"لعل أهم وصف أو تحديد لقصيدة النثر هو ذاك الذي وصفه بودلير قائلاً: مَن
منّا لم يحلم بمعجزة نثر شعري، موسيقي بلا وزن ولا قافية، لين ومتنافر، كي
يتآلف مع الحركات الغنائية للروح، ومع تموجات الحلم وارتجافات الوعي؟ "
أيها الأعزاء الكرام ,
لاحظنا على عدد من النصوص الواردة الينا و التي يظن أصحابها بأنها "قصائد
نثرية " بعض الضبابية وبعض الخلط والإرتباك بين نصوصهم
وبين شخصية قصيدة النثر ,
ولهذا فقد رأيت أنه من الفائدة الكبرى أن أضع بين أيديكم هذه القراءة
المستفيضة والنظرة العميقة على مكنونات قصيدة النثر والتي جاءت
في مقال للأستاذ الموقر علي المتقي ، وفي مداخلاته اللاحقة على
المقال... ومن أراد منكم المشاركة
بمداخلة فليتفضل على أن تكون لها علاقة بجوهر الموضوع فحسب .
اليكم ما جاء في مقال الأستاذ علي المتقي:
ظهر مصطلح قصيدة النثر في الأدب العربي في مجلة شعر سنة 1960 للدلالة على
شكل تعبيري جديد انتهت إليه الكثير من الأشكال التجريبية التي جربها جيل
النصف الأول من القرن العشرين، كالنثر الشعري والشعر المنثور والشعر الحر.
ويعد في مرحلته بمثابة الثورة الأخيرة على عمود الشعر العربي في بعده
الإيقاعي خاصة. وقد اعتمد كل من أدونيس وأنسي الحاج في دراستيهما
التأسيسيتين على كتاب سوزان برنارد " قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا"
إلى درجة القول: إن ما كتبه هذان الباحثان الشاعران لا يعدو أن يكون مجرد
تركيب لمقاطع من هذا الكتاب. وقد أرجع أدونيس ظهور هذا المصطلح ونجاحه في
الشعر الحديث إلى ما يلي:
ـ التحرر من نظام العروض الخليلي الذي ظل حاجزا نفسيا يقف ضد كل تجديد أو
تطوير في الشعر العربي، وهذا التحرر قرب المسافة الفاصلة بين الخطابين
النثري والشعري.
ـ الرغبة الجامحة في التخلص من كل ما يمت إلى الأشكال والقواعد الموروثة بصلة، والبحث الجدي عن بديل لما تم هدمه وتجاوزه .
ـ التوراة والتراث الأدبي القديم في مصر وبلدان الهلال الخصيب ، وهو تراث يتميز بكتاباته النثرية ذات النفس الشعري .
ـ ترجمة الشعر الغربي، فالقارئ العربي يعده شعرا على الرغم من تحرره من
الوزن والقافية ، ويتحسس أبعاده الشعرية المتولدة عن الصورة ووحدة
الانفعال.
ـ اختمار الأشكال التجريبية ما قبل قصيدة النثر، وآخرها النثر الشعري.
والفرق بين هذين الشكلين في تصور أدونيس هو نفسه الفرق بين الشعر والنثر،
فالنثر الشعري هو نثر قبل كل شيء يتسم بما يتسم به كل خطاب نثري من
"استرسال واستسلام للشعور دون قاعدة فنية ومنهج شكلي بنائي وسير في خط
مستقيم ليس له نهاية، لذلك فهو روائي أو وصفي يتجه غالبا إلى التأمل
الأخلاقي أوالمناجاة الغنائية أو السرد الانفعالي، ولذلك يمتلئ
بالاستطرادات والتفاصيل، وتنفخ فيه وحدة التناغم والانسجام. أما قصيدة
النثر، فهي شعر، لذلك فهي ذات شكل، ذات وحدة مغلقة، هي دائرة أو شبه دائرة
لا خط مستقيم.. وبشكل عام، فإن النثر الشعري نثر يستخدم الشعر لغايات نثرية
خالصة، أما قصيدة النثر فهي شعر يستخدم النثر لغايات شعرية خالصة.
يضاف إلى هذه الخصائص خاصية أخرى أهملها أدونيس وربما تعد الأهم في ظهور
هذا الشكل الشعري وانتشاره في الثقافة العربية، ألا وهي: ظهور هذا الشكل
التعبيري في الغرب منذ أمد بعيد، والتأسيس له نظريا وتجريبه نصيا، واعتباره
أحد الأشكال الأساسية التي اعتمدتها الحداثة الغربية. والدليل على ذلك أن
هذا المصطلح لم يظهر في الثقافة العربية إلا بعد الاطلاع على كتاب سوزان
برنارد، بل إن ما كتب عنه ـ كما أشرنا ـ لم يتعد التلخيص المبتسر لما ورد
في هذا الكتاب. ولم يتحدث لا أدونيس ولا أنسي الحاج عن أي مصدر آخر ديني أو
عربي.
