المقدمة
ينطلق هذا البحث من متصورات جوهرية "لنقد النقد"، الذي يتساءل عن صلاحية المناهج النقدية المتبعة في قراءة الإبداع والظواهر الأدبية وعن الأصول المعرفية والإبستمولوجية لهذه المناهج، وما هو الموقف الذي ينبغي أن يتخذه ناقد النقد وهو يتفحص أعمال نقدية تحتك مباشرة بالإبداع الفني.
فالمناهج النقدية في أصولها المعرفية وتطبيقاتها الميدانية هي موضوع دراسة هذا البحث، وليس الأعمال الإبداعية، وبذلك فالمجال الحقيقي لهذه الدراسة ليس المعرفة وإنّما هو معرفة المعرفة. فاشتغالها منصَبّْ على الحقل الإبستمولوجي أكثر من الحقل الإبداعي.
لكن القدرة على محاكمة الأعمال النقدية من حيث التزامها بتطبيق الأصول النظرية للمنهج المنتقى ليطبق على الأعمال الإبداعية، والقول بالنجاح في ذلك أو الإخفاق مهمة شاقة وصعبة، لأنّ ناقد النقد يفترض فيه أن يكون أكثر معرفة من الناقد، وذلك من حيث الإلمام بأصول المناهج. وهذا طموح يشقى الباحث للوصول إليه. وذلك ما حاولنا أن نلم به في هذا البحث مدركين أنّ الإحاطة بالأصول النظرية للمناهج النقدية سياقية كانت أم نسقيه أمر في غاية الصعوبة، نظراً لتشعب المعطيات المعرفية لكل منهج، ينضاف إلى ذلك أنّ بحثنا لم يتوقف عند هذه الأصول المعرفية فقط، بل حاولنا تتبع مدى عمق تطبيقاتها على الظاهرة العذرية كظاهرة شعرية تراثية. فاعتمدنا في بحثنا الوصف لأنّنا ندرك إلى حدّ يمكن الوصف أن يقدم خدمة لنظرية المعرفة في مجال البحث، وينتج الموصوف بطرائق أخرى. ونكون عندئذ أمام تحصيل ما هو حاصل.
إنّ الدافع الأساسي لاختيار هذا الموضوع على الرغم من إدراكنا مدى صعوبته وتشعبه الرغبة في الإحاطة بالتراث القديم، والإلمام بالثقافة الحديثة. ولطالما راودتني هذه الفكرة وأنا طالب.
فكنت أحاول الجمع بين التراث والحداثة، ولم أكن أتحمس كثيراً لتلك الدعوات التي تحاول أن تفصل الحداثة عن التراث، لأنّني لا أومن بوجود حداثة مقطوعة الجذور، كما لم أكن مطمئناً إلى دعاة القراءة التراثية للتراث، على الرغم من أنّني أثمن تلك القراءات القديمة التي كانت تحمل في طياتها كثيراً من الرؤى الحداثية. فالتراث لا يثمن إلاّ بالإلمام به أولاً ثمّ قراءته قراءة حداثية يضئ جوانبه ثانياً، وتستكشف كنوزه، وتميط اللثام عن مكوناته، وبخاصة إذا كانت هذه القراءة الحداثية على وعي كبير بالتراث من جهة واستيعاب الأصول المعرفية للمناهج النقدية من جهة ثانية.
فالقراءة الواعية هي وحدها القادرة على نقل الخطاب الأدبي من المستوى الذي يحتكم إلى المعيارية النقدية، إلى المستوى العمودي الذي يحتكم في إطاره المرجعي إلى منطق السؤال، ويخضع لمبدأ الاحتمال والتنوع الذي ينفي كل ما هو أحادي، ويثبت كل ما هو متعدد، وبذلك يصطنع النص في القراءة الواعية لغة لم تألفها ذهنية ثقافة موجهة قبلياً. ومن هذا المرتكز يمكن للخطاب النقدي أن يكتسب قدرة السؤال وقوة المقاربة.
