ق، الأكثرية دائماً على خطأ.
« صديقتنا الميتة ( الحياة )
الحقبة الناصرساداتية »
عبد اللطيف محفوظ
مفهوم الدليل وما فوق الدليل في النظريات السيميائية
إمدادات هذا الكاتب عبد اللطيف محفوظ 18 أكتوبر 2006
تفيد التحديدات التي أعطيت للدليل، من قبل الاتجاهات السيميائية المعاصرة، أنه مفهوم ملتبس. فقد تلقى تعريفات مختلفة( ) باختلاف الحقول المعرفية التي ظهر فيها، الشيء الذي جعله ملتبسا وإشكاليا. ويشكل هذا الالتباس عائقا، يحول أحيانا دون وضوح المفهوم وثباته، ومن ثمة يحول حتى دون الفهم العادي له. ولا يقتصر هذا الالتباس على الكتابات العربية المعاصرة، التي غالبا ما تكتفي بترجمة المفاهيم، بل يتحقق أيضا في الكتابات الغربية نفسها.. وهكذا، انطلاقا من وعي هذا الوضع الإشكالي، سنحاول مقاربة مفهوم الدليل في أهم النظريات السيميائية التي أثرت في نظريات تحليل الخطاب، مع التركيز أكثر على مفهوم الدليل عند بورس نظرا لكون سيميائياته أكثر حضورا ونجاعة في تحليل مختلف الخطابات التواصلية الشفهية والمكتوبة والبصرية:
1 مفهوم الدليل عند سيميائيي الدلالة
يرتبط تصور هؤلاء – على اختلافهم – بتصور دو سوسير، الذي حدد الدليل بوصفه وحدة مؤلفة من دال ومدلول مترابطين وفق علاقة اعتباطية ( ). وبديهي أن دو سوسير، قد اقتصر في تحديده للدليل على مستوى اللغة فقط، الشيء الذي جعل تحديده متعاليا عن الكلام ومتجاوزا للمرجع. ولذلك اعتبر تحديدا مجردا. وقد كان دو سوسير واعيا بحدود تحديده، والبينة على ذلك أنه كف عن استعماله له حين تجاوز مستوى اللفظ المنعزل إلى مستوى العبارة، حيث لم يعد مع هذه الأخيرة يتكلم عن دال ومدلول، بل أصبح يتحدث عن المحور المركبي والمحور الاستبدالي( ).
إن ما يستنتج من هذا التحويل، هو صعوبة الحديث عن الدال والمدلول بمعناهما الدقيق، كلما تعلق الأمر بالعبارة. لأن الدال حين يتحول إلى مُرَكَّبٍ، فإن المدلول ينفلت من التحديد السابق، إذ لا يعود الترابط نفسيا وحسب، ولا تعود العلاقة اعتباطية بل تصبح مؤسسة على تعالق مغاير يشترط طبيعة التعالق بين كل المكونات اللسانية.. وهو الشيء الذي يقود إلى القول بأن تحديده ليس سوى إطار لتحديد اللغة بوصفها بنية من العلاقات القائمة على القيم الخلافية. وتأسيسا على هذا، فإنه حالما يكون المرء أمام ما فوق الدليل (عبارة ..نص..) يصعب عليه الكلام عن الدليل وفق ذلك التحديد، لأنه، أولا وقبل كل شيء، يكون في مستوى مغاير لمستوى معالجة دو سوسير للدليل( ). ورغم ذلك فقد حاول سيميائيو الدلالة، تنقيل هذا التحديد (الثالثاني المرتبط بمقولة الضرورة) إلى المستوى التحييني (الثانياني المرتبط بمقولة الوجود) دون مراعاة الانتقال من مستوى مقولاتي إلى آخر مخالف له جذريا. وهكذا تجدهم يتحدثون عن مختلف مظاهر التحققات الكلامية (عبارات ..مقاطع.. نصوص..) بوصفها أدلة تقبل نفس التفكيك الذي يقبله الدليل اللغوي المجرد.
ويعتبر (يالمسليف) من بين أهم من انتبه بشكل دقيق، وهو يطور التحديد السوسيري، إلى قضية العلاقة – وهي ذات صلة بالقيمة – التي زعزعت في نفس الوقت الثقة في إسقاط الترابط المحدد من قبل دو سوسير على الأدلة الكلامية، ومنحت تعريفه شكل السيرورة الثلاثية (عبارة ومحتوى وعلاقة). لكنها مع ذلك ظلت مخالفة للسيرورة الثلاثية عند بورس (التي تتألف من ممثل أولاني مرتبط بمقولة الممكن، والموضوع الثانياني المرتبط بمقولة الوجود، والمؤول الثالثاني المرتبط بمقولة الضرورة) لأنه لم يستند إلى المنطق البورسي، بل استند إلى التصورات السوسيرية التي عمل على تعديلها لكي تلائم الموضوع الجديد، الذي لم يعد الدليل المجرد اللغوي بل أصبح الدليلَ المُحَيَّنَ وجوديا، والذي من سماته عدم ترابط داله بمدلوله عموديا، إلا بفضل وجود علاقة. ولا تكون هذه العلاقة الممكنة بالضرورة قانونية، ولكنها تكون بالضرورة تأشيرية( )
وبما أن تصور يالمسليف يشكل المرجعية الأساسية لسيميائية النص، فسيتم التركيز عليه أكثر، وذلك بغية إدراك كيف تم تطويع تحديد الدليل من كونه يحدد فقط اللفظة اللغوية، إلى كونه يحدد كل نص محين:
إن اهتمامه بالعلاقة – كما سبقت الإشارة – كان نتيجة للموضوع الجديد: ما فوق الدليل، الذي لا يكون إلا خاضعا لنسق الكلام. ولذلك تمت دعوة الدليل الذي اهتم به بالدليل الدلائلي( ) وقد فرض عليه هذا التعديل إضافة ثنائية جديدة إلى ثنائية سوسير الأصلية. وقد تمثلت في ثنائية الشكل والمادة. وبذلك، أصبحنا أمام أربعة حدود: هي مادة المحتوى وشكل المحتوى ومادة التعبير وشكل التعبير( ):
الدليل
عبارة محتوى
مادة شكل مادة شكل
تتصل مادة التعبير بما تقتطعه كل لغة من الأصوات الممكنة، وفق ما يلائم شكلها. وتعني المادة وجود قاسم مشترك بين كل اللغات. لكن هذه المادة لا قيمة لها بالنسبة لكل لغة على حدة، إلا باستحضار الشكل. وشكل العبارة مماثل للدال عند دو سوسير، لكن لا علاقة له بوصف المخارج والصفات، بل بالفونيمات الفارغة من الدلالة (والشكل طبعا أهم من المادة). أما مادة المحتوى، فهي المظهر الخاص بكل ما هو فيزيائي، لأنه نوع من الرؤية الشاملة لكل ما هو موجود في وعينا. وهي أيضا خاصية متشاركة بين كل الفئات المتكلمة. ولذلك فإن المقصود عنده بالمادة، هو شكل تحليل كل لغة من اللغات لتلك الرؤية المتشاركة. وإذا كانت مادة المحتوى تقبل التمفصل إلى فونيمات (مقومات) مثل [+ كائن + حي + ...]؛ فإن شكل المحتوى، هو الذي يساعد على التمييز بين دليل وغيره من الأدلة التي تنتمي لنفس الحقل المفهومي، وذلك لأن الشكل ليس شيئا آخر غير العلاقة القائمة بين دليل وآخر داخل نفس النسق اللغوي. وهذه العلاقة إما استبدالية أو مركبية.
وباختصار، فإن مادة التعبير تتشكل من المادة الصوتية المنطوقة غير الوظيفية، أي من المادة التي تشكل موضوع علم الأصوات (الفونيتيك وليس الفونولوجيا). أما شكل التعبير فمكون من القواعد الاستبدالية والمركبية. وتتشكل مادة المحتوى من المظاهر العاطفية والإيديولوجية والمعنوية للمدلول، أما شكل المحتوى فَيُحَدَّدُ، باعتباره تنظيما صوريا بين المدلولات، بواسطة غياب أو حضور سمة دلالية ما.
إن ما يلاحظ بخصوص إضافة يالمسيلف، هو استفادته من الإمكانات الغنية التي أتاحها مفهوم القيمة السوسيري؛ وذلك بفضل نظره إليه في مستويي التعبير والمحتوى، سواء تعلق الأمر باللغة الواحدة في علاقتها ببقية اللغات، أو تعلق الأمر فقط بالدليل الواحد في علاقته ببقية أدلة النسق الذي ينتمي إليه( ).
من الواضح أنه لم يكن لهذا التطوير أن يوجد، ما لم ينظر إلى اللغات في علاقتها بالفكر والعالم، وإلى الأدلة بوصفها تحقيقا لفكرة مرتبطة بحالة عالم. ومن الواضح أيضا أنه قد ركز بشكل خاص على مستوى خضوعها للتجارب التواصلية المرتبطة بالكلام (مستوى المقولة الثانيانية الوجودية). ولعل هذا التركيز هو الذي دفعه إلى تدعيم ثنائية: المحور الاستبدالي/المحور المركبي، بثنائية: التعيين/التضمين.
إذا كان هذا التعريف قد سمح – بفضل تمفصلاته وشموليته – للسيميائيين البنيويين بصياغة أنظمة تحليلية وببناء نظريات نصية، فإنهم لم يولوا الاهتمام اللازم بمصطلحه “الاستمراري”، الذي يبدو أنه أهم عنصر بنيوي من عناصر الدليل:
يعين الاستمراري المطلق عند يالمسليف حالات العالم المترابطة والمنسجمة بشكل لامحدود. ويشمل الشكل والمحتوى، اللذين ليسا سوى عنصرين متضامين فيه ومقتطعين منه. وتبرز أهميته خاصة في محايثته لتشكيل الزوج (التعيين/التضمين). إن الاستمراري، بفضل تشكيله لما يشبه مفهوم أساس الدليل( ) عند بورس، ليسمح للذهن – كلما حضر في الوعي دليل ما – بأن يستحضر الاستبدال المناسب لذلك الدليل على مستوى الشكل والمادة وفي علاقتهما بالتعبير والمحتوى( ). وبالنظر إلى علاقة الدليل بالتعيين والتضمين والاستمراري، فإنه يلاحظ ، مرة أخرى، وجود التفكير الثلاثي المقموع من قبل التفكير الثنائي:
فالدليل ثالثاني، أما التعيين (المعنى التعييني) فهو انحلال له، لأنه مجرد نسخة محينة له في الوجود، ومن ثمة فهو ثانياني. وأما التضمين (المعنى الإيحائي)، فهو نتاج سيرورة تقتضي ربط الدليل-المصدر بالاستمراري الذي يؤشر عليه، ثم انطلاقا من عناصر هذا الاستمراري يجري توجيه معنى مناسب من بين المعاني المتعددة. وهذا المعنى الموجه هو المعنى الإيحائي. ومن ثمة، فإنه ثانياني أيضا، ولكنه غير منحل مباشرة عن الدليل المجرد، بل مطور عن انحلال كامل ( ) ..
وهكذا يكون قد اتضح أن التحديدات البنيوية، تظل بدورها في حاجة – لكي تتضح خلفياتها – إلى الخضوع لآليات التحليل البورسية، ذات البعد الثلاثي. كما تكون قد اتضحت صوابية قول بورس بعدم كفاية الثنائية( ).
أما الذين عالجوا النص بوصفه دليلا، فجعلوا الإظهار الخطي دالا والمضمون مدلولا، فإنهم قد أفرغوا الدليل من معناه السوسيري، وعالجوه بوصفه كلمة محينة (أي كلاما) ترادف النص الذي هو شيء واقعي وحادث ينتمي ليس إلى الثالثانية( عالم الضرورة) ولكن إلى الثانيانية (عالم الوجود). ولعل هذه الحقيقة هي التي تثوي خلف سلسلة الإحراجات المجابهة لتحليلاتهم التأويلية، والتي ستتم تجلية أهمها:
أ – بما أن العلاقة الرابطة بين حدي الدليل (الدال/ المدلول) اعتباطية، فإن معالجة كل ظواهر الكلام (الثانيانية) – والتي من بينها النص – بحدود الدليل تعتبر متناقضة، على الأقل، لأن دال النص ومدلوله يترابطان بفضل علاقات ضرورية، تحكمها قواعد مضبوطة ( نحوية.. بلاغية..أجناسية..)