وقد حددت سوزان برنارد لهذا الشكل الشعري ثلاثة خصائص تبناها كل من الباحثين العربيين وهي :
أ ـ الوحدة العضوية، فقصيدة النثر بناء يصدر عن إرادة واعية، وليس مجرد
مادة متراكمة تراكما غفلا، إنها كل غير قابل للتجزيء أو الحذف أو التقديم
أو التأخير بين مكوناته .
ب ـ المجانية: فهذا الشكل، شكل جديد لا علاقة له بكل أشكال الكتابة
المعروفة من نثر وشعر، ورواية ومسرحية، حتى ولو وظف تقنيات هذه الأشكال،
فهو شكل جديد لا غاية له خارج عالمه المغلق، أي، أنه مجاني ولا زماني .
ج ـ الكثافــة: يبتعد هذا الشكل الجديد عن كل خصائص النثر من استطراد
وإيضاح وشرح وإطناب، وتكمن خاصيته الشعرية في كثافته وإشراقه، وبعبارة
أدونيس انه " كتلة مشعة مثقلة بلا نهاية من الإيحاءات قادرة على أن تهز
كياننا في أعماقه، إنها عالم من العلائق".
1 ـ قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة : لم يكن الفرق بين قصيدة النثر وقصيدة
التفعيلة التي سبقتها إلى الوجود فرقا في البناء الخارجي، أو فرقا في
الدرجة، لا ولا في حضور الوزن وعدم حضوره، وإنما يكمن في أعمق من ذلك. إنه
فرق في لاحقية الشكل، وأولوية التجربة الشعرية على البناء، ورفض البناء على
نمط واحد يتكرر. فقصيدة التفعيلة بعد سنوات معدودة نحت نحو التقعيد خصوصا
مع نازك الملائكة، وسنت لنفسها حرية مقيدة تتنفس داخلها، وأشكالا بنائية
تتكرر في كل قصيدة. أما قصيدة النثر، فقد فتحت باب التجريب كليا، ونفت كل
القوانين، ودفعت بالتجربة إلى أمامية القول. وتميز فيها سوزان برنارد بين
قطبين: قطب الهدم وقطب البناء.
والمصطلح نفسه يوحي بهذا التعارض الثنائي، فمصطلح قصيدة يعني البناء
والتنظيم، ومصطلح نثر يعني الهدم والاسترسال في الكلام دون اعتبار لأي بناء
فني. من هنا، ففي كل قصيدة نثر قوتان:قوة فوضوية هدامة تعمل على نفي
الأشكال القائمة وتخطيها، وقوة منظمة تنزع إلى بناء كل شعري. فالبعد النثري
تمرد ضد كل الأشكال، والبعد الشعري سعي إلى البناء. وقد ميزت سوزان برنارد
بين نوعين من قصيدة النثر حسب هيمنة هذه القوة أو تلك، النوع الأول :
القصيدة الشكلية، ومثلت لها بقصائد الوازوس برتراند، والنوع الثاني:
القصيدة الفوضوية، ومثلت له بإشراقات رامبو..
والملاحظ أن الكتابات العربية لم تميز بين قصيدتين، وإنما تحدثت عن قصيدة
نثر واحدة تتأرجح بين الهدم والبناء، إلا أنه في ما يبدو نظريا يهيمن على
تفكير أدونيس النوع الشكلي، في حين يهيمن على تفكير أنسي الحاج النوع
الفوضوي.
2 ـ حضور القصيدة الشكلية في قصيدة النثر العربية: يقول أدونيس:" أما قصيدة
النثر فذات شكل قبل أي شيء، ذات وحدة مغلقة، هي دائرة أو شبه دائرة لا خط
مستقيم، هي مجموعة علائق تنتظم في شبكة كثيفة ذات تقنية محددة وبناء تركيبي
موحد منتظم الأجزاء متوازن، تهيمن عليه إرادة الوعي التي تراقب التجربة
الشعرية وتقودها وتوجهها، إن قصيدة النثر تتبلور قبل أن تكون نثرا، أي أنها
وحدة عضوية وكثافة وتوتر قبل أن تكون جملا وكلمات.".
واضح من هذا القول حضور الشكل والنظام في قصيدة النثر كما نظر لها أدونيس،
فهي ذات بنية دائرية، وهذه البنية تنبني أساسا على التكرار بمختلف أشكاله
وأنواعه. وقد حصرت سوزان برنارد ـ المرجع النظري الوحيد لقصيدة النثر
العربية ـ أنواعه التي وظفها الشعر الفرنسي في أربعة أنواع:
ـ إعادة اللازمة عبر مسافات منتظمة لجعل الثابت محسوسا.
