأنه غير قادر على الفعل في انتظار ما يأتي به المستقبل. إلا أنه لا يعقد كبير الآمال على الأجيال القادمة في رحم الغد، لبعث الأمة من الموت، ومع ذالك فالشاعر يتابع هذا البعث ويواكبه بقصائده، وشعره، بإزالة أكداس الأمتعة العتيقة، والمفاهيم الرثة عن هذه الأمة، وإعدادها لمعاينة إشراقة الإنبعاث، على حد تعبير الباحث.
    وفي كثير من القصائد نلمس امتلاء الشاعر بروح اليأس من البعث، وذالك بعد معاناة فريدة له مع الموت: (ديوان نهر الرماد).
    شكلت المعاناة إذا البؤرة التي انصهرت فيها بشكل متواز إيقاعات الأمل واليأس، وكانت للظروف التاريخية دخل في ما كتبه الشاعر في هذه المرحلة، فالقطر المصري يعيش فترة مظلمة، ولكن بوادر الأمل بدأت تلوح مع الثورة المصرية، إلا أن خليل حاوي اجتهد في التوفيق بين الواقع الحالك المخيف، ورؤاه الذاتية التي تسعى إلى تخطي هذا الواقع.

    بدر شاكر السياب:
    يرى الباحث أن قصائد السياب مثقلة بمعاني الموت والبعث، ولكن الموت عنده يتخذ بعدا فدائيا، فهو يرى أن البعث لن يكون إلا بمزيد من التضحيات، وقد عبرت عن هذا قصيدة: "النهر والموت"، حيث يختما بقوله:
    إن موتي انتصار


    وتمكن السياب من أن يعمق معاني الموت كفداء من أجل النهوض والبعث في كثير من نصوصه الشعرية موظفا الأسطورة لإحداث التأثير المرغوب فيه، كما في قصيدة: "المسيح بعد الصلب". فرغم أن المسيح/ رمز البطولة، كان يعاني الموت إلا أنه جوارحه كلها مرتبطة بالحياة فهوSad يسمع صوت الريح، ينصت لصوت الأعاصير..). إنها أصوات الطبيعة تعلن استمرار الحياة. ويوحد الشاعر بين المسيح، وبعث الأمة العربية، مؤكدا أن حياة المسيح، ستكون خصبة، وعظيمة بعد موته. إن الفداء هو الطريق الأنسب لحياة الأمة.
    ولكن انكسار الشاعر ويأسه من البعث، والتجدد يشبه اليقين، فالإنسان لا يكون إنسانا إلا حين يقتل الماضي فيه. يقول الشاعر:
    فليهدم الماضي، فالإنسان ليس ينهض
    إلا على رمادها المحترق
    متشردا في الأفق

    ويخلص الباحث إلى القول بأن السياب نجح في توظيف جدلية الموت والحياة، بشكل متفرد، ومتميز سواء على المستوى الذاتي، أو المستوى الحضاري.
    عبد الوهاب البياتي:
    يميز الباحث وهو يدرس تجربة البياتي بين مرحلتين في حياة هذا الشاعر، قبل ديوانه: "الذي يأتي أو لا يأتي" حيث وجد نفسه أمام حقيقتين:
    الأولى: قدرة الشاعر للكشف على واقع الإنهيار والسقوط الذي انتهى إلية الواقع العربي.
    الثاني: سيطرة النزعة المتفائلة على المضمون العاطفي لأعماله.
    أما المعالم العامة لتجربة الحياة والموت في شعر البياتي، فقد سارت في منحنيات ثلاث:
    1 ـ انتصار الحياة على الموت: وذالك في دواوينه التالية: (الكلمات لا تموت ـ النار والكلمات ـ سفر الفقر والثورة).
    2 ـ تكافؤ بين كفتي الحياة والموت: (ديوان الذي يأتي أو لا يأتي).
    3 ـ انتصار الموت على الحياة: (ديوان الموت في الحياة).
    وتناول الباحث هذه المناحي بتفصيل أكثر، محللا، ومعللا:
    المنحى الأول: منحى الأمل.
    تتخلى في رحلة الفنان المناضل الذي يفتح أبواب المعركة، وخلال مساره لم يبصر فيه غير الدمار، والخراب، لكن هذا المسار يحمل بين طياته بذور الأمل، فقابل بين الحياة والموت في مواجهة شرسة وانتهى الأمر بقتل، صرع الموت. تبدى هذا في ديوانه: "النار والكلمات". ولم تنصرت الحياة على الموت إلا بفضل النضال المستمر، والوعي المتجدد. وللأسف، ومع مرور الزمن، لم يتحقق هذا النضال.
    المنحى الثاني: منحى الإنتظار.
    في ديوانه: "الذي يأتي أو لا يأتي"، تغيب صورة انتصار الحياة على الموت، فتتحول القصائد إلى فضاء تتشتت فيه المتناقضات، وتتفاعل الرموز، لتعيق أي حركة جدلية، فتبقى الأمور والأشياء ساكنة. وتتبع الباحث مضمون هذا الديوان بغية الكشف على هذا التصور الجديد الذي يطرحه الشاعر في علاقته بالحياة والموت، من خلال أربعة مسارات/خطوط:

