[center]
بحث تطبيقي
لمعايير نحو النص
على قصيدة بعنوان
(في غيابة الذكريات)
إعداد الطالبة
بشاير عبدالله
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدي وحبيبي خاتم الأنبياء والمرسلين
محمد بن عبدالله ، وآله وصحبه الطيبين الطاهرين
هذا البحث، محاولة تطبيقية لقواعد ومفاهيم ومعايير نحو النص، على قصيدة من الشعر الحديث، للشاعر العراقي " مكي النزال".
ومكي النزال، شاعر معاصر، من مواليد الفلوجة بالعراق، يكتب شعره وينشر قصائده في موقع منتديات (المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية)، ومنتدى آخر. لم يصدر له ديوان لأسباب سياسية في العراق منعته من ذلك، على أن ديوانه سيصدر قريبا.
هو صحفي ومحلل سياسي ، لبعض الوكالات الأجنبية والعربية، اهتمامه بالسياسة وراثي، فوالده مدير مدرسة وناشط سياسي وإسلامي في العراق. والهم السياسي آخذ بناصيته، ويظهر تأثره في كثير من شعره ومقالاته السياسية المختلفة.
أما قصيدته، فهي بعنوان ( في غيابة الذكريات) لها ميزات عدة أهما من خلال النظر السريع، هو التناص الواضح والجميل مع سورة يوسف.
وهذا التناص هو ما سأدرس أثره في القصيدة من خلال تطبيقه كمعيار من معايير النصية، بالإضافة إلى دراسة القصيدة على مستوى السبك والحبك.
هذا ما أرجوه، ومن الله التوفيق والسداد.
--------------------------------
--------------------------------
في غيابة الذكريات
للشاعر العراقي مكي النزال
في غيابة الذكريات
رميتُ بقافيةٍ للهوى لم تمُت
وعدتُ لقلبي بما كان للحبِّ يوماً قميصاً
عليه دمٌ ليس إلاّ ..
أحمرٌ للشفاه اللواتي نطقن الكذب
قلتُ: ياقلبُ لا تبكِها ..،
وابكِ ذئباً أتى منكراً في الحياة
وهل هي إلاّ مراودةٌ للخيال ؟
وعاشقةٌ إثمَ فسق الجمال؟
فلا تبكِها وابكني
أنا..، الذئبُ ذاك الذي كان مأسورها
تسيّسُهُ ..، وما كان منه سوى الإمتثال
- - -
رميتُ بنابضةٍ في دمي
لم تزل ناطقةً في فمي
أتّّقي أن تكون
ممزِّقةً لرداء السكون
وفاضحةً للذي في الفؤاد
وقاهرةً للعناد
وجالبةً للسهاد
ولولا الذي قد فعلت..،
لكنت أنا في غيابة من يغضبون
--------------------------------------فيا قلبُ لا..،
لا تجرجر أكاليلَ صمتي الحكيم
إلى حيثُ تُنسي الشياطينُ صحبي
فلا يذكروني لدى ربِّهم
فأبقى حبيس الرؤى العبرات
- - - وها أنت ذا قد رأيت
من الدُّبرِ قُدّ القميص
وما من محيص
وسبعُ عجاف
وأُخرى وأُخرى و.....
عجافٌ عجاف
لأن الذي يفعلُ الناسُ ..،
لم يجلب الحظَّ من غيمةٍ في السماء
فعمَّ الجفاف
ولستُ بصدّيقهم ..،
ألفُ حاشى..،
- - - أنا...
من رمى نابضات الحروف
إلى قاع بحرٍ عميق
لكي يتَّقي غضبةَ الغاضبين
أنا الذئبُ ذاك ..
الذي أنبت النابَ في قلبهِ كي ينام
يفتّش بين الخرافات عن رغبةٍ في السلام
هل تفهمين؟!
---------------------------------------------
تقسيم القصيدة:
من تتبع تحولات الضمائر والمفاهيم والكلمات المفاتيح في القصيدة، يمكن تقسيمها إلى قسمين رئيسين ، ثم تقسيم كل منهما إلى قسمين فرعيين.
فيكون القسم الأول:
من أول القصيدة حتى ( لكنت أنا في غيابة من يغضبون). وهذا القسم يسود فيه ضمير المتكلم المرتبط بالفعل الماضي، إذ هو إخبار عن أحداث معينة ( رميت – عدت – قلت – رميت – اتقي – فعلت – كنت ).وينقسم هذا القسم إلى جزئين فرعيين:
أ. من بدايتها حتى ( تسيسه ..، وما كان منه سوى الامتثال).
ب. من (رميت بنابضة في دمي) حتى آخر هذا القسم.
والسبب في ذلك أن الجزأين يبدأان بتكرار الفعل (رميت) والمفعول به نفسه وإن جاء بصيغ مختلفة-. لكن في الجزء الأول يظهر لنا مخاطب في الماضي وهو القلب، إذ هذا الجزء إخبار لما فعل وأثر الفعلة على قلبه. أما القسم الثاني فيختفي فيه القلب، ليظهر لنا المفعول لأجله، وهو سبب ارتكاب فعل الرمي ( أتقي أن تكون).
أما القسم الثاني:
فهو خطاب مباشر مع القلب يبدأ بصيغة النداء (فيا قلب لا ..،)، ثم الأفعال الموجهة للمخاطب (لا تجرجر، ها أنت ذا قد رأيت) وينتهي بسؤال موجه لمخاطب أيضا بقوله (هل تفهمين؟!) ولكن المخاطب تغير من القلب إلى مخاطب بضمير المؤنث (تفهمين) وهذه الالتفاتة الغريبة في نهاية النص سأقف عندها بالتفصيل إن شاء الله.
ويمكن تقسيم هذا القسم إلى جزءين فرعيين:
ج. من (فيا قلب لا ...،) إلى الفراغ (...) بعد ( ألف حاشى...،)
د. من (أنا...) إلى آخر القصيدة.
وذلك لأنه في (ج) تدخل مفاهيم فرعية تمثل مجموعة جديدة من (الفاعلين) في القصيدة غير الشاعر نفسه وهو المهيمن على القسم الأول. أما في (د) يعود الشاعر ليكون الفاعل المهيمن مرة أخرى في القصيدة ويكون محور الحديث، لكن بصورة مختلفة عما سبق، فهو في السابق يظهر من خلال ضمير المتكلم، لكن في هذا الجزء يظهر بضمير الغائب، إذ يأتي الإلتفات في قوله
أنا..
من رمى نابضات الحروف
فهو هنا فاعل غائب ، يتحدث عن نفسه على أنه مغيب غير ظاهر صراحة من خلال هذه الأفعال التي يكون فاعلها ضمير الغائب ( رمى، يتقي ، أنبت، يفتش).
--------------------------------
السبك:
أول علامة من علامات السبك الظاهرة في القصيدة (التكرار)، وتنتشر عبر مسافات متقاربة على طول القصيدة.
فنلحظ باديء ذي بداء، تكرار للفعل (رميت) الذي جاء ثلاث مرات، كلها بصيغة الماضي، اثنان متصلان بضمير المتكلم (تاء الفاعل) وواحد مجرد فاعله ضمير غائب تقديره هو.