ـ تكرار بداية الجملة في النهاية لإغلاق القصيدة وتدويرها .
ـ تكرار الكلمات والانطباعات لاسيما في بداية المقاطع أو نهايتها.
ـ تكرار الأصوات .
ويرى أدونيس أن هذا الشكل الجديد ينبني على الجملة اللغوية بوصفها وحدة
لغوية صغرى بدل البيت أو التفعيلة التي بنيت عليه الأشكال السابقة. وتتميز
هذه الوحدة المتموجة بتنوعها حسب التجربة، فهناك الجملة النافرة المتضادة
المفاجئة للتعبير عن الصدمة، والجملة الموجية للتعبير عن الحلم والرؤيا،
والجملة الغنائية للتعبير عن الألم والفرح والمشاعر الكثيفة.
وتستمد قصيدة النثر عند أدونيس إيقاعها من طريقة بناء الجملة، " وهو إيقاع
متنوع يتجلى في التوازي والتكرار والنبرة والصوت وحروف المد وتزاوج الحروف
وغيرها. وبذلك تفرض على النثر هيكلا منظما ، وتدخل الحياة والزمن في أشكال
دائرية .
3 ـ قصيدة النثر العربية والقصيدة الفوضوية: ترى سوزان برنارد أن القصيدة
الفوضوية كما كتبها رامبو تتمرد على كل القوانين لتتجه كلية نحو الأشكال
الأكثر فوضوية، والأقل قياسية، وبذلك يقطع الشعر أي علاقة له بوظيفة
الاتصال بين الشاعر والقارئ ليصبح آلة جهنمية يرفعها الفرد ضد الكون
والثقافة والعقل وآلياته من أجل بناء عالم آخر أكثر بريقا وأشد صفاء.
فالشاعر الإشراقي كما يراه إلوارد ـ أحد مصادر مجلة شعر ـ يأخذ على كاهله
العناصر الخام والساكنة التي يحملها إليه اللاوعي وتشويش الحواس، فيتضمنها
في نظام متصل بالبنية الداخلية لعالم الكلمات، وبهذا النظام يصبح موقف
الشاعر تجاه اللغة والحلم اتجاها إيجابيا وخلاقا، إنه يهدم ويزرع الفوضى في
كل ما هو مشترك وعام، وفي الآن نفسه يعزز سلطة الفرد الساخطة وتنظيمه
الجديد للكون. وبذلك تكون الفوضى هي النظام الذي يود إقامته على نظام
الأشياء القائمة ليتولد عنها شكل أدبي لا اجتماعي جديد.
وإذا كانت القصيدة الشكلية تسيطر على الزمن بصبه في أشكال دائرية ، فإن
القصيدة الفوضوية الإشراقية تتوخى بلوغ اللازمنية بنفي الزمن والتحرر منه
وذلك بالقفز على المقولات الزمنية لتحقيق الاندفاع اللاشعوري اللانهائي.
ويتضمن هذا الشكل الشعري نوعين من الزمن: الزمن الواقعي والزمن الممثل،
وبقدر ما يتقلص الزمن الأول إلى حده الأدنى لوضع القصيدة تحت شكل الكل
الموجز قصد التأثير في القارئ تأثيرا فوريا مكثفا، بقدر ما يتسع الزمن
الممثل كإشعاع صادر من نقطة مضيئة ذات بريق آني ولامع. وتصطلح سوزان برنارد
على هذا النوع من الزمن "بالشكل من الدرجة الثانية" الذي يلغي الزمن كليا،
وذلك إما بإلغاء المقولات الزمنية لتصبح القصيدة بمعزل عن الزمان والمكان،
أو بتقليص الديمومة واحتضان القرون في نظرة واحدة. وكما يتقلص الزمن تتقلص
المسافات فتقترب الأشياء المتباينة والمتباعدة في ما بينها، وتنتفي
المفاهيم المنطقية المرتبطة بمفهومي الزمان والمكان، وبذلك يتولد الحدس
بعالم آخر غريب ومتوهج يسيطر فيه الإنسان على المادة بدلا من أن يخضع لها.
إن نفي الزمان والمكان وما يرتبط بهما من مفاهيم منطقية ينتج عنه بالضرورة
هدم الأسلوب والترتيب الفني وتسلسل الأفكار وترابطها لتمنح الأولوية للكلمة
بشكل عام، وللاسم منها شكل خاص، لأنه دلالة على الشيء وإيحاء له في جوهره
اللازمني. كما تتمتع الكلمة بكينونتها المستقلة التي لا تذعن لمنطق النحو،
إذ " لم تعد تندرج في تنظيم الجملة لكي يعبر فيها المعنى كما يعبر التيار
في سلك كهربائي، فإذا هي تلمع ببريقها الخاص الكوكبي المنعزل ".
