منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    مفهوم الخطاب في النظرية النقدية

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    مفهوم الخطاب في النظرية النقدية Empty مفهوم الخطاب في النظرية النقدية

    مُساهمة   الخميس أكتوبر 06, 2011 3:52 pm

    [center]
    مفهوم الخطاب في النظرية النقدية
    - عبدالرحمن حجازي
    الأحد 20 مايو 2007
    أصبح مصطلح «الخطاب» ـ في الآونة الأخيرة ـ مصطلحاً شائعاً ، إلا أنه تشعب ، وصارت له دروب عديدة ومفاهيم مختلفة ولا متناهية ، حتى بات العثور عليه وتحديده أمراً صعباً.. بادئ ذي بدء يتحدد المعنى اللغوي للخطاب في عدة اتجاهات ، فهو يعني الإجابة عن شيء ما والنطق به ، أو مراجعة الكلام ، وقد قيل في قوله تعالى «وفصل الخطاب» هو أنه الحُكم بالبينة أو اليمين ، أو الفصل بين الحق والباطل ، والتمييز بين الحكم وضده ، أو الفقه في القضاء «1».. من ناحية أخرى فإن أغلب المرادفات الأجنبية الشائعة لهذا المصطلح مأخوذة من أصل لاتيني ، وهو الأسم DISCURSUS المشتق ـ بدوره ـ من الفعل DISCURRERE الذي يعني «الجري هنا أو هناك» أو «الجري ذهاباً وإياباً» وهو فعل يتضمن معنى التدافع الذي يقترن بالتلفظ العفوي ، وارسال الكلام ، والمحادثة الحرة ، والارتجال «2».. يقوم مفهوم الخطاب في اللغة ـ سواء العربية أو الأجنبية ـ على التلفظ أو القول بين طرفين : أحدهما مُخاطِب ، وثانيهما مُخاطَب ، وقد يتحاوران في شكل حديث حر ، فيقال حينئذٍ : إنهما يتخاطبان ، فيفهم أحدهما الآخر عن طريق البينة وفصل الخطاب.
    من هذا المنطلق يُفضي الاستعمال الاصطلاحي إلى معانٍ ودلالات أكثر تحديداً : إذ يتحول الخطاب إلى رسالة أو نص يكتبه كاتب إلى شخص آخر ، وقد يُكتب الخطاب شعراً ، ولكن الأشهر أن يكون نثراً ، كما يعني «العرض ، والسرد ، والخطبة الطويلة نسبياً غير الخاضعة إلى خطة جامدة ، ثم الموعظة والخطبة المنمقة ، والمحاضرة ، والمعالجة البحثية ، وأخيراً اللغة من حيث هي أفعال ادائية لفاعلين ، أو ممارسة اجتماعية لذوات تمارس الفعل الاجتماعي وتنفعل به بواسطة اللغة» «3».
    ويصبح المنطوق اللغوي أو القول الشعري جزءاً أساسياً من مفهوم الخطاب ، فهو الوحدة الأولى للخطاب ، وعلاقته به كعلاقة الجزء بالكل ، إلا أنه يتميز عن الخطاب في كونه يستطيع أن يستقل بذاته ، أي أنه ليس مشروطاً بالخطاب ، كما أنه يمكن أن يُقيم علاقاتٍ متشابكة مع التحليل الخطابي.
    وبذلك فإن المفهوم الإصطلاحي للخطاب يعني «الميدان العام لمجموع المنطوقات ، أو مجموعة متميزة من المنطوقات ، أو هو ممارسة لها قواعدها تدلُ دلالة وصفٍ على عدد معين من المنطوقات وتشير إليها» «4» ، كما أنه عبارة عن «مجموعة من المنطوقات أو الملفوظات التي تكون بدورها مجموعة من التشكيلات الخطابية المحكومة بقواعد التكوين والتحويل» «5».
    يعتمد مصطلح «الخطاب» ـ إذاً ـ على اللغة والمنطوق معاً ، حيث يستلزم وجود أحدهما وجود الآخر ، إلا أن هذه العلاقة ليست متساوية تماماً ، فالمنطوق ليس شرطاً لوجود اللغة ، مادام يمكن استبداله بغيره ، ولكن اللغة ـ في جميع الأحوال ـ تتكون من منظومة ، أو من نسق من المنطوقات الممكنة ، تماماً كما يعرفها دي سوسير باعتبارها «نظاماً من العلاقات» «6» ، إذ أن الخطاب ـ في أحد معانيه ـ «هو اللغة باعتبارها حواراً بين الكاتب والقارئ ، أو بين افكار الكاتب وأفكار القارئ ، أو بين ما يُمثله الكاتب «اجتماعياً أو سياسياً أو ثقافياً ... الخ » وما يمثله القارئ «7».
    وفي النهاية يمكننا القول أن مصطلح «الخطاب» يشير إلى الطريقة التي تشكل بها الجُمل نظاماً متتابعاً تُسهم به في نسق كلي متغير ومتحد الخواص ، وعلى نحو يمكن معه أن تتألف الجُمل في نظام بعينه لتشكل نصاً مفرداً ، أو تتألف النصوص نفسها في نظام متتابع لتشكل خطاباً أوسع ينطوي على أكثر من نص مفرد ، وقد يُوصف الخطاب بأنه مجموعة دالة من أشكال الأداء اللفظي تنتجها مجموعة من العلامات ، أو يوصف بأنه مساق من العلاقات المتعينة التي تستخدم لتحقيق أغراض متعينه «8».
