أسم الموضوع : مشاكل الهوية والتعددية الثقافية في الوطن العربي
أدت العولمة التي هي العملية الرئيسية التي تشغل العالم بتجلياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إلى تأثيرات متعددة، في مجالات مختلفة، من أبرزها مشكلات الهوية والتعددية الثقافية. والواقع أن الدول الكبرى - وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية - تحاول أن تدفع بالعولمة كعملية تاريخية في اتجاه التقنين القسري لأوضاع الدول، بما يخدم مصالحها القومية ولو على حساب دول العالم الثالث. وفي هذا الإطار هناك نزعة الى الهيمنة الثقافية تجعل الهويات المختلفة والتي عادة ما تعبر عن خصوصيات ثقافية راسخة - نتيجة عمليات التراكم التاريخي - في مواجهة مباشرة مع العولمة. وينطبق ذلك على وجه الخصوص على تأثير العولمة على الهوية العربية والإسلامية.
وأبرز هذه الإشكالية مانويل كاستلز الذي ألف أهم مرجع عن مجتمع المعلومات العالمي، وهو يقع في ثلاثة أجزاء. الجزء الأول عنوانه «المجتمع الشبكي» ويعرض فيه للملامح الأساسية للمجتمع العالمي الجديد من زاوية بنيته السياسية والاقتصادية والاتصالية، أما الجزء الثاني فعنوانه «قوة الهوية» ويعرض فيه لمختلف أنواع الهويات Identities والتي عبرت عن نفسها في مواجهة العولمة، والأخير وعنوانه «نهاية الألفية» وتحدث فيه عن أزمة الدولة الصناعية الجامدة وسقوط الاتحاد السوفياتي، وما ترتب على هذا الحدث التاريخي المهم من تداعيات سياسية واقتصادية وثقافية، وأهمها صعود «العالم الرابع» وبروز الرأسمالية المعلوماتية، وتصاعد معدلات الفقر، وما تبعه من عمليات استبعاد اجتماعي.
ونريد أن نركز على إشكالية الهوية وخصوصاً في مواجهتها للعولمة. والواقع أن عالمنا وحيواتنا تشكلها في الوقت الراهن الاتجاهات المتصارعة للعولمة والهوية. وذلك على أساس أن ثورة تكنولوجيا المعلومات وإعادة صياغة الرأسمالية المعاصرة في ضوئها، أدت إلى بروز صيغة جديدة للمجتمع العالمي هو ما يطلق عليه «المجتمع الشبكي». وثقافة هذا المجتمع تستمد مسلماتها من عالم افتراضي Virtual خلال نسق إعلامي يتسم بنفاذه إلى كل أرجاء الكون، ويتصف بأن وحداته المكونة متصلة ببعضها البعض اتصالاً وثيقاً، ورسائله بالغة التنوع في نفس الوقت. وأصبح النظام الإعلامي العالمي برسائله السياسية والاقتصادية والثقافية، يؤثر على قيم وعادات وأساليب الحياة لملايين البشر، الذين ينتمون إلى ثقافات جد متنوعة.
ويمكن القول إن التاريخ المعاصر وخصوصاً في ربع القرن الأخير، وبعد تدفق موجات العولمة، شهد تعبيرات شتى عن الهويات الجماعية، والتي تسعى الى تحدي العولمة والنزعة إلى الكوزموبوليتانية (العالمية)، وذلك باسم التفرد الثقافي، أو ما يطلق عليه عادة «الخصوصية الثقافية»، في محاولة لسعي الجماهير العريضة للسيطرة على حيواتها وبيئاتها. وتعبيرات الهوية التي نتحدث عنها كرد فعل للعولمة بالغة التعدد والاختلاف، بحكم فرادة الجذور التاريخية بكل تعبير من تعبيرات الهويات الجماعية.
وهناك تشكيلة كاملة من التعبيرات عن الهويات كرد فعل للعولمة، التي تريد أن تفرض مقاييس موحدة على العالم، وبغض النظر عن التواريخ الاجتماعية للأقطار المتعددة، أو بتجاهل الثقافات المختلفة. وهذه التعبيرات الثقافية عن الهويات الجماعية قد ترفع شعار الدفاع عن الله سبحانه وتعالى، أو الدفاع عن الأمة، أو عن عرق من الأعراق.
