مع جماليات قصيدة النثر
( تطبيقًا على ديوان :" ثقب فى الهواء بطول قامتى "للشاعر المصرى محمد أبوزيد )
دراسة : عبدالجواد خفاجى
محمد أبوزيد شاعر مصرى شاب من مواليد سوهاج ، آثر أن ينحو بتجربته الشاعرية صوب النثر . وقد أصدرت له مؤخرًا سلسلة " إبداعات " التى تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ديوانه الأول " ثقب فى الهواء بطول قامتى " فى عددها (146 ) .
والحقيقة أن قصيدة النثر لها عالمها النوعى المتفرد كجنس أدبى تَشَكَّل عبر مراحل زمنية عدة ، حتى أخذ سَمْتَه الخاص به ، وليس قولنا " قصيدة " من باب التشبُّه بالقصيدة الشعرية ، وليس قولنا قصيدة نثر يعنى نثرًا شعريًّا ، وإن كان يعنى نثرًا شاعريًّا ، باعتبار الانتظام الجمالى فى شكل نثرى ، وربما أن هذا الطرح يبدو مزعجًا لكثير من المنظرين لقصيدة النثر ، ولشعراء قصيدة النثر أنفسهم ، بيد أنه طرح يزيح عن كاهلهم الكثير من التباس الحقيقة بالمجاز عند توقفهم أمام قصيدة النثر باعتبارها شعرًا . ربما أن الشعرية على نحو ما طُرح فى كثير من الدراسات النقدية على مدى التاريخ كله ، وعلى نحو ما يحدد المعنى القاموسى لكلمة " شعر " لا تسكن غير النظم ، وإن كانت تعنى شيئًا مختلفًا على نحو ما نقول : " ثمة فارق بين بيت الرجل والرجل نفسه " ، وربما أن هذه إشكالية محسومة ، بيد أن الحديث عن الشعرية بمعزل عن النظم الذى يحتويها يمكن أن يشمله مصطلح الشاعرية ، وهو مصطلح أشمل تنضوى تحت لوائه كل الكتابات الجمالية ، ومن ضمنها بالضرورة الشعر ، وغير ذلك ثمة ما يمكن أن يكون أقرب إلى التصور بخصوص قصيدة النثر والألصق بها ألا وهو " الانتظام " فى مقابل " النظم " اللصيق بقصيدة الشعر، بيد أن استخدام مفردة شاعر مع كاتب قصيدة النثر يظل هو الآخر مشكلاً من حيث التصور الدلالى للكلمة ، بيد أنه سيكون الأكثر وجاهة من غيره لأن قصيدة النثر لا يكتبها غير شاعر فى الأساس .. شاعر له مقدرة فذة على تجاوز الأشكال النظمية التقليدية ، والترحل بالشعرية عن سطوة النظم عليها ، ومن عالمها الضيق إلى فسحة الشاعرية ، من خلال الانتظام فى أشكال نثرية لها طابعها الدرامى ،وسماتها التعبيرية الخاصة ، ولها طزاجتها على مستوى الرؤية أوالفن ، ومن ثم فإننى أرى مفردة " شاعرى " أنسب للتعبير عن طبيعة هذا الشاعر ، الذى يمتلك بداية شجاعة التجوال وحريته ، كما يمتلك القدرة العالية على صنع الشاعرية .
وربما أن هذا الطرح المبدئى يزيح عن كاهل قصيدة النثر كثيرًا من الالتباسات التى يبدأ بها النقد أحيانًا النظر إلى / فى قصيدة النثر باعتبارها قصيدة شعرية . وإن كان هذا الطرح نفسه مثيرًا لتساؤل مبدئى عن مدلول كلمة " قصيدة " ، وعن إمكانية أن يكون للنثر قصيدة ،أو عن جواز استخدام كلمة " قصيدة " مع النثر ، طالما أن الأمر ليس تشبُّها بالشعر .
وربما أننا ـ وفى معرض الإجابة ـ بحاجة إلى النظر فى الأصل الاشتقاقى للكلمة .. يقال : ( قَصَدَ ) الطريق : استقام . وقصد له وإليه : توجًّه إليه عامدًا . وقصد فى الأمر توسط فلم يُفْرِط ، ولم يفَرِّط .. وكلها معانٍ تشير إلى الإرادة الواعية فى الفعل من ناحية ، ومن ناحية أخرى تشير إلى الاقتصاد ، ولعل فى الناحيتين ما يعزز نسبة مفهوم قصيدة إلى النثر الجمالى الذى يهدف كاتبه ـ وفق إرادة واعية ـ إلى الانتظام فى قصيدة ، أو بالمعنى : بحث عن نظام لتشكيل اللاشعور بدلاً من الاستسلام سلبيًّا لهذيانه ، ولفنتازيا خيال مجنح " والفن عمومًا هو الإرادة فى الإعراب عن الذات بطرق منتخبة "(1) وإلى هذا المعنى ذهب ـ أيضًا ـ " آى جالو " ( E . Jaloux ) فى معرض حديثه عن قصيدة النثر ،عندما قال : " هى خلق حر ، ليس له من ضرورة أخرى غير رغبة المؤلف فى البناء ، خارجًا عن كل تحديد ، وهى شىء مضطرب ، إيحاءاته لا نهائية " (2) .