    لاشك أن «الكلمة» عنصر مهم من عناصر الخطاب الذي يتم استخدامه للإشارة إلى مانقوم به تجاه اللغة من حيث هي ثوب الأفكار والمبادئ والقيم في المجتمع ، لذلك يجب أن يُفصل ذلك الثوب بدقة حتى يلائم تلك الأفكار ، ومن ثم تصبح اللغة هي اللسان المعبر عن المؤسسات الاجتماعية «وفي محاضرة القاها جون أوستن في جامعة هارفارد عام 1955م أكد فيها أن العلاقة التي لاتنفصل بين اللغة والفعل والمعرفة ، وفهم الممارسة الخطابية بوصفها ممارسة اجتماعية لاتنفصل فيها اللغة عن الموقف ، أو المنطوقات عن الفعل الذي يؤكد نوعاً من المعرفة ، وكان ذلك يعني تمهيد الطريق لتأسيس مصطلح الخطاب بوصفه دالاً على نسق من الوحدات اللغوية ( أصغرها الجملة) أو شبه اللغوية ( كما يحدث في خطاب الإعلان ،حيث الصورة والنغمة مصاحبة للكلمة) في تتابعه المنطوق أو المكتوب ، وفي علاقته بالعلامات الموازية ـ عمليات الاتصال وإنتاج المعنى والمجتمع بعامة ، ويقوم بتأصيل القيم في الوقت الذي يقوم بتوزيع المعرفة وتأكيد علاقات السلطة أو القوة بين أفراد المجتمع بخاصة «9».
    من هذا المنطلق نحاول تحديد مفهوم «الخطاب» من حيث علاقاته باللغة والمجتمع والأدب من جانب ، فضلاً عن تحديد مفهومه عند كل من ميخائيل باختين وميشيل فوكو من جانب آخر.
    1ـ الخطاب واللغة:
    لا يمكننا فصل مفهوم الخطاب عن مفهوم اللغة رغم الفارق الأساسي بينهما ، فإذا كان الخطاب هو ممارسة قدرة الحديث وكفايته أو الكلام وطريقته ، فإن كل منطوق قابل للملاحظة ، أي كل جملة أو مجموعة من الجمل الملفوظة ، أو نص مكتوب ، بالتعارض مع النسق المجرد الذي هو اللغة ، حيث يتحقق كانجاز وإنتاج خاص وفردي لمجموعة من العلاقات والوحدات والعمليات المتواضع عليها في الحوار النظمي للكلام بين طرفين من خلال علاقة الاتصال بالمنطوقات.
    من ناحية أخرى فإن العلاقات الخطابية ترتبط باللغة ـ بشكل أو بآخر ـ من خلال قنوات الاتصال إلا أنها «ليست علاقات توجد داخل الخطاب ، فهي لاتربط مفاهيمه والفاظه بعضها ببعض ، ولاتقيم بين الجُمل والقضايا بناءً اسنباطياً أو بلاغياً ، لكن هذا لايعني أنها علاقات توجد خارج الخطاب ، ترسم حدوده وتفرض عليه اشكالاً معينة ، وتلزمه ـ في بعض الأحوال ـ أن يتلفظ باشياء ويعبر عنها ، إنها توجد ـ إذا صح التعبير ـ عند حدود الخطاب ، فهي التي تمنحه الموضوعات التي يتحدث عنها ، أو على الأصح هي التي تحدد مجموع الروابط التي على الخطاب أن يُنشئها بصورة فعلية ، حتى يستطيع الكلام عن هذه الموضوعات أو تلك ، وحتى يتمكن من دراستها وتسميتها وتحليلها وتصنيفها وتفسيرها وغير ذلك ، فالعلاقات الخطابية لاتميز اللغة التي يستخدمها الخطاب ولاتميز الظروف التي ينتشر فيها كخطاب ، بل تميز الخطاب ذاته من حيث هو ممارسة» «10».
    وهنا ننتقل إلى ثنائية اللغة ـ الكلام السوسيرية إذ أن موضوع تحليل الخطاب تمثل في دراسة العلاقة بين الذات المتكلمة «الكلام» وعملية انتاج الجُمل «اللغة المنطوقة» أو علاقة الخطاب بالمجموعة الاجتماعية ،«فاللغة هي ظاهرة اجتماعية ونسق من العلاقات يسمح للأفراد بالاتصال فيما بينهم ، أما الكلام فهو الاستخدام الحر من طرف فرد للغته ، ويبدو الخطاب واقعاً وسيطاً بين اللغة والكلام ، فهناك شبه تعارض بين الكلام والخطاب ، كحرية نسبية واللغة كشفرة منسجمة ونسق من القواعد العامة والكونية : إن الجملة ماهي إلا كلام كموضع للنشاط وبرمجة للذكاء الإنساني» «11».
    وبهذا المعنى تتحدد العلاقة بين الخطاب واللغة في شكل تواصل لغوي بين طرفين حيث «تسعى اللسانيات إلى جعل الجملة وحدة لسانية صغرى تساهم ـ إلى جانب جمل أخرى ـ في تشكيل الخطاب ، وليس هذا سوى شكل من أشكال تمظهر اللغة والعمل على جعلها أداء للتواصل ، ولذلك يظل هذا المفهوم ـ في الحقل اللساني ـ ضيقاً لايمتد ليشمل باقي المستويات التي يمكنها الاسهام في إنتاج هذا القول ، وهذا ما يؤكد لنا أن الخطاب ـ من هذه الزاوية ـ هو خطاب لغة وقول ، يرتبط باللغة من حيث هي أداة للتواصل بين طرفين تتم بواسطتها الدورة الكلامية وهما «المُرسل والمُرسل إليه» «12».
    من هنا فإننا نستنتج أن الخطاب ليس هو الكلام ، أنه واقع وسيط بين اللغة والكلام ، إنه المنطوق أو الملفوظ اللغوي ، ويصبح الاستعمال اللغوي ـ من خلال هذا الفهم ـ محدداً اجتماعياً ، أي بوصفه خطاباً.
