[center]المدينة في الشعر العربي الحديث:1- الهوية الحضاريــة:
لقد كانت معظم الأوطان العربية في ذلك الزمن، إما تحت الحكم العثماني، أو تحت نير الاستعمـار الأوروبي، ولم تكن هناك مدن يشعر الناس بامتلاكها حق الامتلاك حتى يتغنون بها أو يهاجمونها، هذا بالإضافة إلى عصور الظلام التي كانت تسربل حياتهم الثقافية والفكرية، وما تبع ذلك من فقدان للهوية تمظهر في انقطاع الصلة بالماضي التراثي وانعدام الهوية الحضارية التي تؤكدها، والحيرة بين أشلاء ثقافة ممزقة موروثة عن عصور الظلام، وثقافة جديدة وافدة من الغرب غريبة عنهم كل الغربة. ولذلك انصّب جل اهتمام عامة المثقفين آنذاك وبخاصة الشعراء على محاولة إخراج الأمة من مطب عصور الظلام وبعثها من جديد، وتأكيد هو يتها الحضارية وربط صلتها بماضيها العريق. وليس من سبيل إلى ذلك سوى الرجوع إلى الماضي المضيء، حيث العصور الذهبية، أيام كان الشعر في أو جه والحضارة الفنية في ذروتها -قياسا إلى عصر الانحطاط-، لذلك ظهر ما يسمى اصطلاحا بمدرسة "الإحياء" أو "البعث"، التي تزعمها محمود سامي البارودي ([1]) ومن بعده شوقـي وحافظ ومن تبعهم. وباتت هذه المدرسة تنسج على منوال القدماء وتعارضهم، ولا تكاد تخرج عن إطارهم قيد أنملة؛ لا من حيث التشكيل اللغوي، ولا من حيث معمارية القصيدة وأوزانها الخليلية، ولا من حيث الأغراض-اللّهم إلا بعض القصائد التي كانت تحمل إرهاصات الشعر الوطني، والتي حاول فيها هؤلاء اصطناع الواقعية – فها هو ذا البارودي يريد أن يصف الطبيعة المصرية وحدائق مدنها، فلا يجد سوى أشعار القدماء نموذجا به يحتذي، دون إبداع أو تجديد. فالأرض قد لبست حلتها القشيبة، وأصبحت في زي يجلّ عن الوصف، أزهارها أقباس من نور كالمجرّة، ومياه جداولها في صفائها لجين، وهلمّ جرّا، ويريد أن يتطرق إلى مجالس الأنس ووصف الخمرة، فلا يخرج عن وصفه لمذاقها، وصفاء لونها، وتلألئها، والأدوات التي تُصبّ فيها، والطقوس التي تصاحبها، والساقي الجميل والنديم الخفيف الروح. ولذلك فهولا"يصف خمرة مصرية في القرن التاسع عشر، بل خمرة عباسية، ذلك أنها خمرة عتقت في دير كما كان الحال زمن التشدد في الرقابـة على بيع الخمرة وشربها، وتسميته دهقان ينتمي إلى عصر غير عصر البارودي"([2])، فخمرته صافية كالبلور، معتقة حتى لكأنها في قدم العالم، مصنوعة في دير، تخزن في الدنان، وتنقل خلسة في الزقاق، يبيعها دهقان ويتجالس حولها الندمان.
ويصف المعارك التي تستخدم فيها المدافع، فلا يأتي لهذه الأخيرة بذكر بل أنه ليشير إلى السيوف والرماح، وما حققه أصحابها من طعان، فكان بذلك"كأنما يأخذ برأي أنصار القديم في العصر العباسي الذين كانوا يعيـبون على الشاعر ذكر أشياء تنتمي إلى الحضارة، ويفترضون الاقتصار على ما تغنى به شعراء الجاهلية"([3]). أما من حيث الغزل، فمحبوبته عيونها كعيون المها أو بقر الوحش، وقدها كالخيزران، وثغرها لؤلؤ أو مرجان، ووجهها وشعرها كأنهما صبح وليل في عطف وتناسق يتجاوران، وفي المديح، الممدوحون أبطال صناديد، شجعان كالأسود، كرماء كالغيث، صبورون على المكاره، مدافعون عن الحياض بكل ما يملكون. وفي الفخر لا يخرج أيضا عن نهج القدماء، على الرغم من الفارق الزمني الشاسع، وعلى الرغم من التطوّر الحادث في آليات الحرب وخطط الظفر، والتغيّر النسبي في القيم. فنراه يفخر بالسيوف الصارمة، والخيول المطهّمة الأصيلة، والأعلام الحمراء المصطبغة بدماء الأعداء، والدالة على كثرة خوض المعارك والتتويج الدائم بالنصر، كما يفخر بعلوأعمدة الخيام كتكنية عن الوجاهة والسيادة بالرغم من أنه نشأ في قصر آل بارودي. فهوكما نرى يفتخر بالقيم العربية الأصيلة التي ترددت كثيرا في أشعار أسلافه، فهذه القيم وإن كانت لم تزل ذات أهمية لحد الآن، فإن البارودي لم يعمد إلى استلهـامها وحسب، بل انه ليأخذها كما هي فـ"يتبنى إطارها وصيغة التعبير عنها. ولا يفخر بها كما تجلت في إطار عصره، بل في الإطار البدوي بكل عناصره"([4]) مستعيرا -في مطلع القرن العشرين- أجواء وفضاءات وصيغ البيئة الجاهلية والعباسية دون إضافة أو تنويع، فهوينظر إلى كل ما حوله، سواء في ذلك الطبيعة أو غيرها، بعين تاريخية، وذاكرة تاريخية.
وهكذا يظل أسير الزمن والمناخ التاريخي بكل تجلّياته وفي كل مناحيه، فكلماته القاموسية، المعروفة حمولتها الإبستمولوجية ودلالتها مسبقا، بسبب ذلك الكم التراكمي الذي عرفته عبر سيرورتها التاريخية-الشعرية-، هي التي كانت تفكر له، وتفخر وتتغزل وتصف بدلا منه، وهكذا لم يعد الشاعر سوى صدى للقديم، لا يغرد بصوته هو بل بأصوات مستعارة، ولا يعيش تجربته، بل تجربة محنّطة منذ زمن مضى، ولا يعبر عنها كما أحسّها في واقع أو اخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، بل أنه "كان يقرأها في الأشعار، لم يمنحها معنى خاصا به، لم يكتشف علاقة جديدة لها"([5])، ولذلك جاءت تجاربه وأفكاره تكرارا آليا، ونسخا كليا لتجارب أسلافه، منقولة من هنا وهناك، ملتصقة التصاقا مصطنعا بالواقع، أو محاولة تصنع الواقعية عن طريق ذكر أسماء محلية لبعض الأماكن، ولكن هذا لم يفد لأن "الانتماء المكاني التاريخي الذي ميز عصر النهضة (كان) قد طغى على الانتماء المكاني"([6]) المحلي وشكل غلالة صفيقة على العيون اتجاهه، وصرف الأنباه والعقول عن الاهتمام الجدي بالواقع الحقيقي، وأقام مسافة شاسعة بين حساسية الشاعر وقضايا عصره.
ولا يكاد شوقي وحافظ يخرجان عن هذا الخط المرسوم مسبّقا، وعن هذه القوالب الجاهزة سلفا، أو الكليشهات بحسب تعبير العقاد، إلا في مسرحيات الأول الشعرية في مرحلة متأخرة نسبيا، وفي وطنيات الثاني التي حاول فيها معالجة الواقع .
ولعل أو ضح موقف من المدينة – قبيل هذه الفترة- هو ذلك الموقف الذي نجده عند" الأمير عبد القادر الجزائري"- الفارس الشاعر- في قصيدته التي يفاضل فيها بين الريف والمدينة، بعدما خَـبِـرَ حياتها ابان نفيه وحبسه بقصر في " أمبواز" لمدة خمس سنوات، وردّا على سؤال كان قد وجهّه إليه بعضهم مفاده: أهل البدوأفضل أم أهل الحضر؟ فرد بقصيدته هذه محاولا فيها تفنيد مقولة أفضلية المدينة على الريف متلّمسا في ذلك مزايا هذا الأخير، متصيدا مساوئ المدينة صارخا في وجه من يفضّلونها على نقاوة الريف وأصالته فيقول[7])
يا عاذرا لامرئ قد هام في الحضر
وعاذلا لمحب البدو والقفر
لا تذممن بيوتا خف محملها
وتمدحن بيوت الطين والحجر
لو كنت تعلم ما في البدو تعذرني
ولكن جهلت. وكم في الجهل من ضرر
أوكنت أصبحت في الصحراء مرتقيا
بساط رمل، به الحصباء كالدرر
أوجلت في روضة، قد راق منظرها
بكل لون جميل شيق عطر
تستنشقن نسيما، طاب منتشقا
يزيد في الروح لم يمرر على قدر
أوكنت في صبح ليل هاج هاتنه
علوت في مرقب، أو جلت بالنظر
رأيت في كل وجه من بسائطها
سربا من الوحش يرعى أطيب الشجر
فيا لها وقفة لم تبق من حزن
في قلب مضنى، ولا كدا لدى ضجر
فالذين يهاجمون الريف ويعذلون أهله، إنما صدر موقفهم هذا عن جهلهم بمزايا الريف وحسناته، ولذلك فها هو الشاعر يعرفهم به، ويدعوهم إلى زيارته لمعاينة نفائسه، فإضافة إلى رماله الذهبيـة، ومناظر رياضه الرائقة بشذاها العطر،وطيب نسيمها ونقائه، وجمال صبحه وليله، وتوشية سهـوله وهضابه بأسراب الوحش والطير، الراعية لأطيب الشجر، والتي تشكل منظرا، لا يبقي حزنا في قلب رائيه ولا ضجرا ولا سآمة في نفسه. إضافة إلى هذا كله فبيوت البادية "ما بها لطخ من الوضير" و"ترابها المسك بل أنقي وجاد بها/ صوت الغنائم بالآصال والبكر" والخيام فيها تلقى " وقد صفت بها، فغدت / مثل السماء زهت بالأنجم الزهر". وهوفي هذا لا يتوانى عن تدعيم آرائه بما قاله الأقدمون من أقوال يصدقها –بحسب زعمه- النقل والعقل، متيقنا من سلامة آرائهم، وسداد أحكامهم:
قال الأولى قد قضوا قولا نصدقه
نقل وعقل، وما للحق من عير:
" الحسن يظهر في بيتين رونقه
بيت من الشِعر أو بيت من الشَعر"
ووسائل النقل في الريف طبيعية، تضمن السلامة والأمن لراكبيها، وتحفظ لهم حياتهم ؛ فهي سفن برية، وهذا عكس سفن البحر الرامزة للمدينة ومخترعاتها، والتي هي خطر على ركابها:
سفائن البر، بل أنجى لراكبها
سفائن البحر كم فيها من الخطر.
والريفيون كرماء، وبيوتهم مفتوحة دوما للضيوف حتى وإن كانوا بالليل طارقين، والدليل على ذلك إيقادهم النيران ليلا ليهتدي إليهم الجائع والمسافر :
بيت نار القرى تبدولطارقنافيها المداواة من جوع ومن خصر
كما أنهم أباة النفوس شجعان، لا يتحملون الضيم ولا يظلمون، وإن ظلموا فعدوهم "ما له ملجأ ولا وزر" لأن لهم "عاديات السبق والظفر" والتي شرابها من حليب ما يخالطه/ماء وليس حليب النوق كالبقر أي كحليب البقر الذي يضاف إليه الماء لقبض أضعاف ثمنه الحقيقي، بالزيادة في حجمه كما هو الحال في المدن. وخلاصة القول أنه :
ما في البداوة من عيب تذم به
إلا المروءة والإحسان بالبدر
هذا فضلا عن أن "صحة الجسم فيها غير خافية" أما العيب والداء كله فهو"مقصـور على الحضر" ولذلك ترى أهل الريف أطول خلق الله أعمارا، وأصحهم أجساما، وأبعدهم عن الأمراض، لبعدهم عن اصطناعيات المدينة وغشها وضوضائها، واتساخ دروبها وتلوث هو ائها، وما شابه ذلك.
لقد نشأ الأمير عبد القادر في الريف وترعرع في ربوعه، فتغلغل حبه في وجدانه، وعلق بنفسه، وخاض تجربة قاسية في المدينة، يعاني النفي والإقامة الجبرية والبعد عن الوطن والأهل، ويعيش الغربة بكل معانيها، ولذلك فموقفه هذا على الرغم من تعميمه على جميع المدن وعلى كل أهل الحضر لا يكون نابعا إلا من موقف سياسي، ولا يكون صادرا إلا عن قناعة سياسية، على اعتبار أنه عانى تجارب مريرة في المدينة الفرنسية حيث النفي والحبس والتغريب كما أشرنا، وعلى اعتبار أن المدن الجزائرية – إن أخذنا بالتعميم – كانت آنذاك حكرا على المستعمرين ومن والاهم من العملاء، فهي مدينة الآخرين ولومؤقتا حتى يتسنى تحريرها، أو على الأقل إنها المكان الذي فقد عذريته بسبب اغتصاب المستعمرين له وتدنيسهم إياه، فبات لذلك مكانا ممقوتا كريها، مقترنا في ذهنية الريفي بسبب السلبية حينا، وبالعدائية أحيانا، لأنه يحوي كل ما هو مبتذل ووضيع كالاستسلام والخيانة والغدر والتقتيل وغيرها. فهي وكر الغزاة المغتصبين ومن والاهم من العملاء الخائنين، بعكس الريف الذي يمثل مهد الأصالة والكرم، بل مهد الشهم والإباء العربي، ومنطلق الثورات المظفرة.
إذن، فباستثناء هذا الموقف الواضح من المدينة – الذي لم نجد له مثيلا في عهده – فإن بقية المواقف، هذا إن نحن سلمنا بأنها مواقف – لا تعدوأن تكون ضربا من الشعر السياسي الساذج الخائض في الخلافات الحزبية، ولا تعدوأن تكون ضربا من الانبهار والاندهاش أمام عظمة مخترعات المدينة كالغواصات والطائرات.
