النظريات الاجتماعية للتعليم - الطيب الطويلي
الكاتب/ أنفاس
أنفاسيعتبر التعليم المواجهة الرئيسية بالنسبة إلى شعوب العالم الثالث من أجــل التقدم والرّقي، حيث يعتبر حجر الزاويــة في بنــاء أسس الازدهار من صناعة واقتصاد وفــلاحة، فلا سبيل للنهوض بأي من القـطاعات الحيوية إلا بامتلاك حقيقي لأساليب تطويرها، ويكون هذا الامتلاك حتميا عبر الأخذ بناصية العلـوم المتعلقة بالمـَيدان المرغــوب في تطويره، من أجل حـُسن التعامل مع بنياته وآلياته وتحسين أدائهـا في أقصر مدة وبأقل تكلفة.
ويعتبر ضعف أداء التعــليم في الوطن العربي سببا أساسيا من أسباب وضعه السلبي، حــيث تــُعَدّ الأمة العربية من أكثر الأمم أمــية، بـ68 مليون أمــي يمثلون 40% من إجــمالي السكان في الوطن العربي.[1] أما في مصـر التــي يـُفترض أن تكون حاملة للواء الريادة عربيا عــلى المستوى الإعلامي والثقافي والاقتصادي بــحكم موقعها التاريخي والجغرافي كــواجهة للصراعات الإستراتيجية للمنطقة فتبلغ نسبة الأمية بها 27.4% في جويلية 2008.[2]
وتمثــّل هــذه النسبة العالية من الأمية شكلا من أشكال الفشل التعليمي العربي علــى مستوى التخطيط والتنظير، خاصة إذا علمنا أن الدول العربية حريصـة ـ ومنذ نصف قرن ـ على عقد المؤتمرات وإقامة الندوات لمحاولة تحسن الواقع التعليمي ولكن دون جــدوى، حيث لــم يشهد هــذا الواقع أي تغيير إيجابي مثل الذي شهدته دول ناشئة في آسيا وأمريكا اللاتينية. [3]
ولا يرجع هــذا الفــشل إلــى تــقصير مادي بقدر مــا يعود إلى تقصير في التخطيط، باعتبار أن التعامل مع التـعليم يجب أن يكون قائما على أسس علمية منذ البداية من طــرف الدول والحكومات، بحيث يستطيع المخطـِّطون الإلمام بمختلف البنيات والأنساق التي تكوّن المنظومة التعليمية، وتحديد الحاجيات والمستلزمات التي تتطلبها هذه البنيات من أجل تـطوير سريع وممنهج.
وحتى لا تذهب مجهودات المخططين لإنجاح العملية التعليمية سدى، ولا تتوالى المؤتمرات والندوات لــتطوير التعليم بنتائج سلبية وعكسية في معظم الأحيان، من الضروري أن تبدأ عملية الإصــلاح بتحديد دقيق للأهــداف التعليمية المنظورة، وهـذا التحديد يكــون عبر بناء إطار نظري متين يوضــح مفهوم التعليم وطرائقه، وتــُحصر فيه أهم التجارب النظرية، والتي أُريد بها تقديم تعريف مفاهيمي للتعليم، وتجارب تطبيقية سوسيولوجية وسايكوسوسيولوجية لبلورة العملية التعليمية وأساليب دفعها وتحسين مردوديتها.
فعملية النهوض بالقطــاع التعليمي والتي تعتبر البذرة الأساسية للتنمية البشرية يجب أن لا تنطلق بإلقاء القرارات القيادية المتسرعة والتي تعود في مجملها إلــى تقليد نـَقلي لتجارب غربية نجحت في مجتمعات مغايرة ويـُأمل لها أن تنجح في مجتمعاتنا، وغالبا ما يكون هذا التقليد سقيما ومنقوصا ومتسما بجهالة لأسباب التطبيق ومحدداته. وإنما يجب أن يكون التطبيق قائما على تحديدات مــفاهيمية وتفسيرات نظرية لـمختلف التطبيقات والتجارب العالمية على المستوى التعليمي، ومحاولة فهم أسباب نجاحها أو فشلــها ومدى تطابق تلك النظريات والتجارب ومواءمتها للطبيعة الاجتماعية العربية.
أهمية التحديد المفاهيمي.
يمثّل تحديد المفاهيم بالنسبة إلى الباحث مــَصــْلا يحمي سيرورة البحث من التداخل والتضارب بين المصطلحــات ومـــعانيها واستدلالاتها، خاصة إذا علمنا أن الجهاز الاصطلاحي العربي ليـس مــحل اتفاق تام أو إجماع من طرف العلماء. وإن عــدم تحديد الجهــاز المفاهيمي للموضوع المدروس قد يؤدي إلى خـَلـْـط في إدراك الأبعاد الحقيقية للمفاهيم المـُتـَناوَلة بالدراسة، وبالتالي إلى إساءة في التناول ونـَقص في الإدراك المعرفي عند القراءة العلمية لدى الباحث.
والمفهوم في معناه هو ” نوع من التجريد الذي يمثل شيئا ما، أو نوع من الامتلاك لظـاهرة معينة، فكل نظام علمي يــقوم بوضع قاعدته من المفاهيم التي ينفرد بها وهي بالنسبة إلى العلماء تمثل لغة للتخاطب.“[4]
ومرحلة تحديد المفاهيم تمثـّـل بالنسبة للباحث مرحلة بنائية يـقوم من خلالها بإيضاح أدواته المعرفية وقــَوْلبة المسلك الإمبريقي الصحيح الذي سينتهجه بحثه عبر القولبة النظرية للمصطلحات العلمية التي تمثل مفاتيح البحث. فالمفاهيم تمثل أساسا للاتصال الفكري، وتقدّم وجهة للنظر، كما تمثل وسيلة للتصنيف والتعميم، وتخدم القوالب البنائية للنظريات وبالتالي إحداث التفسيرات والتنبؤات. [5]
ويــُعتبر تحديد الجهــاز المفاهيمي في البحث السوسيولوجي أمرا لازما، حيث لا يمكننا القيام ببحث علمي إمبريقي إذا كان فهمنا للمصطلح منقوصا أو مغلوطا بأي حال من الأحوال و« إن كثيرا من مشكلات التعامل الاجتماعي التي تخل بعلاقات البشر الاجتماعية نــاجم عن عدم فهم بعضهم بعضا الفهم الصحيح. »[6]
فالجهاز المفاهيمي للبحث هو المفتاح الذي يمتلك من خلاله الباحث أدوات السيطرة على التمشي النظري والمنهجي لبـحثه، وهو الذي يمكـّن من تلافي المتناقضات المعرفية ومن الضبط الدقيق للإطار المدلولي والذي من غيره تكون الدراسة العلمية كالبنيان القائم علــى أساس من القــش، ما إن يـُقاس على المختبر الابستيمي حتى تظهر تداعياته ومواطن الزلل فيه. ولهذا فسنحاول عــرض الجهاز المفاهيمي للتعليم، وإيضاح السياق الدلالي الذي يمثله المصطلح عبر سرد التعريفات العلمي المتعلقة بالمفهوم ومحاولة الربط والبناء بينها.
مفهوم التعليم.
في تناولنا لمفهوم « التعليم » يصادفنا ثراء وغزارة في التعريفات والتفسيرات، مع إدغام أن هذه الإفاضة تصب تقريبا في خانة واحدة. ويتمثل التعليم في معناه العــام في إبلاغ كمية من المعارف والمعلومات مع إعانة على الفهم والاستيعاب. [7]
والتعلـيم يمثـّل المـــراحل المخـتلـفة التي يمر بها المــُـتلـَقــّي ليرقى بمستواه في المعرفة في المؤسسات العلمية [8] وتتمثل هذه المراحل في تغيــُّر السلوك تغيرا تقدميا يتصف من جهة بتمثــُّـل مستمر للوضع، ويتصف من جهة أخرى بجهود متكررة يبذلها الفرد للاستجابة لهذا الوضع استجابة مثمرة. وبـذلك يكون التعليم إحرازا لطرائق ترضي الدوافع وتـــُحقق الغايات.[9]
ويـُعـَرَّف التعليم أيضا بأنه عملية تتكيف بها نماذج استجابة سابقة مع تغيرات بيئية جديدة، وينطوي على تعديل ســلوك الشخص وإعادة تنظيمه « بما في ذلك تعديل إدراكاته واتجاهاته وصورته الذاتية..»، كما ينطوي أيضا على تغييرات دائمة نسبيا تطرأ على السلوك، وتكون محصلة التكرار والممارسة. [10]
وفبما أسلفنا من سرد التعريفات، نتفطن إلى أن العملية التعليمية لا يمكن أن تتم بدون توفر ثلاثة مفاهيم أساسية لا اكتماليــّة للتعليم إلا بتوفرها وهي: الإبــلاغ، الاستجابة، ووجوب التغيير. وإن أي قــُصور في توفير إحداها يحيل إلى اختلال في السيرورة التعليمية وإلى أن نوعية التعليم المطروح رديئة وذلك أن إلزامية إتمام الشروط قد وقع تغييبها، وبالتالي فكل كيان لم يـُحرص على إتمام شروط إنشائه هو بالضرورة كيان واهٍ وغير قابل لاستكمال الإنجاز.
ولا يُعتبر من الخطإ استعمال اصطلاح « التأسيس التعليمي » في حديثنا عن المسار التعليمي، ذلك باعتبار أن التعليم هو المؤسس لتطور الثقافة من ثقافة موروثة منحصرة ومغلقة إلى ثقافـة أكثر فائدة قادرة على الإلمام بين الموروث والمــُكتسب ضمن نسق من المعــقوليات المــُدرَكـَة والتي تقدّم نماذج معرفية مرسـِّـخة لايدولوجيا الاختيار. ويمــكننا أن نــُعرّف مكونات التأسيس التعليمي في الآتي:
الإبلاغ: وهو إيصال المعلومات والمعارف من المُعــلــِّم إلــى المُعــلـــَّم، ويستوجب هذا كفاءة معرفية وانضباطا علميا للأستاذ، مع مراعاة الواقع البيداغوجي المتحكم في أدبيات فــِعل التعليم. وهذا الشرط يتعلق بالمُعلــِّم وقابليته الذهنية على التعليم، وقابليته المادية أيضا «لا تعليم صحيح للإعلامية في غياب توفر حاسوب مثلا».
