الأسلوبية: إبداع عربي أم اتباع / بقلم الباحث الزاكوري عبد الحكيم المرابط
كتبهاعبد الحكيم المرابط ، في 12 يوليو 2009
الساعة: 09:57 ص
1 ـ حول نشأة الأسلوبية وتطورها
شق
علم الأسلوب طريقه وأخذ يبحث عن ترسيخ دعائمه، كاتجاه ضمن اتجاهات النقد
الأدبي الحديث، منذ بداية القرن العشرين، وذلك بعد هالة من الشكوك المواكبة
له، والتي أثيرت حول شرعية وجوده، فـ«دفعت به مدا وجزرا إلى القواعد
التعليمية القديمة وأخرى إلى ضبابية الذوق الفني والحس اللغوي»[1].
ولعل
أبرز التطورات التي حدثت على مستوى علم الأسلوب تكاد ترتبط في مجملها،
بشكل مواز، بالتطورات التي حدثت على مستوى علم اللغة ، إذ ـ على حد تعبير
عبد السلام المسدي ـ «منذ سنة 1902 كدنا نجزم مع شارل بالي (Charles Bally) أن علم الأسلوب قد تأسست قواعده النهائية»[2]،
لكن الذين تبنوا دراسات بالي في التحليل الأسلوبي من بعده قد سارعوا إلى
نبذ معظم الأسس العلمية، التي بنى عليها بالي تحليله، وشحنوا العمل
الأسلوبي بشحنات من التيار الوضعي الذي جعل من اللغة كيانا مستقلا خاضعا
لقوانين ثابتة، تفرض نفسها على الفرد رغم أنه هو موجدها ومبدعها[3].
هذا الذي حدث بين بالي، فيما سطره من أسس لعلم الأسلوب، وبين مواليه، في رغبتهم الأكيدة إلى تجاوزه، قد شكل تفاقما منهجيا واضحا في الأسلوبية المنتسبة إلى بالي، هذا التفاقم المنهجي بدوره، إذا أضفنا إليه استبعاد بالي للغة الأدبية من ميدان دراسته الأسلوبية، هو الذي سيؤدي إلى ردة فعل تمثلت في ظهور الألماني ليو سبتزر (Léo Spitzer) بمنهجه الأسلوبي الانطباعي المغرق في الذاتية[4]، القائم على أسس فلسفية مثالية. بتأثير من أستاذه كارل فوسلر (Karl Vossler)، والذي سيعرف امتداده ـ فيما بعد ـ في إسبانيا مع أمادو ألونسو (Amado Alonso) وداماسو ألونسو (Damaso Alonso)[5].
هكذا،
يمكن أن نستشف أن ذلك الشك الذي حام حول مشروعية علم الأسلوب في النقد
الأدبي الحديث، هو ناتج بالأساس عن صراع فلسفتين كبيرتين هما الوضعية من
جهة والمثالية من جهة ثانية، مما أدى بـ ج . ماروزو (Jules Mrouzeau) سنة 1941 إلى التعبير عن أزمة الدراسات الأسلوبية في تدبدبها بين«موضوعية اللسانيات ونسبية الاستقراءات، وجفاف المستخلصات، فنادى بحق الأسلوبية في شرعية الوجود ضمن أفنان الشجرة اللسانية العامة»[6].
وقد
لُبِّيَ نداء ماروزو هذا في فترة الستينيات من القرن العشرين، التي شهدت
«اطمئنان الباحثين إلى شرعية علم الأسلوب [في الوجود]، وإذا بالمخاض يتحول
من جدلية الوضعية والمثالية إلى ثنائية الممارسة والتنظير»[7]، فقد بشر رومان ياكبسون (Roman Jakobson)
بسلامة الجسر الواصل بين اللسانيات والأدب في محاضرته حول (اللسانيات
والإنشائية) التي ألقاها بندوة عالمية انعقدت بجامعة "أنديانا" بأمريكا سنة
1960. «وفي سنة 1965 ازداد اللسانيون ونقاد الأدب اطمئنانا إلى ثراء الأسلوبية واقتناعها إلى مستقبل حصيلتها الموضوعية، وذلك عندما أصدر تزفتان تودوروف ((Tzvetan Todorov أعمال الشكلانيين الروس[8] مترجمة إلى الفرنسية»[9]. فتتوج بذلك الدراسات الأسلوبية من قبل الألماني ستيفن ألمان (Stephen Ullman) الذي أعلن عن « استقرار الأسلوبية علما لسانيا نقديا»[10].