يصف شوقي الطائرة بقصيدة عام1932([8])، ويصفها حافظ([9]) في نفس السنة ويصفها مطران أيضا، وهم حتى في وصفهم لهذه المخترعات العجيبة، لا يستطيعون التخلص من صدفة الماضي، ولا يستطيعون اختراق الفضاءات التراثية أو تجاوز بلاغتها. فنرى شوقي مثلا يشبهها بالشيء المدهش العجيب الذي نِصْفه طير ونِصْفه بشر، يخيف الشجعان قبل الجبناء، مسرّج ملجم على أهبة الاستعداد في كل حين، جميل المنظر كالطاووس، ريشه فولاذ، وجناحه مصقول كجناح النحل، يظهر ويختفي كحوت ترامت به الأمواج، دخانه من بعيد كوكبا، وإذا ما انطلق فهوسهم ذومضاء، تعجبت منه الغربان والحداء. ويشبهها حافظ في نزولها بأنثى العقاب التي تهوى على الهزار، ويشبهها مطران بالفرس المجنح الذي يسموشوامخ الجبال، ويطأ السحب مزمجرا كالرعد، أو كأزيز الجان، يتلاشى كل شيء من أمام ناظريك حين صعودك فيها إلى الفضاء، فلا العمران ولا المناجم ولا الحيوانات بقت كما عهدناها في أثناء وجودنا على الأرض، الكل أصبح عبارة عن مزيج من الأشعة والدخان.
وإذا ما نحن حاولنا الإصرار على تلمس موقف جدي ووجيه من المدينة لدى شعراء حركة البعث هذه، فإننا لا نجد سوى إشارات عابرة، أو ملاحظات تسجيلية عامة. فالبارودي لم يشغله من القاهرة كمدينة كبرى –والتي قضى فيها جل حياته– سوى الأماكن المترفة فيها، ورياضها المترعة "روضة المقياس" و"حلوان " و"الجيزة"، وغيرها من الضواحي التي غناها بلغة رصينة ذات منظور جمالي عباسي، لا أثر لروح العصر فيه، نلاحظ هذا بجلاء في وصفه "لروضة المقياس" حين يقول [10])
حيث تجري السفين مستبقات
فوق نهر مثل اللجين المذاب
قد أحاطت بشاطئيه قصورا
مشرقات يلحن مثل القباب
ملعب تصرح النـواظر فيه
بين أفنـان جنة وشعاب
وحتى نفيه إلى جزيرة ( سرنديب )، لم يفد في الأمر شيئا، حيث يبقى على نفس المنوال الوصفي عبر تداعي صور الرياض المصرية، والتغني بجمالها، والتشوق إلى أفنانها، وبروح عباسية أيضا :
خليلي هذا الشوق لا شك قاتلي
فميلا إلى "المقياس" إن خفتما فقدي
فيا منزلا رقرقت ماء شبيبتي
بأفنـائه بين الأراكـة والرنـد
سرت سحرا فاستقبلتك يد الصبا
بأنفاسها، وانشق فجرك بالحمد([11])
وإزاء هذا الموقف غير الواضح، لا نملك إلا القول، بأن نظرته إلى المدينة كانت جد متأثرة بنظرته إلى الريف، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، أن نزعته التقليدية، أعشت بصره عما كان يدور ويستجد في المدينة.
والموقف ذاته يتجلى عند شوقي، إذ لم يشغل نفسه بما كان يدور في القاهرة –أوغيرها من المدن الكبرى– إلا من زاوية الأحداث السياسية التي كانت تعج فيها([12]) وبخاصة في أثناء تلك الفترة التي كان قد أخلص فيها نفسه للتيار الوطني، أما ما عدا ذلك فلا يعدوكونه تغنيا بالحدائق والرياض والمنتزهات، أو تشوقا وحنينا في أثناء فترة المنفى. ولا يكاد يخرج حافظ إبراهيم عن هذا الاتجاه، أعني الوصف والتغني، وإن كان قد عني بمظاهر البؤس والفقر فيها، وكذا مدح بعض الجمعيات الخيرية.
ويتفرد خليل مطران عن هؤلاء جميعا، من حيث إعلانه، معاداته الصريحة للمدينة، في قصيدته:
العزلة في الصحراء خير من العيش في المدينة، والتي مطلعها :
ولوا المدينة وجهكم ودعوني
أنا في هو اي وعزلتي وجنوني
ولكن بعد البارودي وشوقي وحافظ ومن شايعهم، ممن يعدون طلائع المدرسة الكلاسيكية الإحيائية ودعائمها في أدبنا العربي الحديث، ومع مطلع القرن العشرين وبروز معطيات التكنولوجيا الغربية، واحتلالها مساحة غير قليلة في جسد المجتمعات العربية وتمركزها –بصفة خاصة– في مدنها، وأحداث الحربين العالميين اللتين عرفتها الساحة العالمية، وما حبلت الساحة العربية من حروب محلية، حدث تطور كبير في الموقف والرؤية، َتمثل في الانتقال "إزاء الطبيعة من السلفية والمكان التاريخي مع شعراء النهضة، إلى الطبيعة المثالية مع شعراء المهجر، والطبيعة الذاتية مع شعراء ما بين الحربين اللذين سموا بالرومانطقيين"([13])، وتزامنت هذه المرحلة مع بروز الشعر السياسي المطالب بالحرية والداعي إلى مناهضة الاستعمار وعملاءه، والشعر الوطني النابع من نزعات وطنية، والشعر الاجتماعي المتناول بالوصف والتحليل لقضايا المجتمع ومشكلاته؛ تلك القضايا والمشاكل التي برزت نتيجة شيوع المظاهر المدنية وتعقد الحياة نسبيا وظهور الطبقية وما شاكلها، بالإضافة إلى تلك الخيبات المتتالية التي عرفتها عشرينات هذا القرن، حيث انتهت جل الثورات العربية إلى الفشل الذريع، وفقد مناخ الاعتداد بالأمجاد العربية –الذي كان مرتكز شعراء الانبعاث– معناه، وكبلت الحيرات الشخصية والعامة. كل هذا ساعد على إحداث قفزة نوعية شكلت" مفصلا انتقاليا مهما بين الانتماء التاريخي والانتماء إلى المكان بأبعـاده الحاضرة"([14])، كما ساعد أيضا على إحداث ثورة أساسية في عقل الكاتب العربي ونفسه. تمخضت هذه الثورة عن بروز عدة اتجاهات أو مدارس أدبية متزامنة أو متلاحقة. لكنها تصب كلها في مجرى واحد، وتهدف إلى غاية واحدة، وهي مهاجمة الواقع بقصد إصلاحه، وشيوع نغمه الضيق بضغط المدينة والتبرم من واقعها، والحنين الجارف إلى بساطة الريف وهدوئه، ونشدان عوالم خيالية بعيدة عن ضجيج المدينة وضوضائها.
2- هجاء المدينة والتمرّد عليها :
على الرغم من أن "الأمر لم يتطور عندنا إلى وضع مطابق لما يحصل في أو ربا، لعدة أسباب منها أن الفاصل بين الريف والمدينة في بلادنا ما زال أقل جدية عما هو عليه في أو ربا وأمريكا، ومنها أننا لم نتحول إلى مجتمعات صناعية بمعني الكلمة"([15])، إلا أن التمرد على المدينة يصبح حاصلا، وتبرز عدة أصوات منها تلك التي طحنتها المآسي، وعانت مرارة الواقع المديني و"طفقت تنشد المراثي للعالم، وترتل أنغام الحزن ونشأ عندها مركب نقص فحواه أنّ العالم فاسد وأن الواقع مرير لا يمكن إصلاحه"([16]) وأن الحياة مهزلة أو مأساة، فراحت تندب العالم، وتدوي الأرض عويلا وأنينا، وتنفث من نفوسها على العالم سخطا رهيبا، وهؤلاء هم الواقعيون، وظهرت جماعة أخرى أكسبتها المآسي حنكة وخبرة، وزادتها حبا للحياة وتمسكا بها، فغدت نظرتها إلى المستقبل – على الرغم من مأساوية الواقع – متفائلة، ومضت تحاول إصلاح ما تحطم من هذا الواقع، وتخفف من حدة مرارته، وتجدد ما أصاب أجزاءه من البلى، فاستطاع الشعر العربي أن يخرج على يدها و"لأول مرة في تاريخه الطويل ينشق عبير الحرية، ويحطم أغلال الوحدة على مسرح الحياة ليصور آلامها ومآسيها وليعبر عن مشاعر الجموع المتلهفة إلى حياة سعيدة، ومجتمع تظله الحرية والعدل"([17]) والمساواة.
كما برزت جماعة أخرى أيضا، جانبت الواقع وتمردت على قيمه ومعاييره محلقة في أجواء الخيـال والحلم، متخذة شعارا لها هو العودة إلى الطبيعة، حيث الطهر والنقاء وحيث الطفولة والبراءة، أو العودة إلى الغاب كما يعبر المهجريون*، حيث الحرية والثورة، والاحتجاج والتصوف، والسموعن كثافة مادية العالم ومفارقاته، والاحتماء بالليل، ففي الليل تنعدم وتتلاشى الملامح المميزة، وتزول الفروق وتتوحد الأشياء، وتنام بين أحضان سرمدية الكون هادئة.
وهنا يبرز جبران خليل جبران، الذي عاش محن الحرب العالمية، وعاش زمن التحولات، وخبر بوادر اليقظة العربية، وأحس بالخطى المتسارعة التي يسير بها عصره، "وكان شاهدا عل عالم يبتعد بلا رجعة عن الحضارة الزراعية وأوثانها القديمة، نحوالقيم الحضارة الصناعية وآلهة "الجوع الغريب "واجتياحها الضاري للطبيعة"([18])، فأطلق صرخة مدوية احتجاجا على تغيير معالم الطبيعة وتآكلها، وتجاسرت هذه الصيحة متعالية بحسّ امتداديّ حلمي لا نهائي، من أجل حمايتها من براثن المدينة.هذه المدينة التي يجب أن تهدم ويعاد بناؤها من جديد، لتلائم النفس البشرية الخيرّة ولتوفر لها حريتها، حرية الفكر والعقيدة والسياسة وغيرها. فكان "حس الامتداد هذا " (عند جبران كما عند الرومنطقيين والصوفيين) من عوامل نقد المدينة وإيثار الطبيعة حيث لا يناقض الليل النهار، حيث لا جدران ولا توقيت ولا تقنين، حيث تتساكن الأطراف في بيت واحد"([19]) في هدوء ووئام ودون مزاحمة أو مناكبة، ودون رسميات أو تعقيدات.
اندفع جبران إلى الثورة على العالم، والمناداة بهدم هياكل الفساد-كما في كتابه(العواصف) الذي يمثل ذروة العنف عنده- فيه، نتيجة الكآبة والخيبة والظلم الاجتماعي الذي ميز مدينة عصره، فعدلُ الناس (ثلج إن رأته الشمس ذاب)، ورجال الدين (استغلوا الشيطان وبه اتجّروا)وباعدوا بين الصليب والهلال أمام عين الله. ثار على السياسة وعلى التقليد وعلى كل مالا تتقبله نفسه الحرة الثائرة، هدَم كلّ ما كان يراه غير صالح، ليعاود البناء في كتابه (النبي)، بناء مجتمع مؤسس كله على المحبة والعطاء والأمل، دون القبول بالوسطية في الأمور، لأنه كان راديكاليا متطرّفا في مواقفه غريبا ومجدّدا في رؤاه، فكان بذلك إنسان الأحلام الكبيرة، لكنه أيضا إنسان الأحزان الكبيرة، لقد كان طوفانا صغيرا" غسل أمام الذين جاءوا بعده عفن الدروب والتواريخ والأشياء والكلمات"([20])، وفتح في الشعر مجالا آخر لغير الضحك واللّهو والبكاء، ولغير التصنع، مجالا أتاح بدوره للشاعر أن يشده بشوق إلى معرفة الأسرار، وأن يبدع شكلا جديدا لما يحيط به، في بهاء الحرية وسلطانها الكامل"([21]) مدفوعا في ذلك بشوق عارم وحلم بعيد، وتعطش كبير إلى الانعتاق من عالم المادة، والتحرر وتغيير الحياة إلى الأفضل، وإشاعة النَفَس النبوي والجمالي في كل ما يحيط بها من قيم، ومدفوعا أيضا بالطموح المتعالي المنشد لتجاوز الذات، المنجذب نحوالارتباط بالكل عبر الاندماج بالطبيعة، فكانت بذلك طبيعته مكـانية ونفسية في آن معا.
والاتجاه نفسه يظهر عند شعراء لبنان الآخرين من ذوي النزعة الرومنطيقية، حيث تشكل الطبيعة لديهم الحيز الكبير الذي يرتاحون إليه، ويرتعون في أحضانه الحرة الطليقة بعيدا عن قيود الناس ودجلهم وحسدهم ونفاقهم، وذلك لأن الطبيعة صنوالطهارة والبراءة والصدق. فلقد "كان الكلاسيكي يألف المدن ويحب المجتمعات، فكان مثال المدني، إذا حزّ به أمر أو اعترته نازلة رأيناه في دأبه مع صحبه وأهله وأتباعه يعزونه أو يعاونونه أو يشيرون عليه. وهذا مألوف في القصص والمسرحيات الكلاسيكية، وقلّ من كان يصف منهم الريف أو يضيق بالمدينة، وحتى هؤلاء سرعان ما كانوا يعودون إلى المدن إذا ضاقوا بها بعض الوقت وهذا فارق جوهري بينهم وبين الرومنتيكيين؛ فقد كان هؤلاء منطوين على ذات أنفسهم ضائقين ذرعا بما تضطرب به المجتمعات من حولهم فولعوا بترك المدن إلى الطبيعة، وكانت تروقهم الوحدة بين أحضانها ليخلوا إلى ذات أنفسهم"([22]). ولذلك برزت الدعوة صريحة إلى ترك المدن والعودة إلى القرية، على نحوما نرى عند الأخطل الصغير:
عودوا إلى تلك القرى فلقد
سلختكم عن قلبها المدن
الذكريات على مفاسدها
الأم والأخوات والسكن
فالقرية ببساطتها وخلوها من التعقد كانت ملهما ومصدر وحي لجمـوع الشعراء، فانبروا لتصويـرها، ووصف محتوياتها، وألفة ناسها، ولطافة أجوائها، ونقاء هو ائها؛ فحقولها وكرومها كانت المسرح الأثير لدى الشاعر الرومنطقي، حيث الانطلاق والحرية والحبور الدائم، المضمخ بالعطر والأنوار والأنغام، كما يتجلى في قول يوسف غضوب:
وللطيب والنور في كرمنا
عجائب في كرمنا نبتكر
إذا النـور مر بأعنــابه
توطن ياقـوتها واستقر([23])
فلفظة "الطيب" هنا تعني السعادة الحقّة، في حين أن لفظة "النور" تحمل معاني النقاء والإيمان اليقيني والبراءة التامة، و"توطّن النور في حبات العنب يرمز إلى استقرار الروح الطاهرة في قلب الشاعر وأن العنب يرمز إلى النشوة السماوية، فالخمر تستقطر من العنب، وكما أن الخمرة الحقيقية تسكر الإنسان وتنسيه الوجود فإنها هنا عند غضوب رمز للروح الإلهية التي يسكر بها المتجهد* المؤمن"([24])، ولذلك نراه يتابع"، مبينا القدرة الاستشفائية التي تمتلكها القرية، فيقول:
فكل عليل إذا مسّها
تعافى وكل صحيح سَكَر([25])
وتجدر الإشارة هنا إلى أن لفظة "عليل" ترمز إلى الخاطئ أو المدنس الذي أصابه فساد الحياة ولفظة "صحيح" ترمز إلى النقي العاشق الإلهي. فروح الخمر تنقل البشر إلى مستوى رباني يرتفع معه الإنسان فوق أدران الأرض"([26]) ليحلق في أجواء سماوية صوفية، ذات وحدة كونية تندمج فيها الأشياء وتتحاور فيها الكائنات بصدق وحب، حتى لتغدوهذه الأخيرة عندهم إنسانا طاهرا هو تعويض عن ذلك الإنسان الذي افتقدوه في المجتمع المديني الصاخب.