الاستجابة: قابلية المتلقي للتعلم، وتشمل القدرات الذهنية الفطرية، وأيضا القدرة النفسية الحينية للمتلقي على التعلم، ففي فترات زمنية يكون الطالب أقدر على الاستيعاب من أخرى، وذلك بحكم دخول بعض الطفيليات عليه في خـِضم العملية التعليمية ( صــوت ثاقبة الأرض المدوي بجوار قاعة الدرس، التفكير في شيء آخر يشغــَل عقله كمباراة كرة أو علاقة عاطفية...) هذه الطفيليات تنقص من قدرة المتلقي على الاستجابة.
وجوب التغيير: حتمية تغير في الأداء السلوكي وفي أسلوب التفكير والتمنهـج لدى متلقي العلم. فإذا لم نـَلـْحظ إرهاصات لتغيرات خلال المراحل التعليمية فهذا يشير إلى أن التعليم غير مستوف لشروطه، وبالتالي فإن فعل التعلــّم لم يتم إمـّا لمشكل في آليات الإبلاغ أو لخلل في آليات الاستجابة.
وباستكمالنا لشروط إتمام العملية التعليمية نصل إلى تحقيق ثمرة الجهود التي أفرزتها هذه العملية والمتمثلة في « المــُـتـَعـَلــِّم »، وهو الفرد الممتلـِك لمــعارف ومعلومات مــُكتسبة خلال المسار التعليمي. هذه المعارف سمــّاها بيار بورديو Pierre Bourdieu بالهــياكل المــُهيكـَـلــَةStructures Structurées . وعلى رغم من تعقد هذا المصطلح وعــُسرته، فهو في لـُبه بسيط وواضح يشير من خلاله إلى البــُنى والهياكل الفكرية والعـَقـَدية والمعلوميــّة التي لا يهيكلها الفرد ويبنيها بنفسه وإنما تـُكوَّن فيه عبر أفراد ومؤسسات أو عبر أفكار فرضها المجتمع على أنها مسلمات.
هذا الامتلاك لمجموعة المعارف لا يكفي لإطلاق اصطلاح «المــُـتـَعـَلــِّم» على الفرد، وإنما ينبغي على المتعلم أن يكونا إنسانا اجتماعيا قادرا على التفكير والعمل والإنتاج، ومساهما في بناء مجتمعه وتقدمه. أي أن لا يكتفي بالتــّلقـّي العقيم للمعارف، وإنما يتعدّى ذلك إلى بلورتها عبر الفكر من جهة والعمل والإنتاج من جهة أخرى، فيتوضح بالتالي أن العمل والإنتاج هما هدف أساسي وركن هام من أركان التأسيس التعليمي السليم.
ولقد سمـّى بورديو التجسيم الشخصي للمعلومات والمكتسبات المعرفية، وتطويعـها للإنتاج الذاتي بـــمصطلح لا يقل غرابة وتعـقيدا عن الأول وهو الهــياكل المـُهــيكــِـلة Structures Structurantes وهـي ببساطة تمثل مجموعة البــُنى الفكرية والعـَقـَدية والمعلوماتية وغيرها من البنـى المنتمية إلى الحقل المعرفي والتي قوم الفرد بهيكلتها وإنتاجها بنفسه.
فمــثلا - حسب نظرية بورديو – تمثـّل اللغة وعلم العروض والأوزان والقوافي هياكل مهــَيــكــَلة من خلالها يستطيع الشاعر تأليف واستنباط قصيدة أو نص يمثل الهياكل المــُهيكــِلة، وبالتالي تحويلها من مـعطيات مكتسبة إلى إنتاج ذاتي مـُـبتدع. ويتم ذلك حسب بورديو عن طريق مفهوم الهابيتوس HABITUS. [11] ويمثل الهابيتوس في البداية منتوج تـَدرُّب خاص يصبح في اللاوعي ويؤول إلى قابلية تبدو طبيعية وتتطور بحرية في الوسط الاجتماعي.
وبالتالي فلا يجب إنكار أن التعليم هو في مفهومه غير منعتق عن التشغيل أو الإنـتـاج، إذ نـجـد أن الـتعـليـم بـلا عـمل أو تجسيم هو تعليم عقيم ولا فـائـدة منه.
ويــُستخدم مفهوم التعليم للإشارة إلى كافة المؤسسات التي تضم مجموعة النشاطات والأجهزة المساهمة في العملية التعليمية. [12] أي أنه يشير إلى الهياكل الحكومية أو الغير حكومية التي تقوم بهذه العملية عبر نظام تعليمي كامل.
ونظام التعليم هو مؤسسة اجتماعية يستمد أهدافه وخصوصياته من الأوضاع الخاصة للمجتمع الذي يوجد فيه. ففي المجتمع الحركي لا يمكن أن يكون نظام التعليم إلا حركيا، وفي المجتمع الجامد لا يكون إلا متحجرا. والتعليم يندرج في جوهر الصيرورة الاجتماعية ويساهم في إنجازها، وفي المجتمع الدينامــيّ يتغير النظام التعليمي ولكن ليس بصورة عشوائية لأنه ككل مؤسسة له بنية وتنظم سيره تراتيب تضمن له نصيبا من الثبات والاستمرارية.[13]
وحتــّى يكون التعليم بنــّاء وعلى درجة من التأثير والفاعلية التي تخوّل له المساهمة في صناعة الموارد البشرية القادرة على تفعيل التنمية لا بدّ أن يكون مرتبطا بتقنيات عصرية تكفل له القيام بدوره الإيجابي حيث لا نستطيع إيكال العملية التعليمية إلى مناهج مزاجية قديمة تكون فيها لطباع المعلــّم وطرائقه التأثير الأكبر على الأداء التعليمي.
وتقنيات التعليم هي كـُلٌّ مترابط يكون دائما في تفاعل مع أجزائه، وهي تشتمل على الأجهزة والبرامج والوسائل والعنصر البشري والإدارة والتخطيط. وإن توافر هذه الأركان وتكاملها يــُساهم في نتائج إيجابية مباشرة عن العملية التعليمية تؤدي إلى إيجاد أفضل النتائج بأسرع السبل، فتكامل تقنيات التعليم وتفاعلها الإيجابي بعضها ببعض يــُسهم في: [14]
الإثارة والتحفيز.
السرعة في تقديم المعلومات.
تنظيم الوقت.
الإسهام في التوجيه الفكري أو الجسدي للمتعلم حسب مواهبه الخاصة.
وبالتالي فالتعليم لا يجب أن يكون اعتباطيا، وإنما هو مرتبط بلزوم استخدام وسائل وتقنيات حتى تكون المنظومة التعليمية أكثر فاعلية وإنتاجية في إيجاد الخرّيج الفاعل في عملية التنمية. وتوفير هذه الوسائل والتقنيات يجب أن لا يتسم بدوره بالاعتباطية، وإنما يجب السعي إلى توفير أفضل الوســائل والتقنيات اللازمة لــضمان عملية تعليمية ناجحة ومعطاء، وذلك بأرخص التكاليف. فيجب الوقوف على عدم الإنفاق على توفير وسائل وبنى يــُظن أنها مفيدة في السيرورة التعليمية، في حين أنها قد تــكون لا وظيفيـّة وتقوم بأدوار هـامشية ولا فائدة منها في إصــلاح التعليم والنهوض به.
نظريات التعليم.
الكتابات التــي تتناول مــسألــة التــعليم فــي علاقـاته بالبــُنــى والأنــسجــة الاجتمــاعية تندرج فــي إطار عــلم اجتماع التــّربية Sociologie de l’éducation، والذي يمثل الدراسة العــلمية لــظروف الحياة التربوية والتعليمية. ويمكننا أن نعتبر أن علم اجتماع التربية هو دراسة الترابطات الوظيفية القائمة بين أنواع وأشكال المعرفة والعــِلم بحد ذاتها وبين الأطر الاجتماعية، وهو ما يكشف عن أن عــَصـَب التعليم يكمن في وظائفه.
ويعرّف يونغ علم الاجتماع التربوي بأنه المبادئ التي تقف خلف كيفية توزيع المعرفة التربوية وتنظيمها وكيفية انتقائها وإعطائها قيمتها، ومعرفة ثقافة الحس العام وكيف يمكن ربطها بالمعرفة المــُقدّمة في المدارس واعتبارها المدخل الحقيقي للتعليم. [15] وبناء على ذلك يهتم علم اجتماع التربية المعرفي بالبحث في الثقافات الفرعية داخل المجتمع، وعملية التنشئة الاجتماعية، وأثر ذلك على قيم الطالب واتجاهاته ومستوى تحصيله الأكاديمي واللغوي،كما يهتم أيضا بالبحث في طبيعة العلاقة المتبادلة بين التعليم والتغير الاجتماعي، وتحليل المدرسة أو الجامعة كمؤسسة تربوية، معتمدا في ذلك على استخدام الأسلوب السوسيولوجي الدقيق Microsociological approach. [16]
وفـي الخــمسينات من هــذا القرن سيطر على هــذا العلــم المنــحى الوظـيفي Fonctionnalisme والذي يشير إلــى العلاقة بين التعليم والمكانة الاجتماعية للفرد، وقــد ساعد عــلى ظهور هـذا العلم التطور الصناعي وتنوع مؤسسات المجتمع وما رافقه من نشوء علاقات جديدة بين التعليم وهذه المــؤسسات. ومع الأزمة التي ظهرت في فترة الستينات تراجع الاتجــاه الوظيفي تاركا المجال لظهور توجــهات جــديدة حكمــت عليها بالأســاس مــقولة إعــادة الإنــتاج La reproduction لبــورديو. [17] ويـَعــُدُّ علم اجتماع التربية المعاصر مدرستــَين أساسيــَّتـَيـْن يتمثلان في مدرسة بورديو ومدرسة بودون.