    2ـ الخطاب والمجتمع:
    اللغة استخدام اجتماعي ، ينتج عنها محدد اجتماعي يمكن أن يوصف بأنه «خطاب» ، حيث أن التمييز بين اللغة والكلام عند دي سوسير هو تمييز بين الأعراف الاجتماعية وبين الاستعمال الفعلي للغة ، فإذا كانت اللغة ترى أن الأعراف الاجتماعية موحدة ومتجانسة ، فمن الممكن القول بأنها ـ على العكس ـ تتميز بالتنوع والصراع من أجل السلطة ، وهذا التجانس أمر يفرضه أولئك الذين يُمسكون بزمام السلطة.
    ولعل الظواهر الاجتماعية هي ـ في الأساس ـ ظواهر لغوية ، بمعنى أن النشاط اللغوي الذي يجري في السياق الاجتماعي ـ شأنه شأن كل نشاط لغوي ـ ليس مجرد انعكاس للسيرورات والممارسات ، فالخلاف ـ مثلاً ـ على معنى التعايير السياسية هو مظهر مألوف ودائم في الخطاب السياسي ، «وتٌعتبر مثل هذه الخلافات ـ في بعض الأحيان ـ مجرد خطوة تمهيدية للسيرورات أو الممارسات السياسية ، كما تُعتبر ـ في أحيانٍ أخرى ـ نتيجة لها» «13».من جانب آخر فإذا كانت اللغة تُعتبر ممارسة اجتماعية ، أي سيرورة اجتماعية ، فإننا يجب أن نميز بين الخطاب والنص «النص المكتوب أو النص المنطوق» ، حيث أن النص ـ فيما أظن ـ نتاج اجتماعي ، بمعنى أنه نتاج لسيرورة إنتاج النص ، ومن ثم فإن مصطلح الخطاب «يستخدم للاشارة إلى كامل سيرورة التفاعل الاجتماعي التي لايُشكل النص سوى جزء منها ، فسيرورة التفاعل الاجتماعي هذه تشتمل ـ بالإضافة إلى النص ـ على سيرورة الانتاج التي يكون النص نتاجاً لها ، وعلى سيرورة التأويل التي يكون النص مرجعها ، وهذا مايجعل تحليل النص جزءاً واحداً فحسب من تحليل الخطاب الذي يشتمل أيضاً على تحليل السيرورتين الإنتاجية والتأويلية ، فمن منظور تحليل الخطاب يمكن أن نعتبر السمات الشكلية للنص آثاراً لسيرورة الإنتاج من جهة ، ومشعرات في سيرورة التأويل من جهة أخرى ، ولسيرورتي الإنتاج والتأويل خاصية بارزة تتمثل في انطوائهما على تفاعل بين خصائص النصوص ودائرة واسعة مما ادعوه «موارد أعضاء المجتمع» القائمة في رؤوسهم والتي يعتمدون عليها في إنتاج النصوص أو تأويلها ومن بين هذه الموارد معرفتهم باللغة ، وتمثيلاتهم للعالم الطبيعي والعالم الاجتماعي اللذين يعيشون فيهما ، وكذلك قيمهم واعتقاداتهم وافتراضاتهم وهلمجرا ... «14».
    من الملاحظ أن اللغة تنطوي على رؤية محددة بوصفها ممارسة اجتماعية تتعلق بالخطاب الجماعي ، فهي تتولد اجتماعياً وتتوقف طبيعتها عند العلاقات والصراعات التي تُولدها .
    وبذلك فإ الخطاب يشتمل على شروط اجتماعية يمكن أن ندعوها شروط الإنتاج الاجتماعية وشروط التأويل الاجتماعية ، وعلاوة على ذلك فإن «هذه الشروط الاجتماعية ترتبط بثلاثة مستويات متباينة من التنظيم الاجتماعي هي : مستوى الموقع الاجتماعي ، أو المحيط الاجتماعي المباشر الذي يجري فيه الخطاب ، ومستوى المؤسسة الاجتماعية التي تُشكل منبتاً واسعاً للخطاب ، ومستوى المجتمع ككل» «15».
    وفي النهاية فإن الناقد البصير هو من ينظر إلى اللغة بوصفها خطاباً أو ممارسة اجتماعية ، فهو لا يلزم نفسه بتحليل النصوص فحسب ، ولا بتحليل سيروتي الإنتاج والتأويل فقط ، بل يقوم بتحليل العلاقة بين النصوص وسيرورتها وشروطها الاجتماعية ، سواء كانت شروط سياق الموقع الاجتماعي المباشرة أو شروط البنى الموسساتية والاجتماعية إلأبعد ، أي يقوم بتحليل العلاقة بين النصوص والتفاعلات والسياقات.
    3ـ الخطاب والأدب
    يرتبط الخطاب ـ بشكل أو بآخر ـ بالأدب الذي يُعد ـ في الأساس ـ مظهراً حيوياً من مظاهر اللغة ، فهو الذي يسمح بظهور كينونتها ووظيفتها ، بحيث يغدو النص الأدبي نسيجاً لغوياً ، يفجر الطاقات التعبيرية الكامنة في صميم اللغة بخروجها عن عالمها المتخيل إلى حيز الوجود الفعلي ، ويصبح الأسلوب اللغوي هو الاستخدام المعبر عن طاقات المبدع وعاطفته ، حيث أن الإنسان ـ في جوهره ـ كائن حي عاطفي قبل كل شيء ، فاللغة الكاشفة عن جوهره هي لغة التخاطب بتعبيراتها المألوفة ، ومن المفيد أن نذكر بأن تقديراتنا الأسلوبية تندرج ضمن إطار اللغة العفوية المتكاملة فعلاً لا ضمن الاشكال الموجهة مهما كانت هذه القوالب ناتجة عن تحريرٍ واعٍ أو عن تصرف مصطنع على لغة الخطاب» «16».
    من ناحية أخرى فإذا كان الأسلوب هو اختيار الكاتب الذي يخرج بالقول عن حياده وينقله من درجته الصفر إلى خطاب يتميز بنفسه ، فإن الوظيفة الأسلوبية هي وحدها المجهة للرسالة الأدبية ، في حين تلتقي الوظائف الأخرى في كونها موجهة إلى شيء خارج عن الرسالة ، وهي تنتظم الخطاب حول الكاتب والقارئ والمحتوي ، ولهذا يتعين القول بأن الأداء الإبلاغي تستقيم بنيته بالوظائف الخمس في حين تقوم الوظيفة الأسلوبية بتعديل كثافته» «17».