وإذا كان جبران ومن ولاه يحاولون التخلص من مادية واقعهم ومأزق غربتهم عن طريق اللجوء إلى الطبيعة وأنستها، ونشدان الإنعتاق فيها، فثمة اتجاه آخر ينشد الخلاص من حياة المدينة العفنة عبر الهروب إلى الصحراء، تجلّى هذا بصفة خاصة، عند الشعراء الجزائريين ذوي النزعة الدينية الإصلاحية.
3- الفضاء المنشود :
فالصحراء وحياتها –كما هو معروف تاريخيا – موضوع غير جديد في شعرنا العربي، فقد عالجه شاعرنا العربي منذ القدم. والشاعر الجزائري العربي الذي نشأ في الصحراء وترعرع في ربوعها، وتمتع بنسائمها، ثم تركها مضطرا لسبب من الأسباب ليلحق بحياة المدن، ظلّ وفيا لحياة الصحراء، يبثها شوقه وحنينه، ويتمنى العودة إليها والارتماء في أحضانها من جديد، مبينا في ذلك ضجره من حياة المدن، مبرزا مساوئها، منافحا عن الصحراء، واقفا في وجه من يعيبها ويرميها بالجدب من سكان الحضر، لأن فيها من الجمال ما يبهر العين ويخلب اللب، ولكن من يحس به ويتذوقه قليل، هذا فضلا عن القيمة الدينية التي تشرفت بها، فهي مهد النبوة، والأرض التي شب بها الرسول(ص) وانطلق منها نور الهدى يتفجر. هذا ما نراه عند أحمد سحنون في قصيدته "الصحراء" ومنها الأبيات التالية[27])
أصحراء أنت الكون بل أنت أكبـر
ومرآك في عيني أبهى وأبهـر
بل أنت دنيا من هنـاء وغبطــة
وصفوا على الأيام لا يتكدر
وإن قيل: في الصحراء جدب ووحشة
وحر غدت نيرانه تستعــر
ففيها جلال يبهر العين شخصــه
ولكن قليل من بمعناه يشعـر
وفي أرضهـا شب الرسـول محمد
ومن أُفقها انبث الهدى ينفجر
أصحـراء ضمّيني إليك فإننــي
وحقك من سكنى المدائن أضجر
أنا ابنك قد لُقِنت حبـك ناشئـا
وإن على ذا الحب لا أتغيـر
ويتقابل هذا الحنين الجارف إلى ربوع الصحراء والعيش فيها مع الضجر والتبرم من حياة المدن –كما أسلفنا- لأنها لا تتضمن سوى كل ما هو مذموم منكر، ومخالف لما نشأ عليه الشاعر من خلالٍ وقيمٍ سامية:
وإنْ سَكَنَ النـاسُ المدائن إنني
لجأت إلى سكني بحضنيك يؤثر
وكيف أرى سكن المدائن بعدما
رأيت بها ما يستـذم وينكـر
نفـاق على كل الوجـوه مخيم
وبُغضٌ على كل الجباه مسطر
وفوضى على رغم ادعاء حضارة
بها لم تدع شيئا يُحَبُ ويقدر([28])
ومن هذه المذمومات والمنكرات التي جعلت الشاعر يفضل الحياة في أحضان الصحراء، ويهجر المدن: فضلا عن النفاق والبغض والفوضى المتفشية تلك المناظر المزعجة والمشمئزة التي كانت تحدث في شطآنها، وذلك السيل من الفضائح التي كانت تقع عليه عينه في كل حين، فيغدوالقلب من جراء ذلك أسيـانا والعين دامعة، هذا ما نراه عند محمد العيد آل خليفة في قوله يخاطب البحر قائلا[29])
على الشـواطئ سيل
من الفضــائح أزرى
تلقى الفتـاة فتـاها
كلاهمـا فيـك مُعرى
يكـاشفانك فحشا
ويسمعــانك هجرا
فالقلب من ذاك آس
والعين من ذاك عبرى
هذا ويقف محمد الأخضر السائحي مشدوها أمام عالم الصحراء الساحر الرحب، ذي الجمال الطبيعي الفتان، والطهر والصفاء الرائق فيقول[30])
كُثب أنت؟ أم سنـا وضيـاء
ورمـال؟ أم فتنة ورواء
وسكون مخيـم ووجــوم
أم عنـاء مرجع وحداء
بسـاط ممهـد من حريــر
أم هضاب على الثرى شماء
لست أدري أ أنت أرض دحاك
الله أم أنت يا رمـال سماء
هاهنا كلها بدت في رمــال
وهضاب ماجت بها البيداء
يتغنى الشاعر بالطبيعة الساحرة في الصحراء، ويقف متسائلا حيرانا أمام جمالها الخلاب بل أنه ليتصورها إنسانا أو بالأحرى امرأة يحاورها ويتغزل بجلاء حسنها الطبيعي الخالي من التصنع والتنميق والتنسيق، ويود بأشواق عارمة الارتماء في أحضانها اللامتناهية [31])
وأنا الشاعر الذي يعشق الحسن
ولا تستخفـه الأســـماء
ويراه لدى الطبيــعة صرفا
لم تنمقه صنعة وطــــلاء
كل معنى للحسـن فيها جلى
لا غموض، لا دقة، لا خفـاء
فكأن السكـون فيها حراك
وكأن السكون فيها عنـاء...
لا تود النفـوس لوتحتويها
وهي أفق –لا ينتهي- وفضاء.
وهكذا يحاول الشاعر أن يقول لنا في قصيدته أن الطبيعة هي المكان الأمثل للحياة وأن الارتماء في أحضانها هو الاتحاد الكلي بالأشياء وهوعمق الحياة، فهناك الانعتاق والحرية، وهناك السرمديـة واللانهائيـة، وهناك التحليق برشاقة في شفافية أفاقها الرحبة، حيث الأشياء طبيعية بكر، ميزتها الوضوح والمكاشفة، فلا الصنعة تزيفها ولا الطلاء يخفيها كما هو الحال في دنيا الناس وواقع العالم ونهاره.
ولعل الشاعر على يقين تام ووعي أكيد بما أصاب النفوس من جدب وقحط وما حلّ بها من بؤس وشر وعداء، ولذلك نراه يناشد الربيع الخلاص، ويطلب منه أن يزرع المحبة والرخاء ويسكب السـلام والخير والإخاء في الحنايا وفي الأنفس لا في الثرى والكثبان، فالأنفس أكثر حاجة وأشد تعطشا إليها [32])
فامش في الكـون بالرخـا وبالخيـر
وسر بالسلام في أركانه
وآسر بالخصب في الحنايا، وفي الأنفس
لا في الثرى وفي كثبانه
ويصف أحمد سحنون الربيع لا ليتغنى بروعة بهائه وجمال محياه، بل ليجسد ذلك البؤس الاجتماعي وذلك الشقاء الذي كانت تعانيه النفوس في فصل الشتاء، وذلك الموت الذي كان يداهم الفقراء والأيتام وهم طريحوالثرى لا يجدون من يأويهم أو يسد رمقهم، فيكون حلـول الربيع بالنسبة لهم بشرى ومنجاة ومخلصا بنشره الرخاء والهناء [33])
قد تجلى لنا محيــا الربيـع
رافلا في ثيـاب حسن بديـع
وتولى الشتـاء يعثر في أذياله
مسرع الخطـى في الرجـوع
كان للبائسين سـوط عذاب
وأداة للفتـك والترويــع
كم طريح على الثرى مات جوعا
ويتيم على الطريـق صريع
لم يذوقـوا طعم الهناء نـهارا
لم يذوقوا في الليل طعم الهجوع
زمهرير يفري الجلـود مذيب
وثلـوج تـأتي بأثر صقيـع
ذاك جيش الشتـاء ولّى كسيرا
مذ أطلـت عليه شمس الربيـع
وتجلت في كون دنيا من السحر
لمغُزى في كل سحر ولـوع...
وفشا البشر والطلاقة والنشوة
والسحر في جميـع الربـوع
وجلاء القلوب من صدى الهم
وسلوى الحزين والمفجـوع
هكذا يصبح الربيع معجزة إذا ما حلت بالكون أزالت أحزانه ومسحت العبرات من على وجنات المكلومين والبؤساء وغسلت أدران العالم وأشاعت فيه الحب والحياة بعد موات، ولذلك نرى محمد الأخضر السائحي يدعوالناس إلى تأمل وتملي أسراره ومعانيه لتتشرب نفوسهم بالحب والحياة وليعرفوا معنى وقيمة الوجود([34]) :
أيها الناس في الربيع معان
فاطلبوها كالنحل في أحضانه
هوفصل الحياة والحب لو
لاه لظل الوجود في أكفـانه
فالربيع يعد فرصة ثمينة للتخلص من عفن الحياة في المدينة ومواتها، والغرق بين أزقتها ودروبها، ولذلك يجب ألا تضيع هذه الفرصة، بل المفروض استغلالها والتمتع بخلابة حسنها. ولكن لا يأتي هذا التمتع أو الانتشاء إلا بالابتعاد عن المدينة-التي التهمت آلياتها كل منظر طبيعي جميل- والاختلاء في الروابي والرياض فثمة الهدوء والسكون المريح، وثمة تتجلى بوضوح قيمة الحياة الحرة النقية.
هكذا يفر الشاعر إلى الطبيعة فيوثق صلته بها ويعمق ارتباطه ويستطيع أن يمارس بارتياح حياة الإشراق والانعتاق، بعيدا عن الأسى والإحباط. إنه ينفصل عن الواقع ويغترب عنه ليتصل بالطبيـعة ويلتحم بها.
ولعل هذا الموقف –أي الهروب إلى الطبيعة للتخلص من ثقل الواقع المديني- يتضح بصورة أكبر عند جماعة "أبولو". تلك الجماعة التي وجد شعراؤها أنفسهم محاطين بأجواء خانقة، محكومين بضغوطات سياسية رهيبة، وأشكـال بيروقراطية متنوعة، ومسـاومات وقمع يحد من حرية الشـاعر ويكبل رغبته،ويجبره على أن يغفر صوته وينزوي في الظل([35]). إذا وفي ظل هذه الأجواء الخانقة"كان الشاعر يعاين الواقع الحالك ويجد نفسه مدفوعا إلى موقع هامشي، هذا العزل القسري قد دفع به إلى الطبيعة. الطبيعة هنا مرآة للذات، إنها طبيعية نفسية أكثر مما هي طبيعة مكانية. مشاهدها أقرب إلى صور الأحلام"([36]). لكنها أيضا ألصق بالواقع لكونها دائمة الاقتران بالبحث الدائب عن الحرية، ونشدانها الحس العفوي وسيادة نغمة البراءة؛ فـ"العودة إلى الطبيعة عودة إلى الفطرة والذات، وهي إذا، إعادة الاعتبار إلى العفوية والحرية، وهي تجاوز للتقاليد بصيغتها الاجتماعية"([37]) السائدة ومحاولة تخطي الواقع واقتلاع جذوره الفاسدة، ولوخيالياً عن طريق الفرار إلى الطبيعة والاحتماء بمظاهرها كالليل مثلا، كما فعل علي محمود طه في قصيدته "الطريد أو الحرية المضطهدة" المكتوبة عام 1929 مصورا محنة جيله وخيبته لاجئا إلى الطبيعة والليل، أو السفر إلى شطآن خيالية غير واقعية متشوفة بنظرة ميتافيزيقية كما في مطولة الهمشري المكتوبة في نفس السنة أي 1929 "شاطئ الأعراف" وهي عبارة عن "رحلة خيالية يقوم بها الشاعر على سفينة الذكريات إلى شاطئ الأعراف، وهوشاطئ خيالي وراء الحياة تلوذ به الأرواح بعد طواف، وهي قصيدة تصور الخيبة والغربة والعجز الذي حل بهذه الأجيال، ومدى التفسخ الذي أصاب نسيجها.
واستعراض سريع لعناوين بعض المجموعات الشعرية التي كتبها هؤلاء في تلك الفترة مثل:"ما وراء الغمام" لإبراهيم ناجي "الملاح التائه" لعلي محمود طه، "أين المفر" لمحمود حسن إسماعيل، "الشفق الباكي" لأحمد زكي أبو شادي، "شاطئ الأعراف" ثم "إلى جيتا الفاتنة في مدينة الأحلام" للهمشري([38]) يبين لنا عمق المأساة وشدة القلق الذي اتسمت به الحياة. كما يوحي لنا بمدى المعاناة والآلام التي كان يصدر عنها هذا الشعر، إضافة إلى ذلك الصراع المرير والطاحن بين الواقع الموضوعي والواقع الباطني، واقع الحياة وعالمها المأساوي وعالم الذات بفطرتها وأحلامها ومعانيها السـامية المتمثلة في الحب والوئـام والسلام والآمال العراض، والتي لا يمكننا أن نجدها إلا في الطبيعة.