أ- الإتجــاه الوظيــفي:
يرى الوظيفيون أن البناء الاجتماعي يتكون من مجموعة من الأنساق التي تتمثل في جــُملة من الأجهزة والنظم التي تتفاعل فيما بينها في إطار البناء الكلي الشامل بــُغية تأدية وظيفتها الاجتماعية. وإن أي خلل وظيفي فيما يتعلق بالأنساق يؤدي إلى خلل في البنية ككــُلّ. حيث تحلــّل الوظيفية المــجتمع ككــُلّ مكــوّن من أجــزاء مــختلفة، ولــكل جــزء من هــذه الأجــزاء بالضرورة دور ووظيفة داخــل الكــُلّ، وهــي تــرى بالتــالي أن العملية التعليمية متكونة من عدة بنيات ومكونات تعمل في انسجام وتوازن لضمان حسن اشتغالها ولتيسير أداء أدوارها، كما أن العـمـلية التعلــيمية بدورها تؤدي وظــائف مهمــّة فــي المجــتمع وفــي سيرورته.
وإن علاقة النظام التعليمي بالبناء حسب الفكر الوظيفي علاقة ذات مــُستوَيـَيــْن، يتمثل المستوى الأول في علاقة النظام التعليمي بالأنساق والفاعلين داخله من أساتذة وطلبة وهياكل تعليمية باعتبار أن لكل منهم دورا محددا. أما المستوى الثاني فيتمثل في علاقة النظام بسائر النظم الأخرى المتعلـّقة بالنسق والبناء الاجتماعي، مثل علاقة النظام التعليمي بالتشغيل أو بالمؤسسة الدينية.
ومن أهم آراء الوظـيفييـّـن أن التعــليم يــساهم فــي تحــقيق المـــساواة الاجـتـماعية، حـــيث يستطيع المنــحدرون من وسط اجــتمــاعي متــواضع أن يــرتفــعوا بمكانتهم الاجــتمـاعية عــبر صـقـل مواهبهم وإنمـــاء معــارفهم. فالتــفاضل الاجــتماعي يمكــن تجــاوزه من خلال التعــليم الذي يــُمثــّل التكافؤ الاجــتماعي أحد أدواره.
وتؤدي المــَلكات المعرفية والمهــارات العــلمية التــي يـُنميها المسار التعليمي دورا آخــر مُهـمــّا وهــو التحــسين فــي الإنتاج المــعرفي واليدوي للفرد، فيــرفع من الــكفاءة المــهنية التي من وظيفتهــا أن ترفع بدورها من جودة الإنتاج ومن حجمــه أيــضا.
ومن خــلال التــعليم بإمكاننا تصنيــف الأفــراد في المجــتمع حسب قــدراتهم وإمـكـانياتهم، وبالتالي يقوم نــظام التعليم عن طريق المدرسة علـــى تحــقيق تـكـافـُؤ الــفرص أمــام جمــيع أفــراد المـجتمع. [18]
ب- التــعليم لـَدى بــورديـو:
إن سوسيولوجيا النظام التعليــمي والمــيدان الثـقافــي تــبدو لدى بورديــو ذات أهــمية عــظيمة، حـيث أنها تساهم فـي إدراك الــذات العــارفة وذلك حين تــمهـِـّد بطــريقة مــباشــرة وأكثر ممــّا تفعله التحليلات النقدية، لتحديد مقولات الفكر اللامـُفـَكـــَّر فيها، تلك المقولات التي تحدد مـا يمكن أن يـُفـَكـَّـر فيه وتحدد ميدانه. والدّليل علــى ذلك المـُفترضاتprésupposés والرقابات والثغرات التي تعمل كل تربية نــاجعة علــى تقبلها وتجاهلها مــُحدِثة بذلك الدائرة السحرية للقناعة المـُجرّدة التي تحصر فيها مدارس النخبة أعضــاءها. [19]
يـرى بــورديو P.Bourdieu أن النــظـام التعلــيمي هو نــظام مــُقيــّد في حــقيقة الأمر رغــم تبـجّحه وادّعـائه للاستقلالية، فــالتعليم مــُوال للنــخبة الثقافية التي تسيطر عــلى العمــليات التعليمية وتأخذ في طريقها أبناء الطبقات الدونية الذين لا يستطيعون مــُجاراة النــسق اللــُغوي المــُكتسب من أبناء النخبة باعتـبارهم قادمين من وسط مماثل ثقافيا ولغويا للوسط المدرسي.
ويــرى بورديو أنه يجب بناء نــظام علاقات بين نظام التعليم وما دونه من النـــُّظم الأخــرى من دون أن نتخــلــّى عن توضيح هــذه العــلاقات بالإحالة إلى بــُنية علاقات الطـَّبقات، وذلك لملاحظة أن اســتقلالية نظام التــعليم النسبية هــي دائما ما تــُقابل تـبعية غــير مـَـخـْفـِيــَّة تماما بنوعــية التــطبيقات والايدولوجيا التي تتيحها هذه التبعية. [20]
حـسَب بورديو كل فرد يـُدمـِج لاشـُعوريا مجموعة من التراتيب dispositions المـُتضمـّنة لعادات وتصرفات ولغة وأحــكام وعــلاقة بــالعالـم والمتعلقة بوضوح بــطبقته الاجـتماعية. مجــموعة التراتيب هذه تــُكـَوِّن مـا يـُلـَقــَّب بالهابـيــتوس Habitus، هــذا الهابيتوس المخزون في اللاوعـي يحجب عن أعيننا الحالات الاجتماعية للإنتاج conditions sociales de production لــتصرفاتنا وأحكامنا. [21] وبــالتالي فإن المــُنحدرين من الطــبقات البورجــوازية مؤهـَّلون بصــفة آلــيّة للنــجاح الجــامعــي فــضلا عن تحــيّز النــُّظم التعليمية لهم.
ولابد من تمكين نظام التعليم من الحرية المطلقة التي يدّعيها أو عــكس ذلــك أن لا نرى ذلــك إلاّ انعكـاسا لحالة من حالات النظام الاقتصادي أو تعبيرا مباشرا لــنظام القيم الاجتمــاعية الكــلية، كــل ذلك يــجعلنا نمتنع عــن معرفة أن اســتقلاليته النــسبية تــمكنه من الاســـتجابة للــطلبات الخـــارجية تحت مظهر من الاستقلال والحــِياد، أي أن نخــفي الوظــائف الاجــتماعية التــي يقوم بــها وبالتالـي فهو يضطلع بها بأكــثر نــجاعة. [22]
هــذه التــبعية تـفرض تعـسّـُفا ثــقافيا arbitraire culturel عــلى الأفــراد القادمين من شـرائح اجــتمـاعية متواضعة، في حين أنها تــخدم بكــُلّ الســُّبـُل أبــناء الأوسـاط النخــبوية والممتلكين أساسا لرأسمال ثــقافي يمكــّنهم من المــواصلة إلى آخــر الســّلــّم التعلــيمي.
ومن هنا نتحول إلى الحديث عن لا تكافؤ الفرص L’inégalité des chances، وبــالتالي يتحوّل النظــام التعليمي إلــى خــادم لـــمصلحة فــريق واحد دون الآخــر ونعني به الطــبقة البرجوازية.
ولا وجود لتكافؤ للفرص ليس لأن المـَلَكات والمواهب غير موزعة بشكل متساو، ولكن لأن المؤسسات التعليمية تــُحابي المظاهر والاستعدادات والهــابيتوس الخاصة بالطبقات المـُديرة. فالمقالات والخــطابات وطــُرق العمل والحـُكم هي موجهــة لانتقاء أبناء الطبقات الموسرة وإقصــاء الآخــرين. وبـالتالي فالنظام التعليمي لا يفرز أفرادا أحرارا ومســتقلين بما أن النقد ينبع من المحيط التعليمي المحكوم بنظــام الانتقــاء. [23]
ومــن خلال هذا المــُنطلق يصل بــورديو إلــى بــناء نــظريته الــشهيرة والمـُـتمثلة فــي « إعـادة الإنتاج » La reproduction.
وتـــذهب هــذه النظــرية إلــى أن النظام التعليمي إنـّما هو في حــقيقة الأمــر يــسعى إلــى إعــادة إنــتاج نــفس التوزيــع الطــبقي، عبر اصــطلاح الإزاحــة نــحو الأعــلى Translation vers le haut الذي يبرز أنه بــالرغم من تــدفق جــميع الطــبقات علـى التعليم العالي فإن التوزيع الطــبقي لا يتغير بحــُكم أن الفــرص المــُتاحة إلى الطــبقات العليـا هي أوفر بكــثير مـِمـَّا ســواها.
يقول بورديو:” لا يمكننا اعتبار المدة اللازمة لأية هــيئة تعليمية لتعاود بث ما اكتسبته متبعة المنهج التربوي الأقرب إلى ذاك الذي أنتجها بمثابة اثر لتخلف سببي ناتج عن المدة البنيوية اللازمة لإعادة الإنتاج التربوي، ذلك أن العاملين في المؤسسة التعليمية يميلون وهم يعيدون، في سياق ممارستهم التربوية، إنتاج نمــط التـأهيل الذي أنــتجهم، إلـى تأمين إعادة إنتاج قيمتهم الذاتية من خلال تأمين إعادة إنتـاج الســوق التي يجـدون فيها قيمتهم هذه، خــاصة وأن هذه القيمة الاقتصادية والرمزية في آن تبقى مرتبطة ارتبــاطا شبه كــامل بالتقييم المــدرسي. “[24]
وبـتبسيط أكــثر فمــقولة إعــادة الإنتــاج تـُرجــِّح أن النـظام التعليمي يـُتـيح أن ابـن الأســتاذ يكون غالبا أسـتاذا أو مــُشابها لذاك وينــطبق نفــس الأمــر علــى ابن التاجــر وعلــى ابن المــُزارع وهــكذا دَوالــَيــْك.
فــكانت نــظرية بيار بورديو مــُســاهمة فــي الكــشف عن دور المؤسسة التعليــمية في اللامــُساواة الاجتماعية والاقـتصادية، باعتبار أنّ الأصول الاجــتماعية تــُقــلـِّل من إمــكانية وصــول الأفراد إلى الجامعة، كما أن انحياز الجــامعة لأصــحاب الحــظوة الاجــتماعية وطردها للمحــرومين اجــتماعــيا وإقصاءهم موجـِـد لحــقيقة عــدم توفيــر فــرص متكــافـئة للمتعلمين من مختلف الأوســاط. وبالتالــي فإن بــورديو يــوجه تهمــة اللاحيادية للنــُّظم التعليمية.