ومما زاد الدراسات الأسلوبية ثراء وخصبا، ظهور علم العلامات[11] (السيميولوجيا)
الذي أصبح «من العلوم الجديدة الخصبة التي أسهمت في تأكيد الصلة بين الأدب
والنقد، بل إنها هي التي ساعدت في ظهور الاتجاهات التحليلية في النقد الأدبي. على أن هذه الجهود في مجال البحث الأسلوبي وما يتصل به قد تفاعل مع المنهج العلمي الذي ساد الدراسات اللغوية عامة»[12]، يضاف إلى ذلك أيضا استفادة الأسلوبية
من جهود اللسانيات التوليدية التحويلية التي جاءت بمثابة رد فعل على
المدرسة التوزيعية والتي تتحدد غايتها في تحليل «المحركات التي بفضلها
يتوصل الإنسان إلى استخدام الرموز اللسانية سواء كانت تلك المحركات نفسانية
أو "ذهنية ـ ذاتية"»[13].
وأقصى تطور عرفته الأسلوبية ـ كما يبدو ـ يتمثل في استفادتها من نظرية التلقي، لإبراز العلاقة التفاعلية بين القارئ والنص الأدبي[14]
وهكذا،
فإذا كان علم الأسلوب في النقد الأدبي الغربي الحديث قد نشأ وتطور بفعل
نشوء علم اللغة وتطوره، بشكل مواز، فكيف تم ذلك في النقد الأدبي العربي
الحديث؟
يبدو
أن الأمر سيختلف نوعا ما، لسبب بسيط، يتمثل ـ في نظرنا ـ في أن ما حدث على
مستوى علم اللغة في الغرب، لم يحدث أي شيء منه في العالم العربي، لذلك فإن
الحديث عن علم الأسلوب في الفكر النقدي العربي الحديث، سيتأخر زهاء نصف
قرن من الزمن عن نظيره الغربي، الذي شق طريقه منذ بداية القرن العشرين، هذا
إذا اعتبرنا محاولتي أحمد الشايب وأمين الخولي في دعوتهما إلى «تجديد
البحث في البلاغة العربية، في ضوء مفهوم الأسلوب»[15]، بمثابة الانطلاقة الأولى لنشوء علم الأسلوب في النقد الأدبي العربي الحديث.
ذلك
أن أمين الخولي كان يهدف من خلال دعوته إلى غرضين: أحدهما قريب، وهو تسهيل
دراسة المواد الأدبية. وثانيهما بعيد: وهو التجديد في علوم الأدب وعلوم
العربية بحيث تكون مادة هذه الدراسات من مواد النهوض الاجتماعي، تتصل
بمشاعر الأمة، وترضي كرامتها الشخصية، وتساير حاجتها الفنية المتجددة؛
فتكون اللغة لغة الحياة في ألوانها المختلفة وأداة التفاهم، فلا يعيش الناس
بلغة ويتعلمون لغة أخرى، ولا يفكرون الناس بلغة ويدونون أفكارهم بغيرها،
ويشعرون وينثرون ويمثلون ويخطبون بغيرها[16].
أما
أحمد الشايب فيرى أن البلاغة العربية في فنونها المعروفة عند الأقدمين لا
تساير الأدب الإنشائي العصري في أساليبه وفنونه، ولذلك يجب أن يوضع علم
البلاغة وضعا جديدا يلائم ما انتهت إليه الحركة الأدبية في ناحيتها العلمية
والإنشائية، ولهذا يقترح أن يدمج علم البلاغة في بابين: هما
باب الأسلوب ويتناول دراسة الحروف والكلمات والجمل والصور والفقرات
والعبارات، على أن تدرس درسا مفصلا دقيقا يعتمد علوم الأصوات والنفس
والموسيقى، وما إليها مما يقدم الأسلوب على أنه صورة فنية أدبية، وفي هذا
الباب تدخل علوم البيان والمعاني في البديع، لا على أنها علوم مستقلة بل
على أنها في باب الأسلوب ، وأما الباب الثاني، فيدرس الفنون الأدبية
وقوانينها شعرا ونثرا، (الخطبة والمقالة والرسالة والوصف والقصة والملحمة)،
وما إلى ذلك من الفنون مما زخرت به الآداب العالمية، ولم تحظ بلاغتنا
النظرية لحد الآن إلا بإشارات عنها[17].
