سؤال الذات في الشعر العربي الحديث قصيدة “غرفة الشاعر” لعلي محمود طه مثالا قصيدة “غرفة الشاعر” لعلي محمود طه مثالا
بقلم: * أ. عبد المجيد العابد*
المحرر | دراسات وأبحاث | 2010.09.15 1tweetretweet
قضت سنة التغيير أن لا تقف حركية الشعرالعربي عند الحدود التي رسمها له رواد حركة إحياء النموذج، فلحقه منالتغيير والتطور ما لحق الحياة والفكر، كما انفتح الشعراء على آفاق جديدةمغايرة خصوصا الشعر والنقد الغربيين، حيث تأثر الرومانسيون العرب بشعراءغربيين أمثال شكسبير وكولريدج ولامارتين وفيكتور هيكو وغيرهم، وقد أدى هذاالاختلاف في المشارب وغيرها بالشعراء الذاتيين أن انفلقوا تيارات مختلفةكونوا إثرها مدارس اتفقت جميعها في أن الشعر وجدان، لكنها اختلفت فينظرتها إليه، حتى بين أعضاء المدرسة عينها. ويمكن التمييز بين ثلاث مدارسشكلت أقطابا لخطاب سؤال الذات في الشعر العربي الحديث وهي:
- مدرسة الديوان: مثلها عباس محمود العقاد، وإبراهيم عبد القادر المازني، وعبد الرحمان شكري (1921).
- الرابطة القلمية: تشكلت بالمهجرالأمريكي (1923) تزعمها جبران خليل جبران،وميخائيل نعيمة،وإيليا أبو ماضي.
- مدرسة أبولو: أسسها أحمد زكي أبو شادي (1932-1935)، وانتهى إليها إبراهيم ناجي، وعلي محمود طه، وأبو القاسم الشابي.
ولخطاب الرومانسية أو سؤال الذات خصيصات تميزه عن باقي الخطابات الشعرية الأخرى، نذكر منها:
- اللجوء إلى الطبيعة بوصفها عالما للطهر والصفاء والمثل للتعبير عن الأزمات.
- استبدال التعبير عن الذات بالتعبير عن الجماعة.
- تقديم الوجدان والعاطفة على العقل والأخلاق.
- سيادة مشاعر الحزن والتشاؤم والضياع والكآبة والغربة.
- الاعتماد على الخيال الجامح الجانح.
- طغيان نزعة التأمل الفلسفي والبحث في الوجود والكون.
- رفض الواقع المعايش بكل تناقضاته وقيمه والبحث عن البديل في الطبيعة أو في البرج العاجي.
- وظيفة الشعر تعبيرية تأثيرية وليست توجيهية كما في خطاب إحياء النموذج.
- منبع الشعر ذات الشاعر وليس محاكاة الواقع والتجربة.
- توظيف الصورة المركبة والكلية،والتنويع أحيانا في القوافي والأرواء، واستلهام البناء القصصي، واعتمادمعجم شعري وسيط يمتح مفرداته من معين الطبيعة، سواء كانت حية أم ميتة.
التحليل
يندرج النص ضمن خطاب سؤال الذات، فهووليد مدرسة أبولو الرومانسية، التي تعد الجيل الثاني بعد مدرستي الديوانوالرابطة القلمية، ظهرت في ثلاثينات القرن الماضي على يد أحمد زكي أبيشادي، وانتهى إليها مجموعة من الشعراء أمثال: إبراهيم ناجي، وعلى محمودطه، وأبو القاسم الشابي. كان القاسم المشترك بينهم تبني الرومانسية إطاراو مرجعا للإبداع الشعري، فمالوا إلى النزعة التأملية المعبرة عن الاغترابفي الواقع المعايش، وجسدوا هموم المثقف العربي وانكساراته المختلفة،وابتغاء عالم بديل في الطبيعة والخيال والموت.ويعد علي محمود طه أكثرالشعراء تمثيلا لخصائص المدرسة الشعرية التي ينتمي إليها والرومانسيةعموما، فجاء شعره تجسيدا لتأملاته الخاصة عن الطبيعة والوجود، معبرا عنالحنين إلى المجهول والحيرة في مظاهر الحياة، ومفعما بالحب والحريةوالنغم. فإلى أي حد حافظت القصيدة مناط التحليل على هذا النموذج الشعري؟وما مدى تمثيلها لخطاب سؤال الذات عموما؟؟ !!
يتضح من خلال النظرة البصرية أن النصيبدو مخالفا لما ألفناه في القصيدة العمودية على مستوى شكله الهندسي،فقصيدة “غرفة الشاعر” اعتمدت نظام المقاطع، ونوعت في الأرواء، وهي ملامحتجديدية في الشعر العربي.