    1 ـ خط الحياة: في هذا المسار يحكم الشاعر على البطل (الذي سيغير أو الحالم بالتغيير)، بأن يعيش الحياة دون أن يكون له خيار، وهذه الديمومة يستمدها من طبيعته الثورية، وقدرته على تحمل العذاب الأبدي.. كما يصطبغ هذا الخط بدم الشهادة، والإنفعال العاطفي القوي بسبب طول الإنتظار.

    2 ـ خط الموت: نظر الشاعر إلى الموت باعتبارها عبورا نحو الحياة الحقة، وقام بذالك بشكلين:
    الأول: في ديوانه: "الذي يأتي أو لا يأتي"، تجسد فيه ما سماه الباحث بنفي الوسط الأسطوري. فالمدن التاريخية، والتي تحولت بفعل الأسطورة إلى رموز إنسانية عظيمة تدمر الواحدة بعد الأخرى:
    ـ نيسابور: تنهشها النسور.
    ـ إرم ذات العماد: يسلخ جلدها وتشوى فيه.
    ـ بابل: تحاصر وتجوع.
    الثاني: في الشعر الحديث، غالبا ما يقوم الأبطال بأعمال خارقة، فيبعثون من الرماد، لا أحد يمكن أن ينتصر عليه....أما عند البياتي، فالبطل فريسة سهلة للموت بعد طول الإنتظار، وبعد أن أنهكت القيم التي يرمزون إليها. (يموت تموز ـ تقتل عشتروت ـ ويموت الحب بموت عائشة).
    3 ـ خط الإستفهام:وهو خط التساؤل والحيرة والتي قصد بها الشاعر تفكيك طرفي جدلية الحياة والموت، وهو يتبع خط الموت السابق:موت الوسط الأسطوري، يرتبط بموت الحقيقة والعدل.
    موت عائشة، وبقاء عشيقها، الخيام، في حزن دائم.
    موت شهريار الذي أحس بالذنب، وبموته انتهت التوبة، وبقي الحكام يمارسون الظلم
    4 ـ خط الرجاء والتمني: ويتمثل في انتقال الفعل من واقع النضال إلى واقع الحلم، وتصبح كل الرغبات والإنتظارات، مرتبطة بخط الرجاء/ الأمل/ التمني. ونجح الحلم في إيجاد نوع من التوقع الذي يفتقد إلى الإستمرارة والديمومة، ورغم بقاء المسافة ثابتة بين الموت والحياة، فإن الشاعر انتهى في آخر المطاف إلى الموت، كما تجسد ذالك في مجموعته الشعرية: "الموت في الحياة".
    5ـ خط الشك:
    انطلاقا من ديوانه: "الموت في الحياة"، يكشف لنا الشاعر القيم المهترئة والميتة التي يروج لها أشباه الرجال، والشعراء المرتزقة، وينادي بالقيم الحية المنبثقة من قوة النضال. ولتتحقق هذه القيم النبيلة فقد عمل على فضح زيف النضال العربي لأنه لا موت بلا نضال، ولا بعث بلا موت. فإن حدث بعث بلا نضال أو موت، فهو بعث مزيف، أو موت في الحياة.
    وتبقى قدرة البياتي على الكشف عن الواقع، هو مصدر قوة شعره فتتساوق رؤيته إلى الموت، برؤيته للحياة، ويحكمهما معا رؤية القلق والإنتظار.