تظل هذه الأشعار تعزف على وتر الطبيعة تبثها الشكوى والنجوى، وتحاول الاحتمـاء بشطآنها الحانية من هجير المدينة ومتناقضاتها، كما تريد تأكيد ذاتها المستلبة وتحديد هو يتها عن طريق الاندماج بهذا العالم السامي المتميز والاتحاد معه، الطبيعة تفتح لهم ديكورا مسرحيا فيه من الخيال غير المشوش والحلم السعيد واللاحقيقة الشيء الكثير، ولا يخفى ما في هذا الاغتراب عن الواقع المادي والانفصال عنه وتعميق الاتصال بالطبيعة وتأكيد الانتماء إليها"من شعور ضمني بالاقتلاع وانقطاع الأواصر بالمكان. وليس هذا الشعور غريبا عن الإحسـاس بالعجز عن ملامسة الواقع والسيطرة عليه"([39]) بسبب القلق والتنـاقض والغموض الذي يكتنفه، والتشويه الذي لحقه، حتى لم يعد محدد الملامح عصيا على الفهم.
وإذا كان جبران ومحمد العيد وأحمد سحنون وجماعة أبو لوكأبناء قرى ذات طابع ريفي أو بالأحرى أبناء ريف تأثروا بالمدرسة الرومانسية، وهم يفدون إلى المدينة فصدمهم واقعها المعقد وطابعها المادي فحاولوا التخلص من مأزق واقعها عن طريق اللجوء إلى الطبيعة وأنسنتها ونشدان الإنعتاق فيها. فثمة اتجاه آخر يفضّل المواجهة، ويعمد إلى تعرية الواقع وفضحه كما هو ، ويصور بطريقة، تجعلنا نستشعر الحضور المكثّف للألم والشرّ والخطيئة في مقابل اللذة والخير والبراءة والطهر، ولعل الياس أبو شبكة خير من يمثل هذا الاتجاه بوقوفه في مسافة واقعة بين طرفي نقيض؛ الطرف الأول متمثلا في البراءة حيث الطفولة والحلم والبساطة والنقاوة، والطرف الثاني متمثلا في العالم أو الواقع المتضمن لكل الشرور ولكل الأثام. إنه يراه عالما موحش الأفاق، مُسخ أناسه، فاستحالوا إلى أفاع وثعابين مخيفة غادرة تنشر السم الزعّاف في الشراب الواقي أو كما يعبر الشاعر[40])
عشـت في مقلتي سـاعة هو ل
حجّـرت غصتي على إشفـاقي
وأرتنـي، كأنـني في جثـام
عـالما فيك موحش الآفــاق
فرأيت المسخ المخيف على اكمل
حسن، والقزم في العمــلاق
ولسـان الثعبان في قبلة الصّديق
والسـم في الشراب الواقـي
وسمعت الفحيح في النغم العذب
وصـوت العدوفي الميثــاق
عالم مشوّش متناقض، اختلطت فيه الأشياء وتلاشت من بينها الحدود، وضاعت الملامح المميزة؛ الغدر في الصداقة، السم في الدواء، والفحيح المخيف في الأنغام العذبة، والخيانة والخديعة في العهود والمواثيق، عالم فيه كل شيء في حين أنه يفتقر إلى كل شيء. إنه فردوس لكنه محاط ومليء بالأفاعي القاتلة[41])
ورأيت الفردوس لفّت أفاعيه
غصونـي وكمّشت أو راقي
بل إنه لـ"مستنقع يتنهّد" و"صباغ فاسد" و"مقاذر" و"سقوط" و"بحر شبهات"([42]) كما يعبر الشاعر في مواضع أخرى.
4-الخلفيـة السياسيـة:
وهناك اتجاه آخر متميّز كل التمايز عما سبق، لكونه يهاجم المدينة بضراوة ودون مهادنة. مرتكزا على الخلفية السياسية دون غيرها. معتبرا إياها (المدينة) بؤرة الفساد السياسي والقهر واللا عدل. ولعل الشاعر محمد مهدي الجواهري أبرز صوت يمثل هذا الاتجاه بوضوح كبير، وبجرأة لا متناهية. الجواهري ذلك الشاعر العراقي ذوالنفس الغضوبة الثائرة، المتخذة من الكلمة الوجيهة جسرا للعبور إلى الحريـة، ومن القلم سيفا مشهورا في وجه الحكام الفاسدين، وسوطا يؤدبهم به من حين لآخر وينبئهم بأوخم العواقب، إنهم يحملون الشعب على الرقص ببلاهة كالقرود. ولذلك فهوغاضب على هذا الشعب المستسلم لعبث الحكام، الراضخ لتجبرهم، لقد هجر هذا الشعب غاضبا غير حاقد([43]) :
" قال: ومتى عهـدك بالمدينـة وأهلهــا؟
" قلت: منذ تركتهــا.. أما عهـدي بأهلها
فمنذ أن تشاجرت مع حاكمها لكثرة ما يحملهم
على الرقص كالقرود...وقد استمروا يرقصـون
حتى بعد أن طردني الحاكم شر طرد من أجلهم...
طردني أنا ومن معي.
" قال : أ فأنت حـاقد عليهـم من أجل ذلك؟
" قلت : لا، أبدّا.. بل غـاضب.
قال: أو لا تريـد أن تراهم؟
قلت: إن بريق الغضب في عينّي ليصدّني عن رؤيتهم".
لقد طرده الحاكم من المدينة شر طردة، لأنه كان ينافح من اجل هذا الشعب المظلوم، ولان كلماته كانت مقلقة للحكام، فهي بمثابة الآلة التي [44])
تستل من أظفارهم وتحطّ من
أقدارهم، وتـثل مجدا كاذبا
ولأنه كان غاضبا ورافضا، ومهددا ولاعنا ومحرضا، ولأنه كان حتفهم [45])
أنا حتفهم ألج البيوت عليهم
أغري الوليد بشتمهم والحاجبا
أنا ذا أمامك ماثلا متجبرا
أطأ الطغاة بشسع فعلي عازبا
وأمط من شفتيّ هزءا أن أرى
عفر الجباه على الحياة تكالبا
ولكن وإن هو هجر المدينة، وكان غاضبا على أهلها -في غير حقد- لأنهم استمروا في رضوخهم للحكـام أو –كما يدعوهم أحيانا- المتحكمين، ولم يناصروه على الرغم مما لاقاه من أجلهم، فإنه غير يائس من ثورانهم يوما ما، ولذلك نراه يخاطب الحكام قائلا في سخرية موجعة، وغضب متوعد ما حق[46])
ما تشاؤون فاصنعوا
فرصة لا تضيــع
فرصة أن تحكّمـوا
وتحطّوا وترفعـوا
وتدلوا على الرقاب
وتعطوا وتمنعـوا
ما تشاؤون فاصنعوا
لكم الأرض أجمـع
لكم الناس أكتـع
من ذويهم وأبصع
ما تشاؤون فاصنعوا
الجماهير هطّــع
ما الذي يستطيـعه
مستضامـون جوّع
ما تشاؤون فاصنعوا
كلّ عـاص يطوّع
فشباب يخيـفكم
للمطـامر يدفـع...
وضمير يهزكم
بالكراسي يزعـزع
ولسان ينوشكم
بالدنـانير يقطـع
ما تشاءون فاصنعوا
جوعوهم لتشبعوا
ما نهبتهم فوزعـوا
للحواشي واقطعوا
وهويكتفي بتصوير ما يسود المدينة من ظلم وتسلط وتزوير في القوانين والتشريعات الحامية للحكام، بل كثيرا ما يعمد إلى الدعوة للثورة والتمرد عليهم والتضحية جاعلا "من الشهادة جزءا ضروريا من التجربة السياسية- الشعرية"([47]). إنه رغبته المتأججة في حنايا نفسه، وضالته المنشودة، وعشقـه الأول والأخير. فبالثائر الذي يسير "على لا حب من دم" وبيوم الشهيد "يبعث الجيل المحتم بعثه/وبك القيامة للطغاة تقام"([48])، إنه يفضل المواجهة الصدامية مع الطغاة، ويحيّ أو لئك الثائرين الذين يجعلون "الحتوف جسرا" للناس إلى الغد[49])
سلام على حاقد ثـائر
على لا حب من دم سائر
يخب ويعلم أن الطريق
لا بد مفض إلى آخــر
كأن بقايا دم السابقين
ماض يمهد للحـاضـر
سلام على جاعلين الحتوف
جسرا إلى الموكب العابر
يجعل الجواهري من الشهادة جزءا أساسيا وسندا ضروريا للتجربة السياسية الشعرية والحياتية، شأنه في ذلك شأن الخوارج، إضافة إلى تشبهه الكبير بأبي الطيب المتنبي، في تلك النرجسية المتعالية أحيانا، وفي ذلك
التبرم من الحياة، ومن لا أهمية الحكام وعجزهم*...
وقد يلجأ الجواهري أحيانا وحينما يستبد به اليأس وتعصف به الأحداث السياسية في المدينة إلى الطبيعة يشكوها همومه، ويبثها يأسه وأحزانه، وما يلقاه من لؤم وتهم في المدينة، فيقول[50])
إنّا أتيناك من أرض ملائكها
بالعهر ترجم أو ترضي الشياطينا
إن لم يلح شبح للخوف يفزعنا
فيها يلـح شبح للـذل يصميــنا
وقريب من هذا الموقف المنـاوئ، ذاك الذي نلحظـه عند"عبد الغني الجميـل" الذي يقول عن بغداد([51]) :
علام الإقامة في بلدة
نعدّ بها مثل حـمر النعم
وقوله أيضا :
لهفي على بغداد من بلدة
قد عشش الحب بها ثم طار
ويتضاعف هذا الموقف عند معروف الرصافي، ويشتد أكثر في قسوته على (بغداد)، إذ يصوّرها على أنها سجن، ومكان للذل والجور والتسلط وقهر الحكام فيقول حانقا:
أيا سـائلا عنـا ببغداد إننا
بهـائم في بغـداد أعـوزها النبت
خضعنا لحكام تجور، وقد حلا
بأفواههـا من ما لنا مأكـل سحت
ولَلموت خير من حياة تشوبها
شوائب منها الظلم والذلّ والمقت1
ويقول في قصيدة "السجن في بغداد":
"لخولة أطلال ببرقـة ثهمد"
عفا رسم مغنى العزّ منها كما عفت
زر السجن في بغداد زورة راحم
لتشهد للأنكاد أفجع مشهد2
5- الاحتفاء بالمدينة المميزة:
ولا نود اختتام هذا الفصل، دون التعريج على المدن السودانية وبخاصة الخرطوم، تلك المدينة المعشوقة من لدن شعرائها، والمميزة عن غيرها من كبريات مدن العالم العربي. فهي وإن كانت تشترك معها في الطابع العربي والإسلامي، فإنه تتميز عنه بطابعها الإفريقي العريق الضارب بجذوره في أعماق السودان. ولعل هذه الميزة، هي التي جعلت الشعراء السودانيين يهتمون بالمكان اهتماما يكاد يقترب من اهتمام الشاعر الجاهلي به، وبخاصة في الافتتاح والتحديد الدقيق له ولمعالمه، وربما ذلك ناتج عن شدة ارتباطهم به، وعشقهم له، إذ يمكن القول –دون مبالغة-"بأن أحدا من الشعراء العرب المحدثين لم يعشق مدينته، كما عشق الشعراء السودانيون مدينة الخرطوم فهي عند الكلاسيكيين راية ومجد، وعند الرومانسيين أغنية وحلم . أما الواقعيون فرأوا أن لها شخصية متميزة على الرغم من فقرها، واختلاف الأجناس فيها، ورغم الحزن الذي يغشى-كالغبار- بعض ملامحها التي لا تبتسم إلا بقدر"3. ولعل "محمد المكي إبراهيم" أشد الشعراء تفجرا في عشق الخرطوم، حيث يخرجها في صورة غزلية جد رهيفة فيقول:
شد ما أنت حسناء
كم أنت مغرية بالتهور والاغتلام
عارية وزنجية
وبعض عربية
وبعض ... أقوالي أمام الله([52])
أما عند "التجاني يوسف بشر" فهي زهرة، وأغنية وقصيدة، وشمس تفرع كأس الضوء في بدرها، وهي مدينة السحر التي تنام فيها حجرات الذهب وتضاء بالفجر وبالنفوس([53])... ويعدّ محمد المهدي المجذوب هو الآخر من اكثر الشعراء حبّا لمدينته، ومن أكثرهم وصفا لها وتجسيدا لتفاصيلها الداخلية والخارجية؛ إذ انه لوّنـها بمختلف مشاعره الخاصة فرحا وحزنا([54])، توحدا واغترابا، رضا وسخطا.
ولا نريد أن نستطرد اكثر من هذا، فحسبنا الإشارة إلى بعض إرهاصات الظاهرة وتلمّس مفاصل تجربتها، والإلمام البسيط ببعض التفريعات التي دلفت إليها، والمظاهر التي اتخذتها في شعرنا الحديث في مطلع القرن العشرين.