وعليه فإن قصيدة النثر قصيدة إشكالية .. أن تكون باحثة عن الانتظام رغم ميلها الهدام الفوضوى " فمن المؤكد أن قصيدة النثر تحتوى على مبدأ فوضوى ، وهدَّام ؛ لأنها ولدت من تمرد على قوانين علم العروض ، وأحيانًا على القوانين المعتادة للغة ، بَيْدَ أن أى تمرد على القوانين القائمة سرعان ما يجد نفسه مكرَهًا على تعويض هذه القوانين بأخرى ،لئلا يصل الأمر إلى اللاعضوى ، واللاشكل ، إذا ما أراد عمل نتاج ناجح " (3) .وربما أن هذا هو دافعنا إلى البحث عن جماليات قصيدة النثر بعيدًا عن أية معياريات فنية متوارثة ، لا من منطلق المبدأ الفوضوى نفسه ، ولكن من منطلق النظر فى نوعية لا تبغى إلا أن تكون ذاتها ، إذ ترفض النظر خارجها .
إن معظم النظرات النقدية التى تستهجن قصيدة النثر تبدأ فعلها من النظر خارج النوعية التى تمارس عملها عليه ، وهذا مفضٍ ـ منطقيًّا ـ إلى محاكمة غير شرعية لجنس لا يمت إلى المعيارية التى نحاكمه بها ، أو تلك التى نحتكم إليها .
المعنى الآخر الذى نستخلصه من المعنى الاشتقاقى لكلمة " قصيدة " ، والذى نود التوقف عنده هو التوسط فى الأمر من دون إفراط أو تفريط ، والذى يناسبه قولنا " اقتصاد " ، والذى نقصد به الإيجاز دون إخلال .
من هنا يمكننا الاستفادة من مصطلح " قصيدة " ـ كما ذهبت " سوزان برنارد " ـ بالتحدث عن مجموعة علاقات ، وعن عالم غاية فى الانتظام ، يقود دائمًا إلى الحاضر الأزلى للفن ـ على عكس الأشكال النثرية الأخرى ـ أو بالمعنى : الاعتماد على وسائل من شأنها أن تحررنا من الزمن الدائر ، وكل ما من شانه أن يحرر لابد أن ينطلق من مبدأ آخر قريب ألا وهو الحرية .
والحقيقة إن مبدأ الحرية فى قصيدة النثر بحاجة إلى تأنٍ فى استيعابه ، فالحرية هنا تماثل الحرية الممنوحة للروح فى عالم الحلم ، حيث مبادئ السببية معطلة ، والزمن يتخلى عن منطقيته .. إن مفاهيمنا المنطقية المرتبطة بمفهومى المكان والزمان تتعطل ، بل يمكن أن ينهار بعضها دون أن تنهار الأخرى ، تمامًا كما يقفز الشاعر من فكرة إلى أخرى ، أو من موقف إلى آخر ، أو من حالة إلى أخرى .. يبدو ثمة نقص لدينا فى استيعاب التحول ، لا لشىء إلا لأن الذى يزعجنا مرتبط بفكرة الزمن الضرورى لتهيئة المرور .. زمن يجد نفسه ملغيًّا فجأة ، " وإن كان منطق الحلم مصدرًا لحيرتنا ، فذلك لأن الزمن فيه معجل ، أوملغىٌّ ، أو أنه ـ على العكس من ذلك ـ ممتد بلا حدود " (4) وهنالك حيث تلغى مبادىء السببية ؛ فسوف نرى الزمن يتلاشى وسط مصيبة كونية ، وهنالك " يقف الشاعر وحيدًا تحت سماء العاصفة ، وأعلام الدهشة ، وسوف يستطيع الاعتقاد بأنه متحرر من الزمان والمكان ، وأنه حرٌّ ، وخالد خاود الآلهة " (5).
من هنا أقول : إن المظاهر المنطقية كلها تتراجع ، وإن شِقًّا مميتًا يكبر حتى يقلب الحقيقة ، ولا أرى غرابة أن يضع كثير من الشاعريين أنفسهم تحت راية اللامنطق فى عصر فيه الحقائق اليومية مزعجة دائمًا ، والأمر متعلق أيضًا باجتثاث القارئ وتخليصه فى آنٍ من الحمل المضنى للزمن ، ومن عقال العادات المنطقية ، وانتزاعه من قيود هذا الكون ـ على نحو ما يفعل المتصوفة ـ لإعطائه انطباعًا عن عالم غريب مدهش ، قد يسيطر فيه الشاعر بطاقات جديدة على المادة اللدنة بدلاً من أن يخضع لقوانينها .
إن أى محاولة للتفلت من سجفة الفيزيقا دائمًا مثيرة للغرابة والدهشة ، وإن كانت فى حد ذاتها محاولة لامتلاك حرية مطلقة .
*****
هكذا يسعى " محمد أبوزيد " فى تجربته فى ديوانه " :" ثقب فى الهواء بطول قامتى " إلى امتلاك حرية مطلقة ، وربما أنه بدا إلهًا ملعونًا للشاعرية والحياة الشاعرية الحقيقية ،وإن لم يختره أحد ، هو يعيش كإله مهمل ، لا يقايض بما لديه من خصوصية لم يرثها من أحد ..يقول : " فكيف أبيع دفئًا لم أرثه ، وأيامًا لم تؤلهنى "صـ62 .فيما يظل ـ أيضًا ـ منفيًّا خارج اعتيادية الزمن ، أو خارج الزمن الاعتيادى ، ومن ثم خارج الأطر الاعتيادية : " سأخرج بساعة بلا عقارب ، وظلٍّ بلا خاتم فى اليد اليمنى " صـ63 .ربما أنه من حيث المبدأ " ظل ُّ " متحرر من جبلة الجسد ، وإن كانت الخواتم تمثل ـ عرفيًّا ـ رمزًا للارتباط بالمرأة فى إطار شرعى اعتيادى ،فهو إلى حد كبير متحرر منها ، غير أنه ـ وفى حدود مملكته ، ووفق نظم يصنعها بنفسه ـ مضطر إلى خلق أنثاه : " أين أنت يا عروسة النيل / أريد أن أخلقك الآن / وأنفخ فيك من روحى / فتكونين قصيدة / أنا لا أحب شهر أغسطس / لكنى أحبك / تبخِّرين الروح ببخار الشاى / برائحة دموعك التى تخشنى " ص 45 .