جاء العنوان الموضوع من قبل الشاعر منالناحية التركيبية جملة بسيطة تتكون من مبتدأ محذوف تقدير هذه، و”غرفة”خبر مرفوع وهو مضاف، و”الشاعر” مضاف إليه مجرور، أما دلاليا فالعنوان يمنحإمكانات دلالية عديدة، فكلمة غرفة تحيل إلى مكان مخصوص بالمنازل والديار،وغالبا ما يضطر إليه الإنسان حينما يلوذ إلى الانفراد والانعزال والخلودإلى ما يخالج الذات، إن هذه الغرفة ليست مطلقة، بل مرتبطة بذات الشاعربقرينة الإضافة، والشاعر كما هو معلوم هو الذي يشعر بما لا يستطيع غيرهالشعور به، ويعلم ما لا يعلم غيره.إن وضع العنوان خاصة للشعرالرومانسي.فما علاقة هذا التضايف بمضمون النص؟ وهل تتميز غرفة الشاعررمزيا عن غيره؟وهل تحقق تحول مواز للبناء على مستوى المضمون؟
اعتمدت القصيدة نظام المقاطع، وكل مقطععنصر داخل بنية، تعبر عن رؤية شمولية ذات دلالات عميقة، ففي المقطع الأوليصور الشاعر نفسيته الكئيبة، وهو منزو في غرفة، أما المقطع الثاني فينتقلبنا إلى تصوير مشهد درامي جعل كل الأشياء التي تؤثث الفضاء تحبل بالكآبةوالضنك، جعل الشاعر لا يبدي اهتماما للجمال والجلال، بينما المقطع الثالثخص بمخاطبة الشاعر المحزون، وهو نفسه، وكأنه انفصم عن ذاته ليعبر عنها لمالم يحاوره أحد، أما المقطع الرابع الأخير ففيه حث لذاته بأن يستفيق منسباته ويعيش حياته كما يجب أن تعاش.جاءت هذه المضامين متمردة على تقاليدالقصيدة العربية القديمة، متجاوزة لأغراضها التقليدية، يمكن أن تبأرمجتمعة في نواة دلالية مفادها التعبير عن نفسية الشاعر الكئيب الوحيدوالتأثير في المتلقي، دعمت وحدة القصيدة العضوية هذه النواة الدلالية، فلايملك كل بيت قيمته إلا من خلال الذي يتقدمه والذي يليه، وهي سمة عوض بهاالشاعر الوجداني تعدد الأغراض سعيا وراء خدمة مضمونه الشعري.
عمد الشاعر إلى إبراز تفاعل ذاته معالموضوع المرتبط بنفسيته محاولا وضع المتلقي أمام مأساته، ولعل هذا مايوحي به معجم القصيدة من خلال الألفاظ المستعملة ( الكئيب، الليل، شجونك،السهد، الحزين، ارتعاش، أنين، الشكوى، السراج، النيران…)، إنه معجم بسيطوسيط يجمع بين السلاسة والجزالة، تعتمله بعض الألفاظ التي تمتح من معينالتراث (اليراع، يزدهيك، الأرماق، الكرى…)، حاول من خلاله الشاعر إبلاغالمضامين والمعاني السابقة، يتوزع هذا المعجم حقلان دلاليان: الأول مرتبطبالذات الشاعرة ويمكن التمثيل له بالألفاظ الآتيةالكئيب، شجونك،الحزين،أحزانك، رأسك، الآسي، السهد، الشحوب، الدموع، الخريف…) والثاني دال علىمحفل الغرفة نمثل له بـالليل، الرعد، الإبراق، اللون، السراج،الصمت،السكون، الدجى، ليل الخطوب…).تجمع بين هذين الحقلين آصرة قرابة، فكلما تجيش الذات به من كآبة وضنك يوازيه كآبة لما يؤثث المكان، فالغرفةانعكاس مرآوي لنفسية الشاعر ومتحدثة عنه بالمشهد التخيلي، إن الرؤيةالتشاؤمية للشاعر تجعله يرى الغرفة ملاذه للانفراد والانطواء على الذاتوالحلول فيها. وقد عبر الشاعر عن ذلك بلغة تنزع نحو البساطة واستعمالالمأنوس من الألفاظ، فاللغة عند الرومانسيين وسيلة للتعبير عن الذات لاغاية في ذاتها كما كان عليه الأمر عند الكلاسيكيين.