وعلى الرغم من أن النثر لا يسمح بهذه العزلة والاستقلالية للكلمة، فإن
أدوات الترقيم (خطوط صغيرة وبياض وتعيين الكلمات ونقط التعجب ...) وسائل
تفصل الكلمات عن السياق وتطبعها بنوع من الدلالة الخاصة إلى جانب دلالتها
السياقية في الجملة. يضاف إلى ذلك تفكيك الجمل، والعطف، والتكرار الذي يؤدي
إلى نفس الأثر. إلا أن التنظيم الشعري الحاضر بالقوة في قصيدة النثر يخلق
ترابطا خاصا بين الكلمات وفق قوانين كونية خاصة بكل قصيدة يحكمها منطق
داخلي خاص.
4 ـ البعد الإشراقي(الفوضوي)في كتابات أدونيس: إن مفاهيم الرؤيا والحدس
والتخييل والبحث عن الخفي والمجهول والكشف ونشدان المطلق، كلها مفاهيم
ترتبط بالقصيدة الإشراقية، بل إن قصيدة النثر كما يراها أدونيس تبنى خارج
سلطة العقل ورقابة الوعي، وذلك قصد النفاذ إلى الدواخل وعيش حالة إشراق
بالاعتماد على التلقائية كما نظرت لها السوريالية في بياناتها. وفي هذا
الصدد يقول أدونيس: " إني لا أبحث عن الواقع الآخر، لكن أغيب خارج الواقع
في الخيال والحلم والرؤيا. إنني استعين بالخيال والحلم والرؤيا لكي أعانق
وأخفي الآخر، ولا أعانقه إلا بهاجس تغيير الواقع وتغيير الحياة ".
نخلص مما سبق إلى أن أدونيس قام بعملية انتقاء من خصائص القصيدة الشكلية
وخصائص القصيدة الفوضوية، وتركيب ما تم انتقاؤه في قصيدة النثر العربية.
وقد تعرضت هذه العملية لانتقادات متعددة سواء من طرف القوميين الذين يرون
في قصيدة النثر شيئا آخر غريبا عن الثقافة العربية، أو بعض الحداثيين
أنفسهم الذين رأوا في أدونيس منتحلا لآراء الغير ومتبنيا لها.
5 ـ قصيدة النثر ومفهوم الكتابة: تعد مرحلة الكتابة الجديدة المرحلة
الثالثة من مراحل تطور الإبداع عند أدونيس، بعد قصيدة التفعيلة وقصيدة
النثر. وهي مرحلة مختلفة عن المرحلتين السابقتين، اللتين احتل فيهما الشكل
الشعري مركز الاهتمام بسبب الصراع الذي خاضه الجيل الجديد ضد القوانين
الشعرية الموروثة، أما في هذه المرحلة، فقد تحول الاهتمام أساسا إلى نوع
الكتابة.
وقد ميز أدونيس بين مفهومين: مفهوم الخطابة، ومفهوم الكتابة. فالأول ذو
طبيعة شفوية، ويستلزم خطيبا وجمهورا متلقيا وعلاقة مباشرة بينهما تنبني على
الإثارة والتحريض والاستجابة والإقناع. وتقتضي الوضوح وقوة البرهان
والدليل وحسن الأداء البلاغي. وتكون وظيفته الدعوة إلى الرأي أو العقيدة أو
الأيديولوجيا. وينبني الشعر القديم في معظمه على هذه الأسس مدحا كان أم
هجاء أم رثاء أم غزلا، كما أنها ظلت حاضرة في القصيدة العربية المعاصرة
خصوصا وأن المرحلة مرحلة مد قومي، وازداد حضورها بقوة بعد 1965 في شعر
المقاومة الفلسطينية.
أما المفهوم الثاني ، فقد حصر البيان ملامحه في ما يلي:
أ ـ
الإبداع دخول في المجهول لا في المعلوم .
ب ـ إلغاء الحدود بين الأجناس الأدبية .
ج ـ خلق زمن ثقافي بدل الزمن الشعري .
د ـ التركيز على فعل الإنتاج لا على ما تم إنجازه .
هـ ـ الكتابة خلق وإبداع لا استعادة واجترار.
و ـ الكتابة تساؤل لا جواب.
إن هذه الملامح ليست جديدة كل الجدة عما سبق أن نظر له أدونيس، فباستثناء
الملمح الثاني، فإن باقي الملامح الأخرى تتحدث عنها بياناته السابقة،
وتشترك فيها الكتابة والقصيدة الجديدتان. ويبقى الفرق بينهما في تعدد
الأساليب والأجناس داخل الكتابة، وصفاء القصيدة من هذا التعدد.