هو حُرٌّ ـ إذن ـ ليس فى أن ينشىء عالمًا شعريًّا فحسب ، بل حرٌّ إلى أبعد مدى فى ممارسة الحياة الروحية التى لم ، ولن يهبه إياها هذا الواقع / العالم المعتاد .. هو يعى ذلك فى خطابه إلى " سانتا كلوز " : " اسمع يا سانتا كلوز / أعرف أنه سيطول انتظارى / لعروسة النيل / أنا الآن متأكد من ذلك " صـ44 .وربما لذلك هو إله صناعته خلق هذا العالم المدهش على هواه ، وعالمه ليس خارجه : " كل يومٍ أقف على ناصية جسدى / وأقزقز السحابات المارة / وأرص البيوت المنشورة / على أحبال الغسيل فى جيبى / وأنتظرنى .. / لكننى دائمًا / لا أجئ ... " صـ 18 .. هكذا هو يتلهى بخلق عالمه الذى سيجد فيه ذاته ، بَيْد أنه لن يجدها ، لهذا سيظل باحثًا عنها ، فيما سيظل المجئ مرجئًا ؛ لأنه زمنيًّا يعنى نهاية فعل الخلق ، أو ربما أن المجئ يعنى موته ، إن مسألة الرِّى الروحى تظل دومًا مرجأة ، لا لشىء إلا لأته إله متمرد حتى على ما يخلقه هو ، أو ربما لأن كل عوالمه مسيجة بالأحزان الثقيلة ، هو إله للقصائد والحزن معًا ، : " حزين يا أمى أنا / حزين أكثر مما يجب / فلا تتركينى وحيدًا / مع القصائد والشاى / كبقايا طاعون مزمن / تعطيه الطحالب والصخور / والدفاتر / ألوِّن فيها بدمى / بنفسجًا وأحذية مثقوبة / وشاعرًا ..." صـ 33 .
وربما أنه حزين بسبب عجزه عن الوصول إلى اكتمال حلمه ، أو خلق عالمه المثالى كيفما يشاء ، وفيما يظل الواقع الذى يتمرد عليه مبكتًا مشاكسًا يسير على علاَّته ، متجهمًا ، وبغيضًا ينضح بالكراهية ، ويطارده باللعنة .. هو إله لا يؤمن به أحد ، ولا يحبه أحد : " تكرهنى الكبارى / والسجائر / وجالسو القرفصاء / أنا كجبل / أبيع قصائدى للمارة ،والكلاب / وللطغاة الحمر .." صـ33.العالم يظل شرسًا خارج حدود الذات أيضًا : " الغابات فى الخارج تعضنى / الربو يحتك بى / يتركنى مغطى بشمس الصيف / الظالمة " صـ 32 .
وهو أيضًا إله يظل متجرعًا حسرته لا لكونه ملعونًا ومنبوذًا فحسب ، بل لأن الواقع يسير على علاَّته ، متماديًا فى غيِّه ، وفى اعتياديته ، وحسِّيَّته ، وبلادته ، وغاياته اللا شعرية المجافية لمطالب الروح ، تلك الطاقة الموؤدة فى هذه الحياة الاعتيادية ، ومن ثم يختار لنفسه مهمة استثنائية .. هى رسولية إلى حد كبير؛ ليهبط هذا الإله الملعون إذن ، حاملاً رسالته إلى الأرض الخراب ، عله يكفِّر عن خطايا البشر ، أو ربما ليخلصهم من إسار جبلَّتهم الطاغية ، ولكنه إذ يتأهب لتلك المهمة يعرب عن يأسه فى ذات الوقت من جدوى مهمته ، كما يعرب عن أسفه لكثرة ما سيواجهه من مآسٍ ، ولعل أول المآسى التى كان عليه أن يواجهها أن أمه ـ الصدر الحنون ـ تتأهب فى نفس اللحظة لمغادرة الأرض التى سيهبط عليها ، وربما لهذا هو يدعوها للبقاء : " لا تموتى الآن .. من سيزمل الرسول / من سيسقى النعناعة / وعابرة السبيل .." صـ34 .
إن افتقاد الأم سيعطل مرحليًّا هذه المهمة الرسولية ، لا لشىء إلا لأن رحيلها سيقطع نسبه إلى هذا الواقع ، وربما أزكى من شعوره بالنبذ ، ولهذا تظل المهمة الأولى هى البحث عن الأم بمعناها الرمزى ، فهى الحياة نفسها التى يخرج من رحمها الأحياء . إن فقد الأم يمثل فقد الرؤومة والملاذ ، والتواصل الحميم بالحياة ، وهكذا تبدأ مهمة الرسول الضال بالبحث عن الأم : " عيونك تتركنى للشوارع تنهشنى / أنا الصعلوك القديم / ألتهب بالنعاس / وبالبكاء / تطردنى المقاهى لليل / بلا نهدين / فأرنو إلى وجهك / وأبكى / ألملم صوتك / وأضمه إلى صدرك .." صـ 34 .وفى جهة أخرى هو رسول لم تختره السماء ، وإن كان صاحب رؤية لا تبعد عن نشر المحبة والسلام ، إلا إنه ـ ولأن السماء لم تختره ـ غير مؤيد بالمعجزات ، والبشر لا يلتفتون إلا لأصحاب المعجزات من الرسل . إنه اعتراف مبدئى بفشل مهمته قبل أن يبدأها : " أنا حزين لأنى / لا أُبْرِئ الأكْمَهَ ولا الأبرص / ولا أحيى الموتى / لا أخبئ الدنياصورات فى حقيبتى / من العواصف / ليس لى جيوب أربى فيها المطر / ولا عيون أعيرها للعمى / ولا مقاعد فارغة أهديها للعاشقين ... " صـ 70 .