    الفصــل الرابــــــــع
    الشكل الجديــــد


    وجد الشاعر الحديث نفسه، وهو يخوض تجربة شعرية جديدة وبمضامين جديدة مرغما على إبداع تقنيات تعبيرية لا تمد بصلة إلى الوسائل التعبيرية الجمالية للقصيدالتقليدية.
    وإذا كانت القصيدة التقليدية تخضع في بنائها الفني لشكل واحد، فإن التجربة الجديدة تقتضي ـ في نظر الشعراء الجدد ـ أن تبدع كل قصيدة شكلها الخاص بها. ونتج عن هذا الموقف تداعيين اثنين وهما:
    أولا: تنقل الشعراء بين أشكال متنوعة لم يمنح لهذه الأشكال وقتا كافيا لتة ثبت، وتنموا وتنضج.
    ثانيا: تعدد الأشكال ينتج عنه غياب الهدف، مما يوقع القصيدة في الغموض، ويعزل الشاعر على الجماهير.
    وبقيت فكرة تعدد الأشكال بتعدد القصائد محصورة في إطار ما هو نظيري، أما على مستوى التطبيق فلن تمارس، بدليل أن أغلب شعراء الحداثة متقاربون في أسلوبهم، وفي طريقة التعبير عن تجاربهم، وفي استخدام الصور البيانية، والرموز، والأساطير، وبناء القصيدة العام.
    كما أن شكل الشعر الحديث غير مكتمل، فهو ينموا مع التجربة، وبطبيعة الحال، ليس هناك زمن محدد ليكتمل هذا النمو. فالشكل: "ليس نموذجا أو قانونا، وإنما هو حياة تتحرك أو تتغير، فعالم الشكل هو كذالك عالم تغيرات". (أدونيس، مختارات من شعر السياب، 1966، ص6). ومع ذالك فقد تمكن الشعر الحديث بعد عشرين سنة من ظهوره، أن يتجاوز الشكل القديم.
    و أهم القضايا المتعلقة بتطور عناصر القصيدة الحديثة في سياقها العام هي:

    1. تطوير اللغة:

    اللغة جزء من الشكل، تنمو بنموه، لكن نموها لم يتجه في اتجاه واحد، فبعضها يتعلق بشخصية كل الشاعر على حدى، والآخر بالإقليم الذي ينتمي إليه، والعلاقة التي تربطه بالثقافة الأجنبية، والتباين الواضح بين تجارب الشعراء. والخلاصة أنه ليس هناك خاصية واحدة للغة بل خاصيات عديدة، وأشار الناقد محمد النويهي إلى أن أهم ما يميز الشعر الحديث مسألتين: "مسألة اقترابه من لغة الكلام اليومي؛ وثانيهما خروج شكله الجديد عن عادة القواعد العروضية القديمة". (مقدمة من كتاب: قضية الشعر الجديد، محمد النويهي، ص5).
    2. الملامح الحقيقية للغة الشعر الحديث:
    تتبع الباحث اللغة في الشعر العربي الحديث، واستخلص مجموعة من الملامح:

    الملمح الأول: النفس التقليدي في لغة الشعر الحديث.
    ويتضح ذالك من خلال استعمال شعراء هذا الإتجاه للعبارات الفخمة، والأسلوب المتين حتى حين يعالجون مواضع أكثر حداثة، كما الحال عند السياب الذي استعمل تعابير تقليدية مثل: (خيف النخل ـ العارض السحاح ـ الإكثار من الصيغة الصرفية فعللة: هسهسة ـ تهزهز ـ تهدهد ـ لولوة.. ومعاملة غير العاقل معاملة العاقل تشبها بأساليب الأعراب).

    الملمح الثاني: البعد عن لغة الحديث اليومي.
    من المعلوم أن لغة الحديث اليومي هي لغة نفعية، مرتبطة بحياتنا اليومية، في حين تميل اللغة
    الشعرية الحديثة إلى المثالية، فاستشراف شعراء الحداثة إلى التغيير، والمستقبل جعل هذه اللغة تبتعد عن
    اليومي، وربط الشعراء بين الكلمات بروابط غير متوقعة مما يدهش المتلقي لهذا الشعر، نجد مثلا هذه


    اللغة حاضرة في شعر عفيفي مطر، أدونيس، وصلاح عبد الصبور: (القمر الجائع ـ يخيط جرح الماء...)