    من هذا المنطلق يُلقي بنا الخطاب الأدبي ـ من الوهلة الأولى ـ في حقل السؤال المعرفي ، ويدفعنا إلى البحث في الظاهرة الأدبية التي تؤسس أدبية الأدب ، وتجعله خطاباً متميزاً عن القول المألوف ، إذ أن النص حقل لساني ومنهجي خطاب يتعالق مع خطاب نص يحيل إلى نص، ممارسة لاتقف عند حد في تشكلها ، عمل وإنتاج ، بل يمكن القول أن النص الأدبي هو فعل لغوي يؤسس اختلافه مع الأثر في تعدده ، وفي انفتاحه على سائر الأجناس الأدبية.
    من هنا يمتد الخلق الفني في عملية الإبداع الإنشائي فيشمل احياء الكلمة أو القول أو الخطاب حتى نصل إلى النص ، وفي هذه اللحظة يمكن أن نعتبر «الخطاب الأدبي خلق لغة من لغة » أي أن صانع الأدب ينطلق من لغة موجودة فيبعث فيها لغة أخرى وليدة هي لغة الأثر الفني ، ويعتبر هذا التعريف فكاً لاشكالية الوجود والعدم ، فالحدث الأدبي «خلق» ، ولكن الخلق متعذر ، إذ لاشيء يخلق ولا شيء يفنى ، وكل موجود متحول ، فالخطاب الأدبي تحويل لموجود «18».
    يتأكد لدينا ـ إذن ـ أن هناك علاقةً وثيقة بين الأدب ـ باعتباره ممارسة لغوية وجمالية ـ والممارسات الخطابية المختلفة ، حيث يمكننا استخدام الأسلوبية ـ بما أنها محدد لساني ـ في وصف النص الأدبي حسب طرائق مستقاة من علم اللغة ، ويصبح النص الأدبي ـ حينذاك ـ خطاباً تغلبت فيه الوظيفة الشعرية للكلام ، ومن ثم يتحول النص الأدبي إلى خطاب تركب في ذاته ولذاته ، وبذلك تصبح علاقة الأدب بمفهوم الخطاب قوية جلية ، وذلك باعتباره ممارسة خطابية لها خصوصياتها ، كما تتضح ـ في هذا الاتجاه أيضاً ـ علاقة الأدب بباقي الممارسات الخطابية الأخرى سواءً تعلق الأمر بالجانب السياسي أو الاخلاقي أو الايديولوجي أو غيرها ، حيث اغفلت معظم الدراسات النقدية والمناهج المعاصرة هذا الجانب المهم ، واقتصر فقط على اعتبار الأدب مجمو،عة من القيم اللغوية الجمالية الخالصة ، وإنما أصبح النص الأدبي ـ في الرؤية النقدية المعاصرة ـ نسيجاً من الممارسات المعرفية التي تستند إلى مجموعة المرتكزات التاريخية ، فهو نسيج مركب ومعقد.
    3ـ مفهوم الخطاب عند ميخائيل باختين
    من الممكن لنا أن نضع نُصب أعيننا أن مفهوم الخطاب قد يتحدد بأنه ممارسة فعلية لها أشكالها الخصوصية من الترابط والتتابع ، إذ إنه «ليس موقعاً تقتحمه الذاتية الخالصة ، بل هو فضاء لمواقع وأنشطة للذوات ، إنه الخطاب ـ الموقع بوصفه ساحة للفعل والصراع والرغبة ، إنه فضاء للانتشار والتواتر والتوزع ، مما يجعله مسرحاً للاستثمار واستراتيجية تحدد المنطوق والمكتوب المرئى لا بحثاً عن معنى خفي يُظهره التعليق والتأويل ، ولا عن قيمة مسكوت عنها نفكك آليات كبتها فنسحبها للنور ، وعن صمت يلفه ويحيط به ، إنه سلسلة منتظمة متميزة من الحوادث «19».
    إن دراسة هذه الجوانب أو المشكلات تدفعنا دفعاً إلى ممارسة فعل أركيولوجي «حفري» فيها ، إلى البحث في بعض القضايا المتعلقة بهذا الخطاب أو ذاك ، تلك التي لاتتم إلا من خلال البحث عن المنظومة المرجعية والمعرفية اللتين تحتويان جماع تلك الآليات ، وهو ما يُطلق عليه مفهوم «الخطاب».
    يرى باختين أن «الخطاب» يعني اللغة المجسدة ذات الشمول والاكتمال ، كما أنه يرتبط ـ بشكل أو بآخر ـ بالكلمة المنطوقة التي تقوم على أساس العلاقات الحورية سواء داخل أو خارج اللغة من خلال زاوية حوارية ، ومن ثم تكون العلاقات الحوارية خارج نطاق علم اللغة ، ولكن ـ في الوقت نفسه ـ لايجوز أن تُفصل عن مجال الكلمة ، أي عن اللغة بوصفها ظاهرة ملموسة ومكتملة ، فاللغة تحيا فقط في الاختلاط الحواري بين أولئك الذين يستخدمونها ... إن هذه العلاقات الحوارية قائمة في مجال الكلمة ، وذلك لأن الكلمة ذات طبيعة حوارية بالضرورة ، ولهذا السبب تعين دراسة هذه العلاقات بواسطة «مابعد علم اللغة» الذي يتجاوز حدود علم اللغة ، والذي له مسائله ومادته المستقلة «20» كما أنه يصر اصراراً على أن الخطاب «يعني اللغة المجسدة الحية ذات الشمول والاكتمال ، وينكر أنها اللغة باعتبارها موضوع دراسة علماء اللغة ، والتي يعرفونها من خلال عملية تجريد ضرورية ومشروعة عن شتى جوانب الحياة العملية للكلمة» «21».