ب – يترتب عن الملاحظة الأولى كون الدليل مأخوذا في مستوى اللغة، ينبني مدلوله – مجردا أو محينا – على التصور المترابط نفسيا معه، وهو تصور يكون متشاركا بين كل أفراد المجموعة المتكلمة؛ أما الدليل المعادل للنص، فإن مدلوله، هو نتاج تفاعل أجزاء مدلولات أدلته الفرعية( ) وسيرورة الذات المنتجة أو المتلقية له. الشيء الذي يحيل معناه، أحيانا كثيرة، إلى بنية افتراضية..
ج – يترتب عن الملاحظتين السالفتين، كون دلالة الدليل المجرد، تفرض أن يُأْخَذُ بعين الاعتبار الدال والمدلول بشكل متزامن ومترابط. بينما لا يكون من الضروري أبدا أخذهما، بنفس الصفة، حين يتعلق الأمر بالنص بوصفه دليلا متعينا في الوجود؛ أَوَّلاً، لأن المدلول النصي هو بشكل ما، توليفة من المدلولات التي تتضام لكي تشكل في النهاية دلالة ما( ) ؛ وثانيا لأن الدال لا يؤخذ في هذا المستوى أبدا في كليته. وقد يكون ذلك راجع بالأساس إلى إدراكنا نفسه. ذلك الإدراك الذي ينحو نحو اختزال الدال في مدلولات مقلصة. ولا أدل على ذلك من طبيعة تشكيلنا للدلالة النصية. تلك الدلالة التي تفرض إغفال ليس مجموعة من الدَّوَال المنعزلة فقط، ولكن إغفال جمل ومقاطع وفقرات بل فصول برمتها..إلخ
د – يترتب على كل ذلك، أن الدليل اللغوي – الذي يتألف، وفق تحديد يالمسليف، من مجموعة من الصور(figures) – يتحول، وهو يأخذ معنى النص، إلى بنية ضامة لدرجات بنائية جديدة [: من بينها (المقاطع والضمائر والإيطوسات..والمؤشرات الزمنية والتبئير..)]، مثلما يتحول المدلول من تصور ثابت ومجرد إلى حصيلة اختزالية. وهي الحصيلة التي تدعى تبعا للخلفيات الموجهة لتشكيل دلالة النصوص: إما بنية أولية للدلالة (غريماس) أو بنى كبرى (فان ديك) أو بنية دالة (غولدمان)..إلخ.
والواقع أن عددا كبيرا من مظاهر التعبير تندرج عند هؤلاء تحت مادة المحتوى، والعكس صحيح.
إن الملاحظات السابقة لتدفع إلى القول بقصور التحديد البنيوي للدليل، على الرغم من تطوره عند يامسليف ومرونته عند بارت.. ( )
2 مفهوم الدليل عند التواصليين:
انطلق التواصليون (برييطو وبويسانس ومونان) من فهم خاص للدليل السوسيري. وقد تمثل أساسا في ارتباطه بالدلالة القصدية بوصفها غايته. وبناء على هذا الفهم فقد حاولوا جعل تلك الدلالة خاضعة لشروط محددة ومقبولة. وقد قادهم ذلك إلى رفض الفهم البنيوي للدليل اللغوي – الذي عادة ما يكون تسمية للفظ المنعزل -. ويمكن توضيح ذلك انطلاقا من ملاحظتين أساسيتين:
أ – الدليل واللفظ : يرى التواصليون أن الدليل، هو فكرة محددة معطاة من قبل إظهار مركب. ومثالها النموذجي هو إشارة المرور التي تتركب، في مستوى الدال، من مجموعة من الأشكال والألوان، والتي بسبب ذلك لا يمكن أن يترجم دالها إلى لغة ما، إلا بفضل تركيب يتألف من مجموعة من الأدلة. وقياسا على طبيعة الدليل هذه، فإنهم يرفضون كون اللفظ المنعزل جزءا من موضوع الدليل الذي يهتمون به؛ فمن الواجب – وفق تصورهم – لكي نتحدث عن الدليل – في مستوى الممارسة اللغوية – أن نكون أمام مركب ما. ويستنتج من ذلك أنهم لا يقبلون اعتبار الدليل اللغوي دليلا إلا إذا كان مناطا ( )حيث لا يكون المدلول مرتبطا بمكونات العبارة ولكن بتفاعلها، أي بالفكرة الناتجة عنها.
ب – الدليل والدلالة: إنهم حين يتحدثون عن الدليل، يتحدثون في الواقع عن مفعول ذهني مترابط مع علاقة اجتماعية ما. فالدليل دائما، إما مؤشر أو إشارة( ). وإذن فهو فكرة حاصلة انطلاقا من الدال المؤشر عليها. ويوضح هذا الفهم، أنهم قد استفادوا، وهم يحددون الدليل، من المفهوم الإغريقي، وخاصة من المفهوم الرواقي الذي ميز بين التمثل النفسي والشيء الواقعي (المقيل DiDictum) ( ). وطبعا ليس المدلول هو مفعول الوعي أو مفعول الواقع، بل هو: المقيل. والمقيل لا يظهر إلا خلال سيرورة الدلالة وبكيفية تكاد تكون بديهية.
إن نفس الخلط الذي تمت ملاحظته بخصوص وضع الدليل عند الدلائليين يلحظ هنا: فالدليل يرتبط بشكل أكثر صرامة بمقولة الثانيانية، إذ لا يُنظر إليه إلا بوصفه محينا في الواقع. ويمنع هذا الوضع النظر إلى طبيعة الأصل المجرد للأدلة رغم ما لهذا الأصل من تأثير على معالم المعالجات التحيينية. ولعل غياب هذا الوعي هو الذي جعلهم لا يعترفون بالدليل اللغوي إلا إذا كان فارزا لـمناط ما، يتساوى بفضله مع الأدلة الأخرى الاصطناعية الموسومة بالبصمات الاجتماعية.
ويبدو أن هذا التحديد الذي منحوه لمفهوم الدليل، قد جعله يميل أكثر إلى معنى البرهان منه إلى معنى الدليل، ولذلك كان بين أقل المفاهيم، التي أعدوها، انسجاما مع تحليل النصوص اللغوية عامة ( ). وتتضح سمة عدم الانسجام المنطقي في مقابلة بسيطة بين الدليل اللغوي وغيره، وأيضا بين المؤشر والإشارة : إنهم حين قصروا معنى الدليل على المناط بوصفه توليفة من الألفاظ اللغوية مثل (كم الساعة؟) ثم اشترطوا، مع ذلك، أن يكون المعنى عبارة عن علاقة اجتماعية متضمنة في هذا الفعل المعنوي العلائقي. ويعني ذلك أنه لا يمكن للدليل السابق، مثلا، أن يعتبر دليلا إلا إذا حقق شروط القصدية المباشرة: ( طلب تحديد الوقت في هذه اللحظة من شخص يعرف العربية ويعرف علاقة العقارب بتقطيع الزمن..). وبذلك يكونون قد حصروا دلالة مثل هذا الدليل، الذي يمكنه أن يكون فعلا لغويا – وليس فعلا معنويا علائقيا فقط – يستدعي التعاون : كأن يكون المعنى هو السأم مثلا..إلخ.
إن كل إنتاج يفترض التعاون إلا ويُحَوِّلُ، تبعا لهم، الدليل اللغوي من إشارة إلى مؤشر. وهو التحويل الذي يقتضي إقصاءه من مجال اهتمام السيميائيات. ومعنى ذلك، باختصار، أن عدد المناطات التي تقبل وفق معاييرهم صفة الأدلة محصورة جدا. والواقع أن الأنواع الملغاة – والتي تؤكد عدم ملائمة تحديداتهم للغة المنطوقة – هي التي توضح خلفيتهم اللامعقولة: فالعبارة (ليل هارب) مثلا، تشكل دليلا مؤشريا ينضوي تحت مقولة الوجود الثانيانية، ويفتقد لقانون ثالثاني، يحدده بصرامة ويمنع تأويله بأشكال مختلفة؛ ومع ذلك، فإنه رغم وجوده في نفس الوضع المقولاتي مع إشارة المرور مثلا، يختلف عنها اختلافا جوهريا، لأن لهذه الأخيرة أصلها المجرد الثالثاني، الذي يمنحها معنى ثابتا في كل التلقيات..
إن إشارات المرور التي تشكل الأدلة المفضلة والنموذجية لديهم، تنتمي إلى نسق منظم واصطلاحي، يضم حتى في مستواه المجرد مناطات قانونية (أي ضرورية)، هي نفسها التي تتحين وجوديا. ولذلك لا يسمح هذا النسق بتركيب ما ليس ثابتا فيه: كأن يفرز حالات الاعتقاد أو الظن أو التمني..إلخ. أما الدليل اللغوي السابق (ليل هارب) فينتمي إلى نسق يقوم تحيينه على تركيب حر لأدلته التي ليست في مستواها النسقي المجرد مناطات، بل مقومات وحسب. ( ) ومن ثمة، لا يكون مدلولها – على خلاف أدلة نسق المرور – جاهزا في النسق، ولكنه مبني وفق شروط الإنتاج والتلقي. فجزء الدليل السابق (ليل)، وهو يحين، يقبل أن يكون إشارة (أي معادلا لإشارة المرور الوجودية) فيعني (حالة عالم متصلة بغياب الشمس الكلي عن البقعة التي يتواجد بها الرائي- المتلفظ.)، أو مؤشرا على موضوع مسَبَّبِ (غياب الشمس) أو مؤشرا على موضوع مجاور ( الظلام..السواد.. العماء..)، أو مؤشرا على موضوع مشابه ( الجهل.. الشرك بالله.. الضلال..).
كما أن تعريفهم لم يراع تمايز طبقات المتلقين ونزوعاتهم، أي أنهم لم يراعوا مختلف أشكال التواصل الواقعية. ويصدق هذا، حتى على تعاملهم مع إشارات المرور. ذلك أن هذه الأخيرة تقبل بدورها أن تكون موضوع تحريف ناجم عن خرق، كما وضح إيكو من خلال ملاحظاته عن التواصل مع أدلة نسق المرور( )، أو موضوع فهم خاطئ، لأن كل شخص معرض للخطأ في تقييم تلك الإشارات، وعندما يقع ذلك لا يكون بمقدور ذلك الشخص تصحيح المعنى، لأنه لا يكون أمام شريط تواصلي، يتيح له تقويم التجربة التواصلية عن طريق جعلها فعلا لسيرورة الاستمرارية التأويلية.
وبصفة عامة، فإن تحديدهم للدليل لا ينسجم مع طبيعة اللغة المشكلة للخطابات الأدبية والفكرية وما شاكلهما..
3 مفهوم الدليل عند بورس:
إن الاتجاهات السابقة التي تم تأطيرها في اتجاهين أساسيين معاصرين، قد أبانت عن عدة أنواع من الخلل: منها عدم إمكانية احتوائها لكل المظاهر التعبيرية والتواصلية – سواء البسيطة منها أو المركبة أو البالغة التركيب – ضمن إطار دقيق ومنسجم، وعدم قدرتها على مفصلة الأدلة ضمن مقولات ملائمة تبعا لمستوى النظر إليها، فضلا عن عدم قدرتها على تقديم تصور متكامل وشامل يستجيب لخصوصيات كل الأدلة ويراعي طبيعة أنساقها المتميزة. ويضاف إلى ذلك، أنه رغم كونها تهتم، بشكل أو بآخر، بمظاهر التواصل، لم تراع خصوصيات العملية التواصلية التي تتم بفضل ذات منتجة، على الرغم من كون هذه الذات ليست مثالية ولا مطلقة، ولكنها متعددة ومتفردة؛ أي خاضعة – في عملية تلقي الأدلة وإنتاجها – لخلفياتها المعرفية ولقدراتها الإدراكية والتعرفية الخاصة.