منّا لم يحلم بمعجزة نثر شعري، موسيقي بلا وزن ولا قافية، لين ومتنافر، كي
يتآلف مع الحركات الغنائية للروح، ومع تموجات الحلم وارتجافات الوعي؟ "
أيها الأعزاء الكرام ,
لاحظنا على عدد من النصوص الواردة الينا و التي يظن أصحابها بأنها "قصائد
نثرية " بعض الضبابية وبعض الخلط والإرتباك بين نصوصهم
وبين شخصية قصيدة النثر ,
ولهذا فقد رأيت أنه من الفائدة الكبرى أن أضع بين أيديكم هذه القراءة
المستفيضة والنظرة العميقة على مكنونات قصيدة النثر والتي جاءت
في مقال للأستاذ الموقر علي المتقي ، وفي مداخلاته اللاحقة على
المقال... ومن أراد منكم المشاركة
بمداخلة فليتفضل على أن تكون لها علاقة بجوهر الموضوع فحسب .
اليكم ما جاء في مقال الأستاذ علي المتقي:
ظهر مصطلح قصيدة النثر في الأدب العربي في مجلة شعر سنة 1960 للدلالة على
شكل تعبيري جديد انتهت إليه الكثير من الأشكال التجريبية التي جربها جيل
النصف الأول من القرن العشرين، كالنثر الشعري والشعر المنثور والشعر الحر.
ويعد في مرحلته بمثابة الثورة الأخيرة على عمود الشعر العربي في بعده
الإيقاعي خاصة. وقد اعتمد كل من أدونيس وأنسي الحاج في دراستيهما
التأسيسيتين على كتاب سوزان برنارد " قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا"
إلى درجة القول: إن ما كتبه هذان الباحثان الشاعران لا يعدو أن يكون مجرد
تركيب لمقاطع من هذا الكتاب. وقد أرجع أدونيس ظهور هذا المصطلح ونجاحه في
الشعر الحديث إلى ما يلي:
ـ التحرر من نظام العروض الخليلي الذي ظل حاجزا نفسيا يقف ضد كل تجديد أو
تطوير في الشعر العربي، وهذا التحرر قرب المسافة الفاصلة بين الخطابين
النثري والشعري.
ـ الرغبة الجامحة في التخلص من كل ما يمت إلى الأشكال والقواعد الموروثة بصلة، والبحث الجدي عن بديل لما تم هدمه وتجاوزه .
ـ التوراة والتراث الأدبي القديم في مصر وبلدان الهلال الخصيب ، وهو تراث يتميز بكتاباته النثرية ذات النفس الشعري .
ـ ترجمة الشعر الغربي، فالقارئ العربي يعده شعرا على الرغم من تحرره من
الوزن والقافية ، ويتحسس أبعاده الشعرية المتولدة عن الصورة ووحدة
الانفعال.
ـ اختمار الأشكال التجريبية ما قبل قصيدة النثر، وآخرها النثر الشعري.
والفرق بين هذين الشكلين في تصور أدونيس هو نفسه الفرق بين الشعر والنثر،
فالنثر الشعري هو نثر قبل كل شيء يتسم بما يتسم به كل خطاب نثري من
"استرسال واستسلام للشعور دون قاعدة فنية ومنهج شكلي بنائي وسير في خط
مستقيم ليس له نهاية، لذلك فهو روائي أو وصفي يتجه غالبا إلى التأمل
الأخلاقي أوالمناجاة الغنائية أو السرد الانفعالي، ولذلك يمتلئ
بالاستطرادات والتفاصيل، وتنفخ فيه وحدة التناغم والانسجام. أما قصيدة
النثر، فهي شعر، لذلك فهي ذات شكل، ذات وحدة مغلقة، هي دائرة أو شبه دائرة
لا خط مستقيم.. وبشكل عام، فإن النثر الشعري نثر يستخدم الشعر لغايات نثرية
خالصة، أما قصيدة النثر فهي شعر يستخدم النثر لغايات شعرية خالصة.
يضاف إلى هذه الخصائص خاصية أخرى أهملها أدونيس وربما تعد الأهم في ظهور
هذا الشكل الشعري وانتشاره في الثقافة العربية، ألا وهي: ظهور هذا الشكل
التعبيري في الغرب منذ أمد بعيد، والتأسيس له نظريا وتجريبه نصيا، واعتباره
أحد الأشكال الأساسية التي اعتمدتها الحداثة الغربية. والدليل على ذلك أن
هذا المصطلح لم يظهر في الثقافة العربية إلا بعد الاطلاع على كتاب سوزان
برنارد، بل إن ما كتب عنه ـ كما أشرنا ـ لم يتعد التلخيص المبتسر لما ورد
في هذا الكتاب. ولم يتحدث لا أدونيس ولا أنسي الحاج عن أي مصدر آخر ديني أو
عربي.
