جاسم العايف
j_alaief@yahoo.com
الحوار المتمدن - العدد: 2321 - 2008 / 6 / 23
المحور: الادب والفن
راسلوا الكاتب-ة مباشرة حول الموضوع Bookmark and Share
في دراسته المعنونة "بنية الرمال المتحركة.. بحث في غموض قصيدة النثر للشباب العراقيين"(1 ) يرى د. عبد الكريم راضي جعفر أن قصيدة النثر لا تلتقط أنفاس قصيدة الشعر الحر حتى في نماذجها الأكثر حداثة ويذهب إلى أنها- قصيدة النثر- جنس شعري من حقه ان يتنفس طالما امتلك (القدرة) على ذلك.. والمسألة الأساسية هنا تكمن، فيما احسب، في مفهوم و مستوى (القدرة) ذاتها، وفي فضاءات التحكم بها،وكيفية الاستفادة منها ،عبر الإمكانات الشخصية، الثقافية- الفنية، لشاعر قصيدة النثر - دون تراث يعتد به(2 )- من خلال فن التوصيل لإيصال المعنى . والمراقب المتأمّل للمشهد الشعري في البصرة يجده اليوم ضاجاً بأصوات كاتبي قصيدة النثر الذين أضحوا يشغلون مساحة واسعة من فضاءات الصفحات الأدبية للصحف، التي تصدر في البصرة، بنتاجاتهم، ونسبة كبيرة منهم أعضاء في اتحاد أدباء المدينة ، ونادي الشعر.. ومن خلال متابعة بسيطة لإصدارات اتحاد أدباء البصرة التي انطلقت بالتزامن مع المربديْن الرابع و الخامس نرى الغلبة في هذا المضمار لشعراء قصيدة النثر؛ فمن مجموع- 15 - إصداراً كانت حصة شعراء النثر- 9 -.وبهذا تكون قصيدة النثر في البصرة" سيدة المشهد" فضلاً عن الإصدارات الخاصة التي يعمد إليها بعض شعراء البصرة في طبع مجاميعهم وإشهارها على نفقاتهم الخاصة بطريقة الاستنساخ ، متحملين مكابدات أُخَر غير مكابدات الحياة المعيشية الراهنة تأكيدا لما يراه، جاكوب كرج في ان الشعر يحتفظ بموقع مركزي في الثقافة الإنسانية وقد انتعش في أقدم الحضارات الإنسانية وكان عنصرا بارزا في كل الثقافات حتى وقتنا الحاضر- مقدمة في الشعر - ترجمة رياض عبد الواحد-..يحسب هنا الإخلاص المؤكد لشعراء قصيدة النثر في الابتعاد المقترن بالاشمئزاز عن صيغ المدائح والتكسب الرخيص لكل ما تفرضه وتعمل عليه او تتبناه السلطات الرسمية ورموزها ،التي عملت على تعميم (العسكرتاريا) وقيمها وقساواتها في كل منافذ الحياة العراقية، ومنها الشعر بالذات ، وأما ما هو جديد فخلق اسيجة فاصلة بين الحياة والفن بكل تجسداته وتجلياته ، ومحاصرته بتابوات "المقدس" وتوسيع الـ"محرمات" من خلال احتكار الرؤى وتعميم الظلمات والمناحات، و جعلهما سمة للحياة العراقية الراهنة برداء (المقدس) والنيابة عنه، للتحكم الدنيوي النفعي، بشكل الحياة الراهنة و صيرورة الانبثاق العراقي الجديد، بعد عقود من الكبت والمهانة والدكتاتوريات التي صنعتها الآديلوجيات، أي كانت، وتلفيقاتها اليومية والتاريخية المعروفة.