إن تملي هذه الثغرات المحايثة لتحديدات الدليل عند هذه الاتجاهات المعاصرة، يفيد أنه بإمكانها أن تجد في النسق السيميائي البورسي الإجابات المقومة لها. وهذا ما سيتم السعي لتوضيحه، من خلال قراءة مفهوم الدليل عند بورس. وهي قراءة ستحاول، في نفس الوقت، تحقيق ذلك وتأسيس الخلفيات المعرفية لتحليل الخطابات المعرفية:
3- 1- ما هو الدليل عند بورس؟
تقتضي الإجابة الدقيقة عن هذا السؤال، تقديم إجابتين في شكل تعريفين متكاملين، قدمهما بورس نفسه في مواقع مختلفة. وهما التعريفان اللذان سبق للبعض،(سافان Savan) مثلا، أن قارب من خلالهما خصوصيات الدليل عند بورس( ). وسيتم العمل في البداية على توضيح مكانة وغاية كل واحد منهما داخل النسق البورسي نفسه :
أ – يرتبط التعريف الأول بالمقولات الفانرسكوبية الثلاث. ومن الواضح أن هذا التعريف قد راعى، في تراتبيته، سيرورة إنتاج الأدلة على اختلاف أنواعها.( وقد أنتجه بورس سنة 1902):
« يربط الدليل أو الممثل، الذي هو أول، مع ثان يسمى موضوعه، علاقة ثلاثية أصيلة، يمكنها تحديد ثالث، يسمى: مؤوله؛ ويربط هذا الثالث مع موضوعه نفس العلاقة الثلاثية، التي يربطها هو نفسه مع هذا الموضوع» ( ).
ب – بينما يرتبط التعريف الثاني بالتلقي والتأويل اللذين يعكسان في نفس الوقت العلاقات المنطقية بين الإنتاج والتلقي ( وقد أنتجه بورس سنة 1897):
«الدليل أو الممثل، هو شيء ما، يأخذ مكانا ما، بالنسبة لشخص ما، وفق صفة ما، ويعني ذلك أنه يخلق دليلا موازيا أو أكثر تطورا في ذهن ذلك الشخص. والدليل الذي يخلقه أسميه مؤولا للدليل الأول، ويأخذ هذا الدليل مكان موضوعه. غير أنه لا يأخذ مكان هذا الموضوع، وفق أي علاقة، ولكن بالرجوع إلى الفكرة التي سميتها أحيانا: أساس الممثل»( ).
إن من بين الملاحظات الأولى التي يمكن استخلاصها من التعريفين معا، هي كون بورس يمنح الدليل نفس التعريف الذي يمنحه للممثل، ومن ثمة، ندرك عدم إمكانية مماثلته للدال عند أتباع دو سوسير. والواقع أن هذه الملاحظة التي أغفلها الذين وضعوا مقارنات بين حد الدليل عند بورس وعند دو سوسير ( جيرار دولودال على سبيل المثال) تكمن أهميتها في كشفها عن قلب بنيوي لمفهوم الدليل. فالدليل عند بورس ليس تسمية محايدة لمكوناته، بل هو نفسه ممثل، أي مجرد مكون أو عنصر داخل سيرورة يؤطرها ويتصدرها، بوصفه مشكلا لمظهرها المادي الوحيد ( ). ولعل هذا القلب كان نتيجة لتفكير عام، يطمح لأن يؤطر كل المظاهر والظواهر الكائنة أو الممكنة، بغض النظر عن كونها (لغوية أو شيئية..إلخ)، كما كان نتيجة لفكير ممارسي في عملية التَّدلال التي تجعل الدليل في الواقع بداية ونهاية:
فالممثل الأول دليل، ومؤوله دليل(حركة ذهنية)، كما أن موضوعه أيضا دليل أو ممثل جديد. ثم إن هذا الممثل الجديد الذي هو دليل، ليس مهما أن يكون موازيا للدليل – المصدر أو أكثر تطورا منه. علما أن أغلب مؤولات الأدلة تكون إما أكثر تطورا منها، كما يحدث في الترجمة التفسيرية عبر اللغوية، أو التي تتم من لغة إلى لغة؛ أو موازية لها كما يحدث حين يتعلق الأمر بترجمة الأدلة الشيئية إلى أدلة لغوية: كما هو الحال مثلا، مع عثورنا أثناء نزهة ما على صخرة ما، حيث يكون الدليل أو الممثل هو /صخرة/ وموضوعه هو مفهوم”صخرة” ومؤوله هو حد (الصخرة) الذي يوجد بشكل مسبق في أذهاننا.
وبتجاوز هذه الملاحظة، والانتقال إلى تحليل التعريفين المتكاملين، نلاحظ أن التعريف الأول المبني على المقولات الثلاث، يمفصل علاقات أجزاء الدليل إلى ثلاثيات أيضا. وتفرز تلك الثلاثيات تمفصل كل ركن من أركان الدليل إلى ثلاثة أصناف. ويتم ذلك تبعا لتناسب وجوده مع إحدى المقولات. ثم يسفر كل ذلك عن تسعة أصناف أساسية. وتقوم هذه الأصناف بتحديد كل أشكال وجود الأدلة. وفي نفس الوقت، تسمح بوجود كل أشكال وجهات النظر (مهما كانت القدرات الإدراكية لمنتجيها). وهذا بالضبط ما يقوم التعريف الثاني بتحديده، حيث يقوم بمسرحة السيرورة الاستمرارية للإدراك في بعدها الواقعي. وهو بذلك يجسد البعد التداولي للنسق كله:
إننا نكون أمام الدليل، كلما حضر في الذهن شيء ما، وفق صفة ما: أي وفق شروط متصلة بالحالات الخارجية المحيطة بحضور هذا الشيء في الذهن؛ ولذلك فإنه يخلق في الذهن دليلا آخر، موازيا له أو أكثر تطورا منه. وهذا الدليل الآخر هو مؤول الدليل الأول. ويحل هذا الدليل الثاني محل الموضوع. ولكي لا يتم الإكثار من الأمثلة، فإن المثال الذي قدم قبل قليل (عن الصخرة) يمكن أن يستعاد لكي يتم من خلاله تفسير هذه السيرورة: فالصخرة التي تشكل الدليل – المصدر، تتحول في الذهن- أثناء رؤيتها – إلى دليل جديد، قد يكون لغويا /صخرة.. Rocher / . وفي هذه الحالة فإن الدليل الحاضر في الذهن يحل محل موضوع الدليل الذي هو تلك الصخرة المرئية في هذا المكان وهذا الزمان. ويعتبر هذا الدليل موازيا للدليل المصدر. ونفس السيرورة تحدث إذا حولنا المؤول إلى دليل – مصدر، كأن نخبر من لم يشاهد الصخرة، بقولنا /صخرة/. أما قوله “أكثر تطورا” فوصف لإمكانية تجاوز حدود الموضوع المباشر للدليل المصدر، بفضل تأثير الشروط الخارج سيميائية: “وفق صفة ما” بالانتقال من موضوع الدليل إلى الاستمراري المترابط معه، وفق علاقة ما. تلك العلاقة التي قد تكون قائمة على التشابه والمقارنة أو على التجاور.. وإذا كان التشابه لا يحتاج إلى مثال توضيحي، فإن مثال المجاورة أن يكون موضوع الصخرة المتطور هو وجود الماء، أو وجود سابقُُ للبحر، أوضرورة تحريف الطريق..إلخ.
ويتضح من خلال هذا التعريف، أن الدليل الطبيعي المنعزل نفسه، يدل في ذاته أو خارج ذاته، وفق علاقات وضحها بورس في قوله”وفق صفة ما “وأن موضوعه غير مرتبط بدلالة محددة وأحادية، ولكنه مرتبط باستعدادات الذهن وبالشروط المتحكمة في إدراكه للدليل وجوديا. وذلك بالغ الوضوح في تفسيره للتجربة التواصلية:
1- ممثل ← موضوع ← مؤول (ممثل) 2 – مؤول (ممثل) ← موضوع ← مؤول (ممثل).
3 – 2 مفهوم أساس الممثل:
يعتبر أساس الممثل، من بين أهم المفاهيم الأساسية، في تصور بورس، لأنه، بدونه، لا يمكن فهم الاستمرارية التي تسمح بتعدد مؤولات نفس الدليل، والتي تتيح وجود كل وجهات النظر، وكل أنواع الاستعدادات الذهنية، مثلما تتيح انسجام الدليل مع مؤولاته المختلفة. والغريب أن هذا المفهوم، لم يحض بما يستحقه من الانتباه. ولعل ذلك عائد إلى عدم ظهوره بقوة في تعريفاته للدليل؛ إذ لم يظهر إلا في نهاية إحداها: «…غير أنه لا يأخذ مكان هذا الموضوع، وفق أي علاقة، ولكن بالرجوع إلى الفكرة التي سميتها أحيانا: أساس الممثل»
يتماس الأساس، مع مفاهيم أخرى، ظهرت في أطر نظرية أخرى، تصلح لأن تكون مداخل جيدة لفهمه، خاصة وأنها ليست في النهاية إلا تحديدات جزئية لكلية يشكلها. ومن بينها مفهوم الأساس(Ground) عند هيجل الذي يعني تداخل الهوية والاختلاف( )؛ والمحور الاستبدالي الترابطي عند دو سوسير وفق معناه العام( )؛ ونواة المعنى العلائقي عند علماء السرد الموضوعاتيين، والتي تعني عندهم مُوَلِّدَ تشكل التناظرات الخطابية( )؛ وحقل النَّوَاة المجردة (Champs Noétique) عند التواصليين، والذي يشمل كل الحالات الممكنة المترابطة مع دليل ما، والتي يشكل بعضها مدلول الدليل ، بينما تشكل واحدة منها فقط معناه( )؛ والاستمراري المطلق عند يالمسليف، والذي يشكل خلفية لترابط الدليل – على مستوى التعبير والمحتوى – مع الأدلة المعيِّنة لأجزاء العالم المناظرة له( )؛ وأيضا مفهوم الموسوعة عند إيكو، خاصة إذا خضعت لتعديل في المستوى( )
رغم وجود قواسم مشتركة بين كل هذه المفاهيم – وهي قواسم تشبه التشاكلات التي ردها محمد مفتاح إلى انتظام الكون( ) – فإنه يمكن بناء على العنصر المركز عليه، تبين دائرتين متمايزتين: فهناك ما يتصل بالجانب المعنوي المرتكز على المدلول (هيجل وعلماء السرد والتواصليون…). وهناك ما يتصل بالدال والمدلول معا (يالمسليف ودو سوسير و إيكو). ورغم كون المجموعة الثانية أقرب إلى مفهوم بورس، فإنها تسند لكل مفهوم مميزات خاصة، تمنع تماثله المطلق مع مفهوم الأساس.
فـالاستمراري المطلق، رغم أهميته القصوى، يغفل ترابط الدليل مع حالات وعي مخصوصة، كتلك التي تنتج عن التداعي الترابطي: فقد يكون مؤول رؤية فرد ما “للصرصار” مثلا، هو فقدانه الوعي، رغم أن هذا المؤول (فقدان الوعي) ليس حاضرا ضمن عناصر الاستمراري الخاص بالدليل – المصدر(الصرصار). ولذلك لا بد لكي يرقى مفهوم الاستمراري إلى مستوى أساس الدليل – القابل لأن يستوعب مثل هذه التأويلات – من تطعيمه بمفهوم فرعي خاص بالاستمراري الوجودي الذاتي للمنتج والمتلقي. ويرجع هذا القصور من جهة لكون الاستمراري لم يوضع انطلاقا من إدراك جدل المقولات الثلاث، وخاصة الأولانية التي، تتيح تقويض كل الأدلة وبنائها من جديد على مستوى الفرد والجماعة، وعلى مستوى الأعراف والقوانين.. ومن جهة ثانية، لأنه لم يوضع انطلاقا من رؤية واقعية لتفردات الأذهان المشكلة لمكان تحقق التَّدْلاَل (Semiosis)، ولكنه وضع انطلاقا من تصور ذهن شبه مثالي. ولذلك ليس الاستمراري إلا جزءا من ما صدق أساس الدليل. أما الاستبدال الترابطي، فإضافة إلى أنه لا يستجيب لشكل التداعي السابق، فإنه لا يغطي أيضا، على مستوى المدلول، خاصية الترابطات العضوية، مثل الانتقال من الصخور إلى وجود البحر في زمن جيولوجي غابر مثلا. بينما يظل مفهوم الموسوعة الأقرب إلى أساس الدليل البورسي، وذلك بفضل إضافة (إيكو) مفهوم الإبستيمي الفردي الذي أضحى مكونا من مكونات الموسوعة ذات البعد الشامل. ومع ذلك يظل الاختلاف قائما نتيجة كون الموسوعة هي من نظام الثالثانية، بينما أساس الدليل هو خزان موسوعي أولاني يشتغل بوصفه خلفية لكل تجربة تواصلية، تستجيب لقدرات المنتج والمتلقي على حد سواء، لأنه أساس الاستمرارية والواقعية في الفكر البورسي.