بعبارة أخرى هناك حركات دينية وحركات قومية وحركات عرقية، انطلقت جميعاً للدفاع عن ذاتيتها، ضد التغيرات الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية التي خلقتها العولمة.
ولا ينبغي أن يغيب عن البال أنه مما يزيد من حدة الصراع وسائل الاعلام العالمية التي تستخدمها مختلف التيارات السياسية والثقافية المتصارعة. ولعل ما يدل على ذلك أن «الإنترنت» أصبحت الآن أداة فعالة في أيدي مختلف الحركات السياسية المعارضة. وإذا أضفنا إلى ذلك ظهور ما يطلق عليه حرب الشبكات Netwar التي أشرنا إليها من قبل، ونعني استخدام شبكات الإرهاب المختلفة للإنترنت كأداة للاتصال، لأدركنا أننا أمام تغير بنيوي في شكل الجريمة والتي أصبحت معولمة globalised في الوقت الراهن.
وينطبق التحليل السابق على البلاد العربية التي انتشر فيها الفكر الديني المتطرف، والذي كان أساس ظهور جماعات إسلامية إرهابية، أصبحت تمثل التهديد الأساسي للأمن القومي العربي، بحكم نزعتها لإسقاط النظم السياسية العربية الراهنة، وتطورها لتمارس الإرهاب ضد الدول الغربية ذاتها، كما حدث في أحداث 11 أيلول (سبتمبر) في الولايات المتحدة الأميركية وفي مدريد ولندن، مما من شأنه أن يستدعي تدخلات أجنبية تمس الأمن القومي العربي مباشرة.
ان ظاهرة التطرف الإيديولوجي في العالم العربي تستحق تحليلاً متعمقاً باعتبارها أحد مصادر التهديد الثقافية للأمن القومي العربي. وأياً كان الأمر فإنه يمكن القول أن العالم تسيطر عليه الآن عولمة واحدة، في الوقت الذي يزخر فيه بهويات متعددة. وهذه العولمة تخوض في الواقع معارك عنيفة مع الهويات المختلفة في العالم، والتي تختلف في جذورها التاريخية، وفي تعبيراتها الثقافية. وقد ظهرت بوادر هذه المعارك في الجدل العنيف المحتدم حول الحضارات بين الصراع والحوار.
وليست بعيداً عن أذهاننا أطروحة عالم السياسة الأميركي صمويل هنتنغتون عن «صراع الحضارات» والتي وقفت مضادة لها أطروحة الرئيس الايراني السابق محمد خاتمي، الذي دعا في خطاب تاريخي ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى حوار الحضارات، لقي موافقة جماعية، وأصدرت الأمم المتحدة قراراً باعتبار عام 2001 هو عام حوار الحضارات.
وإذا كان مصطلح «حوار الحضارات» هو الذي استخدم في هذا الجدل العالمي، إلا أننا نفضل استخدام مصطلح «حوار الثقافات» على أساس أننا جميعاً دولاً وشعوباً نعيش في الواقع في ظل حضارة واحدة هي الحضارة العلمية والاتصالية الراهنة. غير أن مشكلة حوار الثقافات تبدو على وجه الخصوص في أنه لم يتبلور بعد منهج لإجراء الحوار، ولم تتحدد معايير موضوعية لاختيار مشكلات الحوار.
لقد صيغت وثيقة تتضمن موقفاً عربياً وإسلامياً في الحوار في ندوة فكرية عقدت في أبوظبي في كانون الثاني (يناير) 2006، شاركت فيها نخبة من المفكرين العرب، وأعدت لعرضها على مؤتمر وزراء الثقافة العرب. وهي تتحدث عن مسوغات الحوار مع الآخر، ومبادئ الحوار العربي الإسلامي المتكافئ مع الآخر، ومستويات الحوار، وأهدافه في عصر العولمة، ومنهجيته وأخلاقياته. وفي تقديرنا أن ممارسة حوار الثقافات في ضوء مبادئ هذه الوثيقة العربية البالغة الأهمية، من شأنها تدعيم الأمن القومي العربي.
وبالإضافة إلى مشكلات الهوية فإن التعددية الثقافية تمثل تحدياً يواجه دولاً متعددة. ومن الحقائق المعروفة أن الوطن العربي يزخر بتعددية ثقافية ملحوظة. ذلك أن المجتمعات العربية المختلفة وبنسب متفاوتة، تضم عرباً وغير عرب مثل الأكراد في المشرق والبربر في المغرب، كما أنها تضم مسلمين سنة ومسلمين شيعة، وكذلك تضم مسيحيين.