يمكن وضع سمات عامة مشتركة لما ينشر في البصرة لقصائد النثر منها فقدان وحدة الثيمة في القصيدة الواحدة، ترافقها أقصى حالات التجريد ، الذي يدفع إلى التباسات كثيرة، من بينها انعدام الجهاز المفهومي لبعض كتاب النص أساسا، واعتماد المفارقات، في الصور كمهيمنات قارة في اغلب قصائد النثر البصرية، مع افتعال الغموض، من دون حاجة فنية أو فكرية لذلك فتتمّ التضحية بالمعنى تحت سطوة النزوع إلى الإغراب... وبما ان القارئ على وفق المعطيات الحديثة يستخدم وعيه الثقافي وتجربته الزمكانية للامساك بالنص وتحكمه بدلالات إنتاجه للمعنى بصفته" مرسلاً إليه"فإن لحظة الإمساك تلك تـأتي عبر"كلمات" تؤسس "المعنى" كمعطى من "مرسل" مجهول في ضوء طبيعة قراءة المعطى التي تقود غالباُ إلى ما هو معروف عن"ثياب الإمبراطور" الخفية، استنادا إلى ان "الحقيقة الثابتة للنص، تتجسد بالكلمات" التي تنتج المعنى، ويرحل ذلك تجاه ، القارئ ضمنيا، الذي سيجد نفسه في الغالب تائها "في ميدان مجهول غير واضح الحدود، ميدان يتحسر المرء أمامه على طرق الشعر...الجميلة المحددة المعالم".
أستطيع، هنا، أن أضع ديوان الفنان التشكيليّ والشاعر"هاشم تايه" "عربة النهار"(3 ) الذي طبع على نفقة شركة" آسيا سيل للاتصالات"، وعلى هامش مهرجان المربد الأخير،خارج هذه الملاحظات، إذ يعتمد الشاعر "هاشم تايه" البنية السردية ،والتي بحسب "رولان بارت" لا حصر لها ، بصفتها امتداد لا متناه، في قصيدته النثرية ضمن لغة واضحة المعنى لا تفتعل الغموض بذاته من خلال إدراكه لقيمة المفردة الشعرية ووضوح معناها ومقاربتها لواقعية الحدث
"على جباهنا
قبلة زرقاء من نار الأيام
ولكي لا نخسر ظلالنا نغدر بالألم،
ونخون الموت..
نبني ملاجئ للملابس العاجزة
ومحطات للندم، ونعلق حراساً على قفل الأيام
وعلى الدوام
لنا سلام النيران،
ومحبة الحروب ،
وذرائع الزوجات بالتقوى" ص7
فإذا افترضنا حكما أن القارئ "سينتج المعنى" هنا من خلال العلاقات المؤشر عليها في المقطع السالف وإدراكه"نار الأيام" والتناقض البين بوضوح بين"سلام النيران" وفعل الخارج وإكراهاته التي تدفع لـ"محبة الحروب" الذي تلغيه بوضوح ذرائع الزوجات "بالتقوى" أدركنا رعب الزمن- الواقع المقفل بحراس الأيام.
وتمتلئ "عربة النهار" بالكثير من تمفصلات الحياة اليومية، التي قد تبدو خاصة إلا انها وعند إنعام النظر فيها بدقة تجد عموميتها كواقع معطى أدركه الشاعر ولم يتحصل ان يكون خارج الشاعر، بمفهومية المعنى وقصيدته،وبنيتها السردية، دون افتعال الغموض ، لتصل القصيدة إلى أهم المؤهلات المهمة للشاعر، من خلال تحديقه بما هو خاص ، وقدرته على الانتقال به إلى ما هو عام ومشترك ، مما يمنح القارئ أفقا رحبا لإدراك المعنى الكامن خلف كلمات الشاعر وتجربته المعبر عنها ، سرديا، بالقول، الذي يحول لغته نحو أفق أكثر تحسسا بمنتج معنى القصيدة، المتلقي، في هذه الحالة-:
"الآلام الرعناء-الآلام ذوات الحدبات- آلامُ التراب الثقيل-الآلام الضاجة وراء التلول-الآلام الخفية التي ينسخها الليل كي تكفهر حنادسُه-الآلام التي اشتريت بها مرغما صداقة العدو- الآلام المسالمة التي تسألني الصفح كلما أخذتْ دمعة من عيوني" ص 65.