والمفعول به في الحلات الثلاث هو نفسه، يتكرر، لكن بصياغات مختلفة:
- رميت بقافية للهوى لم تمت
- رميت بنابضة في دمي
لم تزل ناطقة في فمي
- رمى نابضات الحروف
ويتضح من خلال تتبع المفعول به في هذه الحالات الثلاث، أنه واحد، وهذه سماته المختلفة ( قافية الهوى، نابضة ناطقة، نبضات الحروف)، مما لا يترك للشك مجالا بأنه يقصد (شعره أو قصائده) فالقافية من خصائص القصيدة بلا ريب، وهي نابضة ناطقة لأنها تعبر عن مشاعر الشاعر وأحاسيسه وتجاربه، وهي نابضة من حروف لأن الحرف مادتها وتتشكل منه.
ويظهر ملمح آخر لتلك القافية، وذلك بإضافتها إلى الهوى، والهوى أيضا يتكرر لكن بصياغة أخرى (الحب)، في قوله (وعدت لقلبي بما كان للحب يوما قميصا)، فالقميص يرتبط بالحب والفتنة في سورة سيدنا يوسف على السلام، فهو هنا تناص مع مفهوم القميص في السورة القرآنية، وما يتعلق به من غواية وفتنة وحب من نوع آخر. لذا نخلص إلى أنه يريد بالقافية تخصيصها بالهوى، بمعنى أنه رمى الشعر الذي يحكي عن الحب والغزل والفتنة، رما ليتخلص منه.
وعلى ذكر التناص، فهذه القصيدة تتميز بسمة سائدة متمثلة في تناص مفرداتها مع سورة يوسف، وسأحاول التفصيل في أثر التناص في انسباك هذه القصيدة واحتباكها بين ثنايا الشرح، ثم أجمعا في معيار التناص لاحقا.
ومن التكرار أيضا، تكرار كلمة (غيابة) في موضعين، أول القصيدة (غيابة الذكريات) ونهاية القسم الأول (غيابة من يغضبون)، وفعل الرمي ارتبط بهذه الكلمة بعلاقة الظرفية المكانية ( في غيابة الذكريات، رميت بقافية للهوى لم تمت)، وهذا الارتباط الظاهر بين الفعل والمفعول فيه في أول القصيدة، يؤدي بصورة غير مباشرة إلى ارتباط الرمي بـ(غيابة) الثانية في قوله (لكنت أنا في غيابة من يغضبون)، كأن التقدير هو لكنت أنا رُميت في غيابة من يغضبون.
ولوقوع التكرار في هذا الموضع من القصيدة أثر يدفع بالقول الذي اقترحته، لأنها ظهرت في مطلع القصيدة وفي نهاية القسم الأول ، فكأنها " ترد العجز على الصدر"، ففي قوله
ولولا الذي قد فعلت...،
لكنت أنا في غيابة من يغضبون
تعيد هذه النقط مع كلمة فعلت (فعلت...،) إلى أول القصيدة، ويكون المفهوم " لولا أني رميت قافية الهوى في غيابة الذكريات، لكنت أنا من رمي في غيابة من يغضبون"، وهذا ما أقصدة برد عجز القسم الأول على صدره.
ونلحظ تكرارا آخر مهما في القصيدة، في:
( أنا..، الذئب ذاك) و (أنا الذئب ذاك ...)
وهذا الاختلاف في مكان النقط (...) يعطي دلالة باختلاف التركيبين. ففي الأول يقول (أنا...،) ثم يقف وقفة تأمل وتفكير في ذاته، تخلصه إلى وصف نفسه بالذئب ذاك الذي كان مأسورها.
أما الثانية، فمكان النقط اختلف، كأنها وقفة أخرى تهيء القارئ لاستعادة الذئب الأول، ثم يلحظ بعد الاستعادة أن الذئب قد تغير أو تغيرت بعض صفاته.
فالأول كان مسلوب الإرادة مسيرا مأسورا، أما الثاني فهو ذئب قد اتخذ موقفا، وأنبت الناب في قلبه ليفتش عن السلام.
ومن أنواع التكرار،( التكرار الجزئي)، وهو يظهر في قوله
(وسبع عجاف) ثم (فعم الجفاف). فالعجاف ترتبط بالجفاف في سورة يوسف. ولهذا التناص أثر سأذكره لاحقا.
أما المظهر الثاني من مظاهر السبك وأنواعه البارزة في القصيدة، (توازي المباني).
فالشاعر يقول:
وهل هي إلاّ مراودةٌ للخيال ؟
وعاشقةٌ إثمَ فسق الجمال؟
واصفا قافية الهوى، يدخل التوازي ليكسب الصورة بعدا جماليا و موسيقيا، فالشاعر يصف قوافي الهوى وما فيها من جمال وخيال وقرب للنفس، فكأن التوازي جعل الكلمات تهتز طربا لها ولصفتها.
وفي قوله :
رميتُ بنابضةٍ في دمي
لم تزل ناطقةً في فمي
الأثر السابق نفسه تقريبا، حيث يضيف التوازي بعدا صوتيا متحركا في القصيدة، لأنه صفة لقوافي الهوى، وما تأتي به من تأثير في النفس، يحركها ويشجيها، من حيث هو صوت وقافية ونغم.
أما التوازي في :
وفاضحةً للذي في الفؤاد
وقاهرةً للعناد
وجالبةً للسهاد
فهو يسهم في معنى التوكيد والتشديد على ما تجلبه منه أثر يعزز الخوف والقلق ويؤكده.
وفي القصيدة نوع ثالث من أدوات السبك، يتمثل في (الصيغة البديلة) التي ظهرت بأنواعها الثلاث (الضمير – الإشارة – فعل )
أما الضمير:
يا قلب لا تبكها...،
الضمير المتصل للغائب، يعود على قافية الهوى، وجاء استخدام الصيغة ليعفي من التكرار، ويحقق الإيجاز. فالصيغة البديلة ظهرت في مسافة قريبة نسبيا من العائد عليه لذا فعملية التنشيط للمفهوم صارت أسهل وأيسر.
الإشارة:
أنا...، الذئب ذاك ( في القسم الأول)
الإشارة بذاك عموما تكون إشارة إلى شيء سابق، غير أن المتتبع للقصيدة لا يجد ذلك السابق المشار إليه، مما يدفعه إلى الذئب الذي في سورة يوسف والموجود في عالم النص، لأن السياق والمفاهيم التي من السورة تعزز الإشارة إلى هذا المفهوم. ولكن بعد الاستمرار في القراءة نجد أن (ذاك) تشير إلى شيء لاحق وليس سابق فقط، وهذا عندما وصفه (بالذي كان مأسورها) مما يجعلنا نتصور ذئبا آخر غير المتناص معه من السورة، لأن خصائصه تختلف، ولأنه مأسور القوافي.
ويتكرر ذاك مرة أخرى في
أنا الذئب ذاك...
ولكن ذاك تبعتها ثلاث نقط (...) مما يجعلها تشير إلى اتجاهين، اتجاه سابق يشمل ذئب يوسف والذئب الأسير المسيس، وتشير إلى اتجاه لاحق، إلى ذئب ثالث (الذي انبت الناب في قلبه كي ينام) فهذه الإشارة مع التكرار، يعملان على سبك القصيدة وربطها ربطا واضحا.