    من ناحية أخرى يطرح باختين اللغة والخطاب معاً في قلب العلاقات الاجتماعية بوصفها علاقات تخاطب وكلام ، حيث يوجد تماثل وتفاعل بين المجتمع في آن والممارسة الخطابية في آنٍ آخر ، ومن ثم يرتبط الخطاب ارتباطاً وثيقاً بالمعيش الاجتماعي ، ويصبح «من الواضح تماماً أن القول في الحياة ليس مكتفياً بذاته ، فهو يخرج من موقف معيش ذي طبيعة خارج ـ لفظية EXTRa ` verbale ويحتفظ بعلاقات محدودة به ، وأكثر من ذلك ، فإن القول يكتمل لحظياً بالعنصر المعيش نفسه ، ولا يمكن أن يُفصل عنه دون أن يفقد معناه» «22».
    وبذلك يتحدد مفهوم الخطاب ـ في هذا السياق عند باختين ـ من خلال الحوارية التي تتواصل مع تعدد الأصوات «البوليفونية» وهو تعدد يُظهر الخطابات وجداليتها عبر صوت الذات المتمركزة حول ذاتها والمتكلمة عبر لغتها ، والتي تتقاطع معها أصوات آخرى لتعكس عالماً متعدداً بدوره من داخل النص الأدبي في اتجاه خارج نصيته ، ومن ثم يتجاوز الرؤية الايديولوجية الواحدة إلى ايديولوجية منتجة للخطاب المتعدد داخل المجتمع ، وبذلك «تكون انظمة الخطاب ـ في الواقع ـ نظاماً اجتماعياً ننظر إليه ـ على وجه التحديد ـ من منظور الخطاب ، أي من حيث انماط الممارسة التي قُسم إليها الحيز الاجتماعي بنيوياً ، والتي تصادف أن تكون انماطاً من الخطاب » «23».
    بالإضافة إلى ذلك يستخدم باختين مفهوم «الخطاب» للإشارة إلى الفعل الخطابي أو إلى الكلام أو الكتابة الفعليين وإلى حالات محددة «قول ما ، ممارسة ما ، عُرف ما ، سياسة ما ، فكر ما... الخ» من اشكال الخطاب المتنوعة ومن ثم فإن الخطاب والممارسة الاجتماعية ـ شئنا أم أبينا ـ ليسا مقيدين بانماط الخطاب والممارسة المتنوعة ، بل مرتبطين بالشبكات الخطابية المتبادلة ، والتي يمكن أن ندعوها بـ «الأنظمة» أي أنظمة الخطاب الاجتماعية.
    هكذا يصبح الخطاب ـ عند باختين ، بصورة أو بأخرى ـ سيناريو حدث محدد ، وينبغي أن يعمل الفهم الحي للمعنى التام للخطاب على إعادة إنتاج هذا الحدث المؤلف من علاقات متبادلة بين المتكلمين ، ينبغي أن يلعب الدور ثانيةً ، ومن يقم بالفهم يضطلع هنا بدور المستمع «24».
    ومن خلال هذه الرؤية فإن دراسة الخطاب ـ لدى باختين ـ تعني دراسة عمليات التلفظ اللغوي في سياقات آدائها الاجتماعي ، وذلك على أساس أن السياق الاجتماعي جزء لاينفصل عن أي فعل لغوي ،وأن معنى كل تلفظ يتضمن وضع المتكلم بوصفه ذاتاً اجتماعياً تنعكس على غيرها ، كما يتضمن أفق الاستقبال الذي يعني القيم السابقة للمستمع والتجسد التاريخي للغة بوصفها فضاء ايديولوجياً تؤسسه ، وتتفاعل فيه ، متقاربة أو متصارعة كل الخطابات الموجودة ، بوصفها ظواهر اجتماعية ، وبوصفها علاقات «علامات» قوة في الوقت نفسه ، ويترتب على ذلك أن الخطابات تقوم بتنظيمها بعينها لإنتاج المعرفة وتوزيع القوة ، وتعمل بوصفها أنساقاً نموذجية لتحديد المعاني وتوصيلها ، خلال تشكلاتها المختلفة التي لاتكف عن التلاقي والتصادم والتنافس ، مؤسسة بذلك العملية الحوارية الكبرى للمجتمع ، كله فكل خطاب بمثابة فضاء «أو عملية» تتأسس فيها العلاقات بين الأفراد «العلاقة بين الذاتية» ، ويتم إنتاج موضوعات المعرفة ، وتتولد مواضعات القيم ، وذلك على نحو يميز كل خطاب عن غيره ، ويواجه به كل خطاب غيره ، في علاقات المعرفة التي هي علاقات القوة في المجتمع، «25».
    ومن جانب آخر فإن باختين يرى أن الشكل والمضمون ـ في دراسة العمل الفني ـ شيء واحد داخل الخطاب المعتبر بمثابة ظاهرة اجتماعية : هو اجتماعي في مجموع مجالات وجوده وعناصره ابتداءً من الصورة السمعية ووصولاً إلى التصنيفات الدلالية الأكثر تجريداً «26».