وفوق ذلك ليس له عزوة ، وليس لديه ما يعتد به ، وليس لديه ما هو مغرٍ غير قصائده / آياته الشاعرية التى لا يطرب لها الناس ، فقد اعتاد البشر القصائد الغنائية ذات الإيقاع الذى يدغدغ الحواس ، ويهز المشاعر .. ليس لديه ما يحرك به حواس البشر ، ومشاعرهم ، فآياته لا تمت إلى هذا الحس الإيقاعى الذى اعتاده البشر ، ووجدوه فى الطبيعة ، هو نصوصى لا يكتب شعرًا تقليديا حتى يكون متطابقًا بصورة أساسية مع الخليقة برمتها ، ومع المجتمع بالتالى . هو نصوصى متمرد أساسًا على هذا الخلق ،أو كما يقول " فكتور هوجو ": " وهو لكونه خالقًا ، فقد يعمل بطريقة تختلف عن طريقة الخالق ، إن كل ما فى الطبيعة هو إيقاع ووزن ، حتى إننا نستطيع القول إن الله قد خلق العالم من الشعر " (6) . ربما لهذا لا يتوقع هذا الشاعرى الرسول نجاح مهمته الجمالية : " ليس لى حبيبة ولا أصدقاء / ولا قصائد راقصة / أعبر بها / كبساط الريح ـ جثة الطغاة ـ وأسِرَّة الأمراء / والطحالب فى أفواههم .. " صـ 70 .ربما أنها مهمة محفوفة بالمخاطر أيضًا ، وبقدر سموَّها هى بحاجة إلى كثير تضحيات ، قد يكون أولها الشاعرى ذاته ، عليه أن يمضى كمسيح جديد ، جاء ليخلص البشر ، ويكفِّر عن سيئاتهم ، وإن كان المقابل صلبه : " سأفك ذراعى المسيح / وساقى يهوذا / وفم النجار / وعينىَّ / أنصبنى مصلوبًا جديدًا لأتذكر أن / محمود المليجى فى آخر لقطة من فلم الأرض كان / يجر أظافره فوق وجهى وأنا غائص فى الشمس والتاريخ .. " صـ 12 .
ومن الحقائق التى يجب أن ننطلق منها لدراسة قصيدة النثر أنها ليست تمثيلاً للواقع " وصفًا أو سردًا " ، وأنها على العكس من ذلك إبداعًا وموضوعًا مستقلاً ، ما أن يستقى عناصره من الواقع الخارجى حتى ينفصل عنه ليبحث عن حقيقته العضوية الخاصة .. هذه العضوية الخاصة ستكون إلى حدٍّ ما تركيبًا لعالم غريب نستشعر فيه الغربة أيضًا كما لو كنا مسافرين على كوكب آخر باستخدام المواد الاعتيادية جدًّا والحقائق اليومية ، وتعبيرات وكلمات المواقف العادية ، والألفاظ التى تدل على المبتذل من أشياء . وعلى الشعر ها هنا ألا يتدفق من جمال التعبيرات ، أو رصانة العبارة ، أو إيقاعها ، بقدر ما يتدفق من صيغة الرؤية ، نحن إذن بإزاء تحطيم فكرة اللغة النبيلة ، وبإزاء بلاغة رفض لأية بلاغة ، ولكل صنعة لفظية ، أو كما كما تقول سوزان برنارد : " جمالية الحدِّ الأدنى التى هى فى الواقع القاعدة فى قصيدة النثر " (7) .
فى ديوان " ثقب فى الهواء بطول قامتى " تجميع لكثير من الأشياء المبتذلة والاعتيادية ، وكلمات التعامل اليومى ، والتعبيرات الشعبية ، بالتجاور مع المفردات الأجنبية ، والعربية الخالصة ، وغير ذلك منها ما هو مكتوب بالأحرف الأجنبية ، ومنها ما هو مكتوب بلهجته العامية ، حتى وإن استعار له أبجدية الفصحى .
هذه التشكيلة المتنوعة تجمعها صور تعتمد أساسًا على التقاء ما لا يلتقى من الناحية المنطقية ، بما يعد توسُّعًا فى استخدام المجاز ، أو التقاء ما لا يلتقى على المستوى اللغوى الواحد . وإن كانت من خلال عملية الرصف والتوليف والانتقاء تشكل صورًا بديعة مدهشة ، يبدو للذهن دور فى ترتيب عناصرها وفق منطق خاص جدًّا .