وانطلاقاً من هذه المتصورات التي تعتمد عليها نظرية القراءة الحديثة، ينطلق بحثنا هذا في نقد النقد ليتأمل في المناهج النقدية الحديثة، فيمتحن قدرتها على تجسيد متصوراتها النظرية، وأدواتها الإجرائية، في الممارسة النقدية وبخاصة وأن التحكم الكلي في المنهج ليس مطلباً سهل المأخذ، ولكنه يحتاج إلى ممارسة مستمرة وخبرة كبيرة، وهذا لا يتأتى للقارئ إلاّ بالوعي الكامل بالمرتكزات الفلسفية والمعرفية للمناهج النقدية، وحسن انتقاء الأداة الإجرائية وحسن استثمارها في مجال التأويل.
فالممارسة النقدية الحديثة في حدّ ذاتها لم تنج من مفارقة الاختلاف والتباين في المقاربة، والتي ستظل إشكالاً مطروحاً ما دامت الظواهر الإبداعية لا تقول الحقيقة بلغة الدقة، وتسد الفضاء العلوي أمام التأويل. فالنص الإبداعي الراقي الذي يحمل معطيات الديمومة والاستمرارية. يظل مفتوحاً في نظرنا لأنّه رسالة لا تحدد شفراتها تحديداً واضحاً، ولا يبسط مرجعها بسطاً أفقياً مباشراً، وبذلك، فهو لا يقبل القراءات المعيارية التي تدعي قول الحقيقة بلغة الجزم.
وبعد قراءات متعددة في التراث الشعري العربي، والقراءات النقدية الحديثة له، لفت انتباهي اهتمام هذا الأخير بالظاهرة العذرية، فبدت لي الظاهرة الواحدة المتعددة، لأنّ المتحمل في خطابها الشعري يتفاعل مع بلاغة تأويلية، ويفرض على الممارسة النقدية أن تتعامل مع الظاهرة الإبداعية تعاملاً يحكمه منطق السؤال، ويمليه وعي الإبداع الذي يرفض الأجوبة اليقينية.
لقد كانت الظاهرة العذرية موضوع دراسات نقدية متعددة، وكل هذه القراءات أجهدت نفسها في مقاربتها، وحاولت الاقتراب من عالمها، بأدوات إجرائية مختلفة، مما أعطى ثراءً نقدياً، بخاصة أنّ منطلقاتها المعرفية وأدواتها الإجرائية متباينة الرؤى. وشجع على تعدد المقاربات النقدية لهذه الظاهرة وتباين رؤاها ما تتميز به العذرية من طابع إنساني، وجمالية فنية، ورسالة ذات شفرة غير محددة تحديداً واضحاً. فهي ظاهرة مفتوحة دوماً، متعددة الاحتمال والتنوع. وتلك ميزة الفن الراقي الذي يخترق حجب الزمن ليعيش في اللازمان، فيكون أرضية خصبة يفتح صدره لكل قراءة جادة تحاول أن تتعامل مع الخطاب الشعري بأدوات فيها من الجدة والأصالة، لتفك شفراته دون أن تسقط في المعيارية، وإنّما تطرح السؤال لتتفتق عنه الأسئلة المتعددة.
فالظاهرة العذرية ذات أبعاد دلالية عديدة، يمكن أن تكشف مقاربتها عن أنّها ليست مجرد ما نعنيه بكلمة الجنس الأدبي أو الموضوعية الأدبية من الناحية التقليدية، وإنّما هي ظاهرة تحمل رؤى متعددة، لا يمكن تفجير مكوناتها إلاّ عن طريق السؤال المبني على أسس علمية دقيقة. وتبعاً لذلك تباينت القراءات في مقاربتها للعذرية لتباين منطلقاتها المعرفية.
