دور النسق القيمي في الحياة الاجتماعية
محمد عبد الحسن
ناصر(*)
(خاص للمعهد)
النسق القيمي احد المفاهيم المهمة في
ادبيات العلوم الاجتماعية ونال قسطاً كبيراً من اهتمام العلماء والباحثين
وعلى وجه الخصوص في الانثروبولوجيا وتفرعاتها، ويبدو ان هذا الاهتمام
نابع من اهمية هذا المفهوم ودوره في الحياة الاجتماعية وعلاقته بالفرد،
والجماعة الاجتماعية، والمجتمع وما يقوم به اويؤديه من وظائف وادوار.
النسق في اللغة هو ما جاء من الكلام على نظام واحد. والتنسيق التنظيم(1).
ويشير «تيماشيف»« Timashiff» الى ان النسق (هو ذلك الكل المركب الذي
تترابط فيه الاجزاء وتتكامل حول نواة مركزية)(2). وبذلك يكون النسق
«System» مجموعة من المتغيرات المتداخلة وان تغير اي متغير سوف يؤثر على
بقية المتغيرات(3). ويرى الدكتور «شاكرمصطفى سليم» في «قاموس
الانثروبولوجيا الاجتماعية» النسق (هو مجموعة من العادات والعلائق
والتفاعلات الاجتماعية الاعتيادية بين افراد المجتمع الذين يرتبطون بصلات
متبادلة ضمن اطار حضاري معين، ويتكون النسق من مجموعة النظم الاجتماعية
المتكاملة والمترابطة والمتسقة)(4).
اما «القيمة» فهي مبدأ مجرد وعام يشعر الافراد نحوه بالارتباط الانفعالي
القوي كما انه يوفر لهم مستوى للحكم على الانفعال والاهداف الخاصة ولذلك
فأن القيم تضع لمجموعة المستويات العامة للسلوك التي تكون المعايير
الاجتماعية، التعبير الواضح والملموس لها، على ان الطبيعة العامة التي
تتميز بها القيم تجعل من الممكن للافراد الذين يشتركون في القيم نفسها،
ان يختلفون على بعض المعايير المندرجة تحتها وطالما ان القيم توجه اختيار
الاشياء والسلوك فان دراستها لابد ان تنطوي على تحليل الاتجاهات والتفاعل
والبناء الاجتماعي(5).
ومن التعاريف الهامة للمصطلح هو تعريف «كلايد كلاكهوم» فالقيمة عنده (هي
تصور واضح او مضمر يميز الفرد او الجماعة ويحدد ما هو مرغوب به بحيث يسمح
لها بالاختيار من بين الاساليب المتغيرة للسلوك والوسائل والاهداف الخاصة
بالفعل)(6). اما «بارسنز» «Parsons» فيعرف القيمة في كتابه «النسق
الاجتماعي» (بانها عنصر في نسق رمزي مشترك يعتبر معياراً او مستوى
للاختيار بين بدائل التوجيه التي توجد في المواقف، فان القيم هنا تمثل
معايير عامة واساسية يشارك فيها اعضاء المجتع وتسهم في تحقيق التكامل
وتنظيم انشطة الافراد)(7).
وكذلك «ميلتون روكتشي» عرف القيم على انها معتقد يحضى بالدوام على تفضيل
شخصي او اجتماعي لغاية من غايات الوجود بدلاً من نمط سلوكي او غاية اخرى
مختلفة(. ومن هنا يتبين لنا ان القيم باعتبارها مشتركة ينبني منها نسق
قيمي مشترك يوجه سلوك المجتمع، وان النسق القيمي لأي مجتمع ينبع من طبيعة
ذلك المجتمع وظروفه الايكيولوجية والاقتصادية، والاجتماعية والديموغرافية
ومن مجريات احداثه التاريخية.
كما وانه يتحكم ببقية الانساق من خلال الادوار«Roles » والمركز«Statuse»
ومن خلال الفعل الاجتماعي «Social Action» والتوقعات المتبادلة «Mutual
Expectation «ما بين الافراد شاغلي المراكز وبذلك يتحكم في سلوك المجتمع
ككل من خلال تحكمه بسلوك الافراد الذين يكونون المجتمع.
وبذلك يمكن تعريف النسق القيمي على انه نموذج منظم للقيم في مجتمع ما او
جماعة ما، وتتميز القيم الفردية فيه بالارتباط المتبادل التي تجعلها تدعم
بعضها البعض وتكون كلاً متكاملاً، وهذا يجعل من النسق القيمي اطاراً
لتحليل المعايير والمثل والمعتقدات والسلوك الاجتماعي(9).
وهناك بعد اخر للنسق القيمي وهو الحاجة الى اشباع الحاجات والذي يؤدي الى
ايجاد النسق القيمي الذي يهيمن فيما بعد على المجتمع وذلك. ان كل مجتمع
يميل الى التمييز بنسق قيمي سائد يقوم عن طريقه باشباع حاجات الافراد
الذين يبتكرون الوسائل لذلك ويتم لهم ما يرمون اليه عن طريق العقل
والادراك(10).