صيغة (فعل):
ولولا الذي قد فعلت...،
وفعلت توجز وتلخص وتجمع الأحداث السابقة معا، وهي في هذا الموقع تعود على فعل الرمي بمكانيه، سواء الرمي في أول القصيدة أو في بداية الجزء (ب). والعلامة بعد فعلت (...) تطرقت إلى دورها في رد آخر القسم على أوله، لأنها تشير إلى فعلي الرمي معا.
وقوله :
لأن الذي يفعل الناس...،
يفعل الناس هنا أيضا صيغة بديلة لأنواع الأفعال المختلفة، لكنها تحيل على شيء خارج النص، لا فعل متعين داخل القصيدة. فهي تشمل كل أفعال الناس التي فعلوها فعم الجفاف بسببها. وهذه تحيل إلى العالم الخارجي والسياق الاجتماعي المحيط بالقصيدة. فماذا فعل الناس؟ سيتضح جانب من الإجابة في قسم التناص لاحقا.
ومما لاحظته، ميل الشاعر لاستخدام النقط (...) مع الصيغة البديلة، أو عندما يشير إلى شيء سابق:
( لا تبكها...،) (قد فعلت...،) (يفعل الناس...،) (الذئب ذاك...)
كما يستخدما مع حالات الوقف أو ليشير بها إلى وجود وقف وفاصل زمني أو نفسي:
( أنا...، الذئب ذاك) (فيا قلب لا ...،) (وأخرى وأخرى و...)
(ولست بصديقهم ..،
ألف حاشى..،
أنا...)
أما قوله (هل تفهمين؟!)
فقد ترددت في مكانها، هل أضعها في السبك أم الحبك؟، فوجدت أنها تؤدي دورا مهما في سبك القصيدة، لأنها شكل من أشكال الالتفات.
فالقصيدة في بدايتها، أسلوب خبري، يخبر فيه الشاعر عن فعله الذي فعل، دون أن يحدد مخاطبا معينا. ثم ينفصل عن هذا الخطاب المباشر الصريح ليرتد إلى قلبه فيحدث نفسه حديثا باطنيا طويلا، ثم يعود مرة أخرى للخطاب المباشر مع المخاطب الذي كان مجهولا ليسأله
(( هل تفهمين؟!))
وهذا السؤال في النهاية يشعرنا بأن المخاطب غير المتعين في بداية القصيدة يظهر فجأة، وهو مخاطب مؤنث، يستفهم منها الشاعر إن كانت قد أدركت (قصده). مما يثير القارئ لإعادة القراءة والتمعن في القصيدة من أولها بحثا عن تلك المخاطبة وسبب ظهورها المفاجئ في النهاية، لأن الشاعر اخلف التوقع، فالسياق الذي يسبق السؤال مباشرة سياق خطاب مع القلب والمتوقع أن يسأل قلبه إن كان قد فهم، لكنه يخلف التوقع ويفجئ القاريء بظهور مخاطب آخر، بل ومخاطب مؤنث!!.
والسؤال للمؤنث هنا وفي هذا المكان، سائلا إن كانت تفهم، ليس سؤالا خاصا بها، بل سؤال يمتد إلى القاريء نفسه، ليسأله الشاعر، هل تفهم؟؟
هذه أهم سمات السبك في القصيدة كما ظهرت لي، وهي دليل على انسباك ظاهر النص، واستمرارية ترابط مبانيه...
... أما المعاني والمفاهيم، هي ما سأدرسه في الحبك.
-------------------------------
الحبك:
تبرز في القصيدة أربعة مفاهيم رئيسة هي:
1- الفعل 2- الفاعل 3- المفعول به 4- المفعول لأجله
- فالفعل هو الرمي والتخلص من المفعول به (قافية الهوى)
- والفاعل هو الشاعر وما يتصف به من صفات ( وهو فاعل متأثر بغيره)
- والمفعول به وهي قوافي الشعر ( وتظهر بصورة فاعل في بعض أجزاء القصيدة)
- أما المفعول لأجله فهو (التقية ) يتضح في قوله:
( اتقي أن تكون )
(أتقي غضبة الغاضبين)
يرتبط الفاعل بالفعل بعلاقة اسناد، فالشاعر هو الذي رمى، لكن هذه العلاقة علاقة إجبارية لا بد منها، حتمتها على الشاعر ظروف خارجية ستتضح مع الشرح.
ويرتبط الفعل بالمفعول به بعلاقة التعدية، رمى قافية الهوى، ثم تمتد العلاقة إلى الظرفية المكانية لتكون (رمى قافية الهوى في غيابة الذكريات)
ويرتبط المفعول به بالفاعل بعلاقتين، الأولى علاقة تلازم ، لأن القوافي الشعرية تلازم الشاعر حتما ومنها قوافي الهوى. والثانية علاقة عكسية يكون بها الفاعل مفعولا به، والمفعول فاعلا. لأن القوافي تسيس الشاعر الذئب وتأسره، فوقع عليه فعلها. فالفاعل المتأثر مرتبط بمفعوله المؤثر فيه بعلاقة قهرية يكون فيها مسلوب السلطة.
ولأنه مسلوب السلطة ومتأثر، ولوجود عوامل خارجية مؤثرة فيه، كان لابد أن يرمي بالقوافي في غيابة الذكريات، وهذا يتضح من المفعول لأجله.
فالمفعول لأجله، هو العنصر المهم الذي يعقع وسطا في كل هذه العلاقات، كأن المفاهيم كلها تدور حوله. ( فلماذا يرمي الشاعر ما يلازمه دائما وهو مرتبط به حتما، في مكان بعيد مظلم؟ … " تقيــــــــــــــــــة ً"
وتفسير التقية، صورها وأسبابها، قد احتل مساحة كبيرة من القصيدة، تمتد من النصف الثاني من القسم الأول (ب) إلى نهاية القصيدة .
أتّّقي أن تكون
ممزِّقةً لرداء السكون
--
ولولا الذي قد فعلت..،
لكنت أنا في غيابة من يغضبون
--
فلا يذكروني لدى ربِّهم
فأبقى حبيس الرؤى العبرات
--
لأن الذي يفعلُ الناسُ ..،
لم يجلب الحظَّ من غيمةٍ في السماء
فعمَّ الجفاف
--
لكي يتَّقي غضبةَ الغاضبين
--
يفتّش بين الخرافات عن رغبةٍ في السلام
--
كلها صور للتقية، فهو:
1- يتقي الفضيحة
2- يتقي الغضب
3- يتقي الرؤى العبرات
( وكلها في النهاية ، تصب في :
- اتقاء السبع العجاف والجفاف الذي حل بالناس بسبب أفعالهم )
ولماذا التقية ؟ ....... "رغبة ً في الســــــــــــــــــــلام"
هكذا أرى المفاهيم تترابط في القصيدة، شاعر يرمي قوافي الهوى في غيابة الذكريات وينبذها، حتى لا يكتبها، اتقاء لغضب الناس، الذي حل بهم وبه جميعا الجفاف، يتقي بدوره هذه السنين العجاف فيرمي شعر الهوى في زمن يصعب فيه الهوى، رغبة منه في السلام.