هذا من الناحية المعجمية، أما من الناحيةالتركيبية، فيهيمن ضمير المخاطب على النص(أيها الشاعر، لست تصغي، أنتأذبلت، يا شاعري…). إن هذا المخاطب ليس إلا الشاعر نفسه، فقد انفصم عنذاته ليخلق منها ذاتا ثانية يحاورها، حيث عدد من أناه، يناجي نفسه ويتحدثإليها يبكيها أحيانا ويعاتبها أحيانا أخرى، إن هذا الخلود إلى الذات أثارهظلم الحياة والغربة فيه، فالانطواء والخلود والانفصام هي آليات يتجاوز بهاالشاعر طه هموم الحياة وتناقضاتها.وقد زاوج الكاتب بين استعمال الجملتينالفعلية والاسمية، فالأولى دالة بذاتها على التجدد والاستمرار، يرصد بهاعلي محمود طه تحول حالته عبر الزمنين النفسي والفيزيائي(مضى الليل، مازلتغارقا، يهفو عليك، حطمت من رقيق كيانك، أذبلت بالأسى قلبك، فقم الآن،التمس في الفراش…) يصورهما تأثيث الغرفة وما يرتبط بها من محفل زمانيدال(الليل)بكل تمفصلاته(الرعد، البرق، الموقد، النيران…)،أما الثانيةفتفيد الثبات والاستقرار مرتبطة بوجدان الشاعر الثابت على الكآبة والضنكيعكسها فضاء الغرفة وما يؤثثها(السراج في ضوءه الشاحب، بقايا النيران فيالموقد…).
أما من الناحية البلاغية فالصورة الشعريةجعلت من الطبيعة ملاذا لها ومرجعا، قامت على تقنيات البلاغة القديمة مناستعارة وتشبيه ومجاز، لكنها عضدتها بالاعتماد على الانزياح في تركيبالكلمات والتشخيص، أي أنسنة عناصر الطبيعة بإسناد أفعال وصفات إنسانيةلها، كما تتميز بالحلول، ومؤداه حلول الشاعر في الطبيعة واتخاذها معبراللتعبير عن أفكاره وانفعالاته، فالطبيعة مرآة تنعكس عليها هموم الذات،علاوة على كون الصورة تغرق في الخيال والتجريد.وكل هذا من صميم هذاالخطاب، ففي البيت العاشر استعارة حذف منها المشبه به/ المستعار منه(الإنسان) وأبقي على أحد لوازمه (البكاء) على سبيل الاستعارة المكنية، وهياستعارة مركبة طرفاها مختلفان: فالأول محسوس والثاني مجرد، أما البيتالسادس فاشتمل على استعارة كلية/ مشهدية في النص نواته الدلالية: الكآبة،يمكن لف عناصرها لتكون مشهدا دراميا، كما ورد في البيت الثالث مجاز مرسلعلاقته الكلية في قوله”ويد تمسك اليراع”، حيث ذكر الكل (اليد) وأريد الجزء(الأنامل) فالقلم لا يمسك باليد، بل بالأنامل. يقوم المقطع الأول على صورةمشهدية هي نتاج تضافر صور جزئية، صورة الشاعر الحزين الغارق في التفكير،ذي الجفون الذابلة، واليد الممسكة للقلم، والأخرى المرتعشة على الجبين…ويمكن القول: إن القصيدة عبارة عن صورة كلية شاملة تتميز بقدرتها علىاستيعاب وتصوير تجربة الألم والمعاناة.
أما من حيث الأساليب فقد جمع الشاعر بيناستعمال الأسلوبين الخبري والإنشائي، فالأول احتمل الصدق أو الكذب،والثاني ما لم يحتملهما معا، يستعمل طه الأول للإخبار بمعاناته التييحكيها للمتلقي، وهو منفصم عن ذاته، هذا الانفصال الموحي بصدق هذهالأخبار، حيث يترك النفس تعبر عن ذاتها، إذ يعد أبلغ في الإخبار وأهلللتصديق (مسلما رأسك، يد تمسك اليراع، أذبلت جفونك…)، وهي كلها أخبارابتدائية خالية من التوكيد بالضرورة التي يقتضيها الانفصام والانفصال إلاما قل منه (إنها للمجنون)، أما الإنشاء فيرتبط بانفعالات الشاعر والبوحبما يخالجه من مشاعر، يجمع بين الإنشاء الطلبي، ومن ذلك النداء المستلزمحواريا العتاب(أيها الشاعر الكئيب)، والاستفهام(هلا فرغت من أحزانك)،والإنشاء غير الطلبي المتمثل في الندبة (آه يا شاعري)، والتعجب(ليستللشاعر الموهوب!).إن الصورة تتجاوز حدود البعد التزييني الجمالي الذي سادفي القصيدة الإحيائية لتغدو أداة للتعبير عن الذات.