وبعد أن تمت محاولة تعريف مفهوم الأساس انطلاقا من مقارنته بالمفاهيم القريبة منه؛ ستتم الآن محاولة رؤية فعله في إنتاج التدلال، طبقا لما هو موجود في نهاية التعريف الثاني«..ولكن بالرجوع إلى الفكرة التي سميتها أحيانا: أساس الممثل»:
إن رؤيتي لذلك لشيء الطبيعي /صخرة/ لا يمكن أن يكون دليلا إلا إذا استطاع ذهني وعيها بوصفها موضوعا (صخرة) ولا يكون ذلك إلا بوجود مؤول مناسب بشكل سابق في ذهني، إذ هو الذي يساعدني على ربط ما يتمثل لذهني بموضوعه( ). وفي هذه الحالة، فإن الدليل الجديد الحاضر في ذهني مواز للدليل الأول بفضل تحيين مباشر لقانونه. لكنه قد يفجر في ذهني مؤولات أخرى تترابط معه بفضل علاقات ما، مثل تفكيري بصخر(أخو الخنساء) أو بصخرية (اسم امرأة) أو بالسخرية.. وبباقي إمكانات ترابطات الدال، سواء المحددة من قبل جناس القلب أو جناس التصحيف، أو تلك المحددة بدقة من قبل بورس( ) والمرتبطة بالتعالقات المادية بين الأدلة (العائلة/ العاهلة مثلا..)، ومثل تفكيري بكل الأشياء الصلبة، وبكل مكونات الصخور المتشاركة مع باقي الأشياء الطبيعية..إلخ. ومثل تفكيري بكل الأشرار، ذوي القلوب الصلبة (قلبه صخرة)..إلخ، ومثل تفكيري بكل الصخور المقدسة والأسطورية.. وبديهي أن انتقال تفكيري من هذا الدليل- المصدر إلى إحدى هذه الأدلة المترابطة معه، يفجر بدوره انتقالات متشابهة وهكذا.. وتلك هي الاستمرارية التأويلية.
إن هذا الغنى الذي يمنحه مفهوم الأساس وينسقه، يكون مرجعا لشكل تحقق الاستمرارية والواقعية، الخاصين بإنتاج وتلقي الأدلة المحكومة بوضعها المنسجم مع إحدى المقولات الثلاث. وشَكْلُ التحقق هذا، هو الذي حدده بورس في التعريف الأول الذي يقوم على توزيع كل أجزاء الدليل إلى ثلاثيات تترابط فيما بينها بفضل علاقات ثلاثية أيضا، تمنح في النهاية تسعة أنواع، قادرة على توصيف كل أنواع إنتاج وتلقي وتأويل الأدلة.
خلاصة:
إن الخلفية الإيبيستمولوجية المتحكمة في بناء مفهوم الدليل، الذي يؤسس لمفهوم النص في أهم النظريات السيميائية، تفيد في مجملها أنها تؤسس لثلاثة لأجهزة نظرية تأويلية مختلفة، منها ما يتعالى عن الواقع الموضوعي الشارط للنصوص، عن طريق إغفالها للمرجع، وللمؤول بوصفه القوة الذهنية التفكرية الرابطة بين الدال ومدلوله، ويتعلق الأمر بالسيميائيات المستوحاة من نظرية فردناند دو سوسير. ومنها ما لا يتلاءم مع الخطابات المجازية نتيجة حصرها لموضوع الدليل المشكل لمجال اهتمام السيميائيات في الإشارة القصدية، ويتعلق الأمر بسيميائيات التواصل. ومنها ما يهتم بكل أشكال وجود الدليل وما فوق الدليل (النص) إنتاجا وتلقيا، بفضل اهتمامه بحدود الدليل الثلاثة، وبكل شروط إنتاجه وتلقيه، سواء كانت محايثة أو متعالية أو شاملة لهما معا، ويتعلق الأمر بسيميائيات بورس التداولية.
———————————-
– يشمل الاختلاف معناه وحدوده وعدد مكوناته، أي مفهومه وما صدقه.
– دو سوسير، محاضرات في علم اللسان العام، ترجمة عبد القادر قنيني، دار إفريقيا الشرق، 1987 (الفصل الأول).
– من الواضح أن العبارة، وإن كانت عبارة عن جملة مؤلفة من لفظين وحسب، فإنها تنتمي – حسب مصطلحاته – إلى الكلام (حيث لا تكون العلاقة الدلالية اعتباطية) وليس إلى اللغة، ومعنى ذلك أن الدليل عنده لا يرتبط بالكلام.
– إن المرء يكون ـ وفق تلك الحال – أمام الكلام، أي مباشرة في إطار الثانيانية (مقولة الوجود) ، التي تتناقض مع تحديده للدليل..
– أنظر:
C.S.Pierce , Ecrits sur le signe, Traduit par G.D ELEDALLE ? Ed Seuil, Paris, 1978.
– لكن توخيا للموضوعية تجب الإشارة إلى أن تعديلا مماثلا، يلمس عند كل من (لكون (Lacon و (لبلانش Laplanche) و(لوكلير Leclaire) من خلال تحديدهم لأيقونة الرسم البياني للدليل( د/مد) التي تتميز – حسب بارط – عن التمثيل السوسيري من ناحيتين:”١- إن الدال(د) شامل، يتكون من سلسلة ذات مستويات عديدة (السلسلة الاستعارية): تربط بين الدال والمدلول علاقة غير قارة، إذ لا “يتطابقان” إلا من خلال بعض نقط التثبيت والإرساء.٢- إن لعارضة الفصل(-) بين الدال (د) والمدلول(مد) قيمة خاصة (لم تكن لها بالطبع عند دو سوسير): إنها تمثل كبت المدلول”
– أنظر:
G. Mounin, Introduction à la sémiologie. ed : Minuit. Paris. 1970. p p (95 – 102).
– يلاحظ إضافة إلى ربطه اللغة بالشكل فقط، أنه، على غرار دو سوسير، يلغي المرجع..
– لقد ربط دو سوسير مفهوم القيمة أساسا بمستوى المدلول (المحتوى)، وقد جعل ذلك المفهوم آلية لتحديد العلاقات الاختلافية القائمة بين المدلولات المنتمية لنفس اللغة الطبيعية، وبين المدلولات التي تعين نفس الشيء وإن كانت تنتمي للغات مختلفة،.. بينما لم يربطه بالدال، وذلك لأن هذا الأخير يقوم – تبعا لتحديده النسقي – في علاقته بمدلوله على الاعتباطية، التي تفرز بالضرورة اختلاف دالات اللغات. ومن ثمة، تمنع أي حكم عليها.. وبالنظر إلى هذه الحقيقة، لم يكن من الممكن تحديد قيمة الدال في مستوى اللغات، ولكن فقط في مستوى اللغة الواحدة.. ويمكن بناء على هذه الملاحظة، استنتاج علة رفض يالمسيلف الضمني لمبدأ الاعتباطية
– يعني أساس الدليل النوعيات التي بناء عليها يؤشر الدليل على موضوعه الدينامي الذي يعني عند بورس جميع السياقات التي يؤشر عليها الدليل وفق علاقات ما، لغوية أو طبيعية أو ثقافية..
– يشبه الاستبدال الناتج عن الاستمراري الموضوع الدينامي عند بورس.
ليس هذا الاستمراري إلا مستوى أولانية الدليل (أي اللحظة التي يدل فيها بفضل نوعياته الممكنة) والأدلة التي تشترك معه ولو في خاصية واحدة. وذلك لأن الاستمراري يشكل خزانا متكاملا، لكل ترابطات عناصر الدليل – المحددة من قبل يالمسليف – مع عناصر الأدلة الأخرى التي يشترك معها في النوعيات. وينسجم هذا الربط مع الانحلال الكامل الذي يعبر، وفق تصور بورس، عن تحويل الدليل – قانون إلى أيقونة نوعية. ثم بناء على ذلك الانحلال تنجز عملية انتقاء معنى ما من معاني هذا الخزان. ويشكل هذا المعنى المنتقى بالنسبة للنسق البورسي مؤشرا مطورا، ويشكل بالنسبة للنسق اليالسليفي المعنى الإيحائي. وتجدر الإشارة إلى أن انتماء الدليل الإيحائي إلى مقولة الثانيانية التي ينتمي إليها المعنى التعييني، لا يعني التماهي الأنطولوجي بينهما، أو تماهي السيرورتين الذهنيتين المؤديتين إليهما.
- J. Réthoré «La sémiotique triadique de C.S.Peirce », in Langages n° 58. 1980. p 32 : أنظر
– أنظر : – N. Everaert-Desmedt, Le processus interprétatif. Margada,Liège,1990, P :18.
– ويحدث ذلك حتى بالنسبة للنص المتميز، المأخوذ ليس في معناه أو معانيه الإيحائية، بل حتى في معناه الحرفي المعتمد عادة على مسلمات المدلول.
وذلك لأنه لا ينتظم ضمن نظام نسقي منطقي إجرائي، سواء تعلق الأمر باللفظ المحين أو بالنص نفسه. الشيء الذي يجعل طروحاتهم قابلة للتفنيد.
– المعنى المقصود بالمناط (sémème) هنا، هو معناه عند غريماس .أنظر: A. J. Greimas, & J. Courtés. Sémiotique, Dictionnaire raisonné de la théorie du langage. ed. Hachette Paris. 1979. tome 1. p /p (334 /335)
– يرتبط المؤشر بمدلول دلالة شيء ظاهر على شيء غير ظاهر، انطلاقا من علاقة استلزام، وهو عام. أما الإشارة فهي نوع مخصوص من المؤشرات، وتمتاز الإشارة بكونها قصدية عرفية لا تحتمل إلا وجها واحدا للتأشير. أنظر:
- G. Mounin, Introduction à la sémiologie.Ed, Minuit1970. p / p (13 / 14).
– أنظر: U. Eco, Sémiotique et philosophie de langage. Tr Par M.Bouzaher. Ed. PUF , 1988. p 39.
– وعلى خلاف هذا المفهوم، نجد لديهم عدة مفاهيم، قابلة لأن تستثمر وفق توزيع جديد، مثل حقل النَّواة المجردة، والمدلول، والمعنى، والفعل السيمي، والوضعية. أنظر:
-L. J. Prieto «la sémiologie » in Le langage Encyclopédie de la Pléiade, ed : Gallimard.1968.
– ويجب ألا يغيب عنا أن المناطات ليست إلا مفعولات التحيين..
- U. Eco, Les limites de l’interprétation, Tr. par M. Bouzaher, Grasset, Paris 1992. p 246. أنظر –
- D. Savan, «la sémiotique de C. S. Peirce ». in Langages n° 58. – أنظر:
– أنظر: – Peirce, Ecrits sur le signe. op. cit. (2.274) p 147 .
– نفسه. (2.274). ص:121.
– إن التأمل في التعاريف التي تلقاها الدليل، بدءا من تصور الرواقيين ومرورا بتصور أرسطو والقديس أغسطين، وصولا إلى معاصري بورس (دوسوسير وفريجه..) يكشف عن وجود سمة “المحايدة” بين الدليل ومكوناته، كما يكشف ميلهم إلى بناء تعاريف الدليل انطلاقا من المدلول وما يقوم مقامه، وليس انطلاقا من الدال..أنظر:
U. Eco, Sémiotique et philosophie du langage. op. cit. p- p (52 à58).
– ولترستيس، المنطق وفلسفة الطبيعة.ترجمة إمام عبد الفتاح إمام دار التنوير. بيروت. 1982. ص / ص (195/196).
– دو سوسير، محاضرات في علم اللسان العام. م. سا. (الفصل الخامس).
– أنظر: F. Rastier, Sémantique interprétative. Ed, P.UF. Paris. 1987. p p (18 &109).
– أنظر:
- L. J. Prieto « La sémiologie » op. cit.
– أنظر: – U. Eco. Sémiotique et philosophie du langage. op. cit. p p (79 – 80).
– أنظر: – U. Eco, Lector In fabula. Tr. par M. Bouzaher, Grasset, Paris. p16 –
– محمد مفتاح، التشابه والاختلاف المركز الثقافي العربي. 1996. ص- ص (9 – 10).
– إذا لم أكن أعرف /الصخرة/ سابقا، فإن ما يحضر في ذهني هو ممثلها فقط، ولذلك لا تكون دليلا مكتملا..
– أنظر: – Peirce, Textes Fondamentaux De Sémiotique,Tr. Par B.Fouchier et C.Fox, ed : M.K.Paris. 1987. p / p (82 /83).