ج- فـــردانيــّة بــودونBoudon:
يرى ريمــون بودون أن هــدف الانتقــائية المدرسية ليس إعــادة الإنــتاج لبــنى المجتمع فــحـَســْب كما يعتقد بورديو، بما أنه هــناك مؤسسات أخــرى من شأنها أن تــلعب نفــس الدور، وإن المؤسسات التعــليمية لأعــْجـَز من أن يكون لها كل تلك القــُـدرة والقوة على فــرض قوانينها على الأفــراد. وبــالتالي فإنه لا بد من تجــاوز سلبية الأفــراد وتصرفاتهم الآلية اللاواعية ومن ثـَـمّ التأكيد على إرادة الفــرد وعــقلانيته، ويبرز هنــا مــفهوم « اتـّخاذ القرار» عند الأفراد الراغبين في مواصـَــلة تعــليمهم حـَسـَب الوضعيات الاجتماعية والثقافية المختلفة. [25]
ويتمــسّك ريمون بودون بـدور الفــاعل الاجتماعي L’acteur social فــي تحــقيق المـساواة المدرسية والاجــتماعية وفــي فرض لــُـزوم التغـيـّر في أي مجــال اجتماعي. وإن الظــاهرة الاجــتماعية فــي أسـاسها إنما تقوم على أساس عـدة أفعال فردية هي الــّتي تتجــمّع وتتركـّب لتمــثــّل أي نوع من الظاهرات الاجتماعية.
وإن ارتــفاع نسبة التمدرس والتقليل من انعدام المساواة في التعليم لا يؤديان إلى تغيير بنية التحرك بالنظــر إلــى القــيم الواقعية حتـّى لو افترضنا تغييرات عبر الزمان في البنية الاجتماعية، شريطة أن تكون هــذه التغــيـيرات بطــيئة بما فيه الكفاية. [26] فالتحـرك الاجــتماعي لا يتأثــّر بشـكـل مباشر بـمســألة التفــاوت التعلــيمي وإنما هناك مـُحددات أخــرى هي المتحكمة في الحــِراك الاجتماعي.
ومع عدم إنكار أن الأصول الاجتماعية العالية تجعل من الحصول على وضع اجتماعي مرتفع شيئا أكثر يسرا، إلا أنّ الطبقات العليا معرّضة بشكل كبير إلى الانحدارية. وبشكل أكثر عمومية، وبمعزل عن تأثير الأصول على المستوى المـدرسي وتأثير المستوى المدرسي على الأوضـاع، فإن الفــُــروقات في الوضع بين أشخــاص ذوي أصل اجتماعي واحد تكون مـُـهمة جــدا. ومن الطبيعي أن بــَــرهنة مشابهة يمكن سلوكها بخصوص متغيرات أخرى تابعة، غير الوضع، مثل الدخل.[27]
فالاختلاف في الجودة الإرثـِيـّة الثقافية تـَبـَعا للطبقات الاجتماعية لا تـُفسر – إلاّ في قياسات جــد محدودة – عدم تكافؤ الفرص التعليمية. [28] والحــديث عن تفاوت في الفرص المــدرسية إنــّما يحيل إلــى خلل في أساس الفعل الاجتماعي للأفــراد، وبالإمــكان الارتقاء والتصاعد الاجتماعي، خــاصة إذا علمنا أن السلطة العامة لا يمكنها إلا أن تــهتم بتقليص التفاوت في الفرص المدرسية بسبب طبيعة المجتمـعات الحديثة.
خاتمة
يمثل التعليم بالنسبة للمجتمعات تحدّيا ذا أهمية خــاصة، بسبب طبيعة المرحلة التي أكسبها مفهوم العولمة صبغة تنافسية أو تناهشية على وجه أدق، فلا مجال لاتخاذ مقعد في المنظومة العالمية الجديدة بمجتمع تسوده الأمية، ولقد وصل حدّ دور التعليم في المجتمع الحديث إلى دعوى بعضهم بتغيير المعايير المستخدمة في الخطاب الاقتصادي، واستبدال مفاهيم كالدخل القـومي الخاص أو الدخل القومي العام بالاعتماد على رصيد يرونه أكثر أهمية قد أطلق عليه بعضهم الرصيد القــــومي المعرفــي National Information Reserve (N.I.R) ، والذي يؤدي إلى ضرورة توافر أعداد متزايدة من العلماء. [29] فتناول الناحية التعليمية هو التناول الأكثر أهمية في الإطار الزمني الراهن.
والضروري بالنسبة للمجتمعات العربية الطــامحة للارتفاع برصيدها الثقافي والمعرفي أن تأخذ بعين الاعتبار التحليلات الاجتماعية للتعليم في محاولاتها لتطوير نـُظـُمها التعليمية، وذلك بدراسة مختلف بنيات المؤسسة التعليمية وتفــاعلاتها بين بعضها، وحدود التوازن داخل المنظومة التعليمية ومستويات القــصور ضمنها.
وقد يساعد هـذا التناول الاجتماعي على معالجة دقيقة لمواطن الاختلال داخل المؤسسات التعليمية والتي اهتمت الأعمال السوسيولوجية بتمحيصها وتفكيك أسبابها، مثل عدم تكافؤ الفرص أو عدم بلورة المواهب الفطرية للتلميذ في المراحل التعليمية، أو الانتقائية والمحاباة داخل المؤسسة التعليمية أو غيرها من الظواهر السلبية المؤثرة في المردودية التعليمية بشكل عام.
وإن الانــطلاق من الفكر الاجتماعي في إيجاد الحلول لشتى العناصر السلبية داخل المنظومة التعليمية يمثل نقطة منهجية إيجابية لاختزال جهود الوزارات والحكومات التي تتوالى ندواتها الإصــلاحية وتتضاعف مصاريفها في هذا المجــال دون جدوى. وقــد يكون منهجـة الفكر الإصلاحي وترشيده سبيلا أكثر نجاعة لتحسين الأداء التعليمي العربي دون الحاجة إلــى مزيد الإنفاق على مشاريع يحكم غالبا على معظمها بالفشل.
الطيب الطويلي
(باحث في علم الاجتماع)
[1] ) البيان السنوي عن التربية لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو)، 2008.
[2] ) عن تصريحات ليسري الجمل، وزير التربية والتعليم المصري في الصـحافة المصرية.
[3] ) تقرير البنك الدولي حول أوضاع التعليم في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لسنة 2008.
[4] ) نوال محمد عمر. مناهج البحث الاجتماعية والإعلامية، المكتبة الأنجلو مصرية، القاهرة 1986، ص30.
[5] ) نوال محمد عمر: المرجع السابق، ص 30، 31.
[6] ) حسن الساعاتي: تصميم البحوث الاجتــماعية، نسق منهجي جديد، دار النهضة العربية، القاهرة 1982، ص124.
[7] ) Collection Microsoft : ENCARTA 2005, Microsoft Corporation
[8] ) أحمد زكي بدوي: معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، مكتبة لبنان، بيروت، الطبعة الثانية 1986، ص127.
[9] ) فاخر عاقل: التعليم ونظرياته، دار العلم للملايين، بيروت، سبتمبر 1977، ص14.
[10] ) محمد عاطف غيث: قاموس علم الاجتماع، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، ص 269.
[11] ) Jean-François Dortier : Les idées pures n’existent pas, IN : Sciences Humaines, Numéro spécial « l’œuvre de Pierre Bourdieu », 2002, P5.[12] ) ENCARTA 2005, Op.Cit.
[13] ) بلقاسم بن سالم:التعليم العصري ونظام التوجيه المدرسي في تونس، دراسة تاريخية مؤسسية اجتماعية، سلسلة علوم التربية 2، مركز الدراسات والأبحاث الاقتصادية والاجتماعية، تونس 1988، ص7.
[14] ) عبد الرحمان تيشوري: تقنيات التعليم، مفهوم، مهام، وظائف، مذاهب، الحوار المتمدن، العدد 1336، 3 سبتمبر 2005.
[15] ) Young. M : Knowledge and Control, London, Collier Macmillan, 1971, P 31.
[16] )Bulle Nathalie : Sociologie de l’éducation, In Dictionnaire de de la pensée sociologique, R.Boudon, M. Cherkaoui, B.Valade (dir), PUF, Paris 2005, P213-217. [17] ) حمّود محمد شرف الدين: ديمقراطية التعليم، واقعا وممارسة: سوسيولوجية الفرص الدراسية في المجتمع اليمني، شهادة دكتوراه بإشراف فرج السطمبولي، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، تونس 1997- 1998، ص46.
[18] ) شبل بدران وحــسن البيلاوي: علم اجــتماع التربية المعــاصر، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية 1997، ص20.
[19] ) Pierre Bourdieu : Leçon sur la leçon, Les éditions de Minuit, Lonrai, Mars 1998, P10.
[20]) Pierre Bourdieu& J.C Passeron : La reproduction, éléments pour une théorie d’enseignement (1ère édition 1970), éditions de Minuit, Juillet 1983, P234.[21] ) Vincent Troger : Bourdieu et l’école : La démocratisation désenchantée, IN : Sciences Humaines, Numéro spécial « l’œuvre de Pierre Bourdieu », 2002, P19.
[22]) Pierre Bourdieu& J.C Passeron : Op. Cit., P209.[23] ) François Dubet : Le sociologue de l’éducation, IN : Magazine littéraire, N° 369, Octobre 1998, P 46.[24] ) بيير بورديو: العنف الرمزي، بحث في أصول علم الاجتماع التربوي، ترجمة نظير جــاهل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- المغرب 1994، ص83.
[25] ) حمــّود محمد شرف الدين: مــرجع سابق، ص69.
[26] ) Raymond Boudon : L’inégalité des chances, la mobilité sociale dans les sociétés industrielles, Collection Armand Colin, France, 4ème trimestre 1973, P 181.[27] ) ريمون بودون وفريديريك بوريكو: المعجم النقدي لعلم الاجــتماع، ترجمة د. سليم حدّاد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1986، ص178.
[28] ) Raymond Boudon : Op. Cit., P 213.
[29] ) لمياء محمد أحمد السيد: العولمة ورسالة الجامعة، رؤية مستقبلية، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، الطبعة الأولى2002، ص61.