ويجمل بنا أن نقول إنها صور تقوم على التقاء حقيقتين متباعدتين إلى حدٍّ كبير ، وبالنتيجة فإن " الصورة هى إبداع ذهنى صرف , هذا المفهوم لدور الصورة هو إحدى محصلات الشعر الجديد ، فالصورة والاستعارة لم تعدا زخارف إضافية مكرسة لتجميل النص الشعرى ، بل هما وسيلتا خلق وإبداع . ( ولنا أن نتأمل هذه الجماليات الخاصة بقصيدة النثر فى نصوص " محمد أبوزيد " لتفجأنا هذه الصور البكر : " فالشمس مسدلة الغيوم اليوم / شارع عبدالخالق ثروت / مَنَحَنى اليوم هزيمة جديدة / هزيمتين/ ثلاثًا / المطر كان يرتعش من البرد / والغيوم القديمة كالصحراء / كانت تخلع منظارها الطِّبِّى " صـ28 .. " ماتت جدتى .. / بعد يسوع بأقل منى ألفى عام / وكانت تقول / إن صالة المغادرة تتأهب لتوديع أناس جدد / فأصرخ : جبار أنت أيها الموت / أريد أن أهزك / وأخنقك من ربطة عنقك / الأنيقة / كمشنقة .. " صـ26 . .. " كانت القطة أسفل المنضدة تموء / وجان دارك أمام طبق الفول / نصف صامتة تبصرنى / أتوقف فى الشارع أمام السيارات / أعجز عن الطيران فى ميدان الأوبرا / أفلت من عيون أصدقائى / لأكتب نصف قصيدة / وأظل هكذا إلى الأبد / بنصف يد " صـ 94 .
ثمة تجميع لمستويات تعبيرية متفاوتة الرصانة ، وثمة ميل إلى لغة الحياة اليومية ، والتقاء ما لا يلتقى ، كالجمع بين جان دارك وطبق الفول والقطة ، فى مشهد واحد يبدو حيًّا وآنيًّا ، يمارس اعتياديته مع الذات الشاعرة ، هذه الاعتيادية التى تحاول الصورة أن تُدخلها فى عقولنا ليست إلا تجنيحًا فى أفق فوق اعتيادى ، ميتافيزيقى إلى حدٍّ كبير ؛ لأن جان دارك فى عداد الموتى وبقية العناصر غير ذلك .
وبما يعد توسعًا فى المجاز أيضًا أن يرتعش المطر من البرد ، وأن تخلع الغيوم منظارها الطبى ، وأن يكون للموت ربطة عنق أنيقة .
ولا أظنن أن هذه التشكيلات اعتباطية مطلقًا ؛ فقد سبق أن قلت إنها وفق منطق خاص له رؤيته المخصوصة .
فمثلاً عندما ننظر فى التشكيل الصوَرىَِ الآتى : " اتركينى أرقص وحيدًا أمام هيرودوت / فأخرج من التاريخ / وأدخل فناجين القهوة / دعينى أفضفض / سأعلق مشنقة فى رقبتى / وأدعوها ربطة عنق / أغرسى سكينًا فى فمى / وأدعوه سيجارًا / أعانق الكهرباء وأسميها الحبيبة / أُخرجُ ذاكرتى لأغسلها بيناير " صـ 68 .
هذه مجموعة من الصور المترابطة فى بعض المواضع والمتجاوزة فى مواضع أخرى تتحد بموجب منطق خاص جدًّا ، يبدأ من الرغبة فى الخروج من التاريخ ، على عكس كل البشر إذ يحلمون بدخول التاريخ ، هذا التاريخ يبدو مرفوضًا لقذارته ، ولاإنسانيته ـ حسب وجهة نظر الذات التى تعرب عن تواجدها فى النصوص ـ وما الذى يجبر الذات على الحلم بدخول تاريخ آثم شرير ؟! .
ربما لهذا تحفل الصور بأشياء كثيرة مميتة ، أشياء يجفل منها البشر ، لأنها تجتث حياتهم مثل " سكين ـ مشنقة ـ الكهرباء " هذه الأشياء المهلكة للجسد يخشاها الناس فى الواقع المادى الماثل ، لكنما قد لا تخشاها الأرواح الهائمة التى تخرج من التاريخ المادى غير آسفةٍ عليه ، وربما لهذا تنتاب الشاعرى رغبة غسل ذاكرته أولاً بأول ،بداية كل عام ( يناير ) .. يغسلها حتى يطهرها من فواصل ومحطات هذا التاريخ المرفوض .
يبقى أن يبكت راقصًا هذا التاريخ أمام أبى التاريخ ( هيرودوت ) .. يبكته خارجًا فيما يشبه الفرح والرقص ، خارجًا من عواصف التاريخ إلى عواصف أخرى قد يسميها هذا التاريخ المرفوض " زوابع فى فناجين " هذه الزوابع التى توسم بهذا الوسم ، لها ما يبررها ، وعلينا أن نطالع الأسباب فى مجمل تجارب الديوان ، فمهما كان الشاعرى متمردًا إلا أن تمرده له ما يبرره ، ولو تتبعنا تشكيلات الصور السابقة لوجدنا تشكيلة أخرى تشف عن مبررات الرفض والتمرد ، نقرأ منها : " ذراعى التى كسرت من الكتابة إليك / لم يفعل أبى معه شيئًا / فقد علقه كتمساح محنط / فى مقدمة البيت / الأصدقاء قلبوا البحر طحينة لى .. " صـ 69 .
إنها صور تنم عن السلبية المحيطة التى تدعو إلى الرفض المقابل . وتمتد الصور الشاعرية التى تعكس تجربة الذات فى هذا الواقع ، على نحو : " ليس لى حبيبة ولا أصدقاء / ولا قصائد راقصة .. أعبر بها ـ كبساط ريح ـ جثة الطغاة / وأسِرَّة الأمراء / والطحالب فى أفواههم " صـ 70 .
وفى تشكيل صوَرى آخر : " كل يوم / اقف على ناصية جسدى / أقزقز السحابات / المارة / وأرص البيوت المنشورة / على أحبال الغسيل فى جيبى / وانتظرنى / لكننى دائمًا لا أجئ .." صـ 18 .لم يعد له غير جسده الذى هو الكون الذى يدسُّ فيه فضائح وأسرارًا لم تعد سرًّا .. يعيش كجسد يبحث عن مساحة للتعايش الروحى التى لم يعثر عليها ، ربما هو يلجأ إلى الأساطير عله يجد روحه المفقودة : " جدتى قالت : / الذباب الأزرق / هو أرواح الموتى .. / وهكذا أسير / مفتشًا عن روحى " صـ 53 .