« صديقتنا الميتة ( الحياة )
الحقبة الناصرساداتية »
عبد اللطيف محفوظ
مفهوم الدليل وما فوق الدليل في النظريات السيميائية
إمدادات هذا الكاتب عبد اللطيف محفوظ 18 أكتوبر 2006
تفيد التحديدات التي أعطيت للدليل، من قبل الاتجاهات السيميائية المعاصرة، أنه مفهوم ملتبس. فقد تلقى تعريفات مختلفة( ) باختلاف الحقول المعرفية التي ظهر فيها، الشيء الذي جعله ملتبسا وإشكاليا. ويشكل هذا الالتباس عائقا، يحول أحيانا دون وضوح المفهوم وثباته، ومن ثمة يحول حتى دون الفهم العادي له. ولا يقتصر هذا الالتباس على الكتابات العربية المعاصرة، التي غالبا ما تكتفي بترجمة المفاهيم، بل يتحقق أيضا في الكتابات الغربية نفسها.. وهكذا، انطلاقا من وعي هذا الوضع الإشكالي، سنحاول مقاربة مفهوم الدليل في أهم النظريات السيميائية التي أثرت في نظريات تحليل الخطاب، مع التركيز أكثر على مفهوم الدليل عند بورس نظرا لكون سيميائياته أكثر حضورا ونجاعة في تحليل مختلف الخطابات التواصلية الشفهية والمكتوبة والبصرية:
1 مفهوم الدليل عند سيميائيي الدلالة
يرتبط تصور هؤلاء – على اختلافهم – بتصور دو سوسير، الذي حدد الدليل بوصفه وحدة مؤلفة من دال ومدلول مترابطين وفق علاقة اعتباطية ( ). وبديهي أن دو سوسير، قد اقتصر في تحديده للدليل على مستوى اللغة فقط، الشيء الذي جعل تحديده متعاليا عن الكلام ومتجاوزا للمرجع. ولذلك اعتبر تحديدا مجردا. وقد كان دو سوسير واعيا بحدود تحديده، والبينة على ذلك أنه كف عن استعماله له حين تجاوز مستوى اللفظ المنعزل إلى مستوى العبارة، حيث لم يعد مع هذه الأخيرة يتكلم عن دال ومدلول، بل أصبح يتحدث عن المحور المركبي والمحور الاستبدالي( ).
إن ما يستنتج من هذا التحويل، هو صعوبة الحديث عن الدال والمدلول بمعناهما الدقيق، كلما تعلق الأمر بالعبارة. لأن الدال حين يتحول إلى مُرَكَّبٍ، فإن المدلول ينفلت من التحديد السابق، إذ لا يعود الترابط نفسيا وحسب، ولا تعود العلاقة اعتباطية بل تصبح مؤسسة على تعالق مغاير يشترط طبيعة التعالق بين كل المكونات اللسانية.. وهو الشيء الذي يقود إلى القول بأن تحديده ليس سوى إطار لتحديد اللغة بوصفها بنية من العلاقات القائمة على القيم الخلافية. وتأسيسا على هذا، فإنه حالما يكون المرء أمام ما فوق الدليل (عبارة ..نص..) يصعب عليه الكلام عن الدليل وفق ذلك التحديد، لأنه، أولا وقبل كل شيء، يكون في مستوى مغاير لمستوى معالجة دو سوسير للدليل( ). ورغم ذلك فقد حاول سيميائيو الدلالة، تنقيل هذا التحديد (الثالثاني المرتبط بمقولة الضرورة) إلى المستوى التحييني (الثانياني المرتبط بمقولة الوجود) دون مراعاة الانتقال من مستوى مقولاتي إلى آخر مخالف له جذريا. وهكذا تجدهم يتحدثون عن مختلف مظاهر التحققات الكلامية (عبارات ..مقاطع.. نصوص..) بوصفها أدلة تقبل نفس التفكيك الذي يقبله الدليل اللغوي المجرد.
ويعتبر (يالمسليف) من بين أهم من انتبه بشكل دقيق، وهو يطور التحديد السوسيري، إلى قضية العلاقة – وهي ذات صلة بالقيمة – التي زعزعت في نفس الوقت الثقة في إسقاط الترابط المحدد من قبل دو سوسير على الأدلة الكلامية، ومنحت تعريفه شكل السيرورة الثلاثية (عبارة ومحتوى وعلاقة). لكنها مع ذلك ظلت مخالفة للسيرورة الثلاثية عند بورس (التي تتألف من ممثل أولاني مرتبط بمقولة الممكن، والموضوع الثانياني المرتبط بمقولة الوجود، والمؤول الثالثاني المرتبط بمقولة الضرورة) لأنه لم يستند إلى المنطق البورسي، بل استند إلى التصورات السوسيرية التي عمل على تعديلها لكي تلائم الموضوع الجديد، الذي لم يعد الدليل المجرد اللغوي بل أصبح الدليلَ المُحَيَّنَ وجوديا، والذي من سماته عدم ترابط داله بمدلوله عموديا، إلا بفضل وجود علاقة. ولا تكون هذه العلاقة الممكنة بالضرورة قانونية، ولكنها تكون بالضرورة تأشيرية( )
وبما أن تصور يالمسليف يشكل المرجعية الأساسية لسيميائية النص، فسيتم التركيز عليه أكثر، وذلك بغية إدراك كيف تم تطويع تحديد الدليل من كونه يحدد فقط اللفظة اللغوية، إلى كونه يحدد كل نص محين:
إن اهتمامه بالعلاقة – كما سبقت الإشارة – كان نتيجة للموضوع الجديد: ما فوق الدليل، الذي لا يكون إلا خاضعا لنسق الكلام. ولذلك تمت دعوة الدليل الذي اهتم به بالدليل الدلائلي( ) وقد فرض عليه هذا التعديل إضافة ثنائية جديدة إلى ثنائية سوسير الأصلية. وقد تمثلت في ثنائية الشكل والمادة. وبذلك، أصبحنا أمام أربعة حدود: هي مادة المحتوى وشكل المحتوى ومادة التعبير وشكل التعبير( ):
الدليل
عبارة محتوى
مادة شكل مادة شكل
تتصل مادة التعبير بما تقتطعه كل لغة من الأصوات الممكنة، وفق ما يلائم شكلها. وتعني المادة وجود قاسم مشترك بين كل اللغات. لكن هذه المادة لا قيمة لها بالنسبة لكل لغة على حدة، إلا باستحضار الشكل. وشكل العبارة مماثل للدال عند دو سوسير، لكن لا علاقة له بوصف المخارج والصفات، بل بالفونيمات الفارغة من الدلالة (والشكل طبعا أهم من المادة). أما مادة المحتوى، فهي المظهر الخاص بكل ما هو فيزيائي، لأنه نوع من الرؤية الشاملة لكل ما هو موجود في وعينا. وهي أيضا خاصية متشاركة بين كل الفئات المتكلمة. ولذلك فإن المقصود عنده بالمادة، هو شكل تحليل كل لغة من اللغات لتلك الرؤية المتشاركة. وإذا كانت مادة المحتوى تقبل التمفصل إلى فونيمات (مقومات) مثل [+ كائن + حي + ...]؛ فإن شكل المحتوى، هو الذي يساعد على التمييز بين دليل وغيره من الأدلة التي تنتمي لنفس الحقل المفهومي، وذلك لأن الشكل ليس شيئا آخر غير العلاقة القائمة بين دليل وآخر داخل نفس النسق اللغوي. وهذه العلاقة إما استبدالية أو مركبية.
وباختصار، فإن مادة التعبير تتشكل من المادة الصوتية المنطوقة غير الوظيفية، أي من المادة التي تشكل موضوع علم الأصوات (الفونيتيك وليس الفونولوجيا). أما شكل التعبير فمكون من القواعد الاستبدالية والمركبية. وتتشكل مادة المحتوى من المظاهر العاطفية والإيديولوجية والمعنوية للمدلول، أما شكل المحتوى فَيُحَدَّدُ، باعتباره تنظيما صوريا بين المدلولات، بواسطة غياب أو حضور سمة دلالية ما.
إن ما يلاحظ بخصوص إضافة يالمسيلف، هو استفادته من الإمكانات الغنية التي أتاحها مفهوم القيمة السوسيري؛ وذلك بفضل نظره إليه في مستويي التعبير والمحتوى، سواء تعلق الأمر باللغة الواحدة في علاقتها ببقية اللغات، أو تعلق الأمر فقط بالدليل الواحد في علاقته ببقية أدلة النسق الذي ينتمي إليه( ).
من الواضح أنه لم يكن لهذا التطوير أن يوجد، ما لم ينظر إلى اللغات في علاقتها بالفكر والعالم، وإلى الأدلة بوصفها تحقيقا لفكرة مرتبطة بحالة عالم. ومن الواضح أيضا أنه قد ركز بشكل خاص على مستوى خضوعها للتجارب التواصلية المرتبطة بالكلام (مستوى المقولة الثانيانية الوجودية). ولعل هذا التركيز هو الذي دفعه إلى تدعيم ثنائية: المحور الاستبدالي/المحور المركبي، بثنائية: التعيين/التضمين.
إذا كان هذا التعريف قد سمح – بفضل تمفصلاته وشموليته – للسيميائيين البنيويين بصياغة أنظمة تحليلية وببناء نظريات نصية، فإنهم لم يولوا الاهتمام اللازم بمصطلحه “الاستمراري”، الذي يبدو أنه أهم عنصر بنيوي من عناصر الدليل:
يعين الاستمراري المطلق عند يالمسليف حالات العالم المترابطة والمنسجمة بشكل لامحدود. ويشمل الشكل والمحتوى، اللذين ليسا سوى عنصرين متضامين فيه ومقتطعين منه. وتبرز أهميته خاصة في محايثته لتشكيل الزوج (التعيين/التضمين). إن الاستمراري، بفضل تشكيله لما يشبه مفهوم أساس الدليل( ) عند بورس، ليسمح للذهن – كلما حضر في الوعي دليل ما – بأن يستحضر الاستبدال المناسب لذلك الدليل على مستوى الشكل والمادة وفي علاقتهما بالتعبير والمحتوى( ). وبالنظر إلى علاقة الدليل بالتعيين والتضمين والاستمراري، فإنه يلاحظ ، مرة أخرى، وجود التفكير الثلاثي المقموع من قبل التفكير الثنائي:
فالدليل ثالثاني، أما التعيين (المعنى التعييني) فهو انحلال له، لأنه مجرد نسخة محينة له في الوجود، ومن ثمة فهو ثانياني. وأما التضمين (المعنى الإيحائي)، فهو نتاج سيرورة تقتضي ربط الدليل-المصدر بالاستمراري الذي يؤشر عليه، ثم انطلاقا من عناصر هذا الاستمراري يجري توجيه معنى مناسب من بين المعاني المتعددة. وهذا المعنى الموجه هو المعنى الإيحائي. ومن ثمة، فإنه ثانياني أيضا، ولكنه غير منحل مباشرة عن الدليل المجرد، بل مطور عن انحلال كامل ( ) ..
وهكذا يكون قد اتضح أن التحديدات البنيوية، تظل بدورها في حاجة – لكي تتضح خلفياتها – إلى الخضوع لآليات التحليل البورسية، ذات البعد الثلاثي. كما تكون قد اتضحت صوابية قول بورس بعدم كفاية الثنائية( ).
أما الذين عالجوا النص بوصفه دليلا، فجعلوا الإظهار الخطي دالا والمضمون مدلولا، فإنهم قد أفرغوا الدليل من معناه السوسيري، وعالجوه بوصفه كلمة محينة (أي كلاما) ترادف النص الذي هو شيء واقعي وحادث ينتمي ليس إلى الثالثانية( عالم الضرورة) ولكن إلى الثانيانية (عالم الوجود). ولعل هذه الحقيقة هي التي تثوي خلف سلسلة الإحراجات المجابهة لتحليلاتهم التأويلية، والتي ستتم تجلية أهمها:
أ – بما أن العلاقة الرابطة بين حدي الدليل (الدال/ المدلول) اعتباطية، فإن معالجة كل ظواهر الكلام (الثانيانية) – والتي من بينها النص – بحدود الدليل تعتبر متناقضة، على الأقل، لأن دال النص ومدلوله يترابطان بفضل علاقات ضرورية، تحكمها قواعد مضبوطة ( نحوية.. بلاغية..أجناسية..)