الكاتب/ أنفاس
أنفاسيعتبر التعليم المواجهة الرئيسية بالنسبة إلى شعوب العالم الثالث من أجــل التقدم والرّقي، حيث يعتبر حجر الزاويــة في بنــاء أسس الازدهار من صناعة واقتصاد وفــلاحة، فلا سبيل للنهوض بأي من القـطاعات الحيوية إلا بامتلاك حقيقي لأساليب تطويرها، ويكون هذا الامتلاك حتميا عبر الأخذ بناصية العلـوم المتعلقة بالمـَيدان المرغــوب في تطويره، من أجل حـُسن التعامل مع بنياته وآلياته وتحسين أدائهـا في أقصر مدة وبأقل تكلفة.
ويعتبر ضعف أداء التعــليم في الوطن العربي سببا أساسيا من أسباب وضعه السلبي، حــيث تــُعَدّ الأمة العربية من أكثر الأمم أمــية، بـ68 مليون أمــي يمثلون 40% من إجــمالي السكان في الوطن العربي.[1] أما في مصـر التــي يـُفترض أن تكون حاملة للواء الريادة عربيا عــلى المستوى الإعلامي والثقافي والاقتصادي بــحكم موقعها التاريخي والجغرافي كــواجهة للصراعات الإستراتيجية للمنطقة فتبلغ نسبة الأمية بها 27.4% في جويلية 2008.[2]
وتمثــّل هــذه النسبة العالية من الأمية شكلا من أشكال الفشل التعليمي العربي علــى مستوى التخطيط والتنظير، خاصة إذا علمنا أن الدول العربية حريصـة ـ ومنذ نصف قرن ـ على عقد المؤتمرات وإقامة الندوات لمحاولة تحسن الواقع التعليمي ولكن دون جــدوى، حيث لــم يشهد هــذا الواقع أي تغيير إيجابي مثل الذي شهدته دول ناشئة في آسيا وأمريكا اللاتينية. [3]
ولا يرجع هــذا الفــشل إلــى تــقصير مادي بقدر مــا يعود إلى تقصير في التخطيط، باعتبار أن التعامل مع التـعليم يجب أن يكون قائما على أسس علمية منذ البداية من طــرف الدول والحكومات، بحيث يستطيع المخطـِّطون الإلمام بمختلف البنيات والأنساق التي تكوّن المنظومة التعليمية، وتحديد الحاجيات والمستلزمات التي تتطلبها هذه البنيات من أجل تـطوير سريع وممنهج.
وحتى لا تذهب مجهودات المخططين لإنجاح العملية التعليمية سدى، ولا تتوالى المؤتمرات والندوات لــتطوير التعليم بنتائج سلبية وعكسية في معظم الأحيان، من الضروري أن تبدأ عملية الإصــلاح بتحديد دقيق للأهــداف التعليمية المنظورة، وهـذا التحديد يكــون عبر بناء إطار نظري متين يوضــح مفهوم التعليم وطرائقه، وتــُحصر فيه أهم التجارب النظرية، والتي أُريد بها تقديم تعريف مفاهيمي للتعليم، وتجارب تطبيقية سوسيولوجية وسايكوسوسيولوجية لبلورة العملية التعليمية وأساليب دفعها وتحسين مردوديتها.
فعملية النهوض بالقطــاع التعليمي والتي تعتبر البذرة الأساسية للتنمية البشرية يجب أن لا تنطلق بإلقاء القرارات القيادية المتسرعة والتي تعود في مجملها إلــى تقليد نـَقلي لتجارب غربية نجحت في مجتمعات مغايرة ويـُأمل لها أن تنجح في مجتمعاتنا، وغالبا ما يكون هذا التقليد سقيما ومنقوصا ومتسما بجهالة لأسباب التطبيق ومحدداته. وإنما يجب أن يكون التطبيق قائما على تحديدات مــفاهيمية وتفسيرات نظرية لـمختلف التطبيقات والتجارب العالمية على المستوى التعليمي، ومحاولة فهم أسباب نجاحها أو فشلــها ومدى تطابق تلك النظريات والتجارب ومواءمتها للطبيعة الاجتماعية العربية.
أهمية التحديد المفاهيمي.
يمثّل تحديد المفاهيم بالنسبة إلى الباحث مــَصــْلا يحمي سيرورة البحث من التداخل والتضارب بين المصطلحــات ومـــعانيها واستدلالاتها، خاصة إذا علمنا أن الجهاز الاصطلاحي العربي ليـس مــحل اتفاق تام أو إجماع من طرف العلماء. وإن عــدم تحديد الجهــاز المفاهيمي للموضوع المدروس قد يؤدي إلى خـَلـْـط في إدراك الأبعاد الحقيقية للمفاهيم المـُتـَناوَلة بالدراسة، وبالتالي إلى إساءة في التناول ونـَقص في الإدراك المعرفي عند القراءة العلمية لدى الباحث.
والمفهوم في معناه هو ” نوع من التجريد الذي يمثل شيئا ما، أو نوع من الامتلاك لظـاهرة معينة، فكل نظام علمي يــقوم بوضع قاعدته من المفاهيم التي ينفرد بها وهي بالنسبة إلى العلماء تمثل لغة للتخاطب.“[4]
ومرحلة تحديد المفاهيم تمثـّـل بالنسبة للباحث مرحلة بنائية يـقوم من خلالها بإيضاح أدواته المعرفية وقــَوْلبة المسلك الإمبريقي الصحيح الذي سينتهجه بحثه عبر القولبة النظرية للمصطلحات العلمية التي تمثل مفاتيح البحث. فالمفاهيم تمثل أساسا للاتصال الفكري، وتقدّم وجهة للنظر، كما تمثل وسيلة للتصنيف والتعميم، وتخدم القوالب البنائية للنظريات وبالتالي إحداث التفسيرات والتنبؤات. [5]
ويــُعتبر تحديد الجهــاز المفاهيمي في البحث السوسيولوجي أمرا لازما، حيث لا يمكننا القيام ببحث علمي إمبريقي إذا كان فهمنا للمصطلح منقوصا أو مغلوطا بأي حال من الأحوال و« إن كثيرا من مشكلات التعامل الاجتماعي التي تخل بعلاقات البشر الاجتماعية نــاجم عن عدم فهم بعضهم بعضا الفهم الصحيح. »[6]
فالجهاز المفاهيمي للبحث هو المفتاح الذي يمتلك من خلاله الباحث أدوات السيطرة على التمشي النظري والمنهجي لبـحثه، وهو الذي يمكـّن من تلافي المتناقضات المعرفية ومن الضبط الدقيق للإطار المدلولي والذي من غيره تكون الدراسة العلمية كالبنيان القائم علــى أساس من القــش، ما إن يـُقاس على المختبر الابستيمي حتى تظهر تداعياته ومواطن الزلل فيه. ولهذا فسنحاول عــرض الجهاز المفاهيمي للتعليم، وإيضاح السياق الدلالي الذي يمثله المصطلح عبر سرد التعريفات العلمي المتعلقة بالمفهوم ومحاولة الربط والبناء بينها.
مفهوم التعليم.
في تناولنا لمفهوم « التعليم » يصادفنا ثراء وغزارة في التعريفات والتفسيرات، مع إدغام أن هذه الإفاضة تصب تقريبا في خانة واحدة. ويتمثل التعليم في معناه العــام في إبلاغ كمية من المعارف والمعلومات مع إعانة على الفهم والاستيعاب. [7]
والتعلـيم يمثـّل المـــراحل المخـتلـفة التي يمر بها المــُـتلـَقــّي ليرقى بمستواه في المعرفة في المؤسسات العلمية [8] وتتمثل هذه المراحل في تغيــُّر السلوك تغيرا تقدميا يتصف من جهة بتمثــُّـل مستمر للوضع، ويتصف من جهة أخرى بجهود متكررة يبذلها الفرد للاستجابة لهذا الوضع استجابة مثمرة. وبـذلك يكون التعليم إحرازا لطرائق ترضي الدوافع وتـــُحقق الغايات.[9]
ويـُعـَرَّف التعليم أيضا بأنه عملية تتكيف بها نماذج استجابة سابقة مع تغيرات بيئية جديدة، وينطوي على تعديل ســلوك الشخص وإعادة تنظيمه « بما في ذلك تعديل إدراكاته واتجاهاته وصورته الذاتية..»، كما ينطوي أيضا على تغييرات دائمة نسبيا تطرأ على السلوك، وتكون محصلة التكرار والممارسة. [10]
وفبما أسلفنا من سرد التعريفات، نتفطن إلى أن العملية التعليمية لا يمكن أن تتم بدون توفر ثلاثة مفاهيم أساسية لا اكتماليــّة للتعليم إلا بتوفرها وهي: الإبــلاغ، الاستجابة، ووجوب التغيير. وإن أي قــُصور في توفير إحداها يحيل إلى اختلال في السيرورة التعليمية وإلى أن نوعية التعليم المطروح رديئة وذلك أن إلزامية إتمام الشروط قد وقع تغييبها، وبالتالي فكل كيان لم يـُحرص على إتمام شروط إنشائه هو بالضرورة كيان واهٍ وغير قابل لاستكمال الإنجاز.
ولا يُعتبر من الخطإ استعمال اصطلاح « التأسيس التعليمي » في حديثنا عن المسار التعليمي، ذلك باعتبار أن التعليم هو المؤسس لتطور الثقافة من ثقافة موروثة منحصرة ومغلقة إلى ثقافـة أكثر فائدة قادرة على الإلمام بين الموروث والمــُكتسب ضمن نسق من المعــقوليات المــُدرَكـَة والتي تقدّم نماذج معرفية مرسـِّـخة لايدولوجيا الاختيار. ويمــكننا أن نــُعرّف مكونات التأسيس التعليمي في الآتي:
الإبلاغ: وهو إيصال المعلومات والمعارف من المُعــلــِّم إلــى المُعــلـــَّم، ويستوجب هذا كفاءة معرفية وانضباطا علميا للأستاذ، مع مراعاة الواقع البيداغوجي المتحكم في أدبيات فــِعل التعليم. وهذا الشرط يتعلق بالمُعلــِّم وقابليته الذهنية على التعليم، وقابليته المادية أيضا «لا تعليم صحيح للإعلامية في غياب توفر حاسوب مثلا».