وثمة صور أخرى تعكس لنا صورة السماء التى تترصد الذات التى لم تعد تملك من واقعها شيئًا سوى صورة المحبوبة ، وليس المحبوبة ذاتها ، لكأن كل ما يربط الذات بالواقع جماليًّا وليس حسيًّا ، وإن كان مرئيًّا على نحو غير حقيقى ، بيد أن السماء استكثرت على الذات حتى صورة المحبوبة فخطفتها فى الوقت الذى لم تعد الذات عابئة بهذه العوارض ، وهى التى تشتاق لبهجةٍ أعظمَ خلف سجفة الفيزيقا ، أو هذا العالم المرئى : " لأنه كان يشتاق / لصفصافة زرقاء الروح / بصورة مبهجة / فلم يهتم برائحة الشواء / التى اغتالت الشوارع الحافية / ولا بطعم معجون الأسنان فى فمه / ولا بالسماء التى / مدت يدها / وخطفت صورة للحبيبة / فقد بكى عندما غنى منير / ( قابلت فى الطريق عيون كتير بريئة / أعرف بشر عرفونى.. لا لا ما عرفونيش ، قابلونى وقابلتهم ، بمدِّ إيدى لك طب ليه ما تقبلنيش ) / فقط .. / بكى كثيرًا / حنى أضحك بلوزات بنات الكورنيش الضيقة / وبوابة الجوريون " صـ 20 .
فى كثير من الصور تتحول الحياة إلى قبر ، فيما تتعامل الذات مع هذه الحياة فى الخارج كما لو كانت الحياة الآخرة ، وفى لحظات الضيق تتساءل إن كانت قد أخطأت اختيار القبر الملائم : " فهل هذه المسافة / كافية للهرولة .. / أم أن عينىّ لم تستطع اختيار القبر الملائم / أيتها الخناجر / بإمكانك تمزيق الأفئدة والقصائد / ومناشر الغسيل / بإمكانك خلق كون جديد بلا بنايات عالية / ولا هواتف / ولا طيور / بإمكانك .. / فتح كل الأبواب / والإنصات جيدًا للكلام بين مساحيق الغسيل / والقلوب .. " صـ 11 .
إن نداء الخناجر / أداة التمزيق والقتل يمثل قمة غضب الذات ، إذ تستدعى هذه الأداة الحادة لتمزيق القلوب والقصائد معًا .. إن الربط بين القلوب والقصائد من شأنه أن يوضح العلاقة بين الشعر والعاطفة التى تحفل كثيرًا بالغناء فى واقع ليس غنائيًّا، بيد أن الطيور نفسها تستحق القتل أيضًا ، لا لأنها شريرة ، بل لأن قتلها يمثل رحمة بها ، لأنها أضحت بغير دوحة للغناء ، وهكذا نجد دعوة الخناجر بمثابة خلق عالم جديد بغير هذه المفردات ، ومن ثم تأخذ مفردة " خناجر " دلالتها فى هذا اللون الجديد من القصائد التىتخلق عالمها على نحو مخصوص يتفق مع منطقها الداخلى.. ما يعنينا من وراء رصد هذه المجموعة منة الصور السابقة أن نرى كيف اجتمع فيها المبتذل والعادى ، وكيف أنها بعدت عن الرصانة ؛ إذ حفلت بالاقتباسات العامية عندما ساق نص أغنية " محمد منير " العامية ، كما حفلت بالتعبيرات الشعبية مثل : " قلبوا البحر طحينة " وكثيرًا من لغة الاستهلاك اليومى مثل : " مناشر الغسيل ـ مساحيق الغسيل ـ علب الفازلين ـ أحبال الغسيل ـ فرشاة الأسنان ـ معجون الأسنان ـ براد الشاى ـ قماش الكنب ـ بلوزات بنات الثانوى ـ كورنيش النيل .... ألخ " يتجاور هذا مع قاموس لألفاظ أجنبية المنشأ مثل : " بروفيل ـ تاكسى ـ بلوزات ـ الأوبرا ـ سجائر ـ الجريون ......... ألخ " وثمة مفردات لتوافه الأشياء من عينة : " طحينة ـ الكنب ـ فازلين ـ معجون ـ طاولة ـ رابطة عنق ـ أحبال ـ مناشر ........ألخ " يتضافر كل ذلك مع لغة أخرى أكثر رصانة مثل : " الأفئدة ـ استرق السمع ـ يركلنى الفلاحون ـ يهجونى الأطفال ـ عيون معلقة على البحر ـ بساط الريح ـ الشمس مسدلة ـ الغيوم ......ألخ " وكثير من أسماء الأعلام والميادين والشوارع .
والحقيقة الديوان حافل بمثل هذه التشكيلة القاموسية والتعبيرية ذات المستويات المتباينة ، والتى تمت إلى كافة شرائح المجتمع بمستوياته الثقافية ، حتى اللغة الاصطلاحية لم تخلُ النصوص منها مثل : " جامعة الدول العربية ـ الماركسيين ـ رومانسى ـ متوالية عددية ـ متوالية هندسية ـ حمض الكبريتيك المركز ......ألخ " .