    وطبقاً لوجهة النظر هذه فإن الخطاب الشعري يتكون عن طريق الاتجاه الحواري الذي يعطيه إمكانات أدبية جديدة وجوهرية «ذلك أن كل خطاب ملموس «ملفوظ» يكتشف دائماً موضوع توجهه ، وكأنما قد تم من قبل تخصيصه ، ومناهضته ، وتقييمه ، وكأنه ـ إذا جاز القول ـ مؤثر بضبابة خفيفة تعتمه أو ، على العكس ، يجد أن موضوعه مُضاء بأقوال غريبة عن مجال حديثه إنه «الخطاب» أسير مخترق بالأفكار العامة ، والرؤيات ، والتقديرات ، والتحديدات ، الصادره عن الآخرين ، موجهاً نحو موضوعه ، يرتاد الخطاب تلك البيئة المكونة من الكلمات الأجنبية ، المتهيجة بالحوارات ، المتوترة بالكلمات والأحكام والنبرات الغريبة ، ثم يندس بين تفاعلاتها المعقدة منصهراً مع البعض ومنفصلاً عن البعض الآخر ، ومتقاطعاً مع فئة ثالثة من تلك العناصر ، كل ذلك يمكن أن يفيد كثيراً في تكوين الخطاب وفي توضيحه داخل جميع طبقات الدلالية ،وفي تعقيد تعبيره وتعديل مجموع مظهره الأسلوبي» «27».
    وفي النهاية يكتشف باختين أن عالم الشعر ـ مهما تكن التناقضات والصراعات اليائسة التي يكتشفها الشاعر داخله ـ هو دائماً عالم مُضاء بخطابٍ وحيد وُمستعض على الدحض ، فالتناقضات والصراعات ، والشكوى ، تظل داخل الموضوع وداخل الأفكار والانفعالات وبكلمة واحدة تظل داخل مادة البناء الشعري ، لكنها لاتنتقل إلى اللغة ، ففي الشعر يجب أن تكون لغة الشك لغة أكيدة.
    5ـ مفهوم الخطاب عند ميشيل فوكو:
    يتحدد مفهوم الخطاب عند فوكو بشكل واضح ، حيث حاول ـ بكل ما أوتى من علم ـ أن يحفر لهذا المفهوم سياقاً دلالياً واصطلاحياً مميزاً عبر التنظير والتطبيق ، لذا فإنه يُقدم عدة تعريفات لهذا المصطلح ، فهو يعني عنده «مجموعة من الأدلة من حيث هي عبارات.. والتي تنتسب إلى نفس نظام التكون» «28» أو هو مجموعة من العبارات بوصفها تنتمي إلى ذات التشكيلة الخطابية ، فهو ليس وحده بلاغية أو صورية قابلة لأن تتكرر إلى ما لانهاية يمكن الوقوف على ظهورها واستعمالها خلال التاريخ مع تفسيره إذا اقتضى الحال ، بل هو عبارة عن عدد محصور من العبارات التي نستطيع تحديد شروط وجودها» «29».
    يرى فوكو ـ إذاً ـ أن الخطاب يعني الميدان العام لمجموع المنطوقات أو مجموعة متميزة من العبارات بوصفها تنتمي إلى تشكيلة خطابية محددة ، كما أنه يُشكل «شبكة معقدة من العلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تبرز فيها الكيفية التي ينتج فيها الكلام كخطاب ينطوي على الهيمنة والمخاطر في الوقت نفسه» «30».
    من هنا نلاحظ أن مفهوم الخطاب ـ لدى فوكو ـ عبارة عن مجموعة من المنطوقات التي يستند إليها هذا المفهوم ، بحيث إنها تشير إلى مجموعة من العناصر والمشكلات التي تتطلب التحليل ، فهي «مساحات لغوية تحكمها قواعد» والتي تخضع إلى «الاحتمالات الاستراتيجية» على حد قول فوكو نفسه ، ولكن الإشكالية لاتزال قائمة ، وهي كيف نضع حدوداً لخطاب معين ؟.
    إذا كان «المنطق» والتشكيلة الخطابية» ـ في رأي فوكو ـ يخضعان لمنهج واحد في التحليل هو «المنهج الاركيولوجي» فإن القواعد والقوانين الناظمة للتشكيلة الخطابية تنطبق أيضاً على المنطوق ، حتى نصل إلى مفهوم «الممارسة الخطابية» الذي يرتبط بوظيفة المنطوق داخل التشكيلة الخطابية ، ويحدد علاقاته التاريخية والاجتماعية أو قواعده الموضوعية ، إذ أن «التشكيلة الخطابية هي المنظومة العبارية العامة التي تحكم مجموع الإنجازات اللفظية وهي منظومة لاتحكمه مع ذلك وحدها ، مادام يخضع كذلك ـ حسب أبعاده الأخرى ـ لمنظومات منطقية ولسانية وسيكولوجية كما أن تحليل تشكيلة خطابية ما يعني دراسة مجموع الإنجازات اللفظية في مستوى العبارات ودراسة شكل الوضعية الذي يميزها يعني ـ بانجاز ـ تحديد نمط وضعية خطاب ما «31».
    بالإضافة إلى ذلك فإن فوكو ـ في كتابه «الكلمات والأشياء » يقوم بتطبيق منهجه في تحليل الخطابات ، وخاصة خطاب البيولوجيا والاقتصاد والسياسة واللغة ، كما يطرح الاشكالية النظرية لمنهجيته القائمة في التساؤل عن كيفية تحليل الخطاب «32».
    من ناحية أخرى فإذا كانت الممارسة الخطابية عبارة عن مجموعة من القواعد والاجراءات التي تحكم الكتابة والفكر في مجال بعينه ، فإن فوكو «لا يتناول الاستراتيجيات التي يستخدمها المؤلفون لإضفاء معنى على التاريخ بوصفها مجرد لعبة نصية ، بل يتناولها بوصفها خطابات تنتج داخل عالم فعلي من صراع القوة ، فالقوة يتم الوصول إليها بواسطة الخطاب ـ سواء في السياسة أو الفن أو العلم ، والخطاب هو عنف نمارسه على الأشياء ، أما دعاوي الموضوعية التي تُقال لحساب خطابات معينة ، فهي دعاوٍ زائفة دائماً ، إذ ليس هناك خطابات صادقة بالمعنى المطلق ، بل أن كل ما هنالك خطابات قوية بدرجة أو بأخرى «33».