----------------------------------
التناص:
التناص عامل أساسي وفاعل في هذه القصيدة، فعلى الرغم من أنه يعد من العناصر التي تتصل بالسياق والمحيط الخارجي، إلا أن له أثر كبير جدا في انسباك هذه القصيدة واحتباكها على التعيين.
أثر التناص في السبك
يظهر من خلال القراءة العامة لهذه القصيدة أنها تناص مع سورة يوسف، لا سيما من خلال المفاهيم الرئيسة، والكلمات المفاتيح المميزة للسورة، مثل ( غيابة، ذئب، قميض، دم، كذب، وغيرها).
وهذا التناص أسهم في اضفاء الاستمرارية لظاهر النص، كما أسهم في تفسير المفاهيم وتواصلها في باطن النص.
فعلى مستوى السبك، نلحظ أن المفردات المميزة لسورة يوسف، تتوزع على مساحة القصيدة إجمالا:
فالقصيدة تبدأ بـ ( غيابة الذكريات) التي تتناص مع الآية لاَ (تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ).
ثم يظهر القميص، وعليه دم لشفاه نطقن الكذف في قوله
وعدتُ لقلبي بما كان للحبِّ يوماً قميصاً
عليه دمٌ ليس إلاّ ..
أحمرٌ للشفاه اللواتي نطقن الكذب
تناصا مع الآية (وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ).
وهذا الترتيب في ظهور المفردات المفاتيح يشابه ترتيب ظهورها في الآية، وبما أنها مرتبطة مسبكة سبكا محكما في السورة، فإنها تنعكس على القصيدة، وتعطيها شكلا من الانسباك والأستمرارية.
ثم نلحظ ظهور هذه المجموعة من الكلمات ( صحبي، يذكروني لدى ربهم، الرؤى) في قوله:
إلى حيثُ تُنسي الشياطينُ صحبي
فلا يذكروني لدى ربِّهم
فأبقى حبيس الرؤى العبرات
مترابطة معا في مجموعة متقاربة متسلسلة من الأبيات، ينعكس عليها ترابطها في صورة أو مشهد السجب والرؤى في سورة يوسف، في قوله تعالى: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ) و قوله: (اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ)، والآية: (إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ).
كما يتناص مع القميص في قوله ( من دبر قد القميص) وأردفه بقوله (وما من محيص) لأنه أمر قضي وانتهى ، ففي سورة يوسف بالرغم من كونه بريئا وثبتت براءته من تهمة الإعتداء، إلا أن بلاء السجن وقع وما من محيص). قال تعالى: (فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ).
فانتشار هذه الكلمات المفاتيح في القصيدة بترتيب يشابه إلى حد ما ذلك الموجود في السورة، يسهم في خلق نوع من التوازي بين النصين، ومعاني المفردات المفاتيح في كل. فتكون السورة جاهزة نشطة في عالم النص، تقفز مفاهيمها بين الحين والحين لتنعكس على القصيدة، فتكسبها أثرا موازيا في السبك.
أثر التناص في الحبك:
التناص هنا يؤدي دورا أكبر في حبك المفاهيم وترابطها في القصيدة، لأن معانيها في السورة تعطي هذه المفردات المشتركة أبعادا أخرى، غير ما يظهر فقط من معانيها في القصيدة منعزلة. كما تعمل بشكل عكسي، فاستخدام المفردات المشتركة في تراكيب ومعان جديدة في القصيدة أكسبها رونقا وجمالا وشيء من الإبهار والإثارة للقاريء.
فعلى مستوى تفسير المعاني، نجد مثلا كلمة (غيابة الذكريات)، والتي ما أن يقرأها القاريء حتى تقفز كلمة (الجب) إلى حيز الوجود، لكن هنا تحدث الإثارة ويظهر أنها مضافة إلى كلمة جديدة وهي (الذكريات)، والذكريات أمر معنوي، بينما الجب مكان مادي والغيابة فيه مادية محسوسة، فيكون السؤال " ما علاقة الغيابة بالذكريات" ويتحقق التفسير من كلمة (جب) و (في) الظرفية، ليفهم منها أنها مكان، مفعول فيه يقع الفعل فيه على المفعول به.
والتناص بين (ذئب) القصيدة و(ذئب) الآية، يعطي أبعادا معنوية لهذا الذي في القصيدة و يمهد لفهمه واستيعاب دلالاته. فالذئب في القصيدة، ذئب مسير وما عليه إلا الامتثال، بينما ذئب الآية متهم بتهمة هو براء منها، ولا يقع عليه نوع من القهر أو السلطة للإمتثال للتهمة. أما الذي في القصيدة فموجود ممتثل يتأثر مباشرة بالأحكام التي تقع عليه، ويتغير حاله، فبعدما كان سلبي مفعول به، تغير وصار إيجابيا يغرس الناب في قلبه لمصلحته على المدى البعيد.
كما يسهم التناص في إزالة شيء من الغموض والإيهام، وذلك في قول الشاعر:
وسبعُ عجاف
وأُخرى وأُخرى و.....
عجافٌ عجاف
لأن الذي يفعلُ الناسُ ..،
لم يجلب الحظَّ من غيمةٍ في السماء
فعمَّ الجفاف
فالتناص بين سبع عجاف والآية، يدفعنا إلى محاولة تفسير علاقة السبع العجاف بالشاعر هنا. فهي في الآية سنين قحط حلت بأهل مصر والبلاد المجاورة، بمعنى أنها عوامل خارجية حلت على المجتمع وتأثر بها.
وهذا يحيلنا إلى العوامل الخارجية المحيطة بالشاعر نفسه، فإذا علمنا أنه شاعر عراقي معاصر، يعيش في العراق، ويزامن الأحداث الصعبة التي تمر بها المنطقة، وهو فوق هذا محلل سياسي، استطعنا فهم علاقة الشاعر بالسنين العجاف.
ويترتب على ذلك أن نفهم قوله:
لأن الذي يفعلُ الناسُ ..،
لم يجلب الحظَّ من غيمةٍ في السماء
فعمَّ الجفاف
فتفسير استخدامه لصيغة (يفعل) بدلا من تفصيل أنواع الفعل، أن المقام لا يكفي لسرد كل أنواع الأفعال التي أصابت العالم بالقحط والجفاف بأشكاله المادية والمعنوية، لأنها تطول.
وهذا الحديث عن القحط والجفاف يسهم في تفسير (رغبة في السلام) ، فالذئب يغرس ناب في قلبه، ويخرج بين الخرافات يبحث عن السلام، لأنها حاجة ماسة يفتقدها، ولا تتأتى له إلا إذا قرر مسالمة الخراف على عكس فطرته، ويرمي بقوافي الهوى في غيابة الذكريات على عكس فطرته أيضا.
ليتضح مما أسلفت، أن التناص عنصر فاعل ورئيس في تفسير علاقات المفاهيم بعضها ببعض، وترابطها في عالم النص، كما تسهم في إضفاء الاستمرارية الظاهرية لمباني النص وتزيده انسباكا واحتباكا.