ولم يحد الإيقاع عن هذا المنحى التجديديفي هذا النص، فقد نظم الشاعر قصيدته على وزن بحر الخفيف(فاعلاتن مستفع لنفاعلاتن)، وهو من البحور الخليلية المركبة الخفيفة التي تنسجم وغرض النص،يبرر تعقد نفسية الشاعر، كما نوع في القافية بما يتماشى ودفقته الشعوريةوتجربته الشاعرية، فهي قافية مطلقة حينا رويها متحرك(المقطع الثانيوالرابع) ومقيدة حينا آخر رويها ساكن(المقطع الأول والثالث)، متواترة علىطول القصيدة، حيث ما بين ساكنيها حركة واحدة، كما يوازي هذا التنوعالانفعالي في القافية تنوع في الروي حيث يراوح بين”النون” و”القاف”و”الباء” و”الكاف”، فالنون صوت مهموس رخو ينسجم مع انهيار نفسية الشاعرلما فيه من الغنة والأنين، أما القاف والباء فشديدين مجهورين يصوران شدةمعاناة الشاعر وجهره بها، ولعل هذا ما خلق جرسا موسيقيا حزينا دعمهالتدوير في أغلب الأبيات، حيث تبدأ الكلمة في الشطر الأول وتنتهي في الشطرالثاني. هذا على مستوى الإيقاع الخارجي الذي جسد انزياحا عن مقومات البنيةالإيقاعية للقصيدة العربية التقليدية.أما الإيقاع الداخلي فيتميز بتكرارحروف بعينها أهمها أرواء القصيدة، ثم اللام(37مرة) وهو من الحروف المجهورةالرخوة، والسين(18 مرة)، وهو حرف مهموس رخو، يضاف إلى ذلك تكرار حروفالمد(أيها، آه،…) التي تحمل دلالات التأوه والحسرة، وكلها تعكس الحالةالنفسية الكئيبة للشاعر، كما تسهم في التأثير في المتلقي، وتخلق تنوعاموسيقيا أخاذا. ولم يقتصر التكرار على الحروف بل تعداه إلى الكلمات(الليل، الشاعر، جفونك…) وهي كلها تمتح من معين الكآبة، كما تكررت كلماتبالترادف (شجونك/أحزانك، الصمت/السكون، ناضب/ذابل)، وتوازت الصيغ الصرفية(فعيل: جبين/ أنين، فعول/طروب خطوب…) إضافة إلى التوازي التركيبي غيرالتام(مازلت غارقا في شجونك/ مازلت سادرا في مكانك)، أما التوازي الدلاليفتمثل في جميع الكلمات التي تؤثث فضاء الغرفة والتي تجتمع كلها في نواةدلالية واحدة مرتبطة بنفسية الشاعر الكئيبة. وقد تضافرت عناصر التكراروالتوازي جميعها لخدمة الغرض الأساس وخلق مسحة تزيينية وجرس موسيقي، كماساهمت في وضع المتلقي أمام معاناة الشاعر وتجربته.
يعد هذا النص تمثيلا واضحا لخطاب سؤالالذات، أحدث الشاعر فيه انزياحا عن أصول القصيدة الكلاسيكية، بدءا منمعمار النص الذي يقوم على نظام المقاطع وتنوع القافية والروي، مرورابالمضمون الشعري الذي كان طافحا بانفعالات الذات ومعاناتها، جاعلا منالقصيدة لحمة واحدة تمثلت في وحدتها، حيث استبدل تعدد الأغراض بالوحدتينالعضوية والموضوعية وصولا إلى المعجم الذي يغترف من مألوف الألفاظومأنوسها لدى المتلقي بدل الغريب والعتيق والمهجور، والصورة التي نزعت نحوالخيال والأنسنة والتركيب في التعبير عن الذات، بدل الصور البسيطة الحسيةالمكرورة، كما أن القيم الذاتية والالتفات إلى الوجدان من صميم هذا الخطاب.
القصيدة
علي محمود طه: ديوان الملاح التائه، دار الآداب ط 2 1978 ص:62
*عبد المجيد العابد
abdelmajidlaabid@hotmail.frاحفظ المقالة على أحد المواقع التالية
بقلم: * أ. عبد المجيد العابد*
المحرر | دراسات وأبحاث | 2010.09.15 1tweetretweet
<table style="height: 31px;" cellpadding="0" cellspacing="0" width="17"><tr><td></td></tr></table> |
- مدرسة الديوان: مثلها عباس محمود العقاد، وإبراهيم عبد القادر المازني، وعبد الرحمان شكري (1921).