وعلى رغم هذه الحقائق فإن الاتجاه الرسمي في العالم العربي يميل إلى تجاهلها، ولا يفضل مناقشة مشاكل الأقليات بأنماطها المختلفة علناً إلا في أحوال نادرة، وذلك في إطار التأكيد على تجانس المجتمعات العربية. ولعل الخطاب العربي التقليدي يعد نموذجاً لتجاهل مشكلات الأقليات، في الوقت الذي يركز فيه على عوامل الوحدة.
وقد حاولت الحكومات العربية المتعاقبة أن تواجه المشكلات التي ترتبت على هذا التقسيم، من خلال محاولة صياغة التجمعات القبلية والعرقية والدينية في شكل أمم موحدة. ومن الطبيعي أن تهتم الدول العربية بموضوع وحدة الدولة، غير أن الوحدة غالباً ما كانت تستخدم وكأنها مرادفة للتجانس وليس هذا صحيحاً. ومن ثم فمحاولة إخفاء حقيقة وجود أقليات عرقية أو دينية وادعاء أنه ليست هناك مشكلات، من شأنها أن تعطي إحساساً زائفاً بالأمن، إلا أنه سرعان ما يتبخر هذا الإحساس تحت وطأة التوترات الاجتماعية التي قد تنشأ بين الأقليات والطوائف والأغلبية، والتي قد تتحول في بعض الأحيان إلى صراعات دامية، كما حدث من قبل في لبنان والسودان.
ونحن نعرف أن الدول الاستعمارية في عصر الاستعمار، والدول الغربية في عصر ما بعد الاستعمار، وكذلك إسرائيل، حاولت وتحاول اللعب بورقة الأقليات في الوطن العربي، سعياً إلى تفتيت وحدة المجتمعات العربية، مما يسهل لها تمرير سياساتها الاستعمارية.
والواقع أن منطق السياسات الرشيدة في التعامل مع الأقليات ينبغي أن يستند إلى إقامة التوازن المستدام بين مطالب الوحدة القومية وحقوق الأقليات، وبين التكامل من ناحية وقبول التعددية الثقافية من ناحية أخرى. وبذلت محاولات نظرية من قبل عدد من العلماء الاجتماعيين لحل مشكلة الأقليات بشكل عام، وفي العالم العربي بشكل خاص. وتبلورت هذه المحاولات في صياغة اتجاهين، الأول هو توسيع دائرة المشاركة السياسية لكل المواطنين مهما كانت انتماءاتهم في ظل ممارسة ديموقراطية كاملة، وتطبيق غير منقوص لمبدأ المواطنة. والاتجاه الثاني هو اللجوء الى الحكم الذاتي في إطار الدولة الواحدة.
وحاولت الحكومة العراقية في عهد الرئيس السابق صدام حسين تطبيق مبدأ الحكم الذاتي للأكراد، ونجحت التجربة زمناً إلى أن انقلب عليها صدام حسين ففشلت التجربة، وتحول الخلاف بين الأكراد والنظام العراقي إلى صراع دام سادته محاولات القمع بالقوة.
ومن الغريب أن يمر السودان بتجربة مشابهة في عهد الرئيس الاسبق جعفر نميري، الذي اعترف للجنوب بالحكم الذاتي ثم سرعان ما انقلب عليه أيضاً. وهكذا فتح الباب أمام الصراع الدامي بين الشماليين والجنوبيين، والذي لا يزال السودان يعاني من آثاره حتى الآن.
وأياً كان الأمر فليس هناك في تصورنا حل عقلاني لمشكلة الأقليات سوى قبول التنوع الخلاق في المجتمع العربي وتوسيع دائرة المشاركة، والمسارعة في التحول الديموقراطي من السلطوية إلى الليبرالية.
ونحن في الوقت نفسه ضد الحل الذي تروج له بعض الدول الغربية والذي يسايرها فيه بعض المفكرين العرب وهو الدعوة إلى تطبيق الفيديرالية. وذلك لأن اللجوء إلى هذا الحل فيه تفتيت واضح لوحدة المجتمعات العربية، وهي دعوة تطبق في الواقع المخطط الاستعماري في عصر العولمة، وهو تفتيت المجتمعات الموحدة باسم احترام التعددية وحقوق الإنسان.
[b]