باستثمار التحرر من الوزن والقافية اللذين تجاوزتهما قصيدة النثر ، يلجأ هاشم تايه إلى سرد اللحظة الآنية في التعبير عن قلق الحاضر ورعب المصير الإنساني ،الصادم، المجهول:
"كلّ يوم
في الساعة الشعثاء،
الساعة المنهوبة
تدق دقّةَ الخسران
أترقّبُه جاحظَ القلب
وحينما يصفقُ
وراءَه الباب
أطيرُ إلى مُحَيّاه
أقبّلهُ
وأصيح-:
خيراً فعلتَ يا إلهي
إنّه
لم يعد
بوجه مدمّى"
ــــــــــ منقول
j_alaief@yahoo.com
الحوار المتمدن - العدد: 2321 - 2008 / 6 / 23
المحور: الادب والفن
راسلوا الكاتب-ة مباشرة حول الموضوع Bookmark and Share
في دراسته المعنونة "بنية الرمال المتحركة.. بحث في غموض قصيدة النثر للشباب العراقيين"(1 ) يرى د. عبد الكريم راضي جعفر أن قصيدة النثر لا تلتقط أنفاس قصيدة الشعر الحر حتى في نماذجها الأكثر حداثة ويذهب إلى أنها- قصيدة النثر- جنس شعري من حقه ان يتنفس طالما امتلك (القدرة) على ذلك.. والمسألة الأساسية هنا تكمن، فيما احسب، في مفهوم و مستوى (القدرة) ذاتها، وفي فضاءات التحكم بها،وكيفية الاستفادة منها ،عبر الإمكانات الشخصية، الثقافية- الفنية، لشاعر قصيدة النثر - دون تراث يعتد به(2 )- من خلال فن التوصيل لإيصال المعنى . والمراقب المتأمّل للمشهد الشعري في البصرة يجده اليوم ضاجاً بأصوات كاتبي قصيدة النثر الذين أضحوا يشغلون مساحة واسعة من فضاءات الصفحات الأدبية للصحف، التي تصدر في البصرة، بنتاجاتهم، ونسبة كبيرة منهم أعضاء في اتحاد أدباء المدينة ، ونادي الشعر.. ومن خلال متابعة بسيطة لإصدارات اتحاد أدباء البصرة التي انطلقت بالتزامن مع المربديْن الرابع و الخامس نرى الغلبة في هذا المضمار لشعراء قصيدة النثر؛ فمن مجموع- 15 - إصداراً كانت حصة شعراء النثر- 9 -.وبهذا تكون قصيدة النثر في البصرة" سيدة المشهد" فضلاً عن الإصدارات الخاصة التي يعمد إليها بعض شعراء البصرة في طبع مجاميعهم وإشهارها على نفقاتهم الخاصة بطريقة الاستنساخ ، متحملين مكابدات أُخَر غير مكابدات الحياة المعيشية الراهنة تأكيدا لما يراه، جاكوب كرج في ان الشعر يحتفظ بموقع مركزي في الثقافة الإنسانية وقد انتعش في أقدم الحضارات الإنسانية وكان عنصرا بارزا في كل الثقافات حتى وقتنا الحاضر- مقدمة في الشعر - ترجمة رياض عبد الواحد-..يحسب هنا الإخلاص المؤكد لشعراء قصيدة النثر في الابتعاد المقترن بالاشمئزاز عن صيغ المدائح والتكسب الرخيص لكل ما تفرضه وتعمل عليه او تتبناه السلطات الرسمية ورموزها ،التي عملت على تعميم (العسكرتاريا) وقيمها وقساواتها في كل منافذ الحياة العراقية، ومنها الشعر بالذات ، وأما ما هو جديد فخلق اسيجة فاصلة بين الحياة والفن بكل تجسداته وتجلياته ، ومحاصرته بتابوات "المقدس" وتوسيع الـ"محرمات" من خلال احتكار الرؤى وتعميم الظلمات والمناحات، و جعلهما سمة للحياة العراقية الراهنة برداء (المقدس) والنيابة عنه، للتحكم الدنيوي النفعي، بشكل الحياة الراهنة و صيرورة الانبثاق العراقي الجديد، بعد عقود من الكبت والمهانة والدكتاتوريات التي صنعتها الآديلوجيات، أي كانت، وتلفيقاتها اليومية والتاريخية المعروفة.