وبعد فحص المادة والإلمام بها من جميع نواحيها تراءى لنا أنّ نتناول الموضوع "الظاهرة العذرية في النقد العربي الحديث" والمؤسس على جوهر موضوع "نقد النقد" من خلال هذه الخطة التي كانت تبدو لنا أنّها تقودنا إلى الغايات التي رسمناها قبل وبعد إنجاز البحث، فعقدنا لذلك: مقدمة وأربعة فصول وخاتمة.
أمّا الفصل الأول فخصصناه للقراءة التاريخية، حيث بسطنا التصورات العامة لهذا المنهج، وتتبعنا أطروحاته في مظانها وأصولها، وحاولنا تتبع إجابة القدماء والمحدثين على حدّ سواء بخصوص الوجود التاريخي للشعراء العذريين، فبعضهم ينكر وجودهم وبعضهم الآخر يقره، وكان من الطبيعي أن يتمخض عن مسألة وجود الشعراء عن عدمهم قضية النحل والانتحال، التي شغلت النقد العربي القديم والحديث، فامتد الشك من وجودهم التاريخي إلى ما دار حول قصصهم ونصوصهم الشعرية، ثمّ اعتنت القراءة التاريخية بمصدر العذرية هل كان المصدر عربياً خالصاً أو إسلامياً؟.
أمّا الفصل الثاني فتناولنا فيه القراءة النفسية بالمدارسة والفحص، حيث وقفنا على أطره المرجعية، حتى يتبين لنا مدى تطابق النقد العربي الحديث مع منطلقاته الأصلية. ولما لم نجد دراسات عديدة تسمح لنا باستخلاص خصائص المنهج النفسي، حيث ألغينا مؤلف "يوسف اليوسف" وقبله دراسة العقاد لجميل، اكتفينا باستنباط ما توصلت إليه هذه المقاربات من خلال حصرها في أهم المقولات النفسية نذكر منها: مقولة الكبت و (النرفانا) و (النوستالجيا) و (السادية) و (المازوشية) وغيرها من المقولات النفسية.
ثمّ أتينا إلى القراءة الاجتماعية في الفصل الثالث فسرنا على المنوال نفسه الذي رسمناه للقراءة السابقة، وانتهينا إلى الملاحظات نفسها، فكانت هذه القراءة أقرب إلى النظرات والاجتهادات العامة منها إلى التفكير الاجتماعي، الذي يستند على مرتكزات نظرية وفلسفية.
وهذا ما لحظناه عندما أدرجنا كتابات "يوسف اليوسف" في هذه القراءة لأنّها جمعت بين القراءة النفسية والقراءة الاجتماعية، كما جمعت قراءة "طه حسين" قبلها، بين البعد التاريخي والبعد الاجتماعي. وهذا ما جعلنا نتعامل مع تصنيف هذه القراءة بحذر شديد، وبتحفظ يدرك الصعوبات التي تتركب عن عملية التصنيف، ولم تكد تخرج هذه القراءة عما تطرحه الدراسات الاجتماعية للظاهرة الأدبية كالقهر والقمع الاجتماعيين والصراع الطبقي والتدجين الاجتماعي وغيرها من المقولات الاجتماعية.
أمّا الفصل الأخير فمثل لحظة الانعطاف والانتقال من القراءات السياقية إلى القراءة النسقية، ونعني بها القراءة البنيوية التكوينية التي حاول "الطاهر لبيب" تطبيقها بكثير من الوعي النظري المتماسك الذي افتقرت إليه القراءات السياقية، وقد بدأنا بأنّ هذه القراءة تحمل جهداً علمياً تمثل صاحبها المنهج تمثلاً حسناً، وحاول تقديم مقاربة متميزة لكنّها لا تخلو من بعض الهنات، منها الإغراق في القراءة التاريخية حيناً، والقراءة الاجتماعية حيناً آخر. لكنّها حققت قدراً وافراً من الاجتهاد كما أسلفنا قبل قليل.
ثمّ انتهينا في الأخير إلى بلورة بعض نتائج البحث في الخاتمة فرّكزنا على أهمها.