والنتيجة التي يمكننا الانتهاء إليها من خلال هذا العرض هي أن المدينة العربية ومنذ مطلع القرن، ومع تزايد معطيات التكنولوجيا الحديثة فيها وما صاحبها من تطور حضاري متسارع الخطى، لم يترك للمرء فيها فرصة التأمل الهادئ، ومراجعة الذات المتأنية، ومع ابتعادها عن البراءة ونزوعها نحوالتعقيد في أسلوب الحياة، وسقوط القيم فيها، وانتشار أشكال البيروقرطية والتسلّط، وسيادة البؤس والحرمان، إضافة إلى تلك الضجات المتلاحقة، وتلك الثورات المتتالية، وذلك الوعي المتصاعد، بهذا وبغيره، عملت على مناوأة الشاعر وحمله على الثورة عليها، والتمرد على قيمها ومعاييرها، كما رأينا مع جبران خليل جبران والياس أبو شبكة المطالِب بتطهير مجتمع المدينة بالكبريت، أو الفرار من جحيمه إلى عوالم خيالية طوباوية كـ(صلاح لبكي) المتغني بروعة الطبيعة وهدوئها، المندمج بذاتيته الرومانسية الحالمة معها، أو التشكي من سقوط القيم فيها والابتذال الذي يسودها (محمد العيد) و(أحمد سحنون) الفارّ من ضيق دروبها وفساد هو ائها، إلى سعة أفق الصحراء ونقاء نسماتها... أو مهاجمتها بعنف نظرا
لقد كانت معظم الأوطان العربية في ذلك الزمن، إما تحت الحكم العثماني، أو تحت نير الاستعمـار الأوروبي، ولم تكن هناك مدن يشعر الناس بامتلاكها حق الامتلاك حتى يتغنون بها أو يهاجمونها، هذا بالإضافة إلى عصور الظلام التي كانت تسربل حياتهم الثقافية والفكرية، وما تبع ذلك من فقدان للهوية تمظهر في انقطاع الصلة بالماضي التراثي وانعدام الهوية الحضارية التي تؤكدها، والحيرة بين أشلاء ثقافة ممزقة موروثة عن عصور الظلام، وثقافة جديدة وافدة من الغرب غريبة عنهم كل الغربة. ولذلك انصّب جل اهتمام عامة المثقفين آنذاك وبخاصة الشعراء على محاولة إخراج الأمة من مطب عصور الظلام وبعثها من جديد، وتأكيد هو يتها الحضارية وربط صلتها بماضيها العريق. وليس من سبيل إلى ذلك سوى الرجوع إلى الماضي المضيء، حيث العصور الذهبية، أيام كان الشعر في أو جه والحضارة الفنية في ذروتها -قياسا إلى عصر الانحطاط-، لذلك ظهر ما يسمى اصطلاحا بمدرسة "الإحياء" أو "البعث"، التي تزعمها محمود سامي البارودي ([1]) ومن بعده شوقـي وحافظ ومن تبعهم. وباتت هذه المدرسة تنسج على منوال القدماء وتعارضهم، ولا تكاد تخرج عن إطارهم قيد أنملة؛ لا من حيث التشكيل اللغوي، ولا من حيث معمارية القصيدة وأوزانها الخليلية، ولا من حيث الأغراض-اللّهم إلا بعض القصائد التي كانت تحمل إرهاصات الشعر الوطني، والتي حاول فيها هؤلاء اصطناع الواقعية – فها هو ذا البارودي يريد أن يصف الطبيعة المصرية وحدائق مدنها، فلا يجد سوى أشعار القدماء نموذجا به يحتذي، دون إبداع أو تجديد. فالأرض قد لبست حلتها القشيبة، وأصبحت في زي يجلّ عن الوصف، أزهارها أقباس من نور كالمجرّة، ومياه جداولها في صفائها لجين، وهلمّ جرّا، ويريد أن يتطرق إلى مجالس الأنس ووصف الخمرة، فلا يخرج عن وصفه لمذاقها، وصفاء لونها، وتلألئها، والأدوات التي تُصبّ فيها، والطقوس التي تصاحبها، والساقي الجميل والنديم الخفيف الروح. ولذلك فهولا"يصف خمرة مصرية في القرن التاسع عشر، بل خمرة عباسية، ذلك أنها خمرة عتقت في دير كما كان الحال زمن التشدد في الرقابـة على بيع الخمرة وشربها، وتسميته دهقان ينتمي إلى عصر غير عصر البارودي"([2])، فخمرته صافية كالبلور، معتقة حتى لكأنها في قدم العالم، مصنوعة في دير، تخزن في الدنان، وتنقل خلسة في الزقاق، يبيعها دهقان ويتجالس حولها الندمان.
ويصف المعارك التي تستخدم فيها المدافع، فلا يأتي لهذه الأخيرة بذكر بل أنه ليشير إلى السيوف والرماح، وما حققه أصحابها من طعان، فكان بذلك"كأنما يأخذ برأي أنصار القديم في العصر العباسي الذين كانوا يعيـبون على الشاعر ذكر أشياء تنتمي إلى الحضارة، ويفترضون الاقتصار على ما تغنى به شعراء الجاهلية"([3]). أما من حيث الغزل، فمحبوبته عيونها كعيون المها أو بقر الوحش، وقدها كالخيزران، وثغرها لؤلؤ أو مرجان، ووجهها وشعرها كأنهما صبح وليل في عطف وتناسق يتجاوران، وفي المديح، الممدوحون أبطال صناديد، شجعان كالأسود، كرماء كالغيث، صبورون على المكاره، مدافعون عن الحياض بكل ما يملكون. وفي الفخر لا يخرج أيضا عن نهج القدماء، على الرغم من الفارق الزمني الشاسع، وعلى الرغم من التطوّر الحادث في آليات الحرب وخطط الظفر، والتغيّر النسبي في القيم. فنراه يفخر بالسيوف الصارمة، والخيول المطهّمة الأصيلة، والأعلام الحمراء المصطبغة بدماء الأعداء، والدالة على كثرة خوض المعارك والتتويج الدائم بالنصر، كما يفخر بعلوأعمدة الخيام كتكنية عن الوجاهة والسيادة بالرغم من أنه نشأ في قصر آل بارودي. فهوكما نرى يفتخر بالقيم العربية الأصيلة التي ترددت كثيرا في أشعار أسلافه، فهذه القيم وإن كانت لم تزل ذات أهمية لحد الآن، فإن البارودي لم يعمد إلى استلهـامها وحسب، بل انه ليأخذها كما هي فـ"يتبنى إطارها وصيغة التعبير عنها. ولا يفخر بها كما تجلت في إطار عصره، بل في الإطار البدوي بكل عناصره"([4]) مستعيرا -في مطلع القرن العشرين- أجواء وفضاءات وصيغ البيئة الجاهلية والعباسية دون إضافة أو تنويع، فهوينظر إلى كل ما حوله، سواء في ذلك الطبيعة أو غيرها، بعين تاريخية، وذاكرة تاريخية.
وهكذا يظل أسير الزمن والمناخ التاريخي بكل تجلّياته وفي كل مناحيه، فكلماته القاموسية، المعروفة حمولتها الإبستمولوجية ودلالتها مسبقا، بسبب ذلك الكم التراكمي الذي عرفته عبر سيرورتها التاريخية-الشعرية-، هي التي كانت تفكر له، وتفخر وتتغزل وتصف بدلا منه، وهكذا لم يعد الشاعر سوى صدى للقديم، لا يغرد بصوته هو بل بأصوات مستعارة، ولا يعيش تجربته، بل تجربة محنّطة منذ زمن مضى، ولا يعبر عنها كما أحسّها في واقع أو اخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، بل أنه "كان يقرأها في الأشعار، لم يمنحها معنى خاصا به، لم يكتشف علاقة جديدة لها"([5])، ولذلك جاءت تجاربه وأفكاره تكرارا آليا، ونسخا كليا لتجارب أسلافه، منقولة من هنا وهناك، ملتصقة التصاقا مصطنعا بالواقع، أو محاولة تصنع الواقعية عن طريق ذكر أسماء محلية لبعض الأماكن، ولكن هذا لم يفد لأن "الانتماء المكاني التاريخي الذي ميز عصر النهضة (كان) قد طغى على الانتماء المكاني"([6]) المحلي وشكل غلالة صفيقة على العيون اتجاهه، وصرف الأنباه والعقول عن الاهتمام الجدي بالواقع الحقيقي، وأقام مسافة شاسعة بين حساسية الشاعر وقضايا عصره.
ولا يكاد شوقي وحافظ يخرجان عن هذا الخط المرسوم مسبّقا، وعن هذه القوالب الجاهزة سلفا، أو الكليشهات بحسب تعبير العقاد، إلا في مسرحيات الأول الشعرية في مرحلة متأخرة نسبيا، وفي وطنيات الثاني التي حاول فيها معالجة الواقع .
ولعل أو ضح موقف من المدينة – قبيل هذه الفترة- هو ذلك الموقف الذي نجده عند" الأمير عبد القادر الجزائري"- الفارس الشاعر- في قصيدته التي يفاضل فيها بين الريف والمدينة، بعدما خَـبِـرَ حياتها ابان نفيه وحبسه بقصر في " أمبواز" لمدة خمس سنوات، وردّا على سؤال كان قد وجهّه إليه بعضهم مفاده: أهل البدوأفضل أم أهل الحضر؟ فرد بقصيدته هذه محاولا فيها تفنيد مقولة أفضلية المدينة على الريف متلّمسا في ذلك مزايا هذا الأخير، متصيدا مساوئ المدينة صارخا في وجه من يفضّلونها على نقاوة الريف وأصالته فيقول[7])
يا عاذرا لامرئ قد هام في الحضر
وعاذلا لمحب البدو والقفر
لا تذممن بيوتا خف محملها
وتمدحن بيوت الطين والحجر
لو كنت تعلم ما في البدو تعذرني
ولكن جهلت. وكم في الجهل من ضرر
أوكنت أصبحت في الصحراء مرتقيا
بساط رمل، به الحصباء كالدرر
أوجلت في روضة، قد راق منظرها
بكل لون جميل شيق عطر
تستنشقن نسيما، طاب منتشقا
يزيد في الروح لم يمرر على قدر
أوكنت في صبح ليل هاج هاتنه
علوت في مرقب، أو جلت بالنظر
رأيت في كل وجه من بسائطها
سربا من الوحش يرعى أطيب الشجر
فيا لها وقفة لم تبق من حزن
في قلب مضنى، ولا كدا لدى ضجر
فالذين يهاجمون الريف ويعذلون أهله، إنما صدر موقفهم هذا عن جهلهم بمزايا الريف وحسناته، ولذلك فها هو الشاعر يعرفهم به، ويدعوهم إلى زيارته لمعاينة نفائسه، فإضافة إلى رماله الذهبيـة، ومناظر رياضه الرائقة بشذاها العطر،وطيب نسيمها ونقائه، وجمال صبحه وليله، وتوشية سهـوله وهضابه بأسراب الوحش والطير، الراعية لأطيب الشجر، والتي تشكل منظرا، لا يبقي حزنا في قلب رائيه ولا ضجرا ولا سآمة في نفسه. إضافة إلى هذا كله فبيوت البادية "ما بها لطخ من الوضير" و"ترابها المسك بل أنقي وجاد بها/ صوت الغنائم بالآصال والبكر" والخيام فيها تلقى " وقد صفت بها، فغدت / مثل السماء زهت بالأنجم الزهر". وهوفي هذا لا يتوانى عن تدعيم آرائه بما قاله الأقدمون من أقوال يصدقها –بحسب زعمه- النقل والعقل، متيقنا من سلامة آرائهم، وسداد أحكامهم:
قال الأولى قد قضوا قولا نصدقه
نقل وعقل، وما للحق من عير:
" الحسن يظهر في بيتين رونقه
بيت من الشِعر أو بيت من الشَعر"
ووسائل النقل في الريف طبيعية، تضمن السلامة والأمن لراكبيها، وتحفظ لهم حياتهم ؛ فهي سفن برية، وهذا عكس سفن البحر الرامزة للمدينة ومخترعاتها، والتي هي خطر على ركابها:
سفائن البر، بل أنجى لراكبها
سفائن البحر كم فيها من الخطر.
والريفيون كرماء، وبيوتهم مفتوحة دوما للضيوف حتى وإن كانوا بالليل طارقين، والدليل على ذلك إيقادهم النيران ليلا ليهتدي إليهم الجائع والمسافر :
بيت نار القرى تبدولطارقنافيها المداواة من جوع ومن خصر
كما أنهم أباة النفوس شجعان، لا يتحملون الضيم ولا يظلمون، وإن ظلموا فعدوهم "ما له ملجأ ولا وزر" لأن لهم "عاديات السبق والظفر" والتي شرابها من حليب ما يخالطه/ماء وليس حليب النوق كالبقر أي كحليب البقر الذي يضاف إليه الماء لقبض أضعاف ثمنه الحقيقي، بالزيادة في حجمه كما هو الحال في المدن. وخلاصة القول أنه :
ما في البداوة من عيب تذم به
إلا المروءة والإحسان بالبدر
هذا فضلا عن أن "صحة الجسم فيها غير خافية" أما العيب والداء كله فهو"مقصـور على الحضر" ولذلك ترى أهل الريف أطول خلق الله أعمارا، وأصحهم أجساما، وأبعدهم عن الأمراض، لبعدهم عن اصطناعيات المدينة وغشها وضوضائها، واتساخ دروبها وتلوث هو ائها، وما شابه ذلك.
لقد نشأ الأمير عبد القادر في الريف وترعرع في ربوعه، فتغلغل حبه في وجدانه، وعلق بنفسه، وخاض تجربة قاسية في المدينة، يعاني النفي والإقامة الجبرية والبعد عن الوطن والأهل، ويعيش الغربة بكل معانيها، ولذلك فموقفه هذا على الرغم من تعميمه على جميع المدن وعلى كل أهل الحضر لا يكون نابعا إلا من موقف سياسي، ولا يكون صادرا إلا عن قناعة سياسية، على اعتبار أنه عانى تجارب مريرة في المدينة الفرنسية حيث النفي والحبس والتغريب كما أشرنا، وعلى اعتبار أن المدن الجزائرية – إن أخذنا بالتعميم – كانت آنذاك حكرا على المستعمرين ومن والاهم من العملاء، فهي مدينة الآخرين ولومؤقتا حتى يتسنى تحريرها، أو على الأقل إنها المكان الذي فقد عذريته بسبب اغتصاب المستعمرين له وتدنيسهم إياه، فبات لذلك مكانا ممقوتا كريها، مقترنا في ذهنية الريفي بسبب السلبية حينا، وبالعدائية أحيانا، لأنه يحوي كل ما هو مبتذل ووضيع كالاستسلام والخيانة والغدر والتقتيل وغيرها. فهي وكر الغزاة المغتصبين ومن والاهم من العملاء الخائنين، بعكس الريف الذي يمثل مهد الأصالة والكرم، بل مهد الشهم والإباء العربي، ومنطلق الثورات المظفرة.
إذن، فباستثناء هذا الموقف الواضح من المدينة – الذي لم نجد له مثيلا في عهده – فإن بقية المواقف، هذا إن نحن سلمنا بأنها مواقف – لا تعدوأن تكون ضربا من الشعر السياسي الساذج الخائض في الخلافات الحزبية، ولا تعدوأن تكون ضربا من الانبهار والاندهاش أمام عظمة مخترعات المدينة كالغواصات والطائرات.