وقد
أعقب هذا التدشين لعم الأسلوب في النقد الأدبي العربي الحديث محاولات أخرى
أكثر تطورا وعمقا من الناحية النظرية ظهر معظمها خلال العقدين الأخيرين من
القرن العشرين، وذلك بفعل الانفتاح المباشر على الدراسات الأسلوبية
الغربية، واستلهام مرتكزاتها النظرية، ثم تطبيقها على نصوص إبداعية عربية؛
وهناك من لم يقبل هذا الاستلهام فراح يبحث عن سبيل لإحداث علم أسلوب عربي،
إما بالعودة إلى التراث (النقدي والبلاغي والنحوي ومؤلفات الإعجاز القرآني
وغيرها)، واستنطاقه لها للظفر بجذور يمكن من خلالها استنبات نظرية
أسلوبية، وإما بالدعوة إلى ضرورة الانطلاق من التطبيق للوصول بعد ذلك إلى
نظرية أسلوبية نابعة من إبداعات أدبية عربية، لكن كليهما لقي معارضة شديدة.
لقد اتضح إذن كيف أن نشأة الأسلوبية
وتطورها في النقد الأدبي الحديث في الغرب، قد واكب التطور الذي لحق علم
اللغة، ثم إن تطورها في النقد الأدبي العربي الحديث، لم يتم إلا بعد
استلهامه للأسس النظرية للدراسات الأسلوبية الغربية.
والله الموفق إلى الصواب
[1] ) عبد السلام المسدي: الأسلوبية والأسلوب، طبعة منقحة ومشفوعة ببليوغرافيا الدراسات الأسلوبية البنيوية الدار العربية للكتاب، ط . 3، طرابلس، تونس العاصمة، د. ت، ص: 20.
[2] ) نفسه.
[3] ) محمد عبد المطلب: البلاغة والأسلوبية، الشركة المصرية العالمية للنشر، ط.1، لونجمان، 1994، ص: 185، بتصرف.
[4] ) عبد السلام المسدي: الأسلوبية والأسلوب، ص: 21، بتصرف.
[5] ) ينظر صلاح فضل: علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته، منشورات دار الآفاق الجديدة، ط. 1، بيروت، لبنان، 1985، صص: 40 – 77.
[6] ) عبد السلام المسدي: الأسلوبية والأسلوب، ص: 22.
[7] ) نفسه، ص: 23.
[8] ) من أهم
ترجماتها إلى اللغة العربية ترجمة إبراهيم الخطيب: نظرية المنهج الشكلي،
نصوص الشكلانيين الروس، طبعة الناشرين المتحدين، الرباط، 1982.
[9] ) عبد السلام المسدي: الأسلوبية والأسلوب، ص: 24.
[10] ) نفسه.
[11] ) أنظر أحمد يوسف: السميائيات التأويلية وفلسفة الأسلوب، مجلة عالم الفكر، العدد 3، المجلد 35، يناير ـ مارس، 2007.
[12] ) محمد عبد المطلب: البلاغة والأسلوبية، صص: 182 ـ 183.
[13] ) عبد السلام المسدي: الأسلوبية والأسلوب، ص: 209.
[14] ) يمكن التوسع في ذلك بالرجوع إلى محمد رضا مبارك: نظرية التلقي والأسلوبية منهاج التقابل الدلالي والصوتي، مجلة عالم الفكر، العدد 1، المجلد 33، يوليوز ـ سبتمبر، 2004.
[15] ) شكري محمد عياد: مفهوم الأسلوب بين التراث النقدي ومحاولات التجديد، مجلة فصول ، المجلد1، العدد 1، أكتوبر ـ نوفمبر ـ ديسمبر ـ 1980، ص: 53
[16] ) أمين الخولي: فن القول، تقديم صلاح فضل، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة ، 1996، صص : 63 ـ 64.
[17]) أحمد الشايب: الأسلوب، دراسة بلاغية تحليلية لآصول الأساليب الأدبية، مكتبة النهضة المصرية، ط. 4، القاهرة، 1956، صص: 3 ـ 4، بتصرف