بحث تطبيقي
لمعايير نحو النص
على قصيدة بعنوان
(في غيابة الذكريات)
إعداد الطالبة
بشاير عبدالله
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدي وحبيبي خاتم الأنبياء والمرسلين
محمد بن عبدالله ، وآله وصحبه الطيبين الطاهرين
هذا البحث، محاولة تطبيقية لقواعد ومفاهيم ومعايير نحو النص، على قصيدة من الشعر الحديث، للشاعر العراقي " مكي النزال".
ومكي النزال، شاعر معاصر، من مواليد الفلوجة بالعراق، يكتب شعره وينشر قصائده في موقع منتديات (المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية)، ومنتدى آخر. لم يصدر له ديوان لأسباب سياسية في العراق منعته من ذلك، على أن ديوانه سيصدر قريبا.
هو صحفي ومحلل سياسي ، لبعض الوكالات الأجنبية والعربية، اهتمامه بالسياسة وراثي، فوالده مدير مدرسة وناشط سياسي وإسلامي في العراق. والهم السياسي آخذ بناصيته، ويظهر تأثره في كثير من شعره ومقالاته السياسية المختلفة.
أما قصيدته، فهي بعنوان ( في غيابة الذكريات) لها ميزات عدة أهما من خلال النظر السريع، هو التناص الواضح والجميل مع سورة يوسف.
وهذا التناص هو ما سأدرس أثره في القصيدة من خلال تطبيقه كمعيار من معايير النصية، بالإضافة إلى دراسة القصيدة على مستوى السبك والحبك.
هذا ما أرجوه، ومن الله التوفيق والسداد.
--------------------------------
--------------------------------
في غيابة الذكريات
للشاعر العراقي مكي النزال
في غيابة الذكريات
رميتُ بقافيةٍ للهوى لم تمُت
وعدتُ لقلبي بما كان للحبِّ يوماً قميصاً
عليه دمٌ ليس إلاّ ..
أحمرٌ للشفاه اللواتي نطقن الكذب
قلتُ: ياقلبُ لا تبكِها ..،
وابكِ ذئباً أتى منكراً في الحياة
وهل هي إلاّ مراودةٌ للخيال ؟
وعاشقةٌ إثمَ فسق الجمال؟
فلا تبكِها وابكني
أنا..، الذئبُ ذاك الذي كان مأسورها
تسيّسُهُ ..، وما كان منه سوى الإمتثال
- - -
رميتُ بنابضةٍ في دمي
لم تزل ناطقةً في فمي
أتّّقي أن تكون
ممزِّقةً لرداء السكون
وفاضحةً للذي في الفؤاد
وقاهرةً للعناد
وجالبةً للسهاد
ولولا الذي قد فعلت..،
لكنت أنا في غيابة من يغضبون
--------------------------------------فيا قلبُ لا..،
لا تجرجر أكاليلَ صمتي الحكيم
إلى حيثُ تُنسي الشياطينُ صحبي
فلا يذكروني لدى ربِّهم
فأبقى حبيس الرؤى العبرات
- - - وها أنت ذا قد رأيت
من الدُّبرِ قُدّ القميص
وما من محيص
وسبعُ عجاف
وأُخرى وأُخرى و.....
عجافٌ عجاف
لأن الذي يفعلُ الناسُ ..،
لم يجلب الحظَّ من غيمةٍ في السماء
فعمَّ الجفاف
ولستُ بصدّيقهم ..،
ألفُ حاشى..،
- - - أنا...
من رمى نابضات الحروف
إلى قاع بحرٍ عميق
لكي يتَّقي غضبةَ الغاضبين
أنا الذئبُ ذاك ..
الذي أنبت النابَ في قلبهِ كي ينام
يفتّش بين الخرافات عن رغبةٍ في السلام
هل تفهمين؟!
---------------------------------------------
تقسيم القصيدة:
من تتبع تحولات الضمائر والمفاهيم والكلمات المفاتيح في القصيدة، يمكن تقسيمها إلى قسمين رئيسين ، ثم تقسيم كل منهما إلى قسمين فرعيين.
فيكون القسم الأول:
من أول القصيدة حتى ( لكنت أنا في غيابة من يغضبون). وهذا القسم يسود فيه ضمير المتكلم المرتبط بالفعل الماضي، إذ هو إخبار عن أحداث معينة ( رميت – عدت – قلت – رميت – اتقي – فعلت – كنت ).وينقسم هذا القسم إلى جزئين فرعيين:
أ. من بدايتها حتى ( تسيسه ..، وما كان منه سوى الامتثال).
ب. من (رميت بنابضة في دمي) حتى آخر هذا القسم.
والسبب في ذلك أن الجزأين يبدأان بتكرار الفعل (رميت) والمفعول به نفسه وإن جاء بصيغ مختلفة-. لكن في الجزء الأول يظهر لنا مخاطب في الماضي وهو القلب، إذ هذا الجزء إخبار لما فعل وأثر الفعلة على قلبه. أما القسم الثاني فيختفي فيه القلب، ليظهر لنا المفعول لأجله، وهو سبب ارتكاب فعل الرمي ( أتقي أن تكون).
أما القسم الثاني:
فهو خطاب مباشر مع القلب يبدأ بصيغة النداء (فيا قلب لا ..،)، ثم الأفعال الموجهة للمخاطب (لا تجرجر، ها أنت ذا قد رأيت) وينتهي بسؤال موجه لمخاطب أيضا بقوله (هل تفهمين؟!) ولكن المخاطب تغير من القلب إلى مخاطب بضمير المؤنث (تفهمين) وهذه الالتفاتة الغريبة في نهاية النص سأقف عندها بالتفصيل إن شاء الله.
ويمكن تقسيم هذا القسم إلى جزءين فرعيين:
ج. من (فيا قلب لا ...،) إلى الفراغ (...) بعد ( ألف حاشى...،)
د. من (أنا...) إلى آخر القصيدة.
وذلك لأنه في (ج) تدخل مفاهيم فرعية تمثل مجموعة جديدة من (الفاعلين) في القصيدة غير الشاعر نفسه وهو المهيمن على القسم الأول. أما في (د) يعود الشاعر ليكون الفاعل المهيمن مرة أخرى في القصيدة ويكون محور الحديث، لكن بصورة مختلفة عما سبق، فهو في السابق يظهر من خلال ضمير المتكلم، لكن في هذا الجزء يظهر بضمير الغائب، إذ يأتي الإلتفات في قوله
أنا..
من رمى نابضات الحروف
فهو هنا فاعل غائب ، يتحدث عن نفسه على أنه مغيب غير ظاهر صراحة من خلال هذه الأفعال التي يكون فاعلها ضمير الغائب ( رمى، يتقي ، أنبت، يفتش).
--------------------------------
السبك:
أول علامة من علامات السبك الظاهرة في القصيدة (التكرار)، وتنتشر عبر مسافات متقاربة على طول القصيدة.
فنلحظ باديء ذي بداء، تكرار للفعل (رميت) الذي جاء ثلاث مرات، كلها بصيغة الماضي، اثنان متصلان بضمير المتكلم (تاء الفاعل) وواحد مجرد فاعله ضمير غائب تقديره هو.