اما من حيث وظائفه فاننا نجد انه يؤدي مجموعة من الوظائف لعل من اهمها:
1ـ ربط اجزاء الثقافة في مجتمع ما بعضها بالبعض الاخر اذ هو يربط العناصر
المتعددة والنظم حتى تبدو متناسقة كما انه يعمل على اعطاء هذه النظم
اساساً عقلياً يستقر في ذهن اعيضاء المجتمع المنتمين الى هذه الثقافة او
تلك.
2ـ تبدو اهمية النسق القيمي للفرد في قدرته على افساح المجال امامه
لتطوير توقعاته المستقرة عن سلوك الاخرين وتمكين الافراد الاخرين من اداء
الالتزامات المختلفة الخاصة بادوارهم(11).
3ـ يعمل بمثابة كوابح وروادع داخلية للسلوك لمنع تجاوز حدود معينة تهدد
الكيان الاجتماعي الاكبر اي تمارس دوراً كبيراً لتحقيق الضبط الاجتماعي
«Social control»(12).
4ـ للقيم ارتباط ذهني وعاطفي بشخصية الانسان اذ ان الشخصية في نظامها
وتركيبها يتكون في سنوات الطفولة المبكرة حيث ان القيم تتشرب بنفسية
الفرج مع مرور الزمن عن طريق التنشئة الاجتماعية فتتحول الى اتجاهات
ومواقف فكرية وانفعالية خاصة بالفرد.
ونظراً لتلك الوظائف نجد ان التكامل الاجتماعي والثقافي في المجتمع
يرتكزان على توجيهات قيمية اساسية ورئيسية. وهذه فكرة مهمة بالنسبة
للكثير من النظريات الانثروبولوجية وان كل من النظريات الوظيفية
«Functional» او النظريات البنائية الوظيفية «Structural Functionl» تميل
الى افتراض ان التوازن«Equilibrium» والوحدة الاجتماعية ماهي «الا القيم
الجمعية معبراً عنها من خلال الثقافة». ان المنظرين الامريكان والالمان
قد اعتقدوا ان الثقافة ما هي الانتاج التاكيدات من قبل المجتمع على عدد
من التوجيهات القيمية دون غيرها وفي هذا السياق ايضاً فان مدرسة الثقافية
والشخصية تربط ما بين الثقافات والاختيارات المنصبة على انماط مزاجية
ونفسية، اما منظورات المدرسة الفرويدية، والفرويدية الجديدة فهي تربط
مابين الديناميات السايكولوجية والبناء الثقافي. فالقيم لاتوجد منفردة او
مبعثرة تعمل مستقلة عن بعضها البعض وانما هي تعمل كنسق ثقافي مترابط
متكامل يوجه كافة الانساق الاجتماعية الاخرى، ولانقصد ان النسق القيمي هو
احد الانساق الاخرى مثل النسق الاقتصادي، او السياسي، وانما نعني واقع
التكامل والارتباط ما بين القيم الثقافية في مجتمع معين والذي يكون
منظومة وكلاً متكاملاً متداخلاً يمثل ثقافة وله القدرة على الهيمنة على
بقية الانساق وتوجيهها في اداء وظائفها التي تخدم المجمع، مما يؤثر بدوره
في سلوك الافراد وقد تتعرض الانساق الاجتماعية الى التحليل والتغيير لكن
النسق القيمي هو اكثر ثباتاً وقدسية.
وهو بذلك يعتبر ركيزة امان تمد بقية الانساق الاخرى بالقدرة على الصمود
ويحرس حركتها ليجعلها بعيدة عن العشوائية، لذلك يعد مصدر اساسي من مصادر
الامن العام في المجتمع.
وفي ضوء هذه الاهمية الكبرى للقيم وللنسق القيمي في المجتمع والحياة
الاجتماعية بجانبيه المستقر والدينامي، يجعلنا امام مهمة الكشف عن تلك
الصور المتعددة وارتباط هذه الصور بالحياة الاجتماعية والانسانية، على
اعتبار ان القيم حقائق مركبة متعددة الوجوه وهذا يعني انها ترتبط بجوانب
الحياة الاجتماعية المختلفة في الوقت نفسه. واهم الجوانب التي يركز عليها
العلماء الباحثون المعنيون بدراسة القيم هي الجوانب الثقافية والاجتماعية
والنفسية وتمثل في واقع الحياة الانسانية الاركان الكبرى التي ترتكز
عليها.
اما الجانب الثقافي في القيم فيعني انها جزء مركزي من اجزاء التراث
الثقافي او الحضاري المتراكم عبر تاريخ المجتمع. كما يعني انها تدخل في
عملية «التطبيع الثقافي» «Enculturation»(13). التي تشكل العمود الفقري
للتنشئة الاجتماعية اذ ان حصيلة هذه التنشئة الاخيرة هي ان يكتسب الفرد
جميع قيم مجتمعه ليكون انسان راشداً.
ولان القيم هي اهم عناصر الثقافة فانها تمثل اهم العوامل التي تدعم
استمراريتها فانها تمثل اهم العوامل التي تدعم استمراريتها واستقرارها.