وقد حددت سوزان برنارد لهذا الشكل الشعري ثلاثة خصائص تبناها كل من الباحثين العربيين وهي :
أ ـ الوحدة العضوية، فقصيدة النثر بناء يصدر عن إرادة واعية، وليس مجرد
مادة متراكمة تراكما غفلا، إنها كل غير قابل للتجزيء أو الحذف أو التقديم
أو التأخير بين مكوناته .
ب ـ المجانية: فهذا الشكل، شكل جديد لا علاقة له بكل أشكال الكتابة
المعروفة من نثر وشعر، ورواية ومسرحية، حتى ولو وظف تقنيات هذه الأشكال،
فهو شكل جديد لا غاية له خارج عالمه المغلق، أي، أنه مجاني ولا زماني .
ج ـ الكثافــة: يبتعد هذا الشكل الجديد عن كل خصائص النثر من استطراد
وإيضاح وشرح وإطناب، وتكمن خاصيته الشعرية في كثافته وإشراقه، وبعبارة
أدونيس انه " كتلة مشعة مثقلة بلا نهاية من الإيحاءات قادرة على أن تهز
كياننا في أعماقه، إنها عالم من العلائق".
1 ـ قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة : لم يكن الفرق بين قصيدة النثر وقصيدة
التفعيلة التي سبقتها إلى الوجود فرقا في البناء الخارجي، أو فرقا في
الدرجة، لا ولا في حضور الوزن وعدم حضوره، وإنما يكمن في أعمق من ذلك. إنه
فرق في لاحقية الشكل، وأولوية التجربة الشعرية على البناء، ورفض البناء على
نمط واحد يتكرر. فقصيدة التفعيلة بعد سنوات معدودة نحت نحو التقعيد خصوصا
مع نازك الملائكة، وسنت لنفسها حرية مقيدة تتنفس داخلها، وأشكالا بنائية
تتكرر في كل قصيدة. أما قصيدة النثر، فقد فتحت باب التجريب كليا، ونفت كل
القوانين، ودفعت بالتجربة إلى أمامية القول. وتميز فيها سوزان برنارد بين
قطبين: قطب الهدم وقطب البناء.
والمصطلح نفسه يوحي بهذا التعارض الثنائي، فمصطلح قصيدة يعني البناء
والتنظيم، ومصطلح نثر يعني الهدم والاسترسال في الكلام دون اعتبار لأي بناء
فني. من هنا، ففي كل قصيدة نثر قوتان:قوة فوضوية هدامة تعمل على نفي
الأشكال القائمة وتخطيها، وقوة منظمة تنزع إلى بناء كل شعري. فالبعد النثري
تمرد ضد كل الأشكال، والبعد الشعري سعي إلى البناء. وقد ميزت سوزان برنارد
بين نوعين من قصيدة النثر حسب هيمنة هذه القوة أو تلك، النوع الأول :
القصيدة الشكلية، ومثلت لها بقصائد الوازوس برتراند، والنوع الثاني:
القصيدة الفوضوية، ومثلت له بإشراقات رامبو..
والملاحظ أن الكتابات العربية لم تميز بين قصيدتين، وإنما تحدثت عن قصيدة
نثر واحدة تتأرجح بين الهدم والبناء، إلا أنه في ما يبدو نظريا يهيمن على
تفكير أدونيس النوع الشكلي، في حين يهيمن على تفكير أنسي الحاج النوع
الفوضوي.
2 ـ حضور القصيدة الشكلية في قصيدة النثر العربية: يقول أدونيس:" أما قصيدة
النثر فذات شكل قبل أي شيء، ذات وحدة مغلقة، هي دائرة أو شبه دائرة لا خط
مستقيم، هي مجموعة علائق تنتظم في شبكة كثيفة ذات تقنية محددة وبناء تركيبي
موحد منتظم الأجزاء متوازن، تهيمن عليه إرادة الوعي التي تراقب التجربة
الشعرية وتقودها وتوجهها، إن قصيدة النثر تتبلور قبل أن تكون نثرا، أي أنها
وحدة عضوية وكثافة وتوتر قبل أن تكون جملا وكلمات.".
واضح من هذا القول حضور الشكل والنظام في قصيدة النثر كما نظر لها أدونيس،
فهي ذات بنية دائرية، وهذه البنية تنبني أساسا على التكرار بمختلف أشكاله
وأنواعه. وقد حصرت سوزان برنارد ـ المرجع النظري الوحيد لقصيدة النثر
العربية ـ أنواعه التي وظفها الشعر الفرنسي في أربعة أنواع:
ـ إعادة اللازمة عبر مسافات منتظمة لجعل الثابت محسوسا.