سيدي بلعباس: 17 شوال 1614هـ/ الموافق: 06 مارس 1996م
محمد بلوحي
ينطلق هذا البحث من متصورات جوهرية "لنقد النقد"، الذي يتساءل عن صلاحية المناهج النقدية المتبعة في قراءة الإبداع والظواهر الأدبية وعن الأصول المعرفية والإبستمولوجية لهذه المناهج، وما هو الموقف الذي ينبغي أن يتخذه ناقد النقد وهو يتفحص أعمال نقدية تحتك مباشرة بالإبداع الفني.
فالمناهج النقدية في أصولها المعرفية وتطبيقاتها الميدانية هي موضوع دراسة هذا البحث، وليس الأعمال الإبداعية، وبذلك فالمجال الحقيقي لهذه الدراسة ليس المعرفة وإنّما هو معرفة المعرفة. فاشتغالها منصَبّْ على الحقل الإبستمولوجي أكثر من الحقل الإبداعي.
لكن القدرة على محاكمة الأعمال النقدية من حيث التزامها بتطبيق الأصول النظرية للمنهج المنتقى ليطبق على الأعمال الإبداعية، والقول بالنجاح في ذلك أو الإخفاق مهمة شاقة وصعبة، لأنّ ناقد النقد يفترض فيه أن يكون أكثر معرفة من الناقد، وذلك من حيث الإلمام بأصول المناهج. وهذا طموح يشقى الباحث للوصول إليه. وذلك ما حاولنا أن نلم به في هذا البحث مدركين أنّ الإحاطة بالأصول النظرية للمناهج النقدية سياقية كانت أم نسقيه أمر في غاية الصعوبة، نظراً لتشعب المعطيات المعرفية لكل منهج، ينضاف إلى ذلك أنّ بحثنا لم يتوقف عند هذه الأصول المعرفية فقط، بل حاولنا تتبع مدى عمق تطبيقاتها على الظاهرة العذرية كظاهرة شعرية تراثية. فاعتمدنا في بحثنا الوصف لأنّنا ندرك إلى حدّ يمكن الوصف أن يقدم خدمة لنظرية المعرفة في مجال البحث، وينتج الموصوف بطرائق أخرى. ونكون عندئذ أمام تحصيل ما هو حاصل.
إنّ الدافع الأساسي لاختيار هذا الموضوع على الرغم من إدراكنا مدى صعوبته وتشعبه الرغبة في الإحاطة بالتراث القديم، والإلمام بالثقافة الحديثة. ولطالما راودتني هذه الفكرة وأنا طالب.
فكنت أحاول الجمع بين التراث والحداثة، ولم أكن أتحمس كثيراً لتلك الدعوات التي تحاول أن تفصل الحداثة عن التراث، لأنّني لا أومن بوجود حداثة مقطوعة الجذور، كما لم أكن مطمئناً إلى دعاة القراءة التراثية للتراث، على الرغم من أنّني أثمن تلك القراءات القديمة التي كانت تحمل في طياتها كثيراً من الرؤى الحداثية. فالتراث لا يثمن إلاّ بالإلمام به أولاً ثمّ قراءته قراءة حداثية يضئ جوانبه ثانياً، وتستكشف كنوزه، وتميط اللثام عن مكوناته، وبخاصة إذا كانت هذه القراءة الحداثية على وعي كبير بالتراث من جهة واستيعاب الأصول المعرفية للمناهج النقدية من جهة ثانية.
فالقراءة الواعية هي وحدها القادرة على نقل الخطاب الأدبي من المستوى الذي يحتكم إلى المعيارية النقدية، إلى المستوى العمودي الذي يحتكم في إطاره المرجعي إلى منطق السؤال، ويخضع لمبدأ الاحتمال والتنوع الذي ينفي كل ما هو أحادي، ويثبت كل ما هو متعدد، وبذلك يصطنع النص في القراءة الواعية لغة لم تألفها ذهنية ثقافة موجهة قبلياً. ومن هذا المرتكز يمكن للخطاب النقدي أن يكتسب قدرة السؤال وقوة المقاربة.