- الرابطة القلمية: تشكلت بالمهجرالأمريكي (1923) تزعمها جبران خليل جبران،وميخائيل نعيمة،وإيليا أبو ماضي.
- مدرسة أبولو: أسسها أحمد زكي أبو شادي (1932-1935)، وانتهى إليها إبراهيم ناجي، وعلي محمود طه، وأبو القاسم الشابي.
ولخطاب الرومانسية أو سؤال الذات خصيصات تميزه عن باقي الخطابات الشعرية الأخرى، نذكر منها:
- اللجوء إلى الطبيعة بوصفها عالما للطهر والصفاء والمثل للتعبير عن الأزمات.
- استبدال التعبير عن الذات بالتعبير عن الجماعة.
- تقديم الوجدان والعاطفة على العقل والأخلاق.
- سيادة مشاعر الحزن والتشاؤم والضياع والكآبة والغربة.
- الاعتماد على الخيال الجامح الجانح.
- طغيان نزعة التأمل الفلسفي والبحث في الوجود والكون.
- رفض الواقع المعايش بكل تناقضاته وقيمه والبحث عن البديل في الطبيعة أو في البرج العاجي.
- وظيفة الشعر تعبيرية تأثيرية وليست توجيهية كما في خطاب إحياء النموذج.
- منبع الشعر ذات الشاعر وليس محاكاة الواقع والتجربة.
- توظيف الصورة المركبة والكلية،والتنويع أحيانا في القوافي والأرواء، واستلهام البناء القصصي، واعتمادمعجم شعري وسيط يمتح مفرداته من معين الطبيعة، سواء كانت حية أم ميتة.
التحليل
يندرج النص ضمن خطاب سؤال الذات، فهووليد مدرسة أبولو الرومانسية، التي تعد الجيل الثاني بعد مدرستي الديوانوالرابطة القلمية، ظهرت في ثلاثينات القرن الماضي على يد أحمد زكي أبيشادي، وانتهى إليها مجموعة من الشعراء أمثال: إبراهيم ناجي، وعلى محمودطه، وأبو القاسم الشابي. كان القاسم المشترك بينهم تبني الرومانسية إطاراو مرجعا للإبداع الشعري، فمالوا إلى النزعة التأملية المعبرة عن الاغترابفي الواقع المعايش، وجسدوا هموم المثقف العربي وانكساراته المختلفة،وابتغاء عالم بديل في الطبيعة والخيال والموت.ويعد علي محمود طه أكثرالشعراء تمثيلا لخصائص المدرسة الشعرية التي ينتمي إليها والرومانسيةعموما، فجاء شعره تجسيدا لتأملاته الخاصة عن الطبيعة والوجود، معبرا عنالحنين إلى المجهول والحيرة في مظاهر الحياة، ومفعما بالحب والحريةوالنغم. فإلى أي حد حافظت القصيدة مناط التحليل على هذا النموذج الشعري؟وما مدى تمثيلها لخطاب سؤال الذات عموما؟؟ !!
يتضح من خلال النظرة البصرية أن النصيبدو مخالفا لما ألفناه في القصيدة العمودية على مستوى شكله الهندسي،فقصيدة “غرفة الشاعر” اعتمدت نظام المقاطع، ونوعت في الأرواء، وهي ملامحتجديدية في الشعر العربي.