والمفعول به في الحلات الثلاث هو نفسه، يتكرر، لكن بصياغات مختلفة:
- رميت بقافية للهوى لم تمت
- رميت بنابضة في دمي
لم تزل ناطقة في فمي
- رمى نابضات الحروف
ويتضح من خلال تتبع المفعول به في هذه الحالات الثلاث، أنه واحد، وهذه سماته المختلفة ( قافية الهوى، نابضة ناطقة، نبضات الحروف)، مما لا يترك للشك مجالا بأنه يقصد (شعره أو قصائده) فالقافية من خصائص القصيدة بلا ريب، وهي نابضة ناطقة لأنها تعبر عن مشاعر الشاعر وأحاسيسه وتجاربه، وهي نابضة من حروف لأن الحرف مادتها وتتشكل منه.
ويظهر ملمح آخر لتلك القافية، وذلك بإضافتها إلى الهوى، والهوى أيضا يتكرر لكن بصياغة أخرى (الحب)، في قوله (وعدت لقلبي بما كان للحب يوما قميصا)، فالقميص يرتبط بالحب والفتنة في سورة سيدنا يوسف على السلام، فهو هنا تناص مع مفهوم القميص في السورة القرآنية، وما يتعلق به من غواية وفتنة وحب من نوع آخر. لذا نخلص إلى أنه يريد بالقافية تخصيصها بالهوى، بمعنى أنه رمى الشعر الذي يحكي عن الحب والغزل والفتنة، رما ليتخلص منه.
وعلى ذكر التناص، فهذه القصيدة تتميز بسمة سائدة متمثلة في تناص مفرداتها مع سورة يوسف، وسأحاول التفصيل في أثر التناص في انسباك هذه القصيدة واحتباكها بين ثنايا الشرح، ثم أجمعا في معيار التناص لاحقا.
ومن التكرار أيضا، تكرار كلمة (غيابة) في موضعين، أول القصيدة (غيابة الذكريات) ونهاية القسم الأول (غيابة من يغضبون)، وفعل الرمي ارتبط بهذه الكلمة بعلاقة الظرفية المكانية ( في غيابة الذكريات، رميت بقافية للهوى لم تمت)، وهذا الارتباط الظاهر بين الفعل والمفعول فيه في أول القصيدة، يؤدي بصورة غير مباشرة إلى ارتباط الرمي بـ(غيابة) الثانية في قوله (لكنت أنا في غيابة من يغضبون)، كأن التقدير هو لكنت أنا رُميت في غيابة من يغضبون.
ولوقوع التكرار في هذا الموضع من القصيدة أثر يدفع بالقول الذي اقترحته، لأنها ظهرت في مطلع القصيدة وفي نهاية القسم الأول ، فكأنها " ترد العجز على الصدر"، ففي قوله
ولولا الذي قد فعلت...،
لكنت أنا في غيابة من يغضبون
تعيد هذه النقط مع كلمة فعلت (فعلت...،) إلى أول القصيدة، ويكون المفهوم " لولا أني رميت قافية الهوى في غيابة الذكريات، لكنت أنا من رمي في غيابة من يغضبون"، وهذا ما أقصدة برد عجز القسم الأول على صدره.
ونلحظ تكرارا آخر مهما في القصيدة، في:
( أنا..، الذئب ذاك) و (أنا الذئب ذاك ...)
وهذا الاختلاف في مكان النقط (...) يعطي دلالة باختلاف التركيبين. ففي الأول يقول (أنا...،) ثم يقف وقفة تأمل وتفكير في ذاته، تخلصه إلى وصف نفسه بالذئب ذاك الذي كان مأسورها.
أما الثانية، فمكان النقط اختلف، كأنها وقفة أخرى تهيء القارئ لاستعادة الذئب الأول، ثم يلحظ بعد الاستعادة أن الذئب قد تغير أو تغيرت بعض صفاته.
فالأول كان مسلوب الإرادة مسيرا مأسورا، أما الثاني فهو ذئب قد اتخذ موقفا، وأنبت الناب في قلبه ليفتش عن السلام.
ومن أنواع التكرار،( التكرار الجزئي)، وهو يظهر في قوله
(وسبع عجاف) ثم (فعم الجفاف). فالعجاف ترتبط بالجفاف في سورة يوسف. ولهذا التناص أثر سأذكره لاحقا.
أما المظهر الثاني من مظاهر السبك وأنواعه البارزة في القصيدة، (توازي المباني).
فالشاعر يقول:
وهل هي إلاّ مراودةٌ للخيال ؟
وعاشقةٌ إثمَ فسق الجمال؟
واصفا قافية الهوى، يدخل التوازي ليكسب الصورة بعدا جماليا و موسيقيا، فالشاعر يصف قوافي الهوى وما فيها من جمال وخيال وقرب للنفس، فكأن التوازي جعل الكلمات تهتز طربا لها ولصفتها.
وفي قوله :
رميتُ بنابضةٍ في دمي
لم تزل ناطقةً في فمي
الأثر السابق نفسه تقريبا، حيث يضيف التوازي بعدا صوتيا متحركا في القصيدة، لأنه صفة لقوافي الهوى، وما تأتي به من تأثير في النفس، يحركها ويشجيها، من حيث هو صوت وقافية ونغم.
أما التوازي في :
وفاضحةً للذي في الفؤاد
وقاهرةً للعناد
وجالبةً للسهاد
فهو يسهم في معنى التوكيد والتشديد على ما تجلبه منه أثر يعزز الخوف والقلق ويؤكده.
وفي القصيدة نوع ثالث من أدوات السبك، يتمثل في (الصيغة البديلة) التي ظهرت بأنواعها الثلاث (الضمير – الإشارة – فعل )
أما الضمير:
يا قلب لا تبكها...،
الضمير المتصل للغائب، يعود على قافية الهوى، وجاء استخدام الصيغة ليعفي من التكرار، ويحقق الإيجاز. فالصيغة البديلة ظهرت في مسافة قريبة نسبيا من العائد عليه لذا فعملية التنشيط للمفهوم صارت أسهل وأيسر.
الإشارة:
أنا...، الذئب ذاك ( في القسم الأول)
الإشارة بذاك عموما تكون إشارة إلى شيء سابق، غير أن المتتبع للقصيدة لا يجد ذلك السابق المشار إليه، مما يدفعه إلى الذئب الذي في سورة يوسف والموجود في عالم النص، لأن السياق والمفاهيم التي من السورة تعزز الإشارة إلى هذا المفهوم. ولكن بعد الاستمرار في القراءة نجد أن (ذاك) تشير إلى شيء لاحق وليس سابق فقط، وهذا عندما وصفه (بالذي كان مأسورها) مما يجعلنا نتصور ذئبا آخر غير المتناص معه من السورة، لأن خصائصه تختلف، ولأنه مأسور القوافي.
ويتكرر ذاك مرة أخرى في
أنا الذئب ذاك...
ولكن ذاك تبعتها ثلاث نقط (...) مما يجعلها تشير إلى اتجاهين، اتجاه سابق يشمل ذئب يوسف والذئب الأسير المسيس، وتشير إلى اتجاه لاحق، إلى ذئب ثالث (الذي انبت الناب في قلبه كي ينام) فهذه الإشارة مع التكرار، يعملان على سبك القصيدة وربطها ربطا واضحا.