ب – يترتب عن الملاحظة الأولى كون الدليل مأخوذا في مستوى اللغة، ينبني مدلوله – مجردا أو محينا – على التصور المترابط نفسيا معه، وهو تصور يكون متشاركا بين كل أفراد المجموعة المتكلمة؛ أما الدليل المعادل للنص، فإن مدلوله، هو نتاج تفاعل أجزاء مدلولات أدلته الفرعية( ) وسيرورة الذات المنتجة أو المتلقية له. الشيء الذي يحيل معناه، أحيانا كثيرة، إلى بنية افتراضية..
ج – يترتب عن الملاحظتين السالفتين، كون دلالة الدليل المجرد، تفرض أن يُأْخَذُ بعين الاعتبار الدال والمدلول بشكل متزامن ومترابط. بينما لا يكون من الضروري أبدا أخذهما، بنفس الصفة، حين يتعلق الأمر بالنص بوصفه دليلا متعينا في الوجود؛ أَوَّلاً، لأن المدلول النصي هو بشكل ما، توليفة من المدلولات التي تتضام لكي تشكل في النهاية دلالة ما( ) ؛ وثانيا لأن الدال لا يؤخذ في هذا المستوى أبدا في كليته. وقد يكون ذلك راجع بالأساس إلى إدراكنا نفسه. ذلك الإدراك الذي ينحو نحو اختزال الدال في مدلولات مقلصة. ولا أدل على ذلك من طبيعة تشكيلنا للدلالة النصية. تلك الدلالة التي تفرض إغفال ليس مجموعة من الدَّوَال المنعزلة فقط، ولكن إغفال جمل ومقاطع وفقرات بل فصول برمتها..إلخ
د – يترتب على كل ذلك، أن الدليل اللغوي – الذي يتألف، وفق تحديد يالمسليف، من مجموعة من الصور(figures) – يتحول، وهو يأخذ معنى النص، إلى بنية ضامة لدرجات بنائية جديدة [: من بينها (المقاطع والضمائر والإيطوسات..والمؤشرات الزمنية والتبئير..)]، مثلما يتحول المدلول من تصور ثابت ومجرد إلى حصيلة اختزالية. وهي الحصيلة التي تدعى تبعا للخلفيات الموجهة لتشكيل دلالة النصوص: إما بنية أولية للدلالة (غريماس) أو بنى كبرى (فان ديك) أو بنية دالة (غولدمان)..إلخ.
والواقع أن عددا كبيرا من مظاهر التعبير تندرج عند هؤلاء تحت مادة المحتوى، والعكس صحيح.
إن الملاحظات السابقة لتدفع إلى القول بقصور التحديد البنيوي للدليل، على الرغم من تطوره عند يامسليف ومرونته عند بارت.. ( )
2 مفهوم الدليل عند التواصليين:
انطلق التواصليون (برييطو وبويسانس ومونان) من فهم خاص للدليل السوسيري. وقد تمثل أساسا في ارتباطه بالدلالة القصدية بوصفها غايته. وبناء على هذا الفهم فقد حاولوا جعل تلك الدلالة خاضعة لشروط محددة ومقبولة. وقد قادهم ذلك إلى رفض الفهم البنيوي للدليل اللغوي – الذي عادة ما يكون تسمية للفظ المنعزل -. ويمكن توضيح ذلك انطلاقا من ملاحظتين أساسيتين:
أ – الدليل واللفظ : يرى التواصليون أن الدليل، هو فكرة محددة معطاة من قبل إظهار مركب. ومثالها النموذجي هو إشارة المرور التي تتركب، في مستوى الدال، من مجموعة من الأشكال والألوان، والتي بسبب ذلك لا يمكن أن يترجم دالها إلى لغة ما، إلا بفضل تركيب يتألف من مجموعة من الأدلة. وقياسا على طبيعة الدليل هذه، فإنهم يرفضون كون اللفظ المنعزل جزءا من موضوع الدليل الذي يهتمون به؛ فمن الواجب – وفق تصورهم – لكي نتحدث عن الدليل – في مستوى الممارسة اللغوية – أن نكون أمام مركب ما. ويستنتج من ذلك أنهم لا يقبلون اعتبار الدليل اللغوي دليلا إلا إذا كان مناطا ( )حيث لا يكون المدلول مرتبطا بمكونات العبارة ولكن بتفاعلها، أي بالفكرة الناتجة عنها.
ب – الدليل والدلالة: إنهم حين يتحدثون عن الدليل، يتحدثون في الواقع عن مفعول ذهني مترابط مع علاقة اجتماعية ما. فالدليل دائما، إما مؤشر أو إشارة( ). وإذن فهو فكرة حاصلة انطلاقا من الدال المؤشر عليها. ويوضح هذا الفهم، أنهم قد استفادوا، وهم يحددون الدليل، من المفهوم الإغريقي، وخاصة من المفهوم الرواقي الذي ميز بين التمثل النفسي والشيء الواقعي (المقيل DiDictum) ( ). وطبعا ليس المدلول هو مفعول الوعي أو مفعول الواقع، بل هو: المقيل. والمقيل لا يظهر إلا خلال سيرورة الدلالة وبكيفية تكاد تكون بديهية.
إن نفس الخلط الذي تمت ملاحظته بخصوص وضع الدليل عند الدلائليين يلحظ هنا: فالدليل يرتبط بشكل أكثر صرامة بمقولة الثانيانية، إذ لا يُنظر إليه إلا بوصفه محينا في الواقع. ويمنع هذا الوضع النظر إلى طبيعة الأصل المجرد للأدلة رغم ما لهذا الأصل من تأثير على معالم المعالجات التحيينية. ولعل غياب هذا الوعي هو الذي جعلهم لا يعترفون بالدليل اللغوي إلا إذا كان فارزا لـمناط ما، يتساوى بفضله مع الأدلة الأخرى الاصطناعية الموسومة بالبصمات الاجتماعية.
ويبدو أن هذا التحديد الذي منحوه لمفهوم الدليل، قد جعله يميل أكثر إلى معنى البرهان منه إلى معنى الدليل، ولذلك كان بين أقل المفاهيم، التي أعدوها، انسجاما مع تحليل النصوص اللغوية عامة ( ). وتتضح سمة عدم الانسجام المنطقي في مقابلة بسيطة بين الدليل اللغوي وغيره، وأيضا بين المؤشر والإشارة : إنهم حين قصروا معنى الدليل على المناط بوصفه توليفة من الألفاظ اللغوية مثل (كم الساعة؟) ثم اشترطوا، مع ذلك، أن يكون المعنى عبارة عن علاقة اجتماعية متضمنة في هذا الفعل المعنوي العلائقي. ويعني ذلك أنه لا يمكن للدليل السابق، مثلا، أن يعتبر دليلا إلا إذا حقق شروط القصدية المباشرة: ( طلب تحديد الوقت في هذه اللحظة من شخص يعرف العربية ويعرف علاقة العقارب بتقطيع الزمن..). وبذلك يكونون قد حصروا دلالة مثل هذا الدليل، الذي يمكنه أن يكون فعلا لغويا – وليس فعلا معنويا علائقيا فقط – يستدعي التعاون : كأن يكون المعنى هو السأم مثلا..إلخ.
إن كل إنتاج يفترض التعاون إلا ويُحَوِّلُ، تبعا لهم، الدليل اللغوي من إشارة إلى مؤشر. وهو التحويل الذي يقتضي إقصاءه من مجال اهتمام السيميائيات. ومعنى ذلك، باختصار، أن عدد المناطات التي تقبل وفق معاييرهم صفة الأدلة محصورة جدا. والواقع أن الأنواع الملغاة – والتي تؤكد عدم ملائمة تحديداتهم للغة المنطوقة – هي التي توضح خلفيتهم اللامعقولة: فالعبارة (ليل هارب) مثلا، تشكل دليلا مؤشريا ينضوي تحت مقولة الوجود الثانيانية، ويفتقد لقانون ثالثاني، يحدده بصرامة ويمنع تأويله بأشكال مختلفة؛ ومع ذلك، فإنه رغم وجوده في نفس الوضع المقولاتي مع إشارة المرور مثلا، يختلف عنها اختلافا جوهريا، لأن لهذه الأخيرة أصلها المجرد الثالثاني، الذي يمنحها معنى ثابتا في كل التلقيات..
إن إشارات المرور التي تشكل الأدلة المفضلة والنموذجية لديهم، تنتمي إلى نسق منظم واصطلاحي، يضم حتى في مستواه المجرد مناطات قانونية (أي ضرورية)، هي نفسها التي تتحين وجوديا. ولذلك لا يسمح هذا النسق بتركيب ما ليس ثابتا فيه: كأن يفرز حالات الاعتقاد أو الظن أو التمني..إلخ. أما الدليل اللغوي السابق (ليل هارب) فينتمي إلى نسق يقوم تحيينه على تركيب حر لأدلته التي ليست في مستواها النسقي المجرد مناطات، بل مقومات وحسب. ( ) ومن ثمة، لا يكون مدلولها – على خلاف أدلة نسق المرور – جاهزا في النسق، ولكنه مبني وفق شروط الإنتاج والتلقي. فجزء الدليل السابق (ليل)، وهو يحين، يقبل أن يكون إشارة (أي معادلا لإشارة المرور الوجودية) فيعني (حالة عالم متصلة بغياب الشمس الكلي عن البقعة التي يتواجد بها الرائي- المتلفظ.)، أو مؤشرا على موضوع مسَبَّبِ (غياب الشمس) أو مؤشرا على موضوع مجاور ( الظلام..السواد.. العماء..)، أو مؤشرا على موضوع مشابه ( الجهل.. الشرك بالله.. الضلال..).
كما أن تعريفهم لم يراع تمايز طبقات المتلقين ونزوعاتهم، أي أنهم لم يراعوا مختلف أشكال التواصل الواقعية. ويصدق هذا، حتى على تعاملهم مع إشارات المرور. ذلك أن هذه الأخيرة تقبل بدورها أن تكون موضوع تحريف ناجم عن خرق، كما وضح إيكو من خلال ملاحظاته عن التواصل مع أدلة نسق المرور( )، أو موضوع فهم خاطئ، لأن كل شخص معرض للخطأ في تقييم تلك الإشارات، وعندما يقع ذلك لا يكون بمقدور ذلك الشخص تصحيح المعنى، لأنه لا يكون أمام شريط تواصلي، يتيح له تقويم التجربة التواصلية عن طريق جعلها فعلا لسيرورة الاستمرارية التأويلية.
وبصفة عامة، فإن تحديدهم للدليل لا ينسجم مع طبيعة اللغة المشكلة للخطابات الأدبية والفكرية وما شاكلهما..
3 مفهوم الدليل عند بورس:
إن الاتجاهات السابقة التي تم تأطيرها في اتجاهين أساسيين معاصرين، قد أبانت عن عدة أنواع من الخلل: منها عدم إمكانية احتوائها لكل المظاهر التعبيرية والتواصلية – سواء البسيطة منها أو المركبة أو البالغة التركيب – ضمن إطار دقيق ومنسجم، وعدم قدرتها على مفصلة الأدلة ضمن مقولات ملائمة تبعا لمستوى النظر إليها، فضلا عن عدم قدرتها على تقديم تصور متكامل وشامل يستجيب لخصوصيات كل الأدلة ويراعي طبيعة أنساقها المتميزة. ويضاف إلى ذلك، أنه رغم كونها تهتم، بشكل أو بآخر، بمظاهر التواصل، لم تراع خصوصيات العملية التواصلية التي تتم بفضل ذات منتجة، على الرغم من كون هذه الذات ليست مثالية ولا مطلقة، ولكنها متعددة ومتفردة؛ أي خاضعة – في عملية تلقي الأدلة وإنتاجها – لخلفياتها المعرفية ولقدراتها الإدراكية والتعرفية الخاصة.