ـ تكرار بداية الجملة في النهاية لإغلاق القصيدة وتدويرها .
ـ تكرار الكلمات والانطباعات لاسيما في بداية المقاطع أو نهايتها.
ـ تكرار الأصوات .
ويرى أدونيس أن هذا الشكل الجديد ينبني على الجملة اللغوية بوصفها وحدة
لغوية صغرى بدل البيت أو التفعيلة التي بنيت عليه الأشكال السابقة. وتتميز
هذه الوحدة المتموجة بتنوعها حسب التجربة، فهناك الجملة النافرة المتضادة
المفاجئة للتعبير عن الصدمة، والجملة الموجية للتعبير عن الحلم والرؤيا،
والجملة الغنائية للتعبير عن الألم والفرح والمشاعر الكثيفة.
وتستمد قصيدة النثر عند أدونيس إيقاعها من طريقة بناء الجملة، " وهو إيقاع
متنوع يتجلى في التوازي والتكرار والنبرة والصوت وحروف المد وتزاوج الحروف
وغيرها. وبذلك تفرض على النثر هيكلا منظما ، وتدخل الحياة والزمن في أشكال
دائرية .
3 ـ قصيدة النثر العربية والقصيدة الفوضوية: ترى سوزان برنارد أن القصيدة
الفوضوية كما كتبها رامبو تتمرد على كل القوانين لتتجه كلية نحو الأشكال
الأكثر فوضوية، والأقل قياسية، وبذلك يقطع الشعر أي علاقة له بوظيفة
الاتصال بين الشاعر والقارئ ليصبح آلة جهنمية يرفعها الفرد ضد الكون
والثقافة والعقل وآلياته من أجل بناء عالم آخر أكثر بريقا وأشد صفاء.
فالشاعر الإشراقي كما يراه إلوارد ـ أحد مصادر مجلة شعر ـ يأخذ على كاهله
العناصر الخام والساكنة التي يحملها إليه اللاوعي وتشويش الحواس، فيتضمنها
في نظام متصل بالبنية الداخلية لعالم الكلمات، وبهذا النظام يصبح موقف
الشاعر تجاه اللغة والحلم اتجاها إيجابيا وخلاقا، إنه يهدم ويزرع الفوضى في
كل ما هو مشترك وعام، وفي الآن نفسه يعزز سلطة الفرد الساخطة وتنظيمه
الجديد للكون. وبذلك تكون الفوضى هي النظام الذي يود إقامته على نظام
الأشياء القائمة ليتولد عنها شكل أدبي لا اجتماعي جديد.
وإذا كانت القصيدة الشكلية تسيطر على الزمن بصبه في أشكال دائرية ، فإن
القصيدة الفوضوية الإشراقية تتوخى بلوغ اللازمنية بنفي الزمن والتحرر منه
وذلك بالقفز على المقولات الزمنية لتحقيق الاندفاع اللاشعوري اللانهائي.
ويتضمن هذا الشكل الشعري نوعين من الزمن: الزمن الواقعي والزمن الممثل،
وبقدر ما يتقلص الزمن الأول إلى حده الأدنى لوضع القصيدة تحت شكل الكل
الموجز قصد التأثير في القارئ تأثيرا فوريا مكثفا، بقدر ما يتسع الزمن
الممثل كإشعاع صادر من نقطة مضيئة ذات بريق آني ولامع. وتصطلح سوزان برنارد
على هذا النوع من الزمن "بالشكل من الدرجة الثانية" الذي يلغي الزمن كليا،
وذلك إما بإلغاء المقولات الزمنية لتصبح القصيدة بمعزل عن الزمان والمكان،
أو بتقليص الديمومة واحتضان القرون في نظرة واحدة. وكما يتقلص الزمن تتقلص
المسافات فتقترب الأشياء المتباينة والمتباعدة في ما بينها، وتنتفي
المفاهيم المنطقية المرتبطة بمفهومي الزمان والمكان، وبذلك يتولد الحدس
بعالم آخر غريب ومتوهج يسيطر فيه الإنسان على المادة بدلا من أن يخضع لها.
إن نفي الزمان والمكان وما يرتبط بهما من مفاهيم منطقية ينتج عنه بالضرورة
هدم الأسلوب والترتيب الفني وتسلسل الأفكار وترابطها لتمنح الأولوية للكلمة
بشكل عام، وللاسم منها شكل خاص، لأنه دلالة على الشيء وإيحاء له في جوهره
اللازمني. كما تتمتع الكلمة بكينونتها المستقلة التي لا تذعن لمنطق النحو،
إذ " لم تعد تندرج في تنظيم الجملة لكي يعبر فيها المعنى كما يعبر التيار
في سلك كهربائي، فإذا هي تلمع ببريقها الخاص الكوكبي المنعزل ".