جاء العنوان الموضوع من قبل الشاعر منالناحية التركيبية جملة بسيطة تتكون من مبتدأ محذوف تقدير هذه، و”غرفة”خبر مرفوع وهو مضاف، و”الشاعر” مضاف إليه مجرور، أما دلاليا فالعنوان يمنحإمكانات دلالية عديدة، فكلمة غرفة تحيل إلى مكان مخصوص بالمنازل والديار،وغالبا ما يضطر إليه الإنسان حينما يلوذ إلى الانفراد والانعزال والخلودإلى ما يخالج الذات، إن هذه الغرفة ليست مطلقة، بل مرتبطة بذات الشاعربقرينة الإضافة، والشاعر كما هو معلوم هو الذي يشعر بما لا يستطيع غيرهالشعور به، ويعلم ما لا يعلم غيره.إن وضع العنوان خاصة للشعرالرومانسي.فما علاقة هذا التضايف بمضمون النص؟ وهل تتميز غرفة الشاعررمزيا عن غيره؟وهل تحقق تحول مواز للبناء على مستوى المضمون؟
اعتمدت القصيدة نظام المقاطع، وكل مقطععنصر داخل بنية، تعبر عن رؤية شمولية ذات دلالات عميقة، ففي المقطع الأوليصور الشاعر نفسيته الكئيبة، وهو منزو في غرفة، أما المقطع الثاني فينتقلبنا إلى تصوير مشهد درامي جعل كل الأشياء التي تؤثث الفضاء تحبل بالكآبةوالضنك، جعل الشاعر لا يبدي اهتماما للجمال والجلال، بينما المقطع الثالثخص بمخاطبة الشاعر المحزون، وهو نفسه، وكأنه انفصم عن ذاته ليعبر عنها لمالم يحاوره أحد، أما المقطع الرابع الأخير ففيه حث لذاته بأن يستفيق منسباته ويعيش حياته كما يجب أن تعاش.جاءت هذه المضامين متمردة على تقاليدالقصيدة العربية القديمة، متجاوزة لأغراضها التقليدية، يمكن أن تبأرمجتمعة في نواة دلالية مفادها التعبير عن نفسية الشاعر الكئيب الوحيدوالتأثير في المتلقي، دعمت وحدة القصيدة العضوية هذه النواة الدلالية، فلايملك كل بيت قيمته إلا من خلال الذي يتقدمه والذي يليه، وهي سمة عوض بهاالشاعر الوجداني تعدد الأغراض سعيا وراء خدمة مضمونه الشعري.
عمد الشاعر إلى إبراز تفاعل ذاته معالموضوع المرتبط بنفسيته محاولا وضع المتلقي أمام مأساته، ولعل هذا مايوحي به معجم القصيدة من خلال الألفاظ المستعملة ( الكئيب، الليل، شجونك،السهد، الحزين، ارتعاش، أنين، الشكوى، السراج، النيران…)، إنه معجم بسيطوسيط يجمع بين السلاسة والجزالة، تعتمله بعض الألفاظ التي تمتح من معينالتراث (اليراع، يزدهيك، الأرماق، الكرى…)، حاول من خلاله الشاعر إبلاغالمضامين والمعاني السابقة، يتوزع هذا المعجم حقلان دلاليان: الأول مرتبطبالذات الشاعرة ويمكن التمثيل له بالألفاظ الآتيةالكئيب، شجونك،الحزين،أحزانك، رأسك، الآسي، السهد، الشحوب، الدموع، الخريف…) والثاني دال علىمحفل الغرفة نمثل له بـالليل، الرعد، الإبراق، اللون، السراج،الصمت،السكون، الدجى، ليل الخطوب…).تجمع بين هذين الحقلين آصرة قرابة، فكلما تجيش الذات به من كآبة وضنك يوازيه كآبة لما يؤثث المكان، فالغرفةانعكاس مرآوي لنفسية الشاعر ومتحدثة عنه بالمشهد التخيلي، إن الرؤيةالتشاؤمية للشاعر تجعله يرى الغرفة ملاذه للانفراد والانطواء على الذاتوالحلول فيها. وقد عبر الشاعر عن ذلك بلغة تنزع نحو البساطة واستعمالالمأنوس من الألفاظ، فاللغة عند الرومانسيين وسيلة للتعبير عن الذات لاغاية في ذاتها كما كان عليه الأمر عند الكلاسيكيين.
هذا من الناحية المعجمية، أما من الناحيةالتركيبية، فيهيمن ضمير المخاطب على النص(أيها الشاعر، لست تصغي، أنتأذبلت، يا شاعري…). إن هذا المخاطب ليس إلا الشاعر نفسه، فقد انفصم عنذاته ليخلق منها ذاتا ثانية يحاورها، حيث عدد من أناه، يناجي نفسه ويتحدثإليها يبكيها أحيانا ويعاتبها أحيانا أخرى، إن هذا الخلود إلى الذات أثارهظلم الحياة والغربة فيه، فالانطواء والخلود والانفصام هي آليات يتجاوز بهاالشاعر طه هموم الحياة وتناقضاتها.وقد زاوج الكاتب بين استعمال الجملتينالفعلية والاسمية، فالأولى دالة بذاتها على التجدد والاستمرار، يرصد بهاعلي محمود طه تحول حالته عبر الزمنين النفسي والفيزيائي(مضى الليل، مازلتغارقا، يهفو عليك، حطمت من رقيق كيانك، أذبلت بالأسى قلبك، فقم الآن،التمس في الفراش…) يصورهما تأثيث الغرفة وما يرتبط بها من محفل زمانيدال(الليل)بكل تمفصلاته(الرعد، البرق، الموقد، النيران…)،أما الثانيةفتفيد الثبات والاستقرار مرتبطة بوجدان الشاعر الثابت على الكآبة والضنكيعكسها فضاء الغرفة وما يؤثثها(السراج في ضوءه الشاحب، بقايا النيران فيالموقد…).
