Blog > السرد في قصيدة النثر ـ قراءة أولية السرد في قصيدة النثر ـ قراءة أولية
بقلم: ناهض زقوت *
المحرر | دراسات وأبحاث, للجامعيين خاصة | 2010.09.1
نحن لا ندعي، وانتم لا تنكرونأن ثمة صراعا بين القديم والجديد دائما بين أشكال الفنون قاطبة، وتلك هيسنة الحياة، فمن رحم القديم يولد الجديد، ومن رحم الأم يولد الجنين. تلكحقيقة نعتقدها، إلا أن بعضنا ما زال محكوما بالثقافة العربية المتعالقة ـمنذ قرون ـ بعقلية القبيلة، أي بالتفرد والواحدية، ورفض التعددية. لهذاتشهر السكاكين والحناجر ضد كل جديد يمكن أن يخلخل نمط القبيلة، فالقصيدةالعمودية كانت لعدة قرون هي النمط الشعري السائد في الذهنية العربية. وحينأعلنت قصيدة التفعيلة عن وجودها، اعتبرت في وقتها خارجة عن السائدوالمألوف، وسلت السيوف وصدحت الأبواق بكل الاتهامات ضد هذا النمط الشعريالجديد، إلا أن شعراء التفعيلة استطاعوا إثبات حضورهم وتأثيرهم، وترسختلهم المكانة بعد انزياح نسبي للقصيدة العمودية، فشكلت واحديتها وتفردهاعلى مستوى المشهد الشعري العربي. وعندما خرجت قصيدة النثر لكي تبحث لها عنمكانة في هذا المشهد، دون أن تدعو إلى إلغاء القديم بل تجديده على مستوييالشكل والمضمون، وقف لها شعراء التفعيلة بالمرصاد، واعتبروها قصيدة خنثى،ووجهوا لكتابها اتهامات وصلت إلى حد العمالة للاستعمار. إن شعراء التفعيلةيحاربون شعراء قصيدة النثر بنفس السلاح الذي حاربهم به شعراء القصيدةالعمودية، فهم يرفضون التجديد ويقاومون الانزياح عن المشهد خوفا من اندثارمكانتهم. تلك هي المسألة.
إن السجال القائم بين فريقيالشعرية العربية، هو سجال عقيم، أضاعوا فيه وقتا ثمينا، وأراقوا حبراغزيرا في معركة وهمية زائفة، فلا بيانات شعراء قصيدة النثر قادرة علىانتزاع الاعتراف بهم وبشرعية ما يكتبون، ولا مماحكات خصومهم قادرة على طمسوجودهم كشعراء يجددون في شكل القصيدة. لهذا على شعراء قصيدة النثر الترفععن المماحكات، والتوجه للاستفادة من تجارب الآخرين وخصوصا خصومهم من شعراءالتفعيلة، فلم يكتسب شعر التفعيلة مكانته الفنية عن طريق البيانات أوالتنظيرات، وإنما عن طريق إنتاج نصوص ذات جمالية فنية عالية المستوى،تجاوبت مع نبض الناس واحتياجاتهم الفنية والذهنية والاجتماعية والوطنيةوالقومية، فأحسنوا استقبالها، ووجدوا فيها المتعة التي يهبها الشعرالحقيقي للمتلقين.
قصيدة النثر … تأصيل معرفي:
تخلقت قصيدة النثر من الصدعالاجتماعي، بمعنى شعور المرء بحالة من الاغتراب داخل مجتمعه، وعدم قدرتهنفسيا على التكيف مع واقع زائف يفرض عليه قيما وأنماطا اجتماعية وسياسيةتجاوزها الزمن، هذا الوضع خلق لدى الشاعر ما يشبه الرفض لكل ما هو ماض أوموروث، مما جعله يلج إلى عالم القصيدة متسلحا بذاتيته العالية لكي يثبتحضورها في واقع يسعى إلى تهميشها أو الهيمنة على تفكيرها, دون أن يلتفتإلى مسألة الوزن أو القافية، أو البحث في القاموس عن كلمة ليستقيم بها شطرالبيت، في محاولة يسابق بها الزمن الحاضر.