صيغة (فعل):
ولولا الذي قد فعلت...،
وفعلت توجز وتلخص وتجمع الأحداث السابقة معا، وهي في هذا الموقع تعود على فعل الرمي بمكانيه، سواء الرمي في أول القصيدة أو في بداية الجزء (ب). والعلامة بعد فعلت (...) تطرقت إلى دورها في رد آخر القسم على أوله، لأنها تشير إلى فعلي الرمي معا.
وقوله :
لأن الذي يفعل الناس...،
يفعل الناس هنا أيضا صيغة بديلة لأنواع الأفعال المختلفة، لكنها تحيل على شيء خارج النص، لا فعل متعين داخل القصيدة. فهي تشمل كل أفعال الناس التي فعلوها فعم الجفاف بسببها. وهذه تحيل إلى العالم الخارجي والسياق الاجتماعي المحيط بالقصيدة. فماذا فعل الناس؟ سيتضح جانب من الإجابة في قسم التناص لاحقا.
ومما لاحظته، ميل الشاعر لاستخدام النقط (...) مع الصيغة البديلة، أو عندما يشير إلى شيء سابق:
( لا تبكها...،) (قد فعلت...،) (يفعل الناس...،) (الذئب ذاك...)
كما يستخدما مع حالات الوقف أو ليشير بها إلى وجود وقف وفاصل زمني أو نفسي:
( أنا...، الذئب ذاك) (فيا قلب لا ...،) (وأخرى وأخرى و...)
(ولست بصديقهم ..،
ألف حاشى..،
أنا...)
أما قوله (هل تفهمين؟!)
فقد ترددت في مكانها، هل أضعها في السبك أم الحبك؟، فوجدت أنها تؤدي دورا مهما في سبك القصيدة، لأنها شكل من أشكال الالتفات.
فالقصيدة في بدايتها، أسلوب خبري، يخبر فيه الشاعر عن فعله الذي فعل، دون أن يحدد مخاطبا معينا. ثم ينفصل عن هذا الخطاب المباشر الصريح ليرتد إلى قلبه فيحدث نفسه حديثا باطنيا طويلا، ثم يعود مرة أخرى للخطاب المباشر مع المخاطب الذي كان مجهولا ليسأله
(( هل تفهمين؟!))
وهذا السؤال في النهاية يشعرنا بأن المخاطب غير المتعين في بداية القصيدة يظهر فجأة، وهو مخاطب مؤنث، يستفهم منها الشاعر إن كانت قد أدركت (قصده). مما يثير القارئ لإعادة القراءة والتمعن في القصيدة من أولها بحثا عن تلك المخاطبة وسبب ظهورها المفاجئ في النهاية، لأن الشاعر اخلف التوقع، فالسياق الذي يسبق السؤال مباشرة سياق خطاب مع القلب والمتوقع أن يسأل قلبه إن كان قد فهم، لكنه يخلف التوقع ويفجئ القاريء بظهور مخاطب آخر، بل ومخاطب مؤنث!!.
والسؤال للمؤنث هنا وفي هذا المكان، سائلا إن كانت تفهم، ليس سؤالا خاصا بها، بل سؤال يمتد إلى القاريء نفسه، ليسأله الشاعر، هل تفهم؟؟
هذه أهم سمات السبك في القصيدة كما ظهرت لي، وهي دليل على انسباك ظاهر النص، واستمرارية ترابط مبانيه...
... أما المعاني والمفاهيم، هي ما سأدرسه في الحبك.
-------------------------------
الحبك:
تبرز في القصيدة أربعة مفاهيم رئيسة هي:
1- الفعل 2- الفاعل 3- المفعول به 4- المفعول لأجله
- فالفعل هو الرمي والتخلص من المفعول به (قافية الهوى)
- والفاعل هو الشاعر وما يتصف به من صفات ( وهو فاعل متأثر بغيره)
- والمفعول به وهي قوافي الشعر ( وتظهر بصورة فاعل في بعض أجزاء القصيدة)
- أما المفعول لأجله فهو (التقية ) يتضح في قوله:
( اتقي أن تكون )
(أتقي غضبة الغاضبين)
يرتبط الفاعل بالفعل بعلاقة اسناد، فالشاعر هو الذي رمى، لكن هذه العلاقة علاقة إجبارية لا بد منها، حتمتها على الشاعر ظروف خارجية ستتضح مع الشرح.
ويرتبط الفعل بالمفعول به بعلاقة التعدية، رمى قافية الهوى، ثم تمتد العلاقة إلى الظرفية المكانية لتكون (رمى قافية الهوى في غيابة الذكريات)
ويرتبط المفعول به بالفاعل بعلاقتين، الأولى علاقة تلازم ، لأن القوافي الشعرية تلازم الشاعر حتما ومنها قوافي الهوى. والثانية علاقة عكسية يكون بها الفاعل مفعولا به، والمفعول فاعلا. لأن القوافي تسيس الشاعر الذئب وتأسره، فوقع عليه فعلها. فالفاعل المتأثر مرتبط بمفعوله المؤثر فيه بعلاقة قهرية يكون فيها مسلوب السلطة.
ولأنه مسلوب السلطة ومتأثر، ولوجود عوامل خارجية مؤثرة فيه، كان لابد أن يرمي بالقوافي في غيابة الذكريات، وهذا يتضح من المفعول لأجله.
فالمفعول لأجله، هو العنصر المهم الذي يعقع وسطا في كل هذه العلاقات، كأن المفاهيم كلها تدور حوله. ( فلماذا يرمي الشاعر ما يلازمه دائما وهو مرتبط به حتما، في مكان بعيد مظلم؟ … " تقيــــــــــــــــــة ً"
وتفسير التقية، صورها وأسبابها، قد احتل مساحة كبيرة من القصيدة، تمتد من النصف الثاني من القسم الأول (ب) إلى نهاية القصيدة .
أتّّقي أن تكون
ممزِّقةً لرداء السكون
--
ولولا الذي قد فعلت..،
لكنت أنا في غيابة من يغضبون
--
فلا يذكروني لدى ربِّهم
فأبقى حبيس الرؤى العبرات
--
لأن الذي يفعلُ الناسُ ..،
لم يجلب الحظَّ من غيمةٍ في السماء
فعمَّ الجفاف
--
لكي يتَّقي غضبةَ الغاضبين
--
يفتّش بين الخرافات عن رغبةٍ في السلام
--
كلها صور للتقية، فهو:
1- يتقي الفضيحة
2- يتقي الغضب
3- يتقي الرؤى العبرات
( وكلها في النهاية ، تصب في :
- اتقاء السبع العجاف والجفاف الذي حل بالناس بسبب أفعالهم )
ولماذا التقية ؟ ....... "رغبة ً في الســــــــــــــــــــلام"
هكذا أرى المفاهيم تترابط في القصيدة، شاعر يرمي قوافي الهوى في غيابة الذكريات وينبذها، حتى لا يكتبها، اتقاء لغضب الناس، الذي حل بهم وبه جميعا الجفاف، يتقي بدوره هذه السنين العجاف فيرمي شعر الهوى في زمن يصعب فيه الهوى، رغبة منه في السلام.