وهذا واضح في واقع ثقافتنا العراقية التي استطاعت عبر تاريخها الحضاري
الطويل من الاستمرار على الرغم من تيارات الغزو والاكتساح السياسي
والثقافي التي تعرضت لها في مراحل وفترات متعاقبة من تاريخه الطويل والذي
يمتد ضارباً جذوره في عمق التاريخ. حيث ان ارضه كانت ميداناً تصارعت فيه
وعليه مختلف الثقافات ولكن الثقافة العراقية بقية مزدهرة بالوان اطيافها
وتنوعاتها التي تشكل بمجملها باقة الورد العراقية الثقافية. ويمكن القول
ان الجانب الثقافي للقيم حقيقة اخرى مهمة ومكملة لما تقدم وهي انها تكون
الحلقات التي تترابط بها الاجيال عبر العهود والازمنة المتعاقبة. فكل جيل
من البشر يتلقى تطبيعه الثقافي على ايدي الجيل الذي يتقدم عليه بالعمر
وهو بدور من خلال تطبيع الجيل الذي يعقبه على قيمه التي تلقاها ممن
سبقوه. وهكذا تتعاقب الاجيال وتفنى. والثقافة باقية نامية، وهذا يؤيد مرة
اخرى القول بان استمرارية وجود الامة تعتمد على استمرارية قيمها. ولهذا
يمكن تسميتها بالقيم الثقافية لتأكيد هذا الجانب.
ومما تقدم يتضح لنا ان القيم الاجتماعية هي حقائق موضوعية لها وجودها
المستقل عن ذات الانسان من حيث انها تدخل في تكوين الثقافة التي تسبقه
لانه يولد فيها فتحيط به وتضغط عليه بدءاً من طفولته المبكرة وحتى بلوغه
سن الرشد عندما يتم للقيم تصييره الى انسان اجتماعي ناضج. غير ان القيم
بعد ان يكتمل امتصاصها من قبل الفرد تصبح في حالة شديدة من التلاحم
والارتباط بشخصيته وعلى الرغم من ذلك ولكي نتخذ من القيم ميدانا علميا
ينبغي ان ندرسها بوصفها حقائق موضوعية خاضعة للبحوث الاجتماعية
الامبيريقية.
الهوامش
ـــــــــــ
(*)باحث من العراق، عضو الجمعية العراقية للعلوم الاجتماعية، معهد
الابحاث والتنمية الحضارية.
(1) محمد ابو بكر الرازي،مختار الصحاح، دار النهضة للطباعة والنشر،
بغداد،1983،ص657.
(2) Timashiff , Nicholous , Sociological Theory , Its Nature and
Growth,Random House , NewYork , 1976, P 220 .
(3) Symour- smith , charlothe macmillan, Dictonary of Anthropology,
the macmillan press ltd , london , 1987, p 275.
(4) د. شاكر مصطفى سليم، قاموس الانثروبولوجيا، جامعة الكويت، الكويت،
1981،ص903.
(5) د. احسان محمد الحسن ، رواد الفكر الاجتماعي ، دراسة تحليلية في
تاريخ الفكر الاجتماعي، دار الحكمة للطباعة والنشر ، 1990، ص431.
(6) د.محمد عاطف غيث، قاموس علم الاجتماع، دار المعرفة الجامعية،
الاسكندرية، 1989،ص504.
(7) د. محمد سعيد فرح، البناء الاجتماعي والشخصية، دار المعرفة الجامعية،
الاسكندرية،1989 ،ص389.
( See: Bened: C. K., Ruth, Patterns of Culture Routhedge and Kegan
Pan, Ltd, London, 1963, p: 57.
(9) W. Tomes and F. Znanicki, Primary group organization, vol. 1,
Barton: the Graham press, 1918, pp. 21.22 .
(10) د.محمد عاطف غيث،قاموي علم الاجتماع،ص506.
(11) د. خليل احمد خليل ، معجم مفاهيم علم الاجتماع ، معهد الانماء
العربي، بيروت،ط1، 1996،ص49.
(12) ضياء زاهر،القيم في العملية التربوية،مؤسسة الخليج العربي،1984،
ص32.
(13) د.قيس النوري،افاق التغييرالاجتماعي النظرية والتنوية،وزارة التعليم
العالي، بغداد، 1990،ص431.
للمزيد من الاطلاع ينظر المصادر التالية:
1) Cohen and west, The structure and function of Primitive society,
London1963 (4) Symour –Smith.
2) Charlotte, Macmillan Dictionary of Anthropology , The Macmillan
Press Ltd, London, 1987, P 274 .
3) Cluckhohn. C, “values and value orientation,” in parsons and shills
(ed) Toward A theory of Action, Cambridge , 1959 , p75 .
4)علي عبد الرزاق الجلبي ، دراسات في علم المجتمع والثقافة والشخصية ،
دار المعرفة الجامعية ، الاسكندرية ، بدون تاريخ ، ص 130-131.
5) زكي نجيب سكندر ، فلسفة وفن ، الانجلو المصرية ، القاهرة ، 1963 ،
ص64.