وكانت قصيدة النثر عنوانهالمعبر عن حالته النفسية المغتربة، نحو سعي الذات لكي تعبر عن ما يموربداخلها من مكبوتات، وتعلن ثورتها الاحتجاجية ونضالها الفكري ضد العبثبمصيرها أولا، ومصير مجتمعها ثانيا، في محاولة لهدم القيم والأنماطالاجتماعية السائدة، وبناء مجتمع يستقيم فيه سلم القيم والأخلاق بعيدا عنقهر الذات. تقول سوزان برنار: “لقد شب الجيل الذي خرج من المراهقة ما بين1880و1885 في المرارة والهزيمة وصخب الثورة، وانهارت من حوله القيم كلها،ولم يعد يؤمن بالجمهورية المهانة المستضعفة، ولا بالفعل التافه الخالي منالمثل، ولا بالأساتذة الذين يجلهم، لأنهم ما عادوا يلبون حاجاته”.
هذا هو الواقع الغربي الذيأنتج قصيدة النثر، أي أن الجيل الشاب تمرد على واقعه وأساتذته في محاولةللبحث عن ذاته في واقع مهزوم. وإذا نظرنا إلى الواقع العربي، نجد أن جيلالشعراء العرب، وخاصة الفلسطينيين، الذين تبنوا قصيدة النثر وكتبوها،كانوا يحسون بالمشاعر نفسها التي أحس بها أقرانهم الفرنسيون في عهود سابقةأو بما هو قريب منها. فقد عاش هؤلاء الشعراء مرارة الخيبة والهزيمة، بعدنكبة عام 1948، وانهيار القيم القومية والأيديولوجية بعد نكسة 1967،ومازالت النكبات والنكسات متواصلة.
السرد والقصيدة:
لقد عنونا هذا القسم منالدراسة، السرد والقصيدة، وليس السرد والشعر، لان مفهوم القصيدة في رأيناأوسع وأشمل من مفهوم الشعر، فالشعر في أبسط تعاريفه هو الكلام الموزونالمقفى، وكما نرى فهو تعريف عام وشامل يمكن أن يطلق على أي شيء يوحيبالشعر، مثل ألفية ابن مالك، وشعر التقاريظ والمناسبات، قائمة على النظمالشعري ولكنها لا تعتبر قصيدة شعرية رغم الكلام الموزون والمقفى. أماالقصيدة فإنها كلمة محددة تدل على وجود مستقل، بناء لغوي قائم بذاته، سواءالتزم الوزن والقافية أو لم يلتزم فهو قصيدة.
وإذا كانت الشعرية كقيمةجمالية تتحد بمعارضة النثر بالشعر، حسب رولان بارت، فالنثر ذو طبيعة تتمتعبخاصية تلقائية ذات بنية عادية كالكلام المتداول بين الناس، بينما الشعرهو ما يحطم هذه الطبيعة الوظيفية، فيرفع الكلام إلى مستويات جديدة قوامهاالرمز الموحي الذي يخلق دلالات متعددة ومناخات نفسية توسع القدراتالتخيلية.
وبعد أن أوضحنا الفرق بين القصيدة والشعر، علينا أن نوضح دلالة السرد وعلاقته بالقصيدة.
يعرف السرد بأنه الحكيالقائم على دعامتين أساسيتين: الأولى، انه يحتوي على قصة ما تضم أحداثامعينة. والثانية، انه يعين الطريقة التي تحكى بها تلك القصة، وتسمى هذهالطريقة سردا، ذلك أن القصة يمكن أن تحكى بطرق متعددة، وأشكال متباينة.
وكون الحكي هو بالضرورة قصةمحكية يفترض وجود شخص يحكي، وشخص يحكى له، أي وجود تواصل بين طرفين: سارد،ومتلقي، وبينهما نص. وهذا تماما ما يتأتى للقصيدة فهي نص يحكي موضوعا ماأو قيمة جمالية ما، سواء بالشعر أو بالنثر، إذن ثمة شاعر ومتلقي وبينهمانص. وهنا تبرز العلاقة بينهما في الشكل العام بان السرد والقصيدة يطلبانالمتلقي، وتبقى الوسيلة التي يوصلان بها رسالتهما لهذا المتلقي مغايرة.فنجد أن السرد يتواصل مع المتلقي من خلال القصة أو الرواية أو النصالمسرحي أو السيرة، أي أن السرد يختار الشكل النثري لكي يوصل رسالته.وبهذا نلاحظ أن ثمة ترابطا بين السرد والنثر من حيث الشكل والمضمون.