وانطلاقاً من هذه المتصورات التي تعتمد عليها نظرية القراءة الحديثة، ينطلق بحثنا هذا في نقد النقد ليتأمل في المناهج النقدية الحديثة، فيمتحن قدرتها على تجسيد متصوراتها النظرية، وأدواتها الإجرائية، في الممارسة النقدية وبخاصة وأن التحكم الكلي في المنهج ليس مطلباً سهل المأخذ، ولكنه يحتاج إلى ممارسة مستمرة وخبرة كبيرة، وهذا لا يتأتى للقارئ إلاّ بالوعي الكامل بالمرتكزات الفلسفية والمعرفية للمناهج النقدية، وحسن انتقاء الأداة الإجرائية وحسن استثمارها في مجال التأويل.
فالممارسة النقدية الحديثة في حدّ ذاتها لم تنج من مفارقة الاختلاف والتباين في المقاربة، والتي ستظل إشكالاً مطروحاً ما دامت الظواهر الإبداعية لا تقول الحقيقة بلغة الدقة، وتسد الفضاء العلوي أمام التأويل. فالنص الإبداعي الراقي الذي يحمل معطيات الديمومة والاستمرارية. يظل مفتوحاً في نظرنا لأنّه رسالة لا تحدد شفراتها تحديداً واضحاً، ولا يبسط مرجعها بسطاً أفقياً مباشراً، وبذلك، فهو لا يقبل القراءات المعيارية التي تدعي قول الحقيقة بلغة الجزم.
وبعد قراءات متعددة في التراث الشعري العربي، والقراءات النقدية الحديثة له، لفت انتباهي اهتمام هذا الأخير بالظاهرة العذرية، فبدت لي الظاهرة الواحدة المتعددة، لأنّ المتحمل في خطابها الشعري يتفاعل مع بلاغة تأويلية، ويفرض على الممارسة النقدية أن تتعامل مع الظاهرة الإبداعية تعاملاً يحكمه منطق السؤال، ويمليه وعي الإبداع الذي يرفض الأجوبة اليقينية.
لقد كانت الظاهرة العذرية موضوع دراسات نقدية متعددة، وكل هذه القراءات أجهدت نفسها في مقاربتها، وحاولت الاقتراب من عالمها، بأدوات إجرائية مختلفة، مما أعطى ثراءً نقدياً، بخاصة أنّ منطلقاتها المعرفية وأدواتها الإجرائية متباينة الرؤى. وشجع على تعدد المقاربات النقدية لهذه الظاهرة وتباين رؤاها ما تتميز به العذرية من طابع إنساني، وجمالية فنية، ورسالة ذات شفرة غير محددة تحديداً واضحاً. فهي ظاهرة مفتوحة دوماً، متعددة الاحتمال والتنوع. وتلك ميزة الفن الراقي الذي يخترق حجب الزمن ليعيش في اللازمان، فيكون أرضية خصبة يفتح صدره لكل قراءة جادة تحاول أن تتعامل مع الخطاب الشعري بأدوات فيها من الجدة والأصالة، لتفك شفراته دون أن تسقط في المعيارية، وإنّما تطرح السؤال لتتفتق عنه الأسئلة المتعددة.
فالظاهرة العذرية ذات أبعاد دلالية عديدة، يمكن أن تكشف مقاربتها عن أنّها ليست مجرد ما نعنيه بكلمة الجنس الأدبي أو الموضوعية الأدبية من الناحية التقليدية، وإنّما هي ظاهرة تحمل رؤى متعددة، لا يمكن تفجير مكوناتها إلاّ عن طريق السؤال المبني على أسس علمية دقيقة. وتبعاً لذلك تباينت القراءات في مقاربتها للعذرية لتباين منطلقاتها المعرفية.
وبعد فحص المادة والإلمام بها من جميع نواحيها تراءى لنا أنّ نتناول الموضوع "الظاهرة العذرية في النقد العربي الحديث" والمؤسس على جوهر موضوع "نقد النقد" من خلال هذه الخطة التي كانت تبدو لنا أنّها تقودنا إلى الغايات التي رسمناها قبل وبعد إنجاز البحث، فعقدنا لذلك: مقدمة وأربعة فصول وخاتمة.