إن تملي هذه الثغرات المحايثة لتحديدات الدليل عند هذه الاتجاهات المعاصرة، يفيد أنه بإمكانها أن تجد في النسق السيميائي البورسي الإجابات المقومة لها. وهذا ما سيتم السعي لتوضيحه، من خلال قراءة مفهوم الدليل عند بورس. وهي قراءة ستحاول، في نفس الوقت، تحقيق ذلك وتأسيس الخلفيات المعرفية لتحليل الخطابات المعرفية:
3- 1- ما هو الدليل عند بورس؟
تقتضي الإجابة الدقيقة عن هذا السؤال، تقديم إجابتين في شكل تعريفين متكاملين، قدمهما بورس نفسه في مواقع مختلفة. وهما التعريفان اللذان سبق للبعض،(سافان Savan) مثلا، أن قارب من خلالهما خصوصيات الدليل عند بورس( ). وسيتم العمل في البداية على توضيح مكانة وغاية كل واحد منهما داخل النسق البورسي نفسه :
أ – يرتبط التعريف الأول بالمقولات الفانرسكوبية الثلاث. ومن الواضح أن هذا التعريف قد راعى، في تراتبيته، سيرورة إنتاج الأدلة على اختلاف أنواعها.( وقد أنتجه بورس سنة 1902):
« يربط الدليل أو الممثل، الذي هو أول، مع ثان يسمى موضوعه، علاقة ثلاثية أصيلة، يمكنها تحديد ثالث، يسمى: مؤوله؛ ويربط هذا الثالث مع موضوعه نفس العلاقة الثلاثية، التي يربطها هو نفسه مع هذا الموضوع» ( ).
ب – بينما يرتبط التعريف الثاني بالتلقي والتأويل اللذين يعكسان في نفس الوقت العلاقات المنطقية بين الإنتاج والتلقي ( وقد أنتجه بورس سنة 1897):
«الدليل أو الممثل، هو شيء ما، يأخذ مكانا ما، بالنسبة لشخص ما، وفق صفة ما، ويعني ذلك أنه يخلق دليلا موازيا أو أكثر تطورا في ذهن ذلك الشخص. والدليل الذي يخلقه أسميه مؤولا للدليل الأول، ويأخذ هذا الدليل مكان موضوعه. غير أنه لا يأخذ مكان هذا الموضوع، وفق أي علاقة، ولكن بالرجوع إلى الفكرة التي سميتها أحيانا: أساس الممثل»( ).
إن من بين الملاحظات الأولى التي يمكن استخلاصها من التعريفين معا، هي كون بورس يمنح الدليل نفس التعريف الذي يمنحه للممثل، ومن ثمة، ندرك عدم إمكانية مماثلته للدال عند أتباع دو سوسير. والواقع أن هذه الملاحظة التي أغفلها الذين وضعوا مقارنات بين حد الدليل عند بورس وعند دو سوسير ( جيرار دولودال على سبيل المثال) تكمن أهميتها في كشفها عن قلب بنيوي لمفهوم الدليل. فالدليل عند بورس ليس تسمية محايدة لمكوناته، بل هو نفسه ممثل، أي مجرد مكون أو عنصر داخل سيرورة يؤطرها ويتصدرها، بوصفه مشكلا لمظهرها المادي الوحيد ( ). ولعل هذا القلب كان نتيجة لتفكير عام، يطمح لأن يؤطر كل المظاهر والظواهر الكائنة أو الممكنة، بغض النظر عن كونها (لغوية أو شيئية..إلخ)، كما كان نتيجة لفكير ممارسي في عملية التَّدلال التي تجعل الدليل في الواقع بداية ونهاية:
فالممثل الأول دليل، ومؤوله دليل(حركة ذهنية)، كما أن موضوعه أيضا دليل أو ممثل جديد. ثم إن هذا الممثل الجديد الذي هو دليل، ليس مهما أن يكون موازيا للدليل – المصدر أو أكثر تطورا منه. علما أن أغلب مؤولات الأدلة تكون إما أكثر تطورا منها، كما يحدث في الترجمة التفسيرية عبر اللغوية، أو التي تتم من لغة إلى لغة؛ أو موازية لها كما يحدث حين يتعلق الأمر بترجمة الأدلة الشيئية إلى أدلة لغوية: كما هو الحال مثلا، مع عثورنا أثناء نزهة ما على صخرة ما، حيث يكون الدليل أو الممثل هو /صخرة/ وموضوعه هو مفهوم”صخرة” ومؤوله هو حد (الصخرة) الذي يوجد بشكل مسبق في أذهاننا.
وبتجاوز هذه الملاحظة، والانتقال إلى تحليل التعريفين المتكاملين، نلاحظ أن التعريف الأول المبني على المقولات الثلاث، يمفصل علاقات أجزاء الدليل إلى ثلاثيات أيضا. وتفرز تلك الثلاثيات تمفصل كل ركن من أركان الدليل إلى ثلاثة أصناف. ويتم ذلك تبعا لتناسب وجوده مع إحدى المقولات. ثم يسفر كل ذلك عن تسعة أصناف أساسية. وتقوم هذه الأصناف بتحديد كل أشكال وجود الأدلة. وفي نفس الوقت، تسمح بوجود كل أشكال وجهات النظر (مهما كانت القدرات الإدراكية لمنتجيها). وهذا بالضبط ما يقوم التعريف الثاني بتحديده، حيث يقوم بمسرحة السيرورة الاستمرارية للإدراك في بعدها الواقعي. وهو بذلك يجسد البعد التداولي للنسق كله:
إننا نكون أمام الدليل، كلما حضر في الذهن شيء ما، وفق صفة ما: أي وفق شروط متصلة بالحالات الخارجية المحيطة بحضور هذا الشيء في الذهن؛ ولذلك فإنه يخلق في الذهن دليلا آخر، موازيا له أو أكثر تطورا منه. وهذا الدليل الآخر هو مؤول الدليل الأول. ويحل هذا الدليل الثاني محل الموضوع. ولكي لا يتم الإكثار من الأمثلة، فإن المثال الذي قدم قبل قليل (عن الصخرة) يمكن أن يستعاد لكي يتم من خلاله تفسير هذه السيرورة: فالصخرة التي تشكل الدليل – المصدر، تتحول في الذهن- أثناء رؤيتها – إلى دليل جديد، قد يكون لغويا /صخرة.. Rocher / . وفي هذه الحالة فإن الدليل الحاضر في الذهن يحل محل موضوع الدليل الذي هو تلك الصخرة المرئية في هذا المكان وهذا الزمان. ويعتبر هذا الدليل موازيا للدليل المصدر. ونفس السيرورة تحدث إذا حولنا المؤول إلى دليل – مصدر، كأن نخبر من لم يشاهد الصخرة، بقولنا /صخرة/. أما قوله “أكثر تطورا” فوصف لإمكانية تجاوز حدود الموضوع المباشر للدليل المصدر، بفضل تأثير الشروط الخارج سيميائية: “وفق صفة ما” بالانتقال من موضوع الدليل إلى الاستمراري المترابط معه، وفق علاقة ما. تلك العلاقة التي قد تكون قائمة على التشابه والمقارنة أو على التجاور.. وإذا كان التشابه لا يحتاج إلى مثال توضيحي، فإن مثال المجاورة أن يكون موضوع الصخرة المتطور هو وجود الماء، أو وجود سابقُُ للبحر، أوضرورة تحريف الطريق..إلخ.
ويتضح من خلال هذا التعريف، أن الدليل الطبيعي المنعزل نفسه، يدل في ذاته أو خارج ذاته، وفق علاقات وضحها بورس في قوله”وفق صفة ما “وأن موضوعه غير مرتبط بدلالة محددة وأحادية، ولكنه مرتبط باستعدادات الذهن وبالشروط المتحكمة في إدراكه للدليل وجوديا. وذلك بالغ الوضوح في تفسيره للتجربة التواصلية:
1- ممثل ← موضوع ← مؤول (ممثل) 2 – مؤول (ممثل) ← موضوع ← مؤول (ممثل).
3 – 2 مفهوم أساس الممثل:
يعتبر أساس الممثل، من بين أهم المفاهيم الأساسية، في تصور بورس، لأنه، بدونه، لا يمكن فهم الاستمرارية التي تسمح بتعدد مؤولات نفس الدليل، والتي تتيح وجود كل وجهات النظر، وكل أنواع الاستعدادات الذهنية، مثلما تتيح انسجام الدليل مع مؤولاته المختلفة. والغريب أن هذا المفهوم، لم يحض بما يستحقه من الانتباه. ولعل ذلك عائد إلى عدم ظهوره بقوة في تعريفاته للدليل؛ إذ لم يظهر إلا في نهاية إحداها: «…غير أنه لا يأخذ مكان هذا الموضوع، وفق أي علاقة، ولكن بالرجوع إلى الفكرة التي سميتها أحيانا: أساس الممثل»
يتماس الأساس، مع مفاهيم أخرى، ظهرت في أطر نظرية أخرى، تصلح لأن تكون مداخل جيدة لفهمه، خاصة وأنها ليست في النهاية إلا تحديدات جزئية لكلية يشكلها. ومن بينها مفهوم الأساس(Ground) عند هيجل الذي يعني تداخل الهوية والاختلاف( )؛ والمحور الاستبدالي الترابطي عند دو سوسير وفق معناه العام( )؛ ونواة المعنى العلائقي عند علماء السرد الموضوعاتيين، والتي تعني عندهم مُوَلِّدَ تشكل التناظرات الخطابية( )؛ وحقل النَّوَاة المجردة (Champs Noétique) عند التواصليين، والذي يشمل كل الحالات الممكنة المترابطة مع دليل ما، والتي يشكل بعضها مدلول الدليل ، بينما تشكل واحدة منها فقط معناه( )؛ والاستمراري المطلق عند يالمسليف، والذي يشكل خلفية لترابط الدليل – على مستوى التعبير والمحتوى – مع الأدلة المعيِّنة لأجزاء العالم المناظرة له( )؛ وأيضا مفهوم الموسوعة عند إيكو، خاصة إذا خضعت لتعديل في المستوى( )
رغم وجود قواسم مشتركة بين كل هذه المفاهيم – وهي قواسم تشبه التشاكلات التي ردها محمد مفتاح إلى انتظام الكون( ) – فإنه يمكن بناء على العنصر المركز عليه، تبين دائرتين متمايزتين: فهناك ما يتصل بالجانب المعنوي المرتكز على المدلول (هيجل وعلماء السرد والتواصليون…). وهناك ما يتصل بالدال والمدلول معا (يالمسليف ودو سوسير و إيكو). ورغم كون المجموعة الثانية أقرب إلى مفهوم بورس، فإنها تسند لكل مفهوم مميزات خاصة، تمنع تماثله المطلق مع مفهوم الأساس.
فـالاستمراري المطلق، رغم أهميته القصوى، يغفل ترابط الدليل مع حالات وعي مخصوصة، كتلك التي تنتج عن التداعي الترابطي: فقد يكون مؤول رؤية فرد ما “للصرصار” مثلا، هو فقدانه الوعي، رغم أن هذا المؤول (فقدان الوعي) ليس حاضرا ضمن عناصر الاستمراري الخاص بالدليل – المصدر(الصرصار). ولذلك لا بد لكي يرقى مفهوم الاستمراري إلى مستوى أساس الدليل – القابل لأن يستوعب مثل هذه التأويلات – من تطعيمه بمفهوم فرعي خاص بالاستمراري الوجودي الذاتي للمنتج والمتلقي. ويرجع هذا القصور من جهة لكون الاستمراري لم يوضع انطلاقا من إدراك جدل المقولات الثلاث، وخاصة الأولانية التي، تتيح تقويض كل الأدلة وبنائها من جديد على مستوى الفرد والجماعة، وعلى مستوى الأعراف والقوانين.. ومن جهة ثانية، لأنه لم يوضع انطلاقا من رؤية واقعية لتفردات الأذهان المشكلة لمكان تحقق التَّدْلاَل (Semiosis)، ولكنه وضع انطلاقا من تصور ذهن شبه مثالي. ولذلك ليس الاستمراري إلا جزءا من ما صدق أساس الدليل. أما الاستبدال الترابطي، فإضافة إلى أنه لا يستجيب لشكل التداعي السابق، فإنه لا يغطي أيضا، على مستوى المدلول، خاصية الترابطات العضوية، مثل الانتقال من الصخور إلى وجود البحر في زمن جيولوجي غابر مثلا. بينما يظل مفهوم الموسوعة الأقرب إلى أساس الدليل البورسي، وذلك بفضل إضافة (إيكو) مفهوم الإبستيمي الفردي الذي أضحى مكونا من مكونات الموسوعة ذات البعد الشامل. ومع ذلك يظل الاختلاف قائما نتيجة كون الموسوعة هي من نظام الثالثانية، بينما أساس الدليل هو خزان موسوعي أولاني يشتغل بوصفه خلفية لكل تجربة تواصلية، تستجيب لقدرات المنتج والمتلقي على حد سواء، لأنه أساس الاستمرارية والواقعية في الفكر البورسي.