إذن ما العلاقة التي تربطبين السرد وهو النثر، والقصيدة وهي شعر أو نثر؟ وهنا ثمة قاسم مشترك يجمعبين السرد والقصيدة النثرية، فما هو هذا القاسم المشترك وما دلالته؟، وهلثمة قاسم يجمع بين السرد والشعرية؟.
إن القصيدة بشكليها الشعريوالنثري، تعد حالة وجدانية فكرية، يتركز فيها الذهن على نقطة معينة منصورة، من فكرة، من قضية، وهي لذلك تتأثر بالعصر، وبالبيئة، وبظروف الحياةالتي تتطور باستمرار، والضرورة تستلزم أن يرافق تطور الحياة تطور مماثل فيشكل ومضمون القصيدة، خاصة بعد أن خلخلت التحولات الحداثية ثوابت نظريةالأنواع الأدبية التي كانت تحدد مواصفات كل جنس أدبي بقوانين وشروط أدبيةصارمة، فتلاقحت الأجناس والفنون، وانهمرت خواصها الفنية على بعضها، فظهرتتقنيات تشكيلية وسينمائية وسردية في القصيدة. وكذلك تداخلت الأجناسالأدبية في السرد نفسه، حيث تداخل الشعر في النص السردي سواء قصة أو روايةأو مسرحية، وعديد من النصوص المسرحية كتبت شعرا.
ورغم هذا التلاقح والتمازج بينالسرد والقصيدة، إلا انه تبقى ثمة حدود بين الجنسين الأدبيين، بحيث لايطغى احدهما على الأخر ويخرجه من جنسه الأدبي، فيبقى السرد كجنس أدبي لهخصائصه، وتبقى القصيدة جنس أدبي مستقل تستعين بمجموعة من خصائص السردلغايات جمالية.
السرد والموروث الشعري العربي:
آثرنا قبل الشروع في إبرازدلالات السرد في قصيدة النثر، أن نعود إلى مرجعية تاريخية أدبية استفادتمن السرد في بناء عالمها الشعري، ونقصد بذلك التراث الشعري العربي.
إن علاقة السرد بالقصيدة قديمةقدم الشعر نفسه، وقد تحدثت الملاحم الشعرية الأولى في الأدب العالمي عنأبطال وأحداث وسير وأمكنة، وخير مثال على ذلك، ملحمتي الإلياذة والاوديسافي الأدب الإغريقي، وملحمة جلجامش في الأدب العربي. كذلك ثمة قصائد فيالشعر العربي بدأ من العصر الجاهلي وصولا إلى العصر الحديث أو المعاصر،نجد فيها مكونات سردية. ولسنا مبالغين إذا قلنا، بان وراء كل قصيدة قصة هيالمثير أو الدافع، مثل قصائد الحب والعشق، أو قصائد المعاناة والألم، أوالقصائد التاريخية.
لقد استخدم الشاعر العربي بعضامن تقنيات السرد، واتكأ على الحكاية أو القصة كوسيلة تعبيرية يبني عليهاحدث قصيدته. فنجد (امرؤ القيس) في معلقته يصف مغامراته في “دارة جلجل” ومع“بيضة الخدر” التي تجاوز أهلها وتبادل معها مختلف صنوف الحب واللهو. وهذا(المنخل اليشكري) يصف لنا في رائيته الشهيرة مشهد دخوله الخدر على فتاتهفي اليوم المطير. ولم يكن (عنترة بن شداد) بعيدا عن صاحبيه في قص الأخبارورواية الحكايات عن حبه لـ(عبلة) ومتذكرا إياها بين ضربات السيوف وطعنالرماح. وهؤلاء الشعراء لم يكن هدفهم القص بحد ذاته، وإنما رواية ما وقعلهم من أحداث ومغامرات في أسلوب قصصي متخذا من القصيدة الشعرية شكلا فنيا.