أمّا الفصل الأول فخصصناه للقراءة التاريخية، حيث بسطنا التصورات العامة لهذا المنهج، وتتبعنا أطروحاته في مظانها وأصولها، وحاولنا تتبع إجابة القدماء والمحدثين على حدّ سواء بخصوص الوجود التاريخي للشعراء العذريين، فبعضهم ينكر وجودهم وبعضهم الآخر يقره، وكان من الطبيعي أن يتمخض عن مسألة وجود الشعراء عن عدمهم قضية النحل والانتحال، التي شغلت النقد العربي القديم والحديث، فامتد الشك من وجودهم التاريخي إلى ما دار حول قصصهم ونصوصهم الشعرية، ثمّ اعتنت القراءة التاريخية بمصدر العذرية هل كان المصدر عربياً خالصاً أو إسلامياً؟.
أمّا الفصل الثاني فتناولنا فيه القراءة النفسية بالمدارسة والفحص، حيث وقفنا على أطره المرجعية، حتى يتبين لنا مدى تطابق النقد العربي الحديث مع منطلقاته الأصلية. ولما لم نجد دراسات عديدة تسمح لنا باستخلاص خصائص المنهج النفسي، حيث ألغينا مؤلف "يوسف اليوسف" وقبله دراسة العقاد لجميل، اكتفينا باستنباط ما توصلت إليه هذه المقاربات من خلال حصرها في أهم المقولات النفسية نذكر منها: مقولة الكبت و (النرفانا) و (النوستالجيا) و (السادية) و (المازوشية) وغيرها من المقولات النفسية.
ثمّ أتينا إلى القراءة الاجتماعية في الفصل الثالث فسرنا على المنوال نفسه الذي رسمناه للقراءة السابقة، وانتهينا إلى الملاحظات نفسها، فكانت هذه القراءة أقرب إلى النظرات والاجتهادات العامة منها إلى التفكير الاجتماعي، الذي يستند على مرتكزات نظرية وفلسفية.
وهذا ما لحظناه عندما أدرجنا كتابات "يوسف اليوسف" في هذه القراءة لأنّها جمعت بين القراءة النفسية والقراءة الاجتماعية، كما جمعت قراءة "طه حسين" قبلها، بين البعد التاريخي والبعد الاجتماعي. وهذا ما جعلنا نتعامل مع تصنيف هذه القراءة بحذر شديد، وبتحفظ يدرك الصعوبات التي تتركب عن عملية التصنيف، ولم تكد تخرج هذه القراءة عما تطرحه الدراسات الاجتماعية للظاهرة الأدبية كالقهر والقمع الاجتماعيين والصراع الطبقي والتدجين الاجتماعي وغيرها من المقولات الاجتماعية.
أمّا الفصل الأخير فمثل لحظة الانعطاف والانتقال من القراءات السياقية إلى القراءة النسقية، ونعني بها القراءة البنيوية التكوينية التي حاول "الطاهر لبيب" تطبيقها بكثير من الوعي النظري المتماسك الذي افتقرت إليه القراءات السياقية، وقد بدأنا بأنّ هذه القراءة تحمل جهداً علمياً تمثل صاحبها المنهج تمثلاً حسناً، وحاول تقديم مقاربة متميزة لكنّها لا تخلو من بعض الهنات، منها الإغراق في القراءة التاريخية حيناً، والقراءة الاجتماعية حيناً آخر. لكنّها حققت قدراً وافراً من الاجتهاد كما أسلفنا قبل قليل.
ثمّ انتهينا في الأخير إلى بلورة بعض نتائج البحث في الخاتمة فرّكزنا على أهمها.
سيدي بلعباس: 17 شوال 1614هـ/ الموافق: 06 مارس 1996م
محمد بلوحي