الاستجابة: قابلية المتلقي للتعلم، وتشمل القدرات الذهنية الفطرية، وأيضا القدرة النفسية الحينية للمتلقي على التعلم، ففي فترات زمنية يكون الطالب أقدر على الاستيعاب من أخرى، وذلك بحكم دخول بعض الطفيليات عليه في خـِضم العملية التعليمية ( صــوت ثاقبة الأرض المدوي بجوار قاعة الدرس، التفكير في شيء آخر يشغــَل عقله كمباراة كرة أو علاقة عاطفية...) هذه الطفيليات تنقص من قدرة المتلقي على الاستجابة.
وجوب التغيير: حتمية تغير في الأداء السلوكي وفي أسلوب التفكير والتمنهـج لدى متلقي العلم. فإذا لم نـَلـْحظ إرهاصات لتغيرات خلال المراحل التعليمية فهذا يشير إلى أن التعليم غير مستوف لشروطه، وبالتالي فإن فعل التعلــّم لم يتم إمـّا لمشكل في آليات الإبلاغ أو لخلل في آليات الاستجابة.
وباستكمالنا لشروط إتمام العملية التعليمية نصل إلى تحقيق ثمرة الجهود التي أفرزتها هذه العملية والمتمثلة في « المــُـتـَعـَلــِّم »، وهو الفرد الممتلـِك لمــعارف ومعلومات مــُكتسبة خلال المسار التعليمي. هذه المعارف سمــّاها بيار بورديو Pierre Bourdieu بالهــياكل المــُهيكـَـلــَةStructures Structurées . وعلى رغم من تعقد هذا المصطلح وعــُسرته، فهو في لـُبه بسيط وواضح يشير من خلاله إلى البــُنى والهياكل الفكرية والعـَقـَدية والمعلوميــّة التي لا يهيكلها الفرد ويبنيها بنفسه وإنما تـُكوَّن فيه عبر أفراد ومؤسسات أو عبر أفكار فرضها المجتمع على أنها مسلمات.
هذا الامتلاك لمجموعة المعارف لا يكفي لإطلاق اصطلاح «المــُـتـَعـَلــِّم» على الفرد، وإنما ينبغي على المتعلم أن يكونا إنسانا اجتماعيا قادرا على التفكير والعمل والإنتاج، ومساهما في بناء مجتمعه وتقدمه. أي أن لا يكتفي بالتــّلقـّي العقيم للمعارف، وإنما يتعدّى ذلك إلى بلورتها عبر الفكر من جهة والعمل والإنتاج من جهة أخرى، فيتوضح بالتالي أن العمل والإنتاج هما هدف أساسي وركن هام من أركان التأسيس التعليمي السليم.
ولقد سمـّى بورديو التجسيم الشخصي للمعلومات والمكتسبات المعرفية، وتطويعـها للإنتاج الذاتي بـــمصطلح لا يقل غرابة وتعـقيدا عن الأول وهو الهــياكل المـُهــيكــِـلة Structures Structurantes وهـي ببساطة تمثل مجموعة البــُنى الفكرية والعـَقـَدية والمعلوماتية وغيرها من البنـى المنتمية إلى الحقل المعرفي والتي قوم الفرد بهيكلتها وإنتاجها بنفسه.
فمــثلا - حسب نظرية بورديو – تمثـّل اللغة وعلم العروض والأوزان والقوافي هياكل مهــَيــكــَلة من خلالها يستطيع الشاعر تأليف واستنباط قصيدة أو نص يمثل الهياكل المــُهيكــِلة، وبالتالي تحويلها من مـعطيات مكتسبة إلى إنتاج ذاتي مـُـبتدع. ويتم ذلك حسب بورديو عن طريق مفهوم الهابيتوس HABITUS. [11] ويمثل الهابيتوس في البداية منتوج تـَدرُّب خاص يصبح في اللاوعي ويؤول إلى قابلية تبدو طبيعية وتتطور بحرية في الوسط الاجتماعي.
وبالتالي فلا يجب إنكار أن التعليم هو في مفهومه غير منعتق عن التشغيل أو الإنـتـاج، إذ نـجـد أن الـتعـليـم بـلا عـمل أو تجسيم هو تعليم عقيم ولا فـائـدة منه.
ويــُستخدم مفهوم التعليم للإشارة إلى كافة المؤسسات التي تضم مجموعة النشاطات والأجهزة المساهمة في العملية التعليمية. [12] أي أنه يشير إلى الهياكل الحكومية أو الغير حكومية التي تقوم بهذه العملية عبر نظام تعليمي كامل.
ونظام التعليم هو مؤسسة اجتماعية يستمد أهدافه وخصوصياته من الأوضاع الخاصة للمجتمع الذي يوجد فيه. ففي المجتمع الحركي لا يمكن أن يكون نظام التعليم إلا حركيا، وفي المجتمع الجامد لا يكون إلا متحجرا. والتعليم يندرج في جوهر الصيرورة الاجتماعية ويساهم في إنجازها، وفي المجتمع الدينامــيّ يتغير النظام التعليمي ولكن ليس بصورة عشوائية لأنه ككل مؤسسة له بنية وتنظم سيره تراتيب تضمن له نصيبا من الثبات والاستمرارية.[13]
وحتــّى يكون التعليم بنــّاء وعلى درجة من التأثير والفاعلية التي تخوّل له المساهمة في صناعة الموارد البشرية القادرة على تفعيل التنمية لا بدّ أن يكون مرتبطا بتقنيات عصرية تكفل له القيام بدوره الإيجابي حيث لا نستطيع إيكال العملية التعليمية إلى مناهج مزاجية قديمة تكون فيها لطباع المعلــّم وطرائقه التأثير الأكبر على الأداء التعليمي.
وتقنيات التعليم هي كـُلٌّ مترابط يكون دائما في تفاعل مع أجزائه، وهي تشتمل على الأجهزة والبرامج والوسائل والعنصر البشري والإدارة والتخطيط. وإن توافر هذه الأركان وتكاملها يــُساهم في نتائج إيجابية مباشرة عن العملية التعليمية تؤدي إلى إيجاد أفضل النتائج بأسرع السبل، فتكامل تقنيات التعليم وتفاعلها الإيجابي بعضها ببعض يــُسهم في: [14]
الإثارة والتحفيز.
السرعة في تقديم المعلومات.
تنظيم الوقت.
الإسهام في التوجيه الفكري أو الجسدي للمتعلم حسب مواهبه الخاصة.
وبالتالي فالتعليم لا يجب أن يكون اعتباطيا، وإنما هو مرتبط بلزوم استخدام وسائل وتقنيات حتى تكون المنظومة التعليمية أكثر فاعلية وإنتاجية في إيجاد الخرّيج الفاعل في عملية التنمية. وتوفير هذه الوسائل والتقنيات يجب أن لا يتسم بدوره بالاعتباطية، وإنما يجب السعي إلى توفير أفضل الوســائل والتقنيات اللازمة لــضمان عملية تعليمية ناجحة ومعطاء، وذلك بأرخص التكاليف. فيجب الوقوف على عدم الإنفاق على توفير وسائل وبنى يــُظن أنها مفيدة في السيرورة التعليمية، في حين أنها قد تــكون لا وظيفيـّة وتقوم بأدوار هـامشية ولا فائدة منها في إصــلاح التعليم والنهوض به.
نظريات التعليم.
الكتابات التــي تتناول مــسألــة التــعليم فــي علاقـاته بالبــُنــى والأنــسجــة الاجتمــاعية تندرج فــي إطار عــلم اجتماع التــّربية Sociologie de l’éducation، والذي يمثل الدراسة العــلمية لــظروف الحياة التربوية والتعليمية. ويمكننا أن نعتبر أن علم اجتماع التربية هو دراسة الترابطات الوظيفية القائمة بين أنواع وأشكال المعرفة والعــِلم بحد ذاتها وبين الأطر الاجتماعية، وهو ما يكشف عن أن عــَصـَب التعليم يكمن في وظائفه.
ويعرّف يونغ علم الاجتماع التربوي بأنه المبادئ التي تقف خلف كيفية توزيع المعرفة التربوية وتنظيمها وكيفية انتقائها وإعطائها قيمتها، ومعرفة ثقافة الحس العام وكيف يمكن ربطها بالمعرفة المــُقدّمة في المدارس واعتبارها المدخل الحقيقي للتعليم. [15] وبناء على ذلك يهتم علم اجتماع التربية المعرفي بالبحث في الثقافات الفرعية داخل المجتمع، وعملية التنشئة الاجتماعية، وأثر ذلك على قيم الطالب واتجاهاته ومستوى تحصيله الأكاديمي واللغوي،كما يهتم أيضا بالبحث في طبيعة العلاقة المتبادلة بين التعليم والتغير الاجتماعي، وتحليل المدرسة أو الجامعة كمؤسسة تربوية، معتمدا في ذلك على استخدام الأسلوب السوسيولوجي الدقيق Microsociological approach. [16]
وفـي الخــمسينات من هــذا القرن سيطر على هــذا العلــم المنــحى الوظـيفي Fonctionnalisme والذي يشير إلــى العلاقة بين التعليم والمكانة الاجتماعية للفرد، وقــد ساعد عــلى ظهور هـذا العلم التطور الصناعي وتنوع مؤسسات المجتمع وما رافقه من نشوء علاقات جديدة بين التعليم وهذه المــؤسسات. ومع الأزمة التي ظهرت في فترة الستينات تراجع الاتجــاه الوظيفي تاركا المجال لظهور توجــهات جــديدة حكمــت عليها بالأســاس مــقولة إعــادة الإنــتاج La reproduction لبــورديو. [17] ويـَعــُدُّ علم اجتماع التربية المعاصر مدرستــَين أساسيــَّتـَيـْن يتمثلان في مدرسة بورديو ومدرسة بودون.