اللافت للنظر أن النصوص حفلت بكثير من أسماء الأعلام الموتى ، وتم التعامل معهم فى إطار التجربة كأشخاص لا يزالون ممارسين للحياة ، و اللافت أيضًا أن هؤلاء الأعلام يمتون إلى أزمنة ومجتمعات متباينة ، ولعل ذلك له ما يبرره أيضًا ؛ فبجانب تمثُّل البعد الإنسانى الذى يستوعب التجربة الإنسانية عامة وعلى مدى التاريخ الإنسانى ، وربما أن ذلك كان واضحًا من تنوع الأعلام ما بين مصرى وعربى وأجنبى ، وفى حقب زمنية مختلفة ، ومتباعدة ، أيضًا هناك نصوص حرص الشاعرى على كتابتها بلغتها الأجنبية مثل ما هو وارد فى قصيدة " هل فنجان يتيم من القهوة السادة يكفى لرتق كل هذه الهموم " إذ وردت عبارة : " The death is what death does " صـ 21 بجانب نصوص متضمَّنة من القرآن الكريم مثل : " جذرها ثابت وفرعها فى السماء تؤتى أكلها كل حين " صـ 12 .مع بعض التعبيرات الدارجة مثل : " تحاسب التاكسى " صـ 15 ، ومثل : " قلبوا البحر طحينة " صـ 69 .يتضافر ذلك مع كثير من صور الرصانة التى وردت بشكل عارض .. هذه التشكيلة تحاول أن تكون شاملة ومستوعبة للبعد الإنسانى والاجتماعى ، والتاريخى متمثلة التجربة الإنسانية فى عموميتها .. إنه طموح التجربة لاستيعاب ما تتمرد عليه أساسًا ، وبوسائلها الفنية ، ولعل أولها اللغة .. هكذا تدمج التجربة بين الاستيعاب والتمرد ، لتؤكد أنها تعى ما تتمرد عليه وتتشربه من جهة ، ومن جهة أخرى تزيل الحواجز بين مستوياته التى تفصل بين المجتمعات والعصور ، وبين الإنسان والإنسان ، وبين جيل وجيل ، وعصر وعصر .. ولتقدم من جهة أخرى نوعًا من التجاور وربما الاندماج بين مستويات طبقية مجتمعية تمثلها فى إطار التجربة مستويات لغوية متباينة .. هكذا يصبح التمرد إيجابيا عندما لا يتبنى الرصانة وحدها ، بل يساوى بينها وبين غيرها من مستويات لغوية توسم ـ على نحو عنصرى ـ بالدونية .
أما بخصوص الأعلام الموتى وخلطهم بالأحياء فله ما يبرره أيضًا على صعيد التجربة التى تعلن موت منشئها ، إذ يبدأ فى ممارسة حياته الاعتيادية ، وغير ذلك فإن حياته فوق الواقعية التى تهجر هذا العالم الخرب الشرير ، الحى الميت ـ حسب وجهة نظر الذات صاحبة التجربة ـ أو لنقل : الميت الحى ، أو الميت بالحياة ، أو الحى المدفون فوق الأرض .. أما الحياة الحقيقية فستظل فى إطار التجربة بعيدة .. هناك فوق هذى الحياة التى تتزيى بزى الواقع .. الحياة الحقيقية ستظل بالنسبة للذات ممارسة روحية وجمالية ، وهى تتلمس الجواهر ، وتغادر سجفة الفيزيقا إلى حيث الرحابة ، وإلى حيث الحاضر الأزلى ، هنالك يتبدى التسامح الحقيقى ، وهناك الوجود الحقيقى ، أو الخلق البديل الذى صنعته لتوها الذات المنشئة .
فى نص " أكمام قصيرة لا تصلح لرداء منزلى " صراع بين لحظتين إحداهما تشد الذات نحو اعتيادية الحياة والعلاقات ، والأخرى تشدها نحو لحظة متفلتة من إسار الاعتيادية ، قد تكون اللحظات الرومانسية أحيانًا واقعة ـ رغم بعدها المحلق فى الخيال ـ ضمن المشاعر الاعتيادية التى ألفها هذا الواقع الممجوج . أحيانًا تبدو الرومانسية تقليعة مضحكة تمارسها أفلام السينما على سبيل التمثيل لا الحقيقة .. فى عالم كهذا تبدو الذات نافرة من الواقع بما يحويه من اعتيادية الحلم الرومانسى إلى أفق يسكنه الحلم الصوفى المتفلت من جبلَّة الواقع ومنطقيته الصارمة ، وكوابيسه المزعجة ، ورومانسيته المريضة .. هذا الحلم الصوفى وحده يجعلها إلى حد ما ملامسة للحقائق اللازمانية : " يا الله / هذا المشهد لم أره من قبل / لكن أصابع الوقت النحيلة كثعبان رضيع / أحاطت بعنقى / وأرغمتنى على البكاء / ما يذكره الشعراء فى هذه الحالة/ سيكون رومانسيًّا / وأنا أحاول أن أبدو بقميصٍ ينادم شجرة بلا نهود / حسب التسلسل الطبيعى للأحداث سأترك خيالى / ليرسم على السطح حمامتين / وعلى السطح جثتين / وفى الطريق عربتى إسعاف ..." صـ 76 .