أما من الناحية البلاغية فالصورة الشعريةجعلت من الطبيعة ملاذا لها ومرجعا، قامت على تقنيات البلاغة القديمة مناستعارة وتشبيه ومجاز، لكنها عضدتها بالاعتماد على الانزياح في تركيبالكلمات والتشخيص، أي أنسنة عناصر الطبيعة بإسناد أفعال وصفات إنسانيةلها، كما تتميز بالحلول، ومؤداه حلول الشاعر في الطبيعة واتخاذها معبراللتعبير عن أفكاره وانفعالاته، فالطبيعة مرآة تنعكس عليها هموم الذات،علاوة على كون الصورة تغرق في الخيال والتجريد.وكل هذا من صميم هذاالخطاب، ففي البيت العاشر استعارة حذف منها المشبه به/ المستعار منه(الإنسان) وأبقي على أحد لوازمه (البكاء) على سبيل الاستعارة المكنية، وهياستعارة مركبة طرفاها مختلفان: فالأول محسوس والثاني مجرد، أما البيتالسادس فاشتمل على استعارة كلية/ مشهدية في النص نواته الدلالية: الكآبة،يمكن لف عناصرها لتكون مشهدا دراميا، كما ورد في البيت الثالث مجاز مرسلعلاقته الكلية في قوله”ويد تمسك اليراع”، حيث ذكر الكل (اليد) وأريد الجزء(الأنامل) فالقلم لا يمسك باليد، بل بالأنامل. يقوم المقطع الأول على صورةمشهدية هي نتاج تضافر صور جزئية، صورة الشاعر الحزين الغارق في التفكير،ذي الجفون الذابلة، واليد الممسكة للقلم، والأخرى المرتعشة على الجبين…ويمكن القول: إن القصيدة عبارة عن صورة كلية شاملة تتميز بقدرتها علىاستيعاب وتصوير تجربة الألم والمعاناة.
أما من حيث الأساليب فقد جمع الشاعر بيناستعمال الأسلوبين الخبري والإنشائي، فالأول احتمل الصدق أو الكذب،والثاني ما لم يحتملهما معا، يستعمل طه الأول للإخبار بمعاناته التييحكيها للمتلقي، وهو منفصم عن ذاته، هذا الانفصال الموحي بصدق هذهالأخبار، حيث يترك النفس تعبر عن ذاتها، إذ يعد أبلغ في الإخبار وأهلللتصديق (مسلما رأسك، يد تمسك اليراع، أذبلت جفونك…)، وهي كلها أخبارابتدائية خالية من التوكيد بالضرورة التي يقتضيها الانفصام والانفصال إلاما قل منه (إنها للمجنون)، أما الإنشاء فيرتبط بانفعالات الشاعر والبوحبما يخالجه من مشاعر، يجمع بين الإنشاء الطلبي، ومن ذلك النداء المستلزمحواريا العتاب(أيها الشاعر الكئيب)، والاستفهام(هلا فرغت من أحزانك)،والإنشاء غير الطلبي المتمثل في الندبة (آه يا شاعري)، والتعجب(ليستللشاعر الموهوب!).إن الصورة تتجاوز حدود البعد التزييني الجمالي الذي سادفي القصيدة الإحيائية لتغدو أداة للتعبير عن الذات.