أ- الإتجــاه الوظيــفي:
يرى الوظيفيون أن البناء الاجتماعي يتكون من مجموعة من الأنساق التي تتمثل في جــُملة من الأجهزة والنظم التي تتفاعل فيما بينها في إطار البناء الكلي الشامل بــُغية تأدية وظيفتها الاجتماعية. وإن أي خلل وظيفي فيما يتعلق بالأنساق يؤدي إلى خلل في البنية ككــُلّ. حيث تحلــّل الوظيفية المــجتمع ككــُلّ مكــوّن من أجــزاء مــختلفة، ولــكل جــزء من هــذه الأجــزاء بالضرورة دور ووظيفة داخــل الكــُلّ، وهــي تــرى بالتــالي أن العملية التعليمية متكونة من عدة بنيات ومكونات تعمل في انسجام وتوازن لضمان حسن اشتغالها ولتيسير أداء أدوارها، كما أن العـمـلية التعلــيمية بدورها تؤدي وظــائف مهمــّة فــي المجــتمع وفــي سيرورته.
وإن علاقة النظام التعليمي بالبناء حسب الفكر الوظيفي علاقة ذات مــُستوَيـَيــْن، يتمثل المستوى الأول في علاقة النظام التعليمي بالأنساق والفاعلين داخله من أساتذة وطلبة وهياكل تعليمية باعتبار أن لكل منهم دورا محددا. أما المستوى الثاني فيتمثل في علاقة النظام بسائر النظم الأخرى المتعلـّقة بالنسق والبناء الاجتماعي، مثل علاقة النظام التعليمي بالتشغيل أو بالمؤسسة الدينية.
ومن أهم آراء الوظـيفييـّـن أن التعــليم يــساهم فــي تحــقيق المـــساواة الاجـتـماعية، حـــيث يستطيع المنــحدرون من وسط اجــتمــاعي متــواضع أن يــرتفــعوا بمكانتهم الاجــتمـاعية عــبر صـقـل مواهبهم وإنمـــاء معــارفهم. فالتــفاضل الاجــتماعي يمكــن تجــاوزه من خلال التعــليم الذي يــُمثــّل التكافؤ الاجــتماعي أحد أدواره.
وتؤدي المــَلكات المعرفية والمهــارات العــلمية التــي يـُنميها المسار التعليمي دورا آخــر مُهـمــّا وهــو التحــسين فــي الإنتاج المــعرفي واليدوي للفرد، فيــرفع من الــكفاءة المــهنية التي من وظيفتهــا أن ترفع بدورها من جودة الإنتاج ومن حجمــه أيــضا.
ومن خــلال التــعليم بإمكاننا تصنيــف الأفــراد في المجــتمع حسب قــدراتهم وإمـكـانياتهم، وبالتالي يقوم نــظام التعليم عن طريق المدرسة علـــى تحــقيق تـكـافـُؤ الــفرص أمــام جمــيع أفــراد المـجتمع. [18]
ب- التــعليم لـَدى بــورديـو:
إن سوسيولوجيا النظام التعليــمي والمــيدان الثـقافــي تــبدو لدى بورديــو ذات أهــمية عــظيمة، حـيث أنها تساهم فـي إدراك الــذات العــارفة وذلك حين تــمهـِـّد بطــريقة مــباشــرة وأكثر ممــّا تفعله التحليلات النقدية، لتحديد مقولات الفكر اللامـُفـَكـــَّر فيها، تلك المقولات التي تحدد مـا يمكن أن يـُفـَكـَّـر فيه وتحدد ميدانه. والدّليل علــى ذلك المـُفترضاتprésupposés والرقابات والثغرات التي تعمل كل تربية نــاجعة علــى تقبلها وتجاهلها مــُحدِثة بذلك الدائرة السحرية للقناعة المـُجرّدة التي تحصر فيها مدارس النخبة أعضــاءها. [19]
يـرى بــورديو P.Bourdieu أن النــظـام التعلــيمي هو نــظام مــُقيــّد في حــقيقة الأمر رغــم تبـجّحه وادّعـائه للاستقلالية، فــالتعليم مــُوال للنــخبة الثقافية التي تسيطر عــلى العمــليات التعليمية وتأخذ في طريقها أبناء الطبقات الدونية الذين لا يستطيعون مــُجاراة النــسق اللــُغوي المــُكتسب من أبناء النخبة باعتـبارهم قادمين من وسط مماثل ثقافيا ولغويا للوسط المدرسي.
ويــرى بورديو أنه يجب بناء نــظام علاقات بين نظام التعليم وما دونه من النـــُّظم الأخــرى من دون أن نتخــلــّى عن توضيح هــذه العــلاقات بالإحالة إلى بــُنية علاقات الطـَّبقات، وذلك لملاحظة أن اســتقلالية نظام التــعليم النسبية هــي دائما ما تــُقابل تـبعية غــير مـَـخـْفـِيــَّة تماما بنوعــية التــطبيقات والايدولوجيا التي تتيحها هذه التبعية. [20]
حـسَب بورديو كل فرد يـُدمـِج لاشـُعوريا مجموعة من التراتيب dispositions المـُتضمـّنة لعادات وتصرفات ولغة وأحــكام وعــلاقة بــالعالـم والمتعلقة بوضوح بــطبقته الاجـتماعية. مجــموعة التراتيب هذه تــُكـَوِّن مـا يـُلـَقــَّب بالهابـيــتوس Habitus، هــذا الهابيتوس المخزون في اللاوعـي يحجب عن أعيننا الحالات الاجتماعية للإنتاج conditions sociales de production لــتصرفاتنا وأحكامنا. [21] وبــالتالي فإن المــُنحدرين من الطــبقات البورجــوازية مؤهـَّلون بصــفة آلــيّة للنــجاح الجــامعــي فــضلا عن تحــيّز النــُّظم التعليمية لهم.
ولابد من تمكين نظام التعليم من الحرية المطلقة التي يدّعيها أو عــكس ذلــك أن لا نرى ذلــك إلاّ انعكـاسا لحالة من حالات النظام الاقتصادي أو تعبيرا مباشرا لــنظام القيم الاجتمــاعية الكــلية، كــل ذلك يــجعلنا نمتنع عــن معرفة أن اســتقلاليته النــسبية تــمكنه من الاســـتجابة للــطلبات الخـــارجية تحت مظهر من الاستقلال والحــِياد، أي أن نخــفي الوظــائف الاجــتماعية التــي يقوم بــها وبالتالـي فهو يضطلع بها بأكــثر نــجاعة. [22]
هــذه التــبعية تـفرض تعـسّـُفا ثــقافيا arbitraire culturel عــلى الأفــراد القادمين من شـرائح اجــتمـاعية متواضعة، في حين أنها تــخدم بكــُلّ الســُّبـُل أبــناء الأوسـاط النخــبوية والممتلكين أساسا لرأسمال ثــقافي يمكــّنهم من المــواصلة إلى آخــر الســّلــّم التعلــيمي.
ومن هنا نتحول إلى الحديث عن لا تكافؤ الفرص L’inégalité des chances، وبــالتالي يتحوّل النظــام التعليمي إلــى خــادم لـــمصلحة فــريق واحد دون الآخــر ونعني به الطــبقة البرجوازية.
ولا وجود لتكافؤ للفرص ليس لأن المـَلَكات والمواهب غير موزعة بشكل متساو، ولكن لأن المؤسسات التعليمية تــُحابي المظاهر والاستعدادات والهــابيتوس الخاصة بالطبقات المـُديرة. فالمقالات والخــطابات وطــُرق العمل والحـُكم هي موجهــة لانتقاء أبناء الطبقات الموسرة وإقصــاء الآخــرين. وبـالتالي فالنظام التعليمي لا يفرز أفرادا أحرارا ومســتقلين بما أن النقد ينبع من المحيط التعليمي المحكوم بنظــام الانتقــاء. [23]
ومــن خلال هذا المــُنطلق يصل بــورديو إلــى بــناء نــظريته الــشهيرة والمـُـتمثلة فــي « إعـادة الإنتاج » La reproduction.
وتـــذهب هــذه النظــرية إلــى أن النظام التعليمي إنـّما هو في حــقيقة الأمــر يــسعى إلــى إعــادة إنــتاج نــفس التوزيــع الطــبقي، عبر اصــطلاح الإزاحــة نــحو الأعــلى Translation vers le haut الذي يبرز أنه بــالرغم من تــدفق جــميع الطــبقات علـى التعليم العالي فإن التوزيع الطــبقي لا يتغير بحــُكم أن الفــرص المــُتاحة إلى الطــبقات العليـا هي أوفر بكــثير مـِمـَّا ســواها.
يقول بورديو:” لا يمكننا اعتبار المدة اللازمة لأية هــيئة تعليمية لتعاود بث ما اكتسبته متبعة المنهج التربوي الأقرب إلى ذاك الذي أنتجها بمثابة اثر لتخلف سببي ناتج عن المدة البنيوية اللازمة لإعادة الإنتاج التربوي، ذلك أن العاملين في المؤسسة التعليمية يميلون وهم يعيدون، في سياق ممارستهم التربوية، إنتاج نمــط التـأهيل الذي أنــتجهم، إلـى تأمين إعادة إنتاج قيمتهم الذاتية من خلال تأمين إعادة إنتـاج الســوق التي يجـدون فيها قيمتهم هذه، خــاصة وأن هذه القيمة الاقتصادية والرمزية في آن تبقى مرتبطة ارتبــاطا شبه كــامل بالتقييم المــدرسي. “[24]
وبـتبسيط أكــثر فمــقولة إعــادة الإنتــاج تـُرجــِّح أن النـظام التعليمي يـُتـيح أن ابـن الأســتاذ يكون غالبا أسـتاذا أو مــُشابها لذاك وينــطبق نفــس الأمــر علــى ابن التاجــر وعلــى ابن المــُزارع وهــكذا دَوالــَيــْك.
فــكانت نــظرية بيار بورديو مــُســاهمة فــي الكــشف عن دور المؤسسة التعليــمية في اللامــُساواة الاجتماعية والاقـتصادية، باعتبار أنّ الأصول الاجــتماعية تــُقــلـِّل من إمــكانية وصــول الأفراد إلى الجامعة، كما أن انحياز الجــامعة لأصــحاب الحــظوة الاجــتماعية وطردها للمحــرومين اجــتماعــيا وإقصاءهم موجـِـد لحــقيقة عــدم توفيــر فــرص متكــافـئة للمتعلمين من مختلف الأوســاط. وبالتالــي فإن بــورديو يــوجه تهمــة اللاحيادية للنــُّظم التعليمية.