إن فن القص جزء من النفسالبشرية، تخلقه إذا لم تكن تعرفه، كوسيلة تعبيرية حينما تعجز الوسائلالأخرى عن التعبير. فنجد في العصور الإسلامية تطور ملموس للسرد في القصيدةحيث أدرجت قصص شعرية كاملة من حيث بناؤها ورسم شخصياتها وحبكتها فيالشعرية العربية. فهذا (الحطيئة) في قصيدته التي مطلعها:
وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل ببيداء لم يعرف بها ساكن رسما
يحكي القصة/ القصيدة عنمشاعر الأب وخشيته على سمعته بين القبائل إذا لم يكرم ضيفه الذي حلبدياره، وتنتقل مشاعر الهم والخوف إلى احد أبنائه، فيدنو من أبيه ويحاولحل الأزمة بطريقة مأساوية “يا أبت اذبحني ويسر له طعاما”، وتبلغ الحبكةذروتها عندما يهم الأب بذبح ابنه، حينها يسمع صوت قطيع من حمر الوحش تقصدبئر مجاور، فينسل الأب نحوها ويرسل سهما فتصيب إحداها، وهكذا يحل الشاعرعقدة قصته/ قصيدته سريعا.
هي قصة بكل مستويات السرد،ولكن لم يقل احد عنها قصة أو حكاية شعرية، لأنها قدمت للقارئ مرتدية الزيالعام للشعر، وهو إيقاع البيت ذي الشطرين، حيث كانت السمة الشعرية الوزنيةفيها طاغية على السرد ومكوناته.
وقد كان للشعراء العذريينحكايات وقصص كثيرة أيضا مع محبوباتهم نظموها شعرا، أمثال: قيس وليلى، وقيسولبنى، وكثير عزة، وجميل بثينة، وعمر بن أبي ربيعة، وغيرهم.
وحين أحس الشعراء القدامىبوطأة السرد على خطابهم الشعري، حاولوا أن يفتتحوا القصيدة بالغزل أوبالحكمة، فمثلا قصيدة (أبو تمام) عن فتح عمورية وهي قصيدة سردية، ولكنهاتبدأ بحكمتها الشعرية “السيف اصدق أنباء من الكتب”. وكذلك قصيدة (المتنبي)عن قلعة الحدث تحكي عن واقعة فيها بطل وحدث ومكان، لكنها تتقدم بلباسالحكمة “على قدر أهل العزم تأتي العزائم”.
وتستمر مسيرة القصةالشعرية لتصل ذروتها مع قصائد الرعيل الأول من شعراء النهضة أو الإحياء،بتأثير من التراث الشعري العربي الذي تم إحياؤه، أمثال: احمد شوقي، ومحمودسامي البارودي، ومعروف الرصافي، والأخطل الصغير، والياس أبو شبكة، وخليلمطران، وحافظ إبراهيم، وإيليا أبو ماضي، وغيرهم.
وفي تجربة شعر التفعيلة ثمةإمكانات هائلة استثمرها الشعراء ليصلوا بالسرد الشعري إلى مدى أوسع وآفاقأرحب، ومن يقرأ قصائد (نزار قباني) يجد قصائد كثيرة تؤكد هذا الحضورالسردي الشعري. وكذلك لدى شاعر العربية (محمود درويش) قصائد عديدة تحاكيفن السرد، في قصيدتي “الحديقة النائمة” و”كان ما سوف يكون” من ديوانأعراس، و”الحوار الأخير في باريس” و”بيروت” من ديوان حصار لمدائح البحر،ويتوج المحاكاة السردية في عمله الإبداعي”في حضرة الغياب”. وهذا بالإضافةإلى تجارب أخرى عند معين بسيسو، وأمل دنقل، واحمد عبد المعطي حجازي، وصلاحعبد الصبور، واحمد دحبور، ومحمد الفيتوري، وسعدي يوسف، وغيرهم.