    أما تحليل أحداث الحقل الخطابي لدى فوكو فيسعى إلى إدراك المنطوقات الخطابية في أضيق حدود لها بوصفها أحداثاً فردية ، كما يُعني بتحديد الظروف أو السياق الذي تتواجد فيه ، وابراز العلاقات التي يمكن أن تربط بينها ومنطوقات اخرى وتوضيح نوعية هذه العلاقات ودرجات الارتباط القائم أو المتصور بينها.
    ولاشك أن الغرض من هذا التحليل هو «ابراز خصوصية كل منطوق من المنطوقات لحظة ابنثاقه في حقله الخطابي ، وتبيان مدى القطع الذي يُحدثه في النسيج العام لهذا الحقل ، وذلك إلى الدرجة التي لايستطيع فيها أي منطوق آخر أو أي أثر ايديولوجي معاكس أن يطمس دوره الفعال والمؤثر أو معناه ودلالته في طيات اللغة الكثيفة» «34».
    من هنا ـ وبناءً على هذه الأسس السابقة ـ تتضح لنا التحليلات الاركيولوجية لفوكو ، التي لاتتساءل عن التسلسل التاريخي ولا عن معاني النصوص ، بل تتساءل عن شروط ظهور الخطابات في التاريخ ، مما يؤدي إلى تحليل الخطاب في بُعده الخارجي بـ:
    1ـ وصف الخطاب في هيئته الخاصة.
    2ـ البحث في الخطاب عن شروط وجوده وليس عن قواعد بنائه كما يفعل البنيويون.
    3ـ ارجاع الخطاب إلى الممارسات الخطابية وغير الخطابية ، أو إلى الميدان العلمي الخاص به ، وليس إلى الفكر أو الروح أو الذات المبدعة.
    وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن منهج تحليل الخطاب عند فوكو ، لايحلل نظام اللغة أو المضامين أو الدلالات ، كما لايهتم بصدق الخطابات أو معقوليتها ، وإنما ينصب التحليل على المنطوقات كأحداث وعلى قوانين وجودها ، وعلى ما يجعلها ممكنة أو غير ممكنة «35».
    وبذلك فإن الخطاب المعرفي ـ عند فوكو ـ هو مجموعة من النصوص والتفسيرات والبحوث ، أي الأرشيف الذي يشكل حقلاً معرفياً ما ، ومن ثم فإن تحليل الخطاب ـ أي خطاب في رأيه ـ ليس لعبة أو نسقاً مغلقاً من الدلالات المسبقة ، وإنما هو نظام واقعي يتحكم في إنتاج الخطاب واستهلاكه ، لذا فهو يحتاج إلى حفريات متعددة للوصول إلى دلالته العميقة والمتعددة ، وذلك لأنه متعرج ومتقاطع ويصبح التداخل الخطابي المتعدد ممثلاً لإعادة تشكل مستمرة تدفع فيها المعرفة الخاصة بتشكيلة خطابية ـ وفق مواقف ايديولوجية تمثلها هذه التشكيلة الخطابية في ظرف معين ـ إلى إدماج عناصر جاهزة مسبقاً انتجت خارج المعرفة المذكورة ذاتها ، وإلى إعادة تعريفها أو قلبها ولكنها تُدفع فيها أيضاً إلى احتمال السبب في محوها ونسيانها أو ربما حتى نفيها .
    من ناحية أخرى فإن تاريخ الأفكار ـ بشكل عام ـ فرع معرفي يتناول البدايات والنهايات لهذا الفكر أو ذاك ، ويهتم بوصف ألوان الاتصال المبهمة وألوان العودة وباعادة انشاء التطورات الخطية المتعاقبة للتاريخ ، وفي الآثار الأدبية كيف تُهاجر المشاكل والمفاهيم والأفكار المحورية من الحقل الفلسفي الذي تشكلت فيه إلى خطابات علمية أو سياسية ، يربط الآثار بالمؤسسات والعادات وأنواع السلوك الاجتماعية والتقنيات والحاجيات والممارسة الصامتة يعمل على بعث ماضي أشكال الخطاب الأكثر تطوراً واحيائها ثانية في صورتها الأصلية المحسوسة داخل ذات النمو والتطور اللذين شهدا ميلادها ، عندئذٍ يغدو تاريخ الأفكار فرعاً معرفياً تتداخل فيه المناهج والطرق ، كما يغدو وصفاً للدوائر المتراكزة التي تحيط بالآثار وتشدد عليها وتربط بينها وتدرجها في كل ما ليست هي «36» .
    بالإضافة إلى ذلك فإن مصطلح «اركيولوجيا» ـ يرتبط بشكل أو بآخر ـ بالآثار ومعرفتها ، إلا أنه يعد عملاً من أعمال التنقيب والحفر في العقل ، عقل الإنسان وممارسته ومعارفه ، فهو يشير ـ ارتباطاً بميشيل فوكو وكتاباته ـ إلى محاولات إعادة النظر في وضع المعرفة وحفرياتها وتحديد آرائها القطعية ومنهجياتها الجاهزة ، كما أنه يشير إلى نمط معرفي جديد لتحليل الخطاب ـ سواء كان صيغة أدبية أو قضية علمية أو مشكلة سياسية أو هذياناً ذهانياً ـ من خلال السياق المعرفي والاجتماعي والحضاري الذي يظهر فيه ، ليس بقصد اكتشاف رمزية اللغة ومجازية المعنى فيه فحسب ، ولكن بهدف تمييزه عن مثيله الذي لايتزامن معه ، ثم ايجاد علاقته الخاصة مع الممارسات غير الخطابية التي تتعالق معه وتتحاور عبره ، بغية معرفة مجموعة الشروط التي أتاحت له هذا التواجد ومن ثم منعت خطاباً آخر هكذا يمثل المشروع الفوكوي ـ في الأساس ـ بحثاً في الكتابة التاريخية ، وكذلك كتابة جديدة لتاريخ تشكل المعارف والخطابات سواء في مجال علم النفس أو الاجتماع أو السياسة أو الأدب ... الخ.