وبعد أن تمت محاولة تعريف مفهوم الأساس انطلاقا من مقارنته بالمفاهيم القريبة منه؛ ستتم الآن محاولة رؤية فعله في إنتاج التدلال، طبقا لما هو موجود في نهاية التعريف الثاني«..ولكن بالرجوع إلى الفكرة التي سميتها أحيانا: أساس الممثل»:
إن رؤيتي لذلك لشيء الطبيعي /صخرة/ لا يمكن أن يكون دليلا إلا إذا استطاع ذهني وعيها بوصفها موضوعا (صخرة) ولا يكون ذلك إلا بوجود مؤول مناسب بشكل سابق في ذهني، إذ هو الذي يساعدني على ربط ما يتمثل لذهني بموضوعه( ). وفي هذه الحالة، فإن الدليل الجديد الحاضر في ذهني مواز للدليل الأول بفضل تحيين مباشر لقانونه. لكنه قد يفجر في ذهني مؤولات أخرى تترابط معه بفضل علاقات ما، مثل تفكيري بصخر(أخو الخنساء) أو بصخرية (اسم امرأة) أو بالسخرية.. وبباقي إمكانات ترابطات الدال، سواء المحددة من قبل جناس القلب أو جناس التصحيف، أو تلك المحددة بدقة من قبل بورس( ) والمرتبطة بالتعالقات المادية بين الأدلة (العائلة/ العاهلة مثلا..)، ومثل تفكيري بكل الأشياء الصلبة، وبكل مكونات الصخور المتشاركة مع باقي الأشياء الطبيعية..إلخ. ومثل تفكيري بكل الأشرار، ذوي القلوب الصلبة (قلبه صخرة)..إلخ، ومثل تفكيري بكل الصخور المقدسة والأسطورية.. وبديهي أن انتقال تفكيري من هذا الدليل- المصدر إلى إحدى هذه الأدلة المترابطة معه، يفجر بدوره انتقالات متشابهة وهكذا.. وتلك هي الاستمرارية التأويلية.
إن هذا الغنى الذي يمنحه مفهوم الأساس وينسقه، يكون مرجعا لشكل تحقق الاستمرارية والواقعية، الخاصين بإنتاج وتلقي الأدلة المحكومة بوضعها المنسجم مع إحدى المقولات الثلاث. وشَكْلُ التحقق هذا، هو الذي حدده بورس في التعريف الأول الذي يقوم على توزيع كل أجزاء الدليل إلى ثلاثيات تترابط فيما بينها بفضل علاقات ثلاثية أيضا، تمنح في النهاية تسعة أنواع، قادرة على توصيف كل أنواع إنتاج وتلقي وتأويل الأدلة.
خلاصة:
إن الخلفية الإيبيستمولوجية المتحكمة في بناء مفهوم الدليل، الذي يؤسس لمفهوم النص في أهم النظريات السيميائية، تفيد في مجملها أنها تؤسس لثلاثة لأجهزة نظرية تأويلية مختلفة، منها ما يتعالى عن الواقع الموضوعي الشارط للنصوص، عن طريق إغفالها للمرجع، وللمؤول بوصفه القوة الذهنية التفكرية الرابطة بين الدال ومدلوله، ويتعلق الأمر بالسيميائيات المستوحاة من نظرية فردناند دو سوسير. ومنها ما لا يتلاءم مع الخطابات المجازية نتيجة حصرها لموضوع الدليل المشكل لمجال اهتمام السيميائيات في الإشارة القصدية، ويتعلق الأمر بسيميائيات التواصل. ومنها ما يهتم بكل أشكال وجود الدليل وما فوق الدليل (النص) إنتاجا وتلقيا، بفضل اهتمامه بحدود الدليل الثلاثة، وبكل شروط إنتاجه وتلقيه، سواء كانت محايثة أو متعالية أو شاملة لهما معا، ويتعلق الأمر بسيميائيات بورس التداولية.
———————————-
– يشمل الاختلاف معناه وحدوده وعدد مكوناته، أي مفهومه وما صدقه.
– دو سوسير، محاضرات في علم اللسان العام، ترجمة عبد القادر قنيني، دار إفريقيا الشرق، 1987 (الفصل الأول).
– من الواضح أن العبارة، وإن كانت عبارة عن جملة مؤلفة من لفظين وحسب، فإنها تنتمي – حسب مصطلحاته – إلى الكلام (حيث لا تكون العلاقة الدلالية اعتباطية) وليس إلى اللغة، ومعنى ذلك أن الدليل عنده لا يرتبط بالكلام.
– إن المرء يكون ـ وفق تلك الحال – أمام الكلام، أي مباشرة في إطار الثانيانية (مقولة الوجود) ، التي تتناقض مع تحديده للدليل..
– أنظر:
C.S.Pierce , Ecrits sur le signe, Traduit par G.D ELEDALLE ? Ed Seuil, Paris, 1978.
– لكن توخيا للموضوعية تجب الإشارة إلى أن تعديلا مماثلا، يلمس عند كل من (لكون (Lacon و (لبلانش Laplanche) و(لوكلير Leclaire) من خلال تحديدهم لأيقونة الرسم البياني للدليل( د/مد) التي تتميز – حسب بارط – عن التمثيل السوسيري من ناحيتين:”١- إن الدال(د) شامل، يتكون من سلسلة ذات مستويات عديدة (السلسلة الاستعارية): تربط بين الدال والمدلول علاقة غير قارة، إذ لا “يتطابقان” إلا من خلال بعض نقط التثبيت والإرساء.٢- إن لعارضة الفصل(-) بين الدال (د) والمدلول(مد) قيمة خاصة (لم تكن لها بالطبع عند دو سوسير): إنها تمثل كبت المدلول”
– أنظر:
G. Mounin, Introduction à la sémiologie. ed : Minuit. Paris. 1970. p p (95 – 102).
– يلاحظ إضافة إلى ربطه اللغة بالشكل فقط، أنه، على غرار دو سوسير، يلغي المرجع..
– لقد ربط دو سوسير مفهوم القيمة أساسا بمستوى المدلول (المحتوى)، وقد جعل ذلك المفهوم آلية لتحديد العلاقات الاختلافية القائمة بين المدلولات المنتمية لنفس اللغة الطبيعية، وبين المدلولات التي تعين نفس الشيء وإن كانت تنتمي للغات مختلفة،.. بينما لم يربطه بالدال، وذلك لأن هذا الأخير يقوم – تبعا لتحديده النسقي – في علاقته بمدلوله على الاعتباطية، التي تفرز بالضرورة اختلاف دالات اللغات. ومن ثمة، تمنع أي حكم عليها.. وبالنظر إلى هذه الحقيقة، لم يكن من الممكن تحديد قيمة الدال في مستوى اللغات، ولكن فقط في مستوى اللغة الواحدة.. ويمكن بناء على هذه الملاحظة، استنتاج علة رفض يالمسيلف الضمني لمبدأ الاعتباطية
– يعني أساس الدليل النوعيات التي بناء عليها يؤشر الدليل على موضوعه الدينامي الذي يعني عند بورس جميع السياقات التي يؤشر عليها الدليل وفق علاقات ما، لغوية أو طبيعية أو ثقافية..
– يشبه الاستبدال الناتج عن الاستمراري الموضوع الدينامي عند بورس.
ليس هذا الاستمراري إلا مستوى أولانية الدليل (أي اللحظة التي يدل فيها بفضل نوعياته الممكنة) والأدلة التي تشترك معه ولو في خاصية واحدة. وذلك لأن الاستمراري يشكل خزانا متكاملا، لكل ترابطات عناصر الدليل – المحددة من قبل يالمسليف – مع عناصر الأدلة الأخرى التي يشترك معها في النوعيات. وينسجم هذا الربط مع الانحلال الكامل الذي يعبر، وفق تصور بورس، عن تحويل الدليل – قانون إلى أيقونة نوعية. ثم بناء على ذلك الانحلال تنجز عملية انتقاء معنى ما من معاني هذا الخزان. ويشكل هذا المعنى المنتقى بالنسبة للنسق البورسي مؤشرا مطورا، ويشكل بالنسبة للنسق اليالسليفي المعنى الإيحائي. وتجدر الإشارة إلى أن انتماء الدليل الإيحائي إلى مقولة الثانيانية التي ينتمي إليها المعنى التعييني، لا يعني التماهي الأنطولوجي بينهما، أو تماهي السيرورتين الذهنيتين المؤديتين إليهما.
- J. Réthoré «La sémiotique triadique de C.S.Peirce », in Langages n° 58. 1980. p 32 : أنظر
– أنظر : – N. Everaert-Desmedt, Le processus interprétatif. Margada,Liège,1990, P :18.
– ويحدث ذلك حتى بالنسبة للنص المتميز، المأخوذ ليس في معناه أو معانيه الإيحائية، بل حتى في معناه الحرفي المعتمد عادة على مسلمات المدلول.
وذلك لأنه لا ينتظم ضمن نظام نسقي منطقي إجرائي، سواء تعلق الأمر باللفظ المحين أو بالنص نفسه. الشيء الذي يجعل طروحاتهم قابلة للتفنيد.
– المعنى المقصود بالمناط (sémème) هنا، هو معناه عند غريماس .أنظر: A. J. Greimas, & J. Courtés. Sémiotique, Dictionnaire raisonné de la théorie du langage. ed. Hachette Paris. 1979. tome 1. p /p (334 /335)
– يرتبط المؤشر بمدلول دلالة شيء ظاهر على شيء غير ظاهر، انطلاقا من علاقة استلزام، وهو عام. أما الإشارة فهي نوع مخصوص من المؤشرات، وتمتاز الإشارة بكونها قصدية عرفية لا تحتمل إلا وجها واحدا للتأشير. أنظر:
- G. Mounin, Introduction à la sémiologie.Ed, Minuit1970. p / p (13 / 14).
– أنظر: U. Eco, Sémiotique et philosophie de langage. Tr Par M.Bouzaher. Ed. PUF , 1988. p 39.
– وعلى خلاف هذا المفهوم، نجد لديهم عدة مفاهيم، قابلة لأن تستثمر وفق توزيع جديد، مثل حقل النَّواة المجردة، والمدلول، والمعنى، والفعل السيمي، والوضعية. أنظر:
-L. J. Prieto «la sémiologie » in Le langage Encyclopédie de la Pléiade, ed : Gallimard.1968.
– ويجب ألا يغيب عنا أن المناطات ليست إلا مفعولات التحيين..
- U. Eco, Les limites de l’interprétation, Tr. par M. Bouzaher, Grasset, Paris 1992. p 246. أنظر –
- D. Savan, «la sémiotique de C. S. Peirce ». in Langages n° 58. – أنظر:
– أنظر: – Peirce, Ecrits sur le signe. op. cit. (2.274) p 147 .
– نفسه. (2.274). ص:121.
– إن التأمل في التعاريف التي تلقاها الدليل، بدءا من تصور الرواقيين ومرورا بتصور أرسطو والقديس أغسطين، وصولا إلى معاصري بورس (دوسوسير وفريجه..) يكشف عن وجود سمة “المحايدة” بين الدليل ومكوناته، كما يكشف ميلهم إلى بناء تعاريف الدليل انطلاقا من المدلول وما يقوم مقامه، وليس انطلاقا من الدال..أنظر:
U. Eco, Sémiotique et philosophie du langage. op. cit. p- p (52 à58).
– ولترستيس، المنطق وفلسفة الطبيعة.ترجمة إمام عبد الفتاح إمام دار التنوير. بيروت. 1982. ص / ص (195/196).
– دو سوسير، محاضرات في علم اللسان العام. م. سا. (الفصل الخامس).
– أنظر: F. Rastier, Sémantique interprétative. Ed, P.UF. Paris. 1987. p p (18 &109).
– أنظر:
- L. J. Prieto « La sémiologie » op. cit.
– أنظر: – U. Eco. Sémiotique et philosophie du langage. op. cit. p p (79 – 80).
– أنظر: – U. Eco, Lector In fabula. Tr. par M. Bouzaher, Grasset, Paris. p16 –
– محمد مفتاح، التشابه والاختلاف المركز الثقافي العربي. 1996. ص- ص (9 – 10).
– إذا لم أكن أعرف /الصخرة/ سابقا، فإن ما يحضر في ذهني هو ممثلها فقط، ولذلك لا تكون دليلا مكتملا..
– أنظر: – Peirce, Textes Fondamentaux De Sémiotique,Tr. Par B.Fouchier et C.Fox, ed : M.K.Paris. 1987. p / p (82 /83).