ولم يحد الإيقاع عن هذا المنحى التجديديفي هذا النص، فقد نظم الشاعر قصيدته على وزن بحر الخفيف(فاعلاتن مستفع لنفاعلاتن)، وهو من البحور الخليلية المركبة الخفيفة التي تنسجم وغرض النص،يبرر تعقد نفسية الشاعر، كما نوع في القافية بما يتماشى ودفقته الشعوريةوتجربته الشاعرية، فهي قافية مطلقة حينا رويها متحرك(المقطع الثانيوالرابع) ومقيدة حينا آخر رويها ساكن(المقطع الأول والثالث)، متواترة علىطول القصيدة، حيث ما بين ساكنيها حركة واحدة، كما يوازي هذا التنوعالانفعالي في القافية تنوع في الروي حيث يراوح بين”النون” و”القاف”و”الباء” و”الكاف”، فالنون صوت مهموس رخو ينسجم مع انهيار نفسية الشاعرلما فيه من الغنة والأنين، أما القاف والباء فشديدين مجهورين يصوران شدةمعاناة الشاعر وجهره بها، ولعل هذا ما خلق جرسا موسيقيا حزينا دعمهالتدوير في أغلب الأبيات، حيث تبدأ الكلمة في الشطر الأول وتنتهي في الشطرالثاني. هذا على مستوى الإيقاع الخارجي الذي جسد انزياحا عن مقومات البنيةالإيقاعية للقصيدة العربية التقليدية.أما الإيقاع الداخلي فيتميز بتكرارحروف بعينها أهمها أرواء القصيدة، ثم اللام(37مرة) وهو من الحروف المجهورةالرخوة، والسين(18 مرة)، وهو حرف مهموس رخو، يضاف إلى ذلك تكرار حروفالمد(أيها، آه،…) التي تحمل دلالات التأوه والحسرة، وكلها تعكس الحالةالنفسية الكئيبة للشاعر، كما تسهم في التأثير في المتلقي، وتخلق تنوعاموسيقيا أخاذا. ولم يقتصر التكرار على الحروف بل تعداه إلى الكلمات(الليل، الشاعر، جفونك…) وهي كلها تمتح من معين الكآبة، كما تكررت كلماتبالترادف (شجونك/أحزانك، الصمت/السكون، ناضب/ذابل)، وتوازت الصيغ الصرفية(فعيل: جبين/ أنين، فعول/طروب خطوب…) إضافة إلى التوازي التركيبي غيرالتام(مازلت غارقا في شجونك/ مازلت سادرا في مكانك)، أما التوازي الدلاليفتمثل في جميع الكلمات التي تؤثث فضاء الغرفة والتي تجتمع كلها في نواةدلالية واحدة مرتبطة بنفسية الشاعر الكئيبة. وقد تضافرت عناصر التكراروالتوازي جميعها لخدمة الغرض الأساس وخلق مسحة تزيينية وجرس موسيقي، كماساهمت في وضع المتلقي أمام معاناة الشاعر وتجربته.
يعد هذا النص تمثيلا واضحا لخطاب سؤالالذات، أحدث الشاعر فيه انزياحا عن أصول القصيدة الكلاسيكية، بدءا منمعمار النص الذي يقوم على نظام المقاطع وتنوع القافية والروي، مرورابالمضمون الشعري الذي كان طافحا بانفعالات الذات ومعاناتها، جاعلا منالقصيدة لحمة واحدة تمثلت في وحدتها، حيث استبدل تعدد الأغراض بالوحدتينالعضوية والموضوعية وصولا إلى المعجم الذي يغترف من مألوف الألفاظومأنوسها لدى المتلقي بدل الغريب والعتيق والمهجور، والصورة التي نزعت نحوالخيال والأنسنة والتركيب في التعبير عن الذات، بدل الصور البسيطة الحسيةالمكرورة، كما أن القيم الذاتية والالتفات إلى الوجدان من صميم هذا الخطاب.
القصيدة
أيها الشاعر الكئيب، مضى الليـ ل ومازلت غارقا في شجونك |
مسلما رأسك الحزين إلى الفكـ ر، وللسهد ذابـلات جفونـك |
ويـد تمسك اليـراع، وأخرى فـي ارتعاش تمر حول جبينك |
وفـم ناضـب بـه حـر أنفا سك يطغى على ضعيف أنينك |
لست تصغي لقاصف الرعد في الليـ ـل، ولا يزدهيك في الإبـراق |
قد تمشى خلال غرفتك الصمـ ـت ودب السكون في الأعماق |
غير هذا السراج، في ضوئه حب، يهفـو عليـك في إشفـاق |
وبقايا النيران في الموقـد الذا بل تبكـي الحـياة في الأرمـاق |
أنت أذبلت بالأسى قلبك الغض وحطمـت مـن رقيـق كيانـك |
آه، يا شاعري، لقد نصل الليـ ل وما زلت سـادرا في مكانـك |
ليس يحنو الدجى عليك ولا يأ سى لتلك الدمـوع في أجفانـك |
ما وراء السهاد في ليلك الـدا جي، وهلا فرغـت من أحزانك؟ |
فقم الآن من مكانـك واغنـم في الكرى غطة الخلي الطـروب |
والتمس في الفراش دفئا ينسـ يك نهار الأسى وليـل الخطـوب |
لست تجزى من الحياة بماحمـ لت فيها من الضنـى والشحـوب |
إنها للمجون والختل والزيـ ف، وليست للشاعـر الموهـوب ! |
*عبد المجيد العابد
abdelmajidlaabid@hotmail.frاحفظ المقالة على أحد المواقع التالية