    الهوامش
    1ـ انظر : ابن منظور ( جمال الدين ابو الفضل محمد بن مكرم ، ت 711هـ» لسان العرب ، تحقيق أمين محمد عبدالوهاب ،ومحمد الصاوي العبيدي ، دار احياء التراث العربي بيروت ، ط 2، 1417 هـ = 1997م ج 4 ، ص 135 والفيروز ابادي مجد الدين محمد بن يعقوب ، ت 817هـ القاموس المحيط ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1397 هـ = 1977 ج 1 ص 63
    2ـ جابر عصفور : آفاق العصر ، مهرجان القراءة للجميع الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة 1997م ص64
    3ـ جابر عصفور : آفاق العصر ص 64
    4ـ ميشيل فوكو : نظام الخطاب وارادة المعرفة ، ترجمة أحمد السطاتي وعبدالسلام بنعبد العالي ، دار النشر المغربية الدار البيضاء 1985م ص 51 ، 52
    5ـ الزواوي بغورة : مفهوم الخطاب في فلسفة ميشيل فوكو ، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة 2000م ص94
    6ـ فرديناند دى سوسير : دروس في الالسنية العامة ترجمة صالح القرمادي وآخرون ، الدار العربية للكتابة ، طرابلس 1985 ص 41
    7ـ محمد عناني: من قضايا الأدب الحديث ، الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة ، 1995م ص 36
    8ـ انظر : إديث كريزويل : عصر البنيوية ، ترجمة : جابر عصفور ، دار سعاد الصباح الكويت ط 1 ، 1993م ص 379
    9ـ جابر عصفور : آفاق المعرفة ص 67
    10ـ ميشيل فوكو : حفريات المعرفة ، ترجمة سالم يفوت ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ط 2 ، 1987 ص 44،45
    11 ـ عمار بلحسن: الخطاب ـ المرجعيات السيميائية والسوسيولجية : الدراسات العربية والخطاب مجلة كتابات معاصرة الشركة العربية للتوزيع بيروت مج 3 ، ع 11 ، آب ايلول 1911م ص 7
    12ـ خالد سيلكي : التراث والخطاب مجلة جذور ، النادي الأدبي ، الثقافي بجدة الرياض ج 8 مج 4 ، محرم 1423هـ = مارس 2002م 2ص424
    13 نورمان فيركلو : الخطاب بوصفه ممارسة اجتماعية ، ترجمة: رشاد عبدالقادر ، مجلة الكرمل ، مؤسسة الكرمل الثقافية فلسطين عدد 64 صيف 2000م ص 158
    14ـ نورمان فيركلو : المرجع السابق ، ص 159
    15 ـ نفسه ، ص 159
    16ـ عبدالسلام المسدي : النقد والحداثة ، دار الطليعة بيروت ط 1 1983م ص44
    17ـ عبدالسلام المسدي: المرجع السابق ص 49
    18ـ عبدالسلام المسدي : المرجع السابق ص57
    19ـ عبدالعزيز العيادي: ميشال فوكو ، المعرفة والسلطة المؤسسة الجامعية للنشر بيروت ط 1 1313هـ = 1994 م ص 20
    20ـ ميخائيل باختين : شعرية دوستويفسكي ترجمة جميل نصيف التكريتي ، مراجعة: حية شرارة ، دار توبقال ، الدار البيضاء ، ط1 ، 1986م ص 267
    21ـ محمد عناني : المصطلحات الأدبية الحديثة دراسة ومعجم انجليزي ـ عربي ، الشركة المصرية العالمية للنشر ـ لونجمان القاهرة ط 1 ، 1996م ص 21،22
    22ـ ميخائيل باختين : القول في الحياة والقول في الشعر «مساهمة في علم شعر اجتماعي» ، ضمن كتاب «مداخل الشعر» ، ترجمة أمينة رشيد وسيد البحراوي ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة آفاق الترجمة ، عدد 13 ، مايو 1996 ، ص 29
    23ـ نورمان فيركلو: الخطاب بوصفه ممارسة اجتماعية ص 163
    24ـ تزفيتان تودوروف: باختين ، المبدأ الحواري ، ترجمة : فخري صالح ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، آفاق الترجمة ، عدد 14 يونيو 1996 م ص 116 ، 117
    25 ـ جابر عصفور : آفاق العصر ص 68
    26ـ ميخائيل باختين : الخطاب الروائي ، ترجمة : محمد برادة ، دار الفكر ، القاهرة ط1 ، 1987م ص 35
    27ـ ميخائيل باختين : المرجع السابق ص 52
    28ـ ميشيل فوكو :حفريات المعرفة ، ص 100
    29 ـ ميشيل فوكو : المرجع السابق ص 108
    30ـ ميجان الرويلي وسعد البازعي: دليل الناقد الأدبي ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ط 2 ، 2000 م ص 89 وانظر أيضاً: الزواوي بغورة : مفهوم الخطاب في فلسفة ميشيل فوكو ، ص 94، 95م
    31ـ ميشيل فوكو : حرفايت المعرفة ص 107
    32ـ ميشيل فوكو: الكلمات والاشياء ، ترجمة مطاع صفدي وآخرون مركز الإنماء القومي ، بيروت 1990م ص 215 وما بعدها.
    33ـ انظر رامان سلدن: النظرية الأدبية المعاصرة ، ترجمة : جابر عصفور ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة آفاق الترجمة عدد 10 مارس 1996م ص 189
    34ـ محمد علي الكردي : الخطاب والسلطة عند ميشيل فوكو ، مجلة فصول ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ربيع 1992م عدد «الأدب والحرية» ج 1 ص 42
    35ـ انظر : الزواوي بغورة : منهج في تحليل الخطاب ، مجلة إبداع ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة عدد 4،5 ابريل ـ مايو 2000م ص 109
    36ـ انظر : ميشيل فوكو : حفريات المعرفة ص 127
    اضف تعليقك

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 12:31 pm