    الملمح الثالث: السياق الدرامي للغة الشعر الحديث.
    عندما كان الشاعر التقليدي يبدع قصيدته، فهو غالبا ما يوجهها، ويخاطب بها غيره، أما الشاعر الحداثي، فيهتم أكثر بمخاطبة ذاته، فيما يشبه حوارات ذاتية، أو المناجاة الداخلية/ الجوانية، فتكثر في قصائده الإيماءات، والإشارات، والهمسات، والصور المقتضبة. وتتبع الباحث هذه الخاصية من خلال شعر محمد الفيتوري، وقصيدته: "معزوفة لدرويش متجول".

    الملمح الرابع: التعبير بالصورة في الشعر الحديث.
    عمل شعراء الحداثة على التخلص من تسلط التراث البياني التقليدي، وفتحوا آفاقا جديدة ورحبة، وتوسيع أفق الصورة البيانية لتتسع لأكبر الإحتمالات الدلالية، والمتصلة بأعماق التجربة الشعرية كما هو الشأن في قصيدة: "بويب" لبدر شاكر السياب. كما لجأ الشاعر الحداثي أحيانا إلى الحد من جموح الصورة الشعرية، والتقليل من إمكانيات التمدد والتوسع بربطها بسائر صور القصيدة.
    وتتمتع الصورة البيانية بالخصوبة ـ خصوصا ـ عندما ترتبط بتجربة الشاعر. كما تستمد الصورة الجديدة حيويتها من ثقافة الشاعر، فتصبح قناعاته ترفد المضمون، وتنعكس على الشكل بفيض عاطفي يجعل الصور توغل في الغرابة، مما أبعد تجرب الشعراء الشعرية عن أذواق الناس.
    كما أورد الباحث عوامل أخرى كانت وراء نفور الناس من الشعر الجديد، وهو الإطار الموسيقي:

    1. تطور الأسس الموسيقية للشعر الحديث:

    إن لجوء الشاعر الحديث إلى القوالب الموسيقية التقليدية بأشطره المتساوية، وقوافيه الموحدة لا يمكن اعتباره إخلالا بالقاعدة المتعلقة بتطور المضمون والشكل في القصيدة الحديثة فهو لم يشأ أن ينسف الأصول إلا بمقدار ما يسمح بالتعبير عن عواطفه وأفكاره دون عوائق، فارتفعت أصوات تنادي بجعل التفعيلة أساسا لعروض جديد، والتصرف في عدد التفعيلات في السطر الشعري، مع الإلتزام بالتفعيلة الواحدة.

    2. الأسس الموسيقية للشعر الجديد:

    فرضت الأوزان الشعرية نفسها على ذائقة الجمهور والناس بسبب جماليتها طيلة خمسة عشر قرنا، وكل المحاولات التي سعت إلى كسر النظام التقليدي كالموشحات، والرباعيات، والخماسيات، لم تكن سوى تنويعات على هذا النظام. وقد عمل الشعراء ـ وفي كل العصور ـ على إحداث نوع من المرونة في هذا الإطار الموسيقي بلجوئهم إلى الزحافات والعلل لتكسير وحدات الإيقاع، والتخفيف من صرامته، كما أفادت من في إطار الإيقاع الداخلي من موسيقى الحروف اللينة والحروف الصلبة لتشخيص العواطف والأفكار. كقول الخنساء:
    رفيع العماد، طويل النجـــاد وساد عشيرته أمـــــــردا

    كما اعتمدوا التضمين لكسر صلابة الوزن، والتخلص من حصر معاني القصيدة في وحدات متساوية. (والتضمين في البيت هو ألا يتم معنى قافية إلا بالبيت الذي يليه). ومع ذالك لم يتمكن الشعراء من تحويل الذوق العام عن النظام الصارم للشكل التقليدي، بل أضافوا قيودا أخرى اختاروها بأنفسهم مثل: لزوم ما لا يلزم ـ القوافي الداخلية... ولم يتطور الإطار الموسيقي للشعر العربي إلا في أواخر الخمسينات من القرن العشرين.
    3. مميزات الإطار الموسيقي الجديد:

    إن تفتيت الإطار الشعري القديم ذي الشطرين المتوازيين بدأ بالبحث عن تسمية بديل لوحدة البيت التقليدي. فنازك الملائكة سمته: الشطر. أما عز الرين إسماعيل فسماه: البيت. وهناك اختلاف بين البيت الشعري الحداثي والبيت الشعري التقليدي، يتمثل ذالك في:
    أ ـ البيت الشعري الحداثي لا يعتبر وحدة موسيقية ذات أصول تابثة، فطوله وقصره مرتبط بالنسق الشعوري والفكري للشاعر.
    ب ـ عدد البحور الشعرية في الشعر الحديث أقل منه في الشعر القديم (ينظم الشعر الحديث على ستة بحور، وتسمى البحور الصافية: (الهزج ـ الرجز ـ الرمل ـ الكامل ـ المتقارب ـ المتدارك)، لكن بإمكان الشاعر أن يستخلص من البحر الواحد عددا لا يحصى من التشكيلات الموسيقية. كما استعمل البعض منهم في بعض قصائدهم البحور المختلطة كأدونيس. ويرجع الباحث سبب عدم استغلال شعراء الحداثة لهذه البحور المختلطة إلى عوامل عدة وهي:
    1 ـ مسألة الزحاف: استعمال الزحاف في البحور المختلطة بغية كسر إيقاع الوزن التقليدي.
    2 ـ تنويع الأضرب: إدخال الزحاف والعلل، وإن كانت غير مقبولة في نظر العروضيين القدماء، مثل مستفعلن يجعلونها مستفعلان. بهدف تنويع إيقاع البحور الصافية.
    3 ـ إدماج البحور المتشابهة في قصيدة واحدة: كالمزج بين بحر الرمل، وبحر الرجز، وهو شيء غير مألوف في الشعر القديم. ف "فاعلن"، تصير "فاعلُ". كقول نازك الملائكة:
    كأن المغرب لون ذبيح.

    فاعلن فاعلُ فاعلُ فعلن.

    4 ـ مسألة التدوير: فإذا كان البيت الشعري في الشعر الحديث لا ينضبط في عدد التفعيلات إلا للدفقة الشعورية والفكرية، فإن هذه الدفقة قد تتجاوز حدود الشطر الشعري أو البيت الشعري بمفهومهما التقليدي مما يترتب عليه أمرين:
    الأول: التعبير عن الدفقة الشعورية والفكرية دون اللجوء إلى التدوير، أي تفعيلة خماسية.
    الثاني: الوقوع في التدوير وإشراك سطر البيت في كلمة واحدة، بأن يكون بعضها في الشطر الأول، وبعضها في الشطر الثاني. وقد فتح التدوير آفاقا أخرى للشاعر الحديث لكي يتخلص من صرامة البيت ذي الشطرين، ومن انتظامه في نسق هندسي رتيب.

    4. نظام القافية في الشعر الحديث:

    عمل شعراء الحركة الذاتية قبل الشعر الحديث على التنويع في القوافي، فربطوها بالمعاني الجزئية داخل القصيدة الواحدة، وظل اجتهادهم محصور في هذا الإطار. لكن شعراء الحداثة، وموازاة مع ما أحدثوه من تغيير في نظام البيت الشعري، فقد انعكس ذالك على نظام القافية باعتبارها جزء من البناء العام للنص. وسجل الباحث أحمد المعداوي ثلاث ملاحظات في هذا الإطار:
    الأولى: ميل الشاعر الحداثي إلى التعامل مع القافية بصفتها نظاما إيقاعيا يتكون من عدة أحرف مع الحد من بروز حرف الروي، لأن بروزه من شأنه أن يحد من حركة تدفق المعاني، والمشاعر ويربكها. وتطلب هذا من الشاعر أن يتوفر على ثروة لغوية كان الشاعر التقليدي يعلق عليها أهمية بالغة.
    الثانية: الربط بين نظام قوافي الأضرب المتنوعة والقافية،اعتقادا من الشاعر أنه من شأن اختلاف الأضرب أن يحدث إخلالا في نظام القافية.
    الثالثة: علاقة نظام القافية في الشعر الحديث بالجملة الشعرية والتي تتحد في نظر الباحث في نقطتين:
    الأولى: تتعلق بالجملة الموسيقية المسرفة الطول، والتي تمتد فيها الدفقة الشعورية امتدادا يغني بتدفقه عن الوقفات المنتظمة التي تحتاج إليها الأبيات الشعرية القصيرة.

    الثانية تخص الجملة الموسيقية المتوسطة الطول الواقعة بين الجمل الطويلة، واعتاد الشعراء في مثل هذه الجمل أن يعوضوا عن القافية المتواترة والمترادفة في آخر البت بقافية ذات نبر بارز يختمون بها جملهم المتوسطة.
    وأهم ما يميز نظام القافية في الشعر الحديث هو المرونة التي تستمدها من قوة المشاعر والأفكار.

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 07, 2024 5:51 pm