ومهما توغلت قصيدة التفعيلة فيالسرد واعتمدت مكوناتها على حكاية أو قصة شعرية، ونجد أن مفرداتهاالبنائية والدلالية هي مفردات قصة بحدثها وحوارها الداخلي، إلا أن إيقاعهاشعري يؤكد انتماؤها إلى الشعر لا إلى السرد
السرد وقصيدة النثر:
انطلاقا مما تحدثنا عنه من سردفي الشعرية العربية القديمة والحديثة، نؤكد أن قصيدة النثر في علاقتهابالسرد أو تمازج السرد في مكوناتها الجمالية، لم يأت من فراغ، بل ارتكزإلى أشكال أخرى سابقة. واعتماد قصيدة النثر على التجريب واختيار سبلعديدة، هذا لا يعني أنها أضحت بديلا عن الأنماط الشعرية الأخرى، بل هي جزءلا يتجزأ من المشهد الشعري الراهن، تتجاور وتتجاوز وتتشابك مع تلك الأنماط.
لقد استندت قصيدة النثر فيبنيتها ـ بشكل جوهري ـ إلى السرد، فهي بتواطئها باستمرار مع أجناس قريبةمنها، كما عبرت سوزان برنار، تحطيمها للإيقاع الخارجي، وجدت نفسها تعتمدبشكل كبير على السرد والحكي والحوار والخبر والاستغراق في تصوير الجزئيات،والتركيز على المفارقة، وهي كلها من خصائص فن القص. وتؤكد “مارغوريتمورفي” على تمازج قصيدة النثر بفن السرد، تقول: هذا الجنس الأدبي المبتدع،والذي يشبه بسهولة شديدة أنواع النثر الأخرى، لهذا كثيرا ما يتم خلطه معمقتطفات من أشكال خطابية أخرى، فالكثير من قصائد النثر قد تشبه الحكاياتأو الأمثال الرمزية أو القصص أو غيرها من الشذرات النثرية. لهذا رفضالنقاد بعض ما تضمنه كتاب بودلير “سوداوية باريس” على اعتبار أنها ليستقصائد نثر، بل هي أشبه بالقصص الفلسفية ونصوص تكاد تكون مستلة من يومياتهتطغى عليها الانطباعات الشخصية والحكم الأخلاقية.
ولم يبتعد الكتاب والنقادوالشعراء العرب عن هذه المواقف، إذ أكدوا على تمازج السرد في قصيدة النثرواعتباره مكون أساسي من مكوناتها، يقول عبد القادر الجنابي: أن قصيدةالنثر تعتمد على عناصر سردية قريبة من عناصر الحكاية: كان ذلك في …، وبعدأن …، فطوفت في ذلك الليل الأخير حتى مطلع الفجر ….، ثم راح …، بقعة صفراءأشبه بقمر توقف عن الحركة. ويؤكد ادونيس على حضور السرد في قصيدة النثر،إلا أن ذلك يبقى مشروطا بان يتسامى بالقصيدة ويعلو بها لغاية شعرية خالصة،بمعنى أن تغلب الشعرية على السرد وليس العكس، وإلا تحولت إلى جنس أخر.ويرى أمجد ناصر أن قصيدة النثر لها خاصية القص تارة، والسرد تارة أخرى،والأمثولة حينا، والاستطراد حينا أخر، ولها ما للنثر أيضا من أخبار وبرهنةوتحليل.
ومع هذا فليست لها أبداالغائية التي يهدف إليها السرد في الحكاية. فالسرد في قصيدة النثر هدفهخلق عنصر تأثير أخر على المتلقي يضاف إلى عناصر التأثير الأخرى المبثوثةفي جسد النص، مما يجعل المتلقي يشعر حينما يقرأ نصا شعريا، كأنه يسمع صوتالشاعر يحول النص الشعري إلى نص بصري وسمعي، بالإضافة إلى انه نص فكريوتأملي ووجداني، لان بناء قصيدة النثر السردية سيوحي للقارئ بأنه يشاهدمنظر الشاعر أمامه ويتخيل سماع صوته, ومعبرا عن ذات المتلقي.
وقد حفلت التجاربالإبداعية في مشهد قصيدة النثر العربية بالعديد من النماذج التي تؤكد حضورالسرد ضمن جماليتها. يقول الشاعر (عباس بيضون): “الأربعة النائمون على الطاولة وسط الجبال لم يشعروا بخيال الطائر وهو يتضخم في الغرفة”، سرد نثري، كأنه يحكي قصة فيها شخصيات “أربعة”، ومكان “وسط الجبال”، وحدث “لم يشعروا بخيال الطائر ..”.