يمكن وضع سمات عامة مشتركة لما ينشر في البصرة لقصائد النثر منها فقدان وحدة الثيمة في القصيدة الواحدة، ترافقها أقصى حالات التجريد ، الذي يدفع إلى التباسات كثيرة، من بينها انعدام الجهاز المفهومي لبعض كتاب النص أساسا، واعتماد المفارقات، في الصور كمهيمنات قارة في اغلب قصائد النثر البصرية، مع افتعال الغموض، من دون حاجة فنية أو فكرية لذلك فتتمّ التضحية بالمعنى تحت سطوة النزوع إلى الإغراب... وبما ان القارئ على وفق المعطيات الحديثة يستخدم وعيه الثقافي وتجربته الزمكانية للامساك بالنص وتحكمه بدلالات إنتاجه للمعنى بصفته" مرسلاً إليه"فإن لحظة الإمساك تلك تـأتي عبر"كلمات" تؤسس "المعنى" كمعطى من "مرسل" مجهول في ضوء طبيعة قراءة المعطى التي تقود غالباُ إلى ما هو معروف عن"ثياب الإمبراطور" الخفية، استنادا إلى ان "الحقيقة الثابتة للنص، تتجسد بالكلمات" التي تنتج المعنى، ويرحل ذلك تجاه ، القارئ ضمنيا، الذي سيجد نفسه في الغالب تائها "في ميدان مجهول غير واضح الحدود، ميدان يتحسر المرء أمامه على طرق الشعر...الجميلة المحددة المعالم".
أستطيع، هنا، أن أضع ديوان الفنان التشكيليّ والشاعر"هاشم تايه" "عربة النهار"(3 ) الذي طبع على نفقة شركة" آسيا سيل للاتصالات"، وعلى هامش مهرجان المربد الأخير،خارج هذه الملاحظات، إذ يعتمد الشاعر "هاشم تايه" البنية السردية ،والتي بحسب "رولان بارت" لا حصر لها ، بصفتها امتداد لا متناه، في قصيدته النثرية ضمن لغة واضحة المعنى لا تفتعل الغموض بذاته من خلال إدراكه لقيمة المفردة الشعرية ووضوح معناها ومقاربتها لواقعية الحدث
"على جباهنا
قبلة زرقاء من نار الأيام
ولكي لا نخسر ظلالنا نغدر بالألم،
ونخون الموت..
نبني ملاجئ للملابس العاجزة
ومحطات للندم، ونعلق حراساً على قفل الأيام
وعلى الدوام
لنا سلام النيران،
ومحبة الحروب ،
وذرائع الزوجات بالتقوى" ص7
فإذا افترضنا حكما أن القارئ "سينتج المعنى" هنا من خلال العلاقات المؤشر عليها في المقطع السالف وإدراكه"نار الأيام" والتناقض البين بوضوح بين"سلام النيران" وفعل الخارج وإكراهاته التي تدفع لـ"محبة الحروب" الذي تلغيه بوضوح ذرائع الزوجات "بالتقوى" أدركنا رعب الزمن- الواقع المقفل بحراس الأيام.
وتمتلئ "عربة النهار" بالكثير من تمفصلات الحياة اليومية، التي قد تبدو خاصة إلا انها وعند إنعام النظر فيها بدقة تجد عموميتها كواقع معطى أدركه الشاعر ولم يتحصل ان يكون خارج الشاعر، بمفهومية المعنى وقصيدته،وبنيتها السردية، دون افتعال الغموض ، لتصل القصيدة إلى أهم المؤهلات المهمة للشاعر، من خلال تحديقه بما هو خاص ، وقدرته على الانتقال به إلى ما هو عام ومشترك ، مما يمنح القارئ أفقا رحبا لإدراك المعنى الكامن خلف كلمات الشاعر وتجربته المعبر عنها ، سرديا، بالقول، الذي يحول لغته نحو أفق أكثر تحسسا بمنتج معنى القصيدة، المتلقي، في هذه الحالة-:
"الآلام الرعناء-الآلام ذوات الحدبات- آلامُ التراب الثقيل-الآلام الضاجة وراء التلول-الآلام الخفية التي ينسخها الليل كي تكفهر حنادسُه-الآلام التي اشتريت بها مرغما صداقة العدو- الآلام المسالمة التي تسألني الصفح كلما أخذتْ دمعة من عيوني" ص 65.
باستثمار التحرر من الوزن والقافية اللذين تجاوزتهما قصيدة النثر ، يلجأ هاشم تايه إلى سرد اللحظة الآنية في التعبير عن قلق الحاضر ورعب المصير الإنساني ،الصادم، المجهول:
"كلّ يوم
في الساعة الشعثاء،
الساعة المنهوبة
تدق دقّةَ الخسران
أترقّبُه جاحظَ القلب
وحينما يصفقُ
وراءَه الباب
أطيرُ إلى مُحَيّاه
أقبّلهُ
وأصيح-:
خيراً فعلتَ يا إلهي
إنّه
لم يعد
بوجه مدمّى"
ــــــــــ منقول