ج- فـــردانيــّة بــودونBoudon:
يرى ريمــون بودون أن هــدف الانتقــائية المدرسية ليس إعــادة الإنــتاج لبــنى المجتمع فــحـَســْب كما يعتقد بورديو، بما أنه هــناك مؤسسات أخــرى من شأنها أن تــلعب نفــس الدور، وإن المؤسسات التعــليمية لأعــْجـَز من أن يكون لها كل تلك القــُـدرة والقوة على فــرض قوانينها على الأفــراد. وبــالتالي فإنه لا بد من تجــاوز سلبية الأفــراد وتصرفاتهم الآلية اللاواعية ومن ثـَـمّ التأكيد على إرادة الفــرد وعــقلانيته، ويبرز هنــا مــفهوم « اتـّخاذ القرار» عند الأفراد الراغبين في مواصـَــلة تعــليمهم حـَسـَب الوضعيات الاجتماعية والثقافية المختلفة. [25]
ويتمــسّك ريمون بودون بـدور الفــاعل الاجتماعي L’acteur social فــي تحــقيق المـساواة المدرسية والاجــتماعية وفــي فرض لــُـزوم التغـيـّر في أي مجــال اجتماعي. وإن الظــاهرة الاجــتماعية فــي أسـاسها إنما تقوم على أساس عـدة أفعال فردية هي الــّتي تتجــمّع وتتركـّب لتمــثــّل أي نوع من الظاهرات الاجتماعية.
وإن ارتــفاع نسبة التمدرس والتقليل من انعدام المساواة في التعليم لا يؤديان إلى تغيير بنية التحرك بالنظــر إلــى القــيم الواقعية حتـّى لو افترضنا تغييرات عبر الزمان في البنية الاجتماعية، شريطة أن تكون هــذه التغــيـيرات بطــيئة بما فيه الكفاية. [26] فالتحـرك الاجــتماعي لا يتأثــّر بشـكـل مباشر بـمســألة التفــاوت التعلــيمي وإنما هناك مـُحددات أخــرى هي المتحكمة في الحــِراك الاجتماعي.
ومع عدم إنكار أن الأصول الاجتماعية العالية تجعل من الحصول على وضع اجتماعي مرتفع شيئا أكثر يسرا، إلا أنّ الطبقات العليا معرّضة بشكل كبير إلى الانحدارية. وبشكل أكثر عمومية، وبمعزل عن تأثير الأصول على المستوى المـدرسي وتأثير المستوى المدرسي على الأوضـاع، فإن الفــُــروقات في الوضع بين أشخــاص ذوي أصل اجتماعي واحد تكون مـُـهمة جــدا. ومن الطبيعي أن بــَــرهنة مشابهة يمكن سلوكها بخصوص متغيرات أخرى تابعة، غير الوضع، مثل الدخل.[27]
فالاختلاف في الجودة الإرثـِيـّة الثقافية تـَبـَعا للطبقات الاجتماعية لا تـُفسر – إلاّ في قياسات جــد محدودة – عدم تكافؤ الفرص التعليمية. [28] والحــديث عن تفاوت في الفرص المــدرسية إنــّما يحيل إلــى خلل في أساس الفعل الاجتماعي للأفــراد، وبالإمــكان الارتقاء والتصاعد الاجتماعي، خــاصة إذا علمنا أن السلطة العامة لا يمكنها إلا أن تــهتم بتقليص التفاوت في الفرص المدرسية بسبب طبيعة المجتمـعات الحديثة.
خاتمة
يمثل التعليم بالنسبة للمجتمعات تحدّيا ذا أهمية خــاصة، بسبب طبيعة المرحلة التي أكسبها مفهوم العولمة صبغة تنافسية أو تناهشية على وجه أدق، فلا مجال لاتخاذ مقعد في المنظومة العالمية الجديدة بمجتمع تسوده الأمية، ولقد وصل حدّ دور التعليم في المجتمع الحديث إلى دعوى بعضهم بتغيير المعايير المستخدمة في الخطاب الاقتصادي، واستبدال مفاهيم كالدخل القـومي الخاص أو الدخل القومي العام بالاعتماد على رصيد يرونه أكثر أهمية قد أطلق عليه بعضهم الرصيد القــــومي المعرفــي National Information Reserve (N.I.R) ، والذي يؤدي إلى ضرورة توافر أعداد متزايدة من العلماء. [29] فتناول الناحية التعليمية هو التناول الأكثر أهمية في الإطار الزمني الراهن.
والضروري بالنسبة للمجتمعات العربية الطــامحة للارتفاع برصيدها الثقافي والمعرفي أن تأخذ بعين الاعتبار التحليلات الاجتماعية للتعليم في محاولاتها لتطوير نـُظـُمها التعليمية، وذلك بدراسة مختلف بنيات المؤسسة التعليمية وتفــاعلاتها بين بعضها، وحدود التوازن داخل المنظومة التعليمية ومستويات القــصور ضمنها.
وقد يساعد هـذا التناول الاجتماعي على معالجة دقيقة لمواطن الاختلال داخل المؤسسات التعليمية والتي اهتمت الأعمال السوسيولوجية بتمحيصها وتفكيك أسبابها، مثل عدم تكافؤ الفرص أو عدم بلورة المواهب الفطرية للتلميذ في المراحل التعليمية، أو الانتقائية والمحاباة داخل المؤسسة التعليمية أو غيرها من الظواهر السلبية المؤثرة في المردودية التعليمية بشكل عام.
وإن الانــطلاق من الفكر الاجتماعي في إيجاد الحلول لشتى العناصر السلبية داخل المنظومة التعليمية يمثل نقطة منهجية إيجابية لاختزال جهود الوزارات والحكومات التي تتوالى ندواتها الإصــلاحية وتتضاعف مصاريفها في هذا المجــال دون جدوى. وقــد يكون منهجـة الفكر الإصلاحي وترشيده سبيلا أكثر نجاعة لتحسين الأداء التعليمي العربي دون الحاجة إلــى مزيد الإنفاق على مشاريع يحكم غالبا على معظمها بالفشل.
الطيب الطويلي
(باحث في علم الاجتماع)
[1] ) البيان السنوي عن التربية لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو)، 2008.
[2] ) عن تصريحات ليسري الجمل، وزير التربية والتعليم المصري في الصـحافة المصرية.
[3] ) تقرير البنك الدولي حول أوضاع التعليم في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لسنة 2008.
[4] ) نوال محمد عمر. مناهج البحث الاجتماعية والإعلامية، المكتبة الأنجلو مصرية، القاهرة 1986، ص30.
[5] ) نوال محمد عمر: المرجع السابق، ص 30، 31.
[6] ) حسن الساعاتي: تصميم البحوث الاجتــماعية، نسق منهجي جديد، دار النهضة العربية، القاهرة 1982، ص124.
[7] ) Collection Microsoft : ENCARTA 2005, Microsoft Corporation
[8] ) أحمد زكي بدوي: معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، مكتبة لبنان، بيروت، الطبعة الثانية 1986، ص127.
[9] ) فاخر عاقل: التعليم ونظرياته، دار العلم للملايين، بيروت، سبتمبر 1977، ص14.
[10] ) محمد عاطف غيث: قاموس علم الاجتماع، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، ص 269.
[11] ) Jean-François Dortier : Les idées pures n’existent pas, IN : Sciences Humaines, Numéro spécial « l’œuvre de Pierre Bourdieu », 2002, P5.[12] ) ENCARTA 2005, Op.Cit.
[13] ) بلقاسم بن سالم:التعليم العصري ونظام التوجيه المدرسي في تونس، دراسة تاريخية مؤسسية اجتماعية، سلسلة علوم التربية 2، مركز الدراسات والأبحاث الاقتصادية والاجتماعية، تونس 1988، ص7.
[14] ) عبد الرحمان تيشوري: تقنيات التعليم، مفهوم، مهام، وظائف، مذاهب، الحوار المتمدن، العدد 1336، 3 سبتمبر 2005.
[15] ) Young. M : Knowledge and Control, London, Collier Macmillan, 1971, P 31.
[16] )Bulle Nathalie : Sociologie de l’éducation, In Dictionnaire de de la pensée sociologique, R.Boudon, M. Cherkaoui, B.Valade (dir), PUF, Paris 2005, P213-217. [17] ) حمّود محمد شرف الدين: ديمقراطية التعليم، واقعا وممارسة: سوسيولوجية الفرص الدراسية في المجتمع اليمني، شهادة دكتوراه بإشراف فرج السطمبولي، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، تونس 1997- 1998، ص46.
[18] ) شبل بدران وحــسن البيلاوي: علم اجــتماع التربية المعــاصر، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية 1997، ص20.
[19] ) Pierre Bourdieu : Leçon sur la leçon, Les éditions de Minuit, Lonrai, Mars 1998, P10.
[20]) Pierre Bourdieu& J.C Passeron : La reproduction, éléments pour une théorie d’enseignement (1ère édition 1970), éditions de Minuit, Juillet 1983, P234.[21] ) Vincent Troger : Bourdieu et l’école : La démocratisation désenchantée, IN : Sciences Humaines, Numéro spécial « l’œuvre de Pierre Bourdieu », 2002, P19.
[22]) Pierre Bourdieu& J.C Passeron : Op. Cit., P209.[23] ) François Dubet : Le sociologue de l’éducation, IN : Magazine littéraire, N° 369, Octobre 1998, P 46.[24] ) بيير بورديو: العنف الرمزي، بحث في أصول علم الاجتماع التربوي، ترجمة نظير جــاهل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- المغرب 1994، ص83.
[25] ) حمــّود محمد شرف الدين: مــرجع سابق، ص69.
[26] ) Raymond Boudon : L’inégalité des chances, la mobilité sociale dans les sociétés industrielles, Collection Armand Colin, France, 4ème trimestre 1973, P 181.[27] ) ريمون بودون وفريديريك بوريكو: المعجم النقدي لعلم الاجــتماع، ترجمة د. سليم حدّاد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1986، ص178.
[28] ) Raymond Boudon : Op. Cit., P 213.
[29] ) لمياء محمد أحمد السيد: العولمة ورسالة الجامعة، رؤية مستقبلية، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، الطبعة الأولى2002، ص61.