يصف شوقي الطائرة بقصيدة عام1932([8])، ويصفها حافظ([9]) في نفس السنة ويصفها مطران أيضا، وهم حتى في وصفهم لهذه المخترعات العجيبة، لا يستطيعون التخلص من صدفة الماضي، ولا يستطيعون اختراق الفضاءات التراثية أو تجاوز بلاغتها. فنرى شوقي مثلا يشبهها بالشيء المدهش العجيب الذي نِصْفه طير ونِصْفه بشر، يخيف الشجعان قبل الجبناء، مسرّج ملجم على أهبة الاستعداد في كل حين، جميل المنظر كالطاووس، ريشه فولاذ، وجناحه مصقول كجناح النحل، يظهر ويختفي كحوت ترامت به الأمواج، دخانه من بعيد كوكبا، وإذا ما انطلق فهوسهم ذومضاء، تعجبت منه الغربان والحداء. ويشبهها حافظ في نزولها بأنثى العقاب التي تهوى على الهزار، ويشبهها مطران بالفرس المجنح الذي يسموشوامخ الجبال، ويطأ السحب مزمجرا كالرعد، أو كأزيز الجان، يتلاشى كل شيء من أمام ناظريك حين صعودك فيها إلى الفضاء، فلا العمران ولا المناجم ولا الحيوانات بقت كما عهدناها في أثناء وجودنا على الأرض، الكل أصبح عبارة عن مزيج من الأشعة والدخان.
وإذا ما نحن حاولنا الإصرار على تلمس موقف جدي ووجيه من المدينة لدى شعراء حركة البعث هذه، فإننا لا نجد سوى إشارات عابرة، أو ملاحظات تسجيلية عامة. فالبارودي لم يشغله من القاهرة كمدينة كبرى –والتي قضى فيها جل حياته– سوى الأماكن المترفة فيها، ورياضها المترعة "روضة المقياس" و"حلوان " و"الجيزة"، وغيرها من الضواحي التي غناها بلغة رصينة ذات منظور جمالي عباسي، لا أثر لروح العصر فيه، نلاحظ هذا بجلاء في وصفه "لروضة المقياس" حين يقول [10])
حيث تجري السفين مستبقات
فوق نهر مثل اللجين المذاب
قد أحاطت بشاطئيه قصورا
مشرقات يلحن مثل القباب
ملعب تصرح النـواظر فيه
بين أفنـان جنة وشعاب
وحتى نفيه إلى جزيرة ( سرنديب )، لم يفد في الأمر شيئا، حيث يبقى على نفس المنوال الوصفي عبر تداعي صور الرياض المصرية، والتغني بجمالها، والتشوق إلى أفنانها، وبروح عباسية أيضا :
خليلي هذا الشوق لا شك قاتلي
فميلا إلى "المقياس" إن خفتما فقدي
فيا منزلا رقرقت ماء شبيبتي
بأفنـائه بين الأراكـة والرنـد
سرت سحرا فاستقبلتك يد الصبا
بأنفاسها، وانشق فجرك بالحمد([11])
وإزاء هذا الموقف غير الواضح، لا نملك إلا القول، بأن نظرته إلى المدينة كانت جد متأثرة بنظرته إلى الريف، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، أن نزعته التقليدية، أعشت بصره عما كان يدور ويستجد في المدينة.
والموقف ذاته يتجلى عند شوقي، إذ لم يشغل نفسه بما كان يدور في القاهرة –أوغيرها من المدن الكبرى– إلا من زاوية الأحداث السياسية التي كانت تعج فيها([12]) وبخاصة في أثناء تلك الفترة التي كان قد أخلص فيها نفسه للتيار الوطني، أما ما عدا ذلك فلا يعدوكونه تغنيا بالحدائق والرياض والمنتزهات، أو تشوقا وحنينا في أثناء فترة المنفى. ولا يكاد يخرج حافظ إبراهيم عن هذا الاتجاه، أعني الوصف والتغني، وإن كان قد عني بمظاهر البؤس والفقر فيها، وكذا مدح بعض الجمعيات الخيرية.
ويتفرد خليل مطران عن هؤلاء جميعا، من حيث إعلانه، معاداته الصريحة للمدينة، في قصيدته:
العزلة في الصحراء خير من العيش في المدينة، والتي مطلعها :
ولوا المدينة وجهكم ودعوني
أنا في هو اي وعزلتي وجنوني
ولكن بعد البارودي وشوقي وحافظ ومن شايعهم، ممن يعدون طلائع المدرسة الكلاسيكية الإحيائية ودعائمها في أدبنا العربي الحديث، ومع مطلع القرن العشرين وبروز معطيات التكنولوجيا الغربية، واحتلالها مساحة غير قليلة في جسد المجتمعات العربية وتمركزها –بصفة خاصة– في مدنها، وأحداث الحربين العالميين اللتين عرفتها الساحة العالمية، وما حبلت الساحة العربية من حروب محلية، حدث تطور كبير في الموقف والرؤية، َتمثل في الانتقال "إزاء الطبيعة من السلفية والمكان التاريخي مع شعراء النهضة، إلى الطبيعة المثالية مع شعراء المهجر، والطبيعة الذاتية مع شعراء ما بين الحربين اللذين سموا بالرومانطقيين"([13])، وتزامنت هذه المرحلة مع بروز الشعر السياسي المطالب بالحرية والداعي إلى مناهضة الاستعمار وعملاءه، والشعر الوطني النابع من نزعات وطنية، والشعر الاجتماعي المتناول بالوصف والتحليل لقضايا المجتمع ومشكلاته؛ تلك القضايا والمشاكل التي برزت نتيجة شيوع المظاهر المدنية وتعقد الحياة نسبيا وظهور الطبقية وما شاكلها، بالإضافة إلى تلك الخيبات المتتالية التي عرفتها عشرينات هذا القرن، حيث انتهت جل الثورات العربية إلى الفشل الذريع، وفقد مناخ الاعتداد بالأمجاد العربية –الذي كان مرتكز شعراء الانبعاث– معناه، وكبلت الحيرات الشخصية والعامة. كل هذا ساعد على إحداث قفزة نوعية شكلت" مفصلا انتقاليا مهما بين الانتماء التاريخي والانتماء إلى المكان بأبعـاده الحاضرة"([14])، كما ساعد أيضا على إحداث ثورة أساسية في عقل الكاتب العربي ونفسه. تمخضت هذه الثورة عن بروز عدة اتجاهات أو مدارس أدبية متزامنة أو متلاحقة. لكنها تصب كلها في مجرى واحد، وتهدف إلى غاية واحدة، وهي مهاجمة الواقع بقصد إصلاحه، وشيوع نغمه الضيق بضغط المدينة والتبرم من واقعها، والحنين الجارف إلى بساطة الريف وهدوئه، ونشدان عوالم خيالية بعيدة عن ضجيج المدينة وضوضائها.
2- هجاء المدينة والتمرّد عليها :
على الرغم من أن "الأمر لم يتطور عندنا إلى وضع مطابق لما يحصل في أو ربا، لعدة أسباب منها أن الفاصل بين الريف والمدينة في بلادنا ما زال أقل جدية عما هو عليه في أو ربا وأمريكا، ومنها أننا لم نتحول إلى مجتمعات صناعية بمعني الكلمة"([15])، إلا أن التمرد على المدينة يصبح حاصلا، وتبرز عدة أصوات منها تلك التي طحنتها المآسي، وعانت مرارة الواقع المديني و"طفقت تنشد المراثي للعالم، وترتل أنغام الحزن ونشأ عندها مركب نقص فحواه أنّ العالم فاسد وأن الواقع مرير لا يمكن إصلاحه"([16]) وأن الحياة مهزلة أو مأساة، فراحت تندب العالم، وتدوي الأرض عويلا وأنينا، وتنفث من نفوسها على العالم سخطا رهيبا، وهؤلاء هم الواقعيون، وظهرت جماعة أخرى أكسبتها المآسي حنكة وخبرة، وزادتها حبا للحياة وتمسكا بها، فغدت نظرتها إلى المستقبل – على الرغم من مأساوية الواقع – متفائلة، ومضت تحاول إصلاح ما تحطم من هذا الواقع، وتخفف من حدة مرارته، وتجدد ما أصاب أجزاءه من البلى، فاستطاع الشعر العربي أن يخرج على يدها و"لأول مرة في تاريخه الطويل ينشق عبير الحرية، ويحطم أغلال الوحدة على مسرح الحياة ليصور آلامها ومآسيها وليعبر عن مشاعر الجموع المتلهفة إلى حياة سعيدة، ومجتمع تظله الحرية والعدل"([17]) والمساواة.
كما برزت جماعة أخرى أيضا، جانبت الواقع وتمردت على قيمه ومعاييره محلقة في أجواء الخيـال والحلم، متخذة شعارا لها هو العودة إلى الطبيعة، حيث الطهر والنقاء وحيث الطفولة والبراءة، أو العودة إلى الغاب كما يعبر المهجريون*، حيث الحرية والثورة، والاحتجاج والتصوف، والسموعن كثافة مادية العالم ومفارقاته، والاحتماء بالليل، ففي الليل تنعدم وتتلاشى الملامح المميزة، وتزول الفروق وتتوحد الأشياء، وتنام بين أحضان سرمدية الكون هادئة.
وهنا يبرز جبران خليل جبران، الذي عاش محن الحرب العالمية، وعاش زمن التحولات، وخبر بوادر اليقظة العربية، وأحس بالخطى المتسارعة التي يسير بها عصره، "وكان شاهدا عل عالم يبتعد بلا رجعة عن الحضارة الزراعية وأوثانها القديمة، نحوالقيم الحضارة الصناعية وآلهة "الجوع الغريب "واجتياحها الضاري للطبيعة"([18])، فأطلق صرخة مدوية احتجاجا على تغيير معالم الطبيعة وتآكلها، وتجاسرت هذه الصيحة متعالية بحسّ امتداديّ حلمي لا نهائي، من أجل حمايتها من براثن المدينة.هذه المدينة التي يجب أن تهدم ويعاد بناؤها من جديد، لتلائم النفس البشرية الخيرّة ولتوفر لها حريتها، حرية الفكر والعقيدة والسياسة وغيرها. فكان "حس الامتداد هذا " (عند جبران كما عند الرومنطقيين والصوفيين) من عوامل نقد المدينة وإيثار الطبيعة حيث لا يناقض الليل النهار، حيث لا جدران ولا توقيت ولا تقنين، حيث تتساكن الأطراف في بيت واحد"([19]) في هدوء ووئام ودون مزاحمة أو مناكبة، ودون رسميات أو تعقيدات.
اندفع جبران إلى الثورة على العالم، والمناداة بهدم هياكل الفساد-كما في كتابه(العواصف) الذي يمثل ذروة العنف عنده- فيه، نتيجة الكآبة والخيبة والظلم الاجتماعي الذي ميز مدينة عصره، فعدلُ الناس (ثلج إن رأته الشمس ذاب)، ورجال الدين (استغلوا الشيطان وبه اتجّروا)وباعدوا بين الصليب والهلال أمام عين الله. ثار على السياسة وعلى التقليد وعلى كل مالا تتقبله نفسه الحرة الثائرة، هدَم كلّ ما كان يراه غير صالح، ليعاود البناء في كتابه (النبي)، بناء مجتمع مؤسس كله على المحبة والعطاء والأمل، دون القبول بالوسطية في الأمور، لأنه كان راديكاليا متطرّفا في مواقفه غريبا ومجدّدا في رؤاه، فكان بذلك إنسان الأحلام الكبيرة، لكنه أيضا إنسان الأحزان الكبيرة، لقد كان طوفانا صغيرا" غسل أمام الذين جاءوا بعده عفن الدروب والتواريخ والأشياء والكلمات"([20])، وفتح في الشعر مجالا آخر لغير الضحك واللّهو والبكاء، ولغير التصنع، مجالا أتاح بدوره للشاعر أن يشده بشوق إلى معرفة الأسرار، وأن يبدع شكلا جديدا لما يحيط به، في بهاء الحرية وسلطانها الكامل"([21]) مدفوعا في ذلك بشوق عارم وحلم بعيد، وتعطش كبير إلى الانعتاق من عالم المادة، والتحرر وتغيير الحياة إلى الأفضل، وإشاعة النَفَس النبوي والجمالي في كل ما يحيط بها من قيم، ومدفوعا أيضا بالطموح المتعالي المنشد لتجاوز الذات، المنجذب نحوالارتباط بالكل عبر الاندماج بالطبيعة، فكانت بذلك طبيعته مكـانية ونفسية في آن معا.
والاتجاه نفسه يظهر عند شعراء لبنان الآخرين من ذوي النزعة الرومنطيقية، حيث تشكل الطبيعة لديهم الحيز الكبير الذي يرتاحون إليه، ويرتعون في أحضانه الحرة الطليقة بعيدا عن قيود الناس ودجلهم وحسدهم ونفاقهم، وذلك لأن الطبيعة صنوالطهارة والبراءة والصدق. فلقد "كان الكلاسيكي يألف المدن ويحب المجتمعات، فكان مثال المدني، إذا حزّ به أمر أو اعترته نازلة رأيناه في دأبه مع صحبه وأهله وأتباعه يعزونه أو يعاونونه أو يشيرون عليه. وهذا مألوف في القصص والمسرحيات الكلاسيكية، وقلّ من كان يصف منهم الريف أو يضيق بالمدينة، وحتى هؤلاء سرعان ما كانوا يعودون إلى المدن إذا ضاقوا بها بعض الوقت وهذا فارق جوهري بينهم وبين الرومنتيكيين؛ فقد كان هؤلاء منطوين على ذات أنفسهم ضائقين ذرعا بما تضطرب به المجتمعات من حولهم فولعوا بترك المدن إلى الطبيعة، وكانت تروقهم الوحدة بين أحضانها ليخلوا إلى ذات أنفسهم"([22]). ولذلك برزت الدعوة صريحة إلى ترك المدن والعودة إلى القرية، على نحوما نرى عند الأخطل الصغير:
عودوا إلى تلك القرى فلقد
سلختكم عن قلبها المدن
الذكريات على مفاسدها
الأم والأخوات والسكن
فالقرية ببساطتها وخلوها من التعقد كانت ملهما ومصدر وحي لجمـوع الشعراء، فانبروا لتصويـرها، ووصف محتوياتها، وألفة ناسها، ولطافة أجوائها، ونقاء هو ائها؛ فحقولها وكرومها كانت المسرح الأثير لدى الشاعر الرومنطقي، حيث الانطلاق والحرية والحبور الدائم، المضمخ بالعطر والأنوار والأنغام، كما يتجلى في قول يوسف غضوب:
وللطيب والنور في كرمنا
عجائب في كرمنا نبتكر
إذا النـور مر بأعنــابه
توطن ياقـوتها واستقر([23])
فلفظة "الطيب" هنا تعني السعادة الحقّة، في حين أن لفظة "النور" تحمل معاني النقاء والإيمان اليقيني والبراءة التامة، و"توطّن النور في حبات العنب يرمز إلى استقرار الروح الطاهرة في قلب الشاعر وأن العنب يرمز إلى النشوة السماوية، فالخمر تستقطر من العنب، وكما أن الخمرة الحقيقية تسكر الإنسان وتنسيه الوجود فإنها هنا عند غضوب رمز للروح الإلهية التي يسكر بها المتجهد* المؤمن"([24])، ولذلك نراه يتابع"، مبينا القدرة الاستشفائية التي تمتلكها القرية، فيقول:
فكل عليل إذا مسّها
تعافى وكل صحيح سَكَر([25])
وتجدر الإشارة هنا إلى أن لفظة "عليل" ترمز إلى الخاطئ أو المدنس الذي أصابه فساد الحياة ولفظة "صحيح" ترمز إلى النقي العاشق الإلهي. فروح الخمر تنقل البشر إلى مستوى رباني يرتفع معه الإنسان فوق أدران الأرض"([26]) ليحلق في أجواء سماوية صوفية، ذات وحدة كونية تندمج فيها الأشياء وتتحاور فيها الكائنات بصدق وحب، حتى لتغدوهذه الأخيرة عندهم إنسانا طاهرا هو تعويض عن ذلك الإنسان الذي افتقدوه في المجتمع المديني الصاخب.