----------------------------------
التناص:
التناص عامل أساسي وفاعل في هذه القصيدة، فعلى الرغم من أنه يعد من العناصر التي تتصل بالسياق والمحيط الخارجي، إلا أن له أثر كبير جدا في انسباك هذه القصيدة واحتباكها على التعيين.
أثر التناص في السبك
يظهر من خلال القراءة العامة لهذه القصيدة أنها تناص مع سورة يوسف، لا سيما من خلال المفاهيم الرئيسة، والكلمات المفاتيح المميزة للسورة، مثل ( غيابة، ذئب، قميض، دم، كذب، وغيرها).
وهذا التناص أسهم في اضفاء الاستمرارية لظاهر النص، كما أسهم في تفسير المفاهيم وتواصلها في باطن النص.
فعلى مستوى السبك، نلحظ أن المفردات المميزة لسورة يوسف، تتوزع على مساحة القصيدة إجمالا:
فالقصيدة تبدأ بـ ( غيابة الذكريات) التي تتناص مع الآية لاَ (تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ).
ثم يظهر القميص، وعليه دم لشفاه نطقن الكذف في قوله
وعدتُ لقلبي بما كان للحبِّ يوماً قميصاً
عليه دمٌ ليس إلاّ ..
أحمرٌ للشفاه اللواتي نطقن الكذب
تناصا مع الآية (وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ).
وهذا الترتيب في ظهور المفردات المفاتيح يشابه ترتيب ظهورها في الآية، وبما أنها مرتبطة مسبكة سبكا محكما في السورة، فإنها تنعكس على القصيدة، وتعطيها شكلا من الانسباك والأستمرارية.
ثم نلحظ ظهور هذه المجموعة من الكلمات ( صحبي، يذكروني لدى ربهم، الرؤى) في قوله:
إلى حيثُ تُنسي الشياطينُ صحبي
فلا يذكروني لدى ربِّهم
فأبقى حبيس الرؤى العبرات
مترابطة معا في مجموعة متقاربة متسلسلة من الأبيات، ينعكس عليها ترابطها في صورة أو مشهد السجب والرؤى في سورة يوسف، في قوله تعالى: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ) و قوله: (اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ)، والآية: (إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ).
كما يتناص مع القميص في قوله ( من دبر قد القميص) وأردفه بقوله (وما من محيص) لأنه أمر قضي وانتهى ، ففي سورة يوسف بالرغم من كونه بريئا وثبتت براءته من تهمة الإعتداء، إلا أن بلاء السجن وقع وما من محيص). قال تعالى: (فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ).
فانتشار هذه الكلمات المفاتيح في القصيدة بترتيب يشابه إلى حد ما ذلك الموجود في السورة، يسهم في خلق نوع من التوازي بين النصين، ومعاني المفردات المفاتيح في كل. فتكون السورة جاهزة نشطة في عالم النص، تقفز مفاهيمها بين الحين والحين لتنعكس على القصيدة، فتكسبها أثرا موازيا في السبك.
أثر التناص في الحبك:
التناص هنا يؤدي دورا أكبر في حبك المفاهيم وترابطها في القصيدة، لأن معانيها في السورة تعطي هذه المفردات المشتركة أبعادا أخرى، غير ما يظهر فقط من معانيها في القصيدة منعزلة. كما تعمل بشكل عكسي، فاستخدام المفردات المشتركة في تراكيب ومعان جديدة في القصيدة أكسبها رونقا وجمالا وشيء من الإبهار والإثارة للقاريء.
فعلى مستوى تفسير المعاني، نجد مثلا كلمة (غيابة الذكريات)، والتي ما أن يقرأها القاريء حتى تقفز كلمة (الجب) إلى حيز الوجود، لكن هنا تحدث الإثارة ويظهر أنها مضافة إلى كلمة جديدة وهي (الذكريات)، والذكريات أمر معنوي، بينما الجب مكان مادي والغيابة فيه مادية محسوسة، فيكون السؤال " ما علاقة الغيابة بالذكريات" ويتحقق التفسير من كلمة (جب) و (في) الظرفية، ليفهم منها أنها مكان، مفعول فيه يقع الفعل فيه على المفعول به.
والتناص بين (ذئب) القصيدة و(ذئب) الآية، يعطي أبعادا معنوية لهذا الذي في القصيدة و يمهد لفهمه واستيعاب دلالاته. فالذئب في القصيدة، ذئب مسير وما عليه إلا الامتثال، بينما ذئب الآية متهم بتهمة هو براء منها، ولا يقع عليه نوع من القهر أو السلطة للإمتثال للتهمة. أما الذي في القصيدة فموجود ممتثل يتأثر مباشرة بالأحكام التي تقع عليه، ويتغير حاله، فبعدما كان سلبي مفعول به، تغير وصار إيجابيا يغرس الناب في قلبه لمصلحته على المدى البعيد.
كما يسهم التناص في إزالة شيء من الغموض والإيهام، وذلك في قول الشاعر:
وسبعُ عجاف
وأُخرى وأُخرى و.....
عجافٌ عجاف
لأن الذي يفعلُ الناسُ ..،
لم يجلب الحظَّ من غيمةٍ في السماء
فعمَّ الجفاف
فالتناص بين سبع عجاف والآية، يدفعنا إلى محاولة تفسير علاقة السبع العجاف بالشاعر هنا. فهي في الآية سنين قحط حلت بأهل مصر والبلاد المجاورة، بمعنى أنها عوامل خارجية حلت على المجتمع وتأثر بها.
وهذا يحيلنا إلى العوامل الخارجية المحيطة بالشاعر نفسه، فإذا علمنا أنه شاعر عراقي معاصر، يعيش في العراق، ويزامن الأحداث الصعبة التي تمر بها المنطقة، وهو فوق هذا محلل سياسي، استطعنا فهم علاقة الشاعر بالسنين العجاف.
ويترتب على ذلك أن نفهم قوله:
لأن الذي يفعلُ الناسُ ..،
لم يجلب الحظَّ من غيمةٍ في السماء
فعمَّ الجفاف
فتفسير استخدامه لصيغة (يفعل) بدلا من تفصيل أنواع الفعل، أن المقام لا يكفي لسرد كل أنواع الأفعال التي أصابت العالم بالقحط والجفاف بأشكاله المادية والمعنوية، لأنها تطول.
وهذا الحديث عن القحط والجفاف يسهم في تفسير (رغبة في السلام) ، فالذئب يغرس ناب في قلبه، ويخرج بين الخرافات يبحث عن السلام، لأنها حاجة ماسة يفتقدها، ولا تتأتى له إلا إذا قرر مسالمة الخراف على عكس فطرته، ويرمي بقوافي الهوى في غيابة الذكريات على عكس فطرته أيضا.
ليتضح مما أسلفت، أن التناص عنصر فاعل ورئيس في تفسير علاقات المفاهيم بعضها ببعض، وترابطها في عالم النص، كما تسهم في إضفاء الاستمرارية الظاهرية لمباني النص وتزيده انسباكا واحتباكا.