وعلى الرغم من أن النثر لا يسمح بهذه العزلة والاستقلالية للكلمة، فإن
أدوات الترقيم (خطوط صغيرة وبياض وتعيين الكلمات ونقط التعجب ...) وسائل
تفصل الكلمات عن السياق وتطبعها بنوع من الدلالة الخاصة إلى جانب دلالتها
السياقية في الجملة. يضاف إلى ذلك تفكيك الجمل، والعطف، والتكرار الذي يؤدي
إلى نفس الأثر. إلا أن التنظيم الشعري الحاضر بالقوة في قصيدة النثر يخلق
ترابطا خاصا بين الكلمات وفق قوانين كونية خاصة بكل قصيدة يحكمها منطق
داخلي خاص.
4 ـ البعد الإشراقي(الفوضوي)في كتابات أدونيس: إن مفاهيم الرؤيا والحدس
والتخييل والبحث عن الخفي والمجهول والكشف ونشدان المطلق، كلها مفاهيم
ترتبط بالقصيدة الإشراقية، بل إن قصيدة النثر كما يراها أدونيس تبنى خارج
سلطة العقل ورقابة الوعي، وذلك قصد النفاذ إلى الدواخل وعيش حالة إشراق
بالاعتماد على التلقائية كما نظرت لها السوريالية في بياناتها. وفي هذا
الصدد يقول أدونيس: " إني لا أبحث عن الواقع الآخر، لكن أغيب خارج الواقع
في الخيال والحلم والرؤيا. إنني استعين بالخيال والحلم والرؤيا لكي أعانق
وأخفي الآخر، ولا أعانقه إلا بهاجس تغيير الواقع وتغيير الحياة ".
نخلص مما سبق إلى أن أدونيس قام بعملية انتقاء من خصائص القصيدة الشكلية
وخصائص القصيدة الفوضوية، وتركيب ما تم انتقاؤه في قصيدة النثر العربية.
وقد تعرضت هذه العملية لانتقادات متعددة سواء من طرف القوميين الذين يرون
في قصيدة النثر شيئا آخر غريبا عن الثقافة العربية، أو بعض الحداثيين
أنفسهم الذين رأوا في أدونيس منتحلا لآراء الغير ومتبنيا لها.
5 ـ قصيدة النثر ومفهوم الكتابة: تعد مرحلة الكتابة الجديدة المرحلة
الثالثة من مراحل تطور الإبداع عند أدونيس، بعد قصيدة التفعيلة وقصيدة
النثر. وهي مرحلة مختلفة عن المرحلتين السابقتين، اللتين احتل فيهما الشكل
الشعري مركز الاهتمام بسبب الصراع الذي خاضه الجيل الجديد ضد القوانين
الشعرية الموروثة، أما في هذه المرحلة، فقد تحول الاهتمام أساسا إلى نوع
الكتابة.
وقد ميز أدونيس بين مفهومين: مفهوم الخطابة، ومفهوم الكتابة. فالأول ذو
طبيعة شفوية، ويستلزم خطيبا وجمهورا متلقيا وعلاقة مباشرة بينهما تنبني على
الإثارة والتحريض والاستجابة والإقناع. وتقتضي الوضوح وقوة البرهان
والدليل وحسن الأداء البلاغي. وتكون وظيفته الدعوة إلى الرأي أو العقيدة أو
الأيديولوجيا. وينبني الشعر القديم في معظمه على هذه الأسس مدحا كان أم
هجاء أم رثاء أم غزلا، كما أنها ظلت حاضرة في القصيدة العربية المعاصرة
خصوصا وأن المرحلة مرحلة مد قومي، وازداد حضورها بقوة بعد 1965 في شعر
المقاومة الفلسطينية.
أما المفهوم الثاني ، فقد حصر البيان ملامحه في ما يلي:
أ ـ
الإبداع دخول في المجهول لا في المعلوم .
ب ـ إلغاء الحدود بين الأجناس الأدبية .
ج ـ خلق زمن ثقافي بدل الزمن الشعري .
د ـ التركيز على فعل الإنتاج لا على ما تم إنجازه .
هـ ـ الكتابة خلق وإبداع لا استعادة واجترار.
و ـ الكتابة تساؤل لا جواب.
إن هذه الملامح ليست جديدة كل الجدة عما سبق أن نظر له أدونيس، فباستثناء
الملمح الثاني، فإن باقي الملامح الأخرى تتحدث عنها بياناته السابقة،
وتشترك فيها الكتابة والقصيدة الجديدتان. ويبقى الفرق بينهما في تعدد
الأساليب والأجناس داخل الكتابة، وصفاء القصيدة من هذا التعدد.