وإذا كان جبران ومن ولاه يحاولون التخلص من مادية واقعهم ومأزق غربتهم عن طريق اللجوء إلى الطبيعة وأنستها، ونشدان الإنعتاق فيها، فثمة اتجاه آخر ينشد الخلاص من حياة المدينة العفنة عبر الهروب إلى الصحراء، تجلّى هذا بصفة خاصة، عند الشعراء الجزائريين ذوي النزعة الدينية الإصلاحية.
3- الفضاء المنشود :
فالصحراء وحياتها –كما هو معروف تاريخيا – موضوع غير جديد في شعرنا العربي، فقد عالجه شاعرنا العربي منذ القدم. والشاعر الجزائري العربي الذي نشأ في الصحراء وترعرع في ربوعها، وتمتع بنسائمها، ثم تركها مضطرا لسبب من الأسباب ليلحق بحياة المدن، ظلّ وفيا لحياة الصحراء، يبثها شوقه وحنينه، ويتمنى العودة إليها والارتماء في أحضانها من جديد، مبينا في ذلك ضجره من حياة المدن، مبرزا مساوئها، منافحا عن الصحراء، واقفا في وجه من يعيبها ويرميها بالجدب من سكان الحضر، لأن فيها من الجمال ما يبهر العين ويخلب اللب، ولكن من يحس به ويتذوقه قليل، هذا فضلا عن القيمة الدينية التي تشرفت بها، فهي مهد النبوة، والأرض التي شب بها الرسول(ص) وانطلق منها نور الهدى يتفجر. هذا ما نراه عند أحمد سحنون في قصيدته "الصحراء" ومنها الأبيات التالية[27])
أصحراء أنت الكون بل أنت أكبـر
ومرآك في عيني أبهى وأبهـر
بل أنت دنيا من هنـاء وغبطــة
وصفوا على الأيام لا يتكدر
وإن قيل: في الصحراء جدب ووحشة
وحر غدت نيرانه تستعــر
ففيها جلال يبهر العين شخصــه
ولكن قليل من بمعناه يشعـر
وفي أرضهـا شب الرسـول محمد
ومن أُفقها انبث الهدى ينفجر
أصحـراء ضمّيني إليك فإننــي
وحقك من سكنى المدائن أضجر
أنا ابنك قد لُقِنت حبـك ناشئـا
وإن على ذا الحب لا أتغيـر
ويتقابل هذا الحنين الجارف إلى ربوع الصحراء والعيش فيها مع الضجر والتبرم من حياة المدن –كما أسلفنا- لأنها لا تتضمن سوى كل ما هو مذموم منكر، ومخالف لما نشأ عليه الشاعر من خلالٍ وقيمٍ سامية:
وإنْ سَكَنَ النـاسُ المدائن إنني
لجأت إلى سكني بحضنيك يؤثر
وكيف أرى سكن المدائن بعدما
رأيت بها ما يستـذم وينكـر
نفـاق على كل الوجـوه مخيم
وبُغضٌ على كل الجباه مسطر
وفوضى على رغم ادعاء حضارة
بها لم تدع شيئا يُحَبُ ويقدر([28])
ومن هذه المذمومات والمنكرات التي جعلت الشاعر يفضل الحياة في أحضان الصحراء، ويهجر المدن: فضلا عن النفاق والبغض والفوضى المتفشية تلك المناظر المزعجة والمشمئزة التي كانت تحدث في شطآنها، وذلك السيل من الفضائح التي كانت تقع عليه عينه في كل حين، فيغدوالقلب من جراء ذلك أسيـانا والعين دامعة، هذا ما نراه عند محمد العيد آل خليفة في قوله يخاطب البحر قائلا[29])
على الشـواطئ سيل
من الفضــائح أزرى
تلقى الفتـاة فتـاها
كلاهمـا فيـك مُعرى
يكـاشفانك فحشا
ويسمعــانك هجرا
فالقلب من ذاك آس
والعين من ذاك عبرى
هذا ويقف محمد الأخضر السائحي مشدوها أمام عالم الصحراء الساحر الرحب، ذي الجمال الطبيعي الفتان، والطهر والصفاء الرائق فيقول[30])
كُثب أنت؟ أم سنـا وضيـاء
ورمـال؟ أم فتنة ورواء
وسكون مخيـم ووجــوم
أم عنـاء مرجع وحداء
بسـاط ممهـد من حريــر
أم هضاب على الثرى شماء
لست أدري أ أنت أرض دحاك
الله أم أنت يا رمـال سماء
هاهنا كلها بدت في رمــال
وهضاب ماجت بها البيداء
يتغنى الشاعر بالطبيعة الساحرة في الصحراء، ويقف متسائلا حيرانا أمام جمالها الخلاب بل أنه ليتصورها إنسانا أو بالأحرى امرأة يحاورها ويتغزل بجلاء حسنها الطبيعي الخالي من التصنع والتنميق والتنسيق، ويود بأشواق عارمة الارتماء في أحضانها اللامتناهية [31])
وأنا الشاعر الذي يعشق الحسن
ولا تستخفـه الأســـماء
ويراه لدى الطبيــعة صرفا
لم تنمقه صنعة وطــــلاء
كل معنى للحسـن فيها جلى
لا غموض، لا دقة، لا خفـاء
فكأن السكـون فيها حراك
وكأن السكون فيها عنـاء...
لا تود النفـوس لوتحتويها
وهي أفق –لا ينتهي- وفضاء.
وهكذا يحاول الشاعر أن يقول لنا في قصيدته أن الطبيعة هي المكان الأمثل للحياة وأن الارتماء في أحضانها هو الاتحاد الكلي بالأشياء وهوعمق الحياة، فهناك الانعتاق والحرية، وهناك السرمديـة واللانهائيـة، وهناك التحليق برشاقة في شفافية أفاقها الرحبة، حيث الأشياء طبيعية بكر، ميزتها الوضوح والمكاشفة، فلا الصنعة تزيفها ولا الطلاء يخفيها كما هو الحال في دنيا الناس وواقع العالم ونهاره.
ولعل الشاعر على يقين تام ووعي أكيد بما أصاب النفوس من جدب وقحط وما حلّ بها من بؤس وشر وعداء، ولذلك نراه يناشد الربيع الخلاص، ويطلب منه أن يزرع المحبة والرخاء ويسكب السـلام والخير والإخاء في الحنايا وفي الأنفس لا في الثرى والكثبان، فالأنفس أكثر حاجة وأشد تعطشا إليها [32])
فامش في الكـون بالرخـا وبالخيـر
وسر بالسلام في أركانه
وآسر بالخصب في الحنايا، وفي الأنفس
لا في الثرى وفي كثبانه
ويصف أحمد سحنون الربيع لا ليتغنى بروعة بهائه وجمال محياه، بل ليجسد ذلك البؤس الاجتماعي وذلك الشقاء الذي كانت تعانيه النفوس في فصل الشتاء، وذلك الموت الذي كان يداهم الفقراء والأيتام وهم طريحوالثرى لا يجدون من يأويهم أو يسد رمقهم، فيكون حلـول الربيع بالنسبة لهم بشرى ومنجاة ومخلصا بنشره الرخاء والهناء [33])
قد تجلى لنا محيــا الربيـع
رافلا في ثيـاب حسن بديـع
وتولى الشتـاء يعثر في أذياله
مسرع الخطـى في الرجـوع
كان للبائسين سـوط عذاب
وأداة للفتـك والترويــع
كم طريح على الثرى مات جوعا
ويتيم على الطريـق صريع
لم يذوقـوا طعم الهناء نـهارا
لم يذوقوا في الليل طعم الهجوع
زمهرير يفري الجلـود مذيب
وثلـوج تـأتي بأثر صقيـع
ذاك جيش الشتـاء ولّى كسيرا
مذ أطلـت عليه شمس الربيـع
وتجلت في كون دنيا من السحر
لمغُزى في كل سحر ولـوع...
وفشا البشر والطلاقة والنشوة
والسحر في جميـع الربـوع
وجلاء القلوب من صدى الهم
وسلوى الحزين والمفجـوع
هكذا يصبح الربيع معجزة إذا ما حلت بالكون أزالت أحزانه ومسحت العبرات من على وجنات المكلومين والبؤساء وغسلت أدران العالم وأشاعت فيه الحب والحياة بعد موات، ولذلك نرى محمد الأخضر السائحي يدعوالناس إلى تأمل وتملي أسراره ومعانيه لتتشرب نفوسهم بالحب والحياة وليعرفوا معنى وقيمة الوجود([34]) :
أيها الناس في الربيع معان
فاطلبوها كالنحل في أحضانه
هوفصل الحياة والحب لو
لاه لظل الوجود في أكفـانه
فالربيع يعد فرصة ثمينة للتخلص من عفن الحياة في المدينة ومواتها، والغرق بين أزقتها ودروبها، ولذلك يجب ألا تضيع هذه الفرصة، بل المفروض استغلالها والتمتع بخلابة حسنها. ولكن لا يأتي هذا التمتع أو الانتشاء إلا بالابتعاد عن المدينة-التي التهمت آلياتها كل منظر طبيعي جميل- والاختلاء في الروابي والرياض فثمة الهدوء والسكون المريح، وثمة تتجلى بوضوح قيمة الحياة الحرة النقية.
هكذا يفر الشاعر إلى الطبيعة فيوثق صلته بها ويعمق ارتباطه ويستطيع أن يمارس بارتياح حياة الإشراق والانعتاق، بعيدا عن الأسى والإحباط. إنه ينفصل عن الواقع ويغترب عنه ليتصل بالطبيـعة ويلتحم بها.
ولعل هذا الموقف –أي الهروب إلى الطبيعة للتخلص من ثقل الواقع المديني- يتضح بصورة أكبر عند جماعة "أبولو". تلك الجماعة التي وجد شعراؤها أنفسهم محاطين بأجواء خانقة، محكومين بضغوطات سياسية رهيبة، وأشكـال بيروقراطية متنوعة، ومسـاومات وقمع يحد من حرية الشـاعر ويكبل رغبته،ويجبره على أن يغفر صوته وينزوي في الظل([35]). إذا وفي ظل هذه الأجواء الخانقة"كان الشاعر يعاين الواقع الحالك ويجد نفسه مدفوعا إلى موقع هامشي، هذا العزل القسري قد دفع به إلى الطبيعة. الطبيعة هنا مرآة للذات، إنها طبيعية نفسية أكثر مما هي طبيعة مكانية. مشاهدها أقرب إلى صور الأحلام"([36]). لكنها أيضا ألصق بالواقع لكونها دائمة الاقتران بالبحث الدائب عن الحرية، ونشدانها الحس العفوي وسيادة نغمة البراءة؛ فـ"العودة إلى الطبيعة عودة إلى الفطرة والذات، وهي إذا، إعادة الاعتبار إلى العفوية والحرية، وهي تجاوز للتقاليد بصيغتها الاجتماعية"([37]) السائدة ومحاولة تخطي الواقع واقتلاع جذوره الفاسدة، ولوخيالياً عن طريق الفرار إلى الطبيعة والاحتماء بمظاهرها كالليل مثلا، كما فعل علي محمود طه في قصيدته "الطريد أو الحرية المضطهدة" المكتوبة عام 1929 مصورا محنة جيله وخيبته لاجئا إلى الطبيعة والليل، أو السفر إلى شطآن خيالية غير واقعية متشوفة بنظرة ميتافيزيقية كما في مطولة الهمشري المكتوبة في نفس السنة أي 1929 "شاطئ الأعراف" وهي عبارة عن "رحلة خيالية يقوم بها الشاعر على سفينة الذكريات إلى شاطئ الأعراف، وهوشاطئ خيالي وراء الحياة تلوذ به الأرواح بعد طواف، وهي قصيدة تصور الخيبة والغربة والعجز الذي حل بهذه الأجيال، ومدى التفسخ الذي أصاب نسيجها.
واستعراض سريع لعناوين بعض المجموعات الشعرية التي كتبها هؤلاء في تلك الفترة مثل:"ما وراء الغمام" لإبراهيم ناجي "الملاح التائه" لعلي محمود طه، "أين المفر" لمحمود حسن إسماعيل، "الشفق الباكي" لأحمد زكي أبو شادي، "شاطئ الأعراف" ثم "إلى جيتا الفاتنة في مدينة الأحلام" للهمشري([38]) يبين لنا عمق المأساة وشدة القلق الذي اتسمت به الحياة. كما يوحي لنا بمدى المعاناة والآلام التي كان يصدر عنها هذا الشعر، إضافة إلى ذلك الصراع المرير والطاحن بين الواقع الموضوعي والواقع الباطني، واقع الحياة وعالمها المأساوي وعالم الذات بفطرتها وأحلامها ومعانيها السـامية المتمثلة في الحب والوئـام والسلام والآمال العراض، والتي لا يمكننا أن نجدها إلا في الطبيعة.