إذا كانت اللحظة الحاضرة سياجًا يحيط بالعنق ، ويرغم على البكاء ؛ فإن الحالة مناسبة شعريًّا للتحليق فى أفق رومانسى مرفوض هو الآخر ؛ إذ لا جدوى من البكاء فى عالم فيه " الشارع تابوت طويل بين الحين والآخر .." صـ 76 .. التساؤل الأكثر وجاهة : ما جدوى الغناء ؟ لماذا يغنى العالم ، وقد أضحت اللحظة الرومانسية التى يمكن أن تكون مجالاً للتحليق الروحى أضحت غباءً مصطنعًا تمارسه الأفلام السينمائية على سبيل التمثيل لا الحقيقة : " ألم يكن من الأنسب / أن نعير ضحكاتنا بعضًا من الاهتمام / أن أعيد تلوين وجهى وأنا أقول " أحبك " / فتنبت فى كفى سنبلة وقصيدة عمودية / سنجر الشوارع خلفنا كقط أليف / لتتأهب القطارات بأغنياتها / فكم الوقت الآن / ـ العاشرة إلا خمس دقائق ؟ ـ هذا مناسب تمامًا لأن أرتل فى حضرتك " أحبك " / أن تفر تفاحتان من وجنتيك / فى الأفلام عادة / سينتهى الفيلم بقبلة طويلة " صـ 74 .
ولعلنا قد أدركنا أن تمرد الشاعرى على الواقع والمحتوى التاريخى ، يحوى فى زوبعته تمردًا على المعطى الثقافى واللغوى والبلاغى أيضًا ، ولعل ذلك ما يجعله يرفض الأسلبة التقليدية ، ولم يكن ملتزمًا فى رصف عالمه وهندسته وفق منطقه المخصوص إلا بالحرية التى تؤهله لأن يكون كالنحلة التى تقف أينما شاءت فوق كل ألوان وأنواع الزهور أيًّا كانت فوق ذؤابات الجبال ، أم فى السهول ، فى البوادى أم فى الوديان والمروج . هكذا كانت تجربة الشاعرى التى تبغى الوصول فى النهاية إلى العسل ، وإلى هندسة عالم له مذاقه وطابعه المخصوص .
من اللافت للنظر فى نصوص الديوان أيضًا بجانب رفض البلاغة التقليدية غياب علامات الترقيم ، فلم تعد كلمات الجملة أو الفقرات مربوطة كعلامات الموسيقى ، ولم تعد الروابط بينها مؤسسة على منطق السببية ، أو أى منطق آخر خارجى ، إنها صور تشكلها الكلمات ، تتجاور فى بعض المواضع ، وكل ما يجمع بينها أنها متحدة وفق منطق مخصوص ، أو خاص بقصائد لها درجة من الكثافة التى تجعلها إلى حدٍّ كبير ، مكتنزة بالإيحاءات .ولنا أن نطالع التشكيل الصُّوَرى فى قصيدة : " ظلٌّ لا يجيد الرقص " لنلحظ هذه الخصائص : " هم عادة يختارون القبَّرات / فى الجلابيب / يقلعون بأنفسهم الورود التى على قماش الكنب / يطلقون الرصاص ابتهاجًا / كلما سقط ظلٌّ ينزف / لم يكشفوا يومًا فى دمى / مستودعًا للذخيرة " صـ 62 .
لعل التوسع ـ أيضًا ـ فى استخدام المجاز الذى يركز على التقاء ما لا يلتقى فى الواقع ، ومهما كان هذا المنحى متشحًا بالغموض إلا أنه فى الوقت ذاته ينم عن كثافة دلالية وبلاغية ، وإيحائية بحاجة إلى جهد فى التلقى وإعمال نظر ، والأخذ فى الاعتبار أنها لا تتم اعتباطًا ـ ومهما بدت منافية للمنطق الذى ألفناه ـ فقد سبقت الإشارة إلى منطقها المخصوص .
ثمة ما هو ملفت أيضًا للنظر ـ أيضًا ـ أن الشاعرى " محمد أبو زيد " لم يكتف برفض الرصانة والتمرد عليها بلاغيًّا ولغويًّا ، بل تساهل فى الدقة اللغوية بما يشى أنه جازف أحيانًا باللغة ، الأمر الذى أدى إلى استخدامها بشكل خاطئ ، والأمر الذى لا يجب أن نتهاون معه ، فمهما كان الأمر تمردًا إلا أن ثمة فارق بين التمرد باللغة ، والتمرد على اللغة ، أو المجازفة بها فى طريق للاستخدام الخاطئ .. من أمثلة ذلك : " أحبال الغسيل " فأحبال مفردها " حَبَل" وهو كل ما احتواه غيره ، كالولد فى بطن أمه ، واللؤلؤ فى الصدف ، والشراب فى الزجاجة .. أما " حبْلُ " فجمعها أحْبُل " و " حِبَال " ، ومثال ذلك " يقلعون بأنفسهم الورد التى على قماش الكنب " والمعروف أن " وردة " جمعها " وردٌ أ أو أوراد " وليس " ورود " ، فالورود هو مصدر الفعل ورد ، وهو أيضًا جمع " وِرْد " ، ومن اللغة إلى القاعدة النحوية و" أم أن عينىّ لم تستطع " ولا أرى مبررا لعدم إلحاق ضمير المثنى بالفعل تستطيع .
من خلال الكتابة أيضًا يتضح لنا عدم وعى الشاعرى بالمواضع التى يجب عندها كسر همزة " أن " ، وغير ذلك التضمين الخاطئ بالآية القرآنية " مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة ، أصلها ثابت وفرعها فى السماء " حيث وردت فى النص " جذرها ثابت " 0
وأخيرًا تمنياتى للنصوصى الشاعرى محمد أبو زيد بعطاء متواصل 0
عبدالجواد خفاجى
16 / 2 / 2005 م
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ
المرجع :
( 1 ) : سوزان برنارد ـ قصيدة النثر ـ ترجمة د. زهير مجيد مغامس ـ آفاق الترجمة ـ الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة ـ ديسمبر 1996 ـ صـ 136 .
(2) ، (3) ، (4) ، (5) ، (6) ، (7) ،( المرجع السابق .