تظل هذه الأشعار تعزف على وتر الطبيعة تبثها الشكوى والنجوى، وتحاول الاحتمـاء بشطآنها الحانية من هجير المدينة ومتناقضاتها، كما تريد تأكيد ذاتها المستلبة وتحديد هو يتها عن طريق الاندماج بهذا العالم السامي المتميز والاتحاد معه، الطبيعة تفتح لهم ديكورا مسرحيا فيه من الخيال غير المشوش والحلم السعيد واللاحقيقة الشيء الكثير، ولا يخفى ما في هذا الاغتراب عن الواقع المادي والانفصال عنه وتعميق الاتصال بالطبيعة وتأكيد الانتماء إليها"من شعور ضمني بالاقتلاع وانقطاع الأواصر بالمكان. وليس هذا الشعور غريبا عن الإحسـاس بالعجز عن ملامسة الواقع والسيطرة عليه"([39]) بسبب القلق والتنـاقض والغموض الذي يكتنفه، والتشويه الذي لحقه، حتى لم يعد محدد الملامح عصيا على الفهم.
وإذا كان جبران ومحمد العيد وأحمد سحنون وجماعة أبو لوكأبناء قرى ذات طابع ريفي أو بالأحرى أبناء ريف تأثروا بالمدرسة الرومانسية، وهم يفدون إلى المدينة فصدمهم واقعها المعقد وطابعها المادي فحاولوا التخلص من مأزق واقعها عن طريق اللجوء إلى الطبيعة وأنسنتها ونشدان الإنعتاق فيها. فثمة اتجاه آخر يفضّل المواجهة، ويعمد إلى تعرية الواقع وفضحه كما هو ، ويصور بطريقة، تجعلنا نستشعر الحضور المكثّف للألم والشرّ والخطيئة في مقابل اللذة والخير والبراءة والطهر، ولعل الياس أبو شبكة خير من يمثل هذا الاتجاه بوقوفه في مسافة واقعة بين طرفي نقيض؛ الطرف الأول متمثلا في البراءة حيث الطفولة والحلم والبساطة والنقاوة، والطرف الثاني متمثلا في العالم أو الواقع المتضمن لكل الشرور ولكل الأثام. إنه يراه عالما موحش الأفاق، مُسخ أناسه، فاستحالوا إلى أفاع وثعابين مخيفة غادرة تنشر السم الزعّاف في الشراب الواقي أو كما يعبر الشاعر[40])
عشـت في مقلتي سـاعة هو ل
حجّـرت غصتي على إشفـاقي
وأرتنـي، كأنـني في جثـام
عـالما فيك موحش الآفــاق
فرأيت المسخ المخيف على اكمل
حسن، والقزم في العمــلاق
ولسـان الثعبان في قبلة الصّديق
والسـم في الشراب الواقـي
وسمعت الفحيح في النغم العذب
وصـوت العدوفي الميثــاق
عالم مشوّش متناقض، اختلطت فيه الأشياء وتلاشت من بينها الحدود، وضاعت الملامح المميزة؛ الغدر في الصداقة، السم في الدواء، والفحيح المخيف في الأنغام العذبة، والخيانة والخديعة في العهود والمواثيق، عالم فيه كل شيء في حين أنه يفتقر إلى كل شيء. إنه فردوس لكنه محاط ومليء بالأفاعي القاتلة[41])
ورأيت الفردوس لفّت أفاعيه
غصونـي وكمّشت أو راقي
بل إنه لـ"مستنقع يتنهّد" و"صباغ فاسد" و"مقاذر" و"سقوط" و"بحر شبهات"([42]) كما يعبر الشاعر في مواضع أخرى.
4-الخلفيـة السياسيـة:
وهناك اتجاه آخر متميّز كل التمايز عما سبق، لكونه يهاجم المدينة بضراوة ودون مهادنة. مرتكزا على الخلفية السياسية دون غيرها. معتبرا إياها (المدينة) بؤرة الفساد السياسي والقهر واللا عدل. ولعل الشاعر محمد مهدي الجواهري أبرز صوت يمثل هذا الاتجاه بوضوح كبير، وبجرأة لا متناهية. الجواهري ذلك الشاعر العراقي ذوالنفس الغضوبة الثائرة، المتخذة من الكلمة الوجيهة جسرا للعبور إلى الحريـة، ومن القلم سيفا مشهورا في وجه الحكام الفاسدين، وسوطا يؤدبهم به من حين لآخر وينبئهم بأوخم العواقب، إنهم يحملون الشعب على الرقص ببلاهة كالقرود. ولذلك فهوغاضب على هذا الشعب المستسلم لعبث الحكام، الراضخ لتجبرهم، لقد هجر هذا الشعب غاضبا غير حاقد([43]) :
" قال: ومتى عهـدك بالمدينـة وأهلهــا؟
" قلت: منذ تركتهــا.. أما عهـدي بأهلها
فمنذ أن تشاجرت مع حاكمها لكثرة ما يحملهم
على الرقص كالقرود...وقد استمروا يرقصـون
حتى بعد أن طردني الحاكم شر طرد من أجلهم...
طردني أنا ومن معي.
" قال : أ فأنت حـاقد عليهـم من أجل ذلك؟
" قلت : لا، أبدّا.. بل غـاضب.
قال: أو لا تريـد أن تراهم؟
قلت: إن بريق الغضب في عينّي ليصدّني عن رؤيتهم".
لقد طرده الحاكم من المدينة شر طردة، لأنه كان ينافح من اجل هذا الشعب المظلوم، ولان كلماته كانت مقلقة للحكام، فهي بمثابة الآلة التي [44])
تستل من أظفارهم وتحطّ من
أقدارهم، وتـثل مجدا كاذبا
ولأنه كان غاضبا ورافضا، ومهددا ولاعنا ومحرضا، ولأنه كان حتفهم [45])
أنا حتفهم ألج البيوت عليهم
أغري الوليد بشتمهم والحاجبا
أنا ذا أمامك ماثلا متجبرا
أطأ الطغاة بشسع فعلي عازبا
وأمط من شفتيّ هزءا أن أرى
عفر الجباه على الحياة تكالبا
ولكن وإن هو هجر المدينة، وكان غاضبا على أهلها -في غير حقد- لأنهم استمروا في رضوخهم للحكـام أو –كما يدعوهم أحيانا- المتحكمين، ولم يناصروه على الرغم مما لاقاه من أجلهم، فإنه غير يائس من ثورانهم يوما ما، ولذلك نراه يخاطب الحكام قائلا في سخرية موجعة، وغضب متوعد ما حق[46])
ما تشاؤون فاصنعوا
فرصة لا تضيــع
فرصة أن تحكّمـوا
وتحطّوا وترفعـوا
وتدلوا على الرقاب
وتعطوا وتمنعـوا
ما تشاؤون فاصنعوا
لكم الأرض أجمـع
لكم الناس أكتـع
من ذويهم وأبصع
ما تشاؤون فاصنعوا
الجماهير هطّــع
ما الذي يستطيـعه
مستضامـون جوّع
ما تشاؤون فاصنعوا
كلّ عـاص يطوّع
فشباب يخيـفكم
للمطـامر يدفـع...
وضمير يهزكم
بالكراسي يزعـزع
ولسان ينوشكم
بالدنـانير يقطـع
ما تشاءون فاصنعوا
جوعوهم لتشبعوا
ما نهبتهم فوزعـوا
للحواشي واقطعوا
وهويكتفي بتصوير ما يسود المدينة من ظلم وتسلط وتزوير في القوانين والتشريعات الحامية للحكام، بل كثيرا ما يعمد إلى الدعوة للثورة والتمرد عليهم والتضحية جاعلا "من الشهادة جزءا ضروريا من التجربة السياسية- الشعرية"([47]). إنه رغبته المتأججة في حنايا نفسه، وضالته المنشودة، وعشقـه الأول والأخير. فبالثائر الذي يسير "على لا حب من دم" وبيوم الشهيد "يبعث الجيل المحتم بعثه/وبك القيامة للطغاة تقام"([48])، إنه يفضل المواجهة الصدامية مع الطغاة، ويحيّ أو لئك الثائرين الذين يجعلون "الحتوف جسرا" للناس إلى الغد[49])
سلام على حاقد ثـائر
على لا حب من دم سائر
يخب ويعلم أن الطريق
لا بد مفض إلى آخــر
كأن بقايا دم السابقين
ماض يمهد للحـاضـر
سلام على جاعلين الحتوف
جسرا إلى الموكب العابر
يجعل الجواهري من الشهادة جزءا أساسيا وسندا ضروريا للتجربة السياسية الشعرية والحياتية، شأنه في ذلك شأن الخوارج، إضافة إلى تشبهه الكبير بأبي الطيب المتنبي، في تلك النرجسية المتعالية أحيانا، وفي ذلك
التبرم من الحياة، ومن لا أهمية الحكام وعجزهم*...
وقد يلجأ الجواهري أحيانا وحينما يستبد به اليأس وتعصف به الأحداث السياسية في المدينة إلى الطبيعة يشكوها همومه، ويبثها يأسه وأحزانه، وما يلقاه من لؤم وتهم في المدينة، فيقول[50])
إنّا أتيناك من أرض ملائكها
بالعهر ترجم أو ترضي الشياطينا
إن لم يلح شبح للخوف يفزعنا
فيها يلـح شبح للـذل يصميــنا
وقريب من هذا الموقف المنـاوئ، ذاك الذي نلحظـه عند"عبد الغني الجميـل" الذي يقول عن بغداد([51]) :
علام الإقامة في بلدة
نعدّ بها مثل حـمر النعم
وقوله أيضا :
لهفي على بغداد من بلدة
قد عشش الحب بها ثم طار
ويتضاعف هذا الموقف عند معروف الرصافي، ويشتد أكثر في قسوته على (بغداد)، إذ يصوّرها على أنها سجن، ومكان للذل والجور والتسلط وقهر الحكام فيقول حانقا:
أيا سـائلا عنـا ببغداد إننا
بهـائم في بغـداد أعـوزها النبت
خضعنا لحكام تجور، وقد حلا
بأفواههـا من ما لنا مأكـل سحت
ولَلموت خير من حياة تشوبها
شوائب منها الظلم والذلّ والمقت1
ويقول في قصيدة "السجن في بغداد":
"لخولة أطلال ببرقـة ثهمد"
عفا رسم مغنى العزّ منها كما عفت
زر السجن في بغداد زورة راحم
لتشهد للأنكاد أفجع مشهد2
5- الاحتفاء بالمدينة المميزة:
ولا نود اختتام هذا الفصل، دون التعريج على المدن السودانية وبخاصة الخرطوم، تلك المدينة المعشوقة من لدن شعرائها، والمميزة عن غيرها من كبريات مدن العالم العربي. فهي وإن كانت تشترك معها في الطابع العربي والإسلامي، فإنه تتميز عنه بطابعها الإفريقي العريق الضارب بجذوره في أعماق السودان. ولعل هذه الميزة، هي التي جعلت الشعراء السودانيين يهتمون بالمكان اهتماما يكاد يقترب من اهتمام الشاعر الجاهلي به، وبخاصة في الافتتاح والتحديد الدقيق له ولمعالمه، وربما ذلك ناتج عن شدة ارتباطهم به، وعشقهم له، إذ يمكن القول –دون مبالغة-"بأن أحدا من الشعراء العرب المحدثين لم يعشق مدينته، كما عشق الشعراء السودانيون مدينة الخرطوم فهي عند الكلاسيكيين راية ومجد، وعند الرومانسيين أغنية وحلم . أما الواقعيون فرأوا أن لها شخصية متميزة على الرغم من فقرها، واختلاف الأجناس فيها، ورغم الحزن الذي يغشى-كالغبار- بعض ملامحها التي لا تبتسم إلا بقدر"3. ولعل "محمد المكي إبراهيم" أشد الشعراء تفجرا في عشق الخرطوم، حيث يخرجها في صورة غزلية جد رهيفة فيقول:
شد ما أنت حسناء
كم أنت مغرية بالتهور والاغتلام
عارية وزنجية
وبعض عربية
وبعض ... أقوالي أمام الله([52])
أما عند "التجاني يوسف بشر" فهي زهرة، وأغنية وقصيدة، وشمس تفرع كأس الضوء في بدرها، وهي مدينة السحر التي تنام فيها حجرات الذهب وتضاء بالفجر وبالنفوس([53])... ويعدّ محمد المهدي المجذوب هو الآخر من اكثر الشعراء حبّا لمدينته، ومن أكثرهم وصفا لها وتجسيدا لتفاصيلها الداخلية والخارجية؛ إذ انه لوّنـها بمختلف مشاعره الخاصة فرحا وحزنا([54])، توحدا واغترابا، رضا وسخطا.
ولا نريد أن نستطرد اكثر من هذا، فحسبنا الإشارة إلى بعض إرهاصات الظاهرة وتلمّس مفاصل تجربتها، والإلمام البسيط ببعض التفريعات التي دلفت إليها، والمظاهر التي اتخذتها في شعرنا الحديث في مطلع القرن العشرين.
والنتيجة التي يمكننا الانتهاء إليها من خلال هذا العرض هي أن المدينة العربية ومنذ مطلع القرن، ومع تزايد معطيات التكنولوجيا الحديثة فيها وما صاحبها من تطور حضاري متسارع الخطى، لم يترك للمرء فيها فرصة التأمل الهادئ، ومراجعة الذات المتأنية، ومع ابتعادها عن البراءة ونزوعها نحوالتعقيد في أسلوب الحياة، وسقوط القيم فيها، وانتشار أشكال البيروقرطية والتسلّط، وسيادة البؤس والحرمان، إضافة إلى تلك الضجات المتلاحقة، وتلك الثورات المتتالية، وذلك الوعي المتصاعد، بهذا وبغيره، عملت على مناوأة الشاعر وحمله على الثورة عليها، والتمرد على قيمها ومعاييرها، كما رأينا مع جبران خليل جبران والياس أبو شبكة المطالِب بتطهير مجتمع المدينة بالكبريت، أو الفرار من جحيمه إلى عوالم خيالية طوباوية كـ(صلاح لبكي) المتغني بروعة الطبيعة وهدوئها، المندمج بذاتيته الرومانسية الحالمة معها، أو التشكي من سقوط القيم فيها والابتذال الذي يسودها (محمد العيد) و(أحمد سحنون) الفارّ من ضيق دروبها وفساد هو ائها، إلى سعة أفق الصحراء ونقاء نسماتها... أو مهاجمتها بعنف نظرا