ويشير الناقد “حسن ناظم”إلى أن ديوان (سركون بولص) (شاعر عراقي توفى في المنفى) الأخير الذي صدربعد وفاته بعنوان “عظمة أخرى لكلب القبيلة” عام 2008، يرتكز قوامه الشعريعلى السرد، حيث تربو قصائد السرد فيه على النصف، نقرأ من قصيدة الكرسي:
في البدء يشخص الكرسي:
كرسي جدي ما زال يهتز على
أسوار أوراك
تحته يعبر النهر، يتقلب فيه
الأحياء والموتى.
نص سردي يحضر فيه الجد والأبوالصديق، وشخصيات حقيقية ومتخيلة يروي عنها آلامها وشدائدها، فالديوانقصائد سرد عن حكايات الأحياء والأموات في الزمن الغابر من الأيام والحاضر.
وفي ديوان الشاعر (سيفالرحبي)الأخير “حيث السحرة ينادون بعضهم بأسماء مستعارة” الصادر عام 2010،يذكر الناقد “فيصل عبد الحسن” أن الديوان يضم نصوصا تقترب في تقنياتها إلىفن القص والحكاية الشعرية، وتحتمل التأويل أكثر مما تحتمله القصيدةالاعتيادية. ونقرأ في نصه “قمر الهضاب” نصا سرديا بامتياز، حيث ينقلنا إلىعالم نثري ثري، يجوس من خلاله حول مفردة قالتها الحبيبة عن قمر الشاعر،الذي يسألها هاتفيا، إن كانت ترى القمر في بيتها مثلما يراه في بيته فيهذه اللحظة، فتجيبه انه “ضاح” في البيت وعلى الشرفات وعلى هضاب المكان.وتحيل مفردة “ضاح” الشاعر إلى طفولته وتصير بؤرة مشعة ينطلق منها النصالقصصي.
ويكتب (جبرا إبراهيم جبرا) فيقصيدة “في يومي ذاك الأخضر” من ديوان “تموز في المدينة”، نصا سرديا يرويفيه ملامح من سيرته الذاتية في زمن الطفولة قبل خروجه من فلسطين إلى ولديه(سدير، وياسر) المهداة إليهما القصيدة. يقول:
في يومي ذاك الأخضر
إذ كنت كالعود الطري
اخضر يومي وليلي
بقلم: ناهض زقوت *
المحرر | دراسات وأبحاث, للجامعيين خاصة | 2010.09.1
نحن لا ندعي، وانتم لا تنكرونأن ثمة صراعا بين القديم والجديد دائما بين أشكال الفنون قاطبة، وتلك هيسنة الحياة، فمن رحم القديم يولد الجديد، ومن رحم الأم يولد الجنين. تلكحقيقة نعتقدها، إلا أن بعضنا ما زال محكوما بالثقافة العربية المتعالقة ـمنذ قرون ـ بعقلية القبيلة، أي بالتفرد والواحدية، ورفض التعددية. لهذاتشهر السكاكين والحناجر ضد كل جديد يمكن أن يخلخل نمط القبيلة، فالقصيدةالعمودية كانت لعدة قرون هي النمط الشعري السائد في الذهنية العربية. وحينأعلنت قصيدة التفعيلة عن وجودها، اعتبرت في وقتها خارجة عن السائدوالمألوف، وسلت السيوف وصدحت الأبواق بكل الاتهامات ضد هذا النمط الشعريالجديد، إلا أن شعراء التفعيلة استطاعوا إثبات حضورهم وتأثيرهم، وترسختلهم المكانة بعد انزياح نسبي للقصيدة العمودية، فشكلت واحديتها وتفردهاعلى مستوى المشهد الشعري العربي. وعندما خرجت قصيدة النثر لكي تبحث لها عنمكانة في هذا المشهد، دون أن تدعو إلى إلغاء القديم بل تجديده على مستوييالشكل والمضمون، وقف لها شعراء التفعيلة بالمرصاد، واعتبروها قصيدة خنثى،ووجهوا لكتابها اتهامات وصلت إلى حد العمالة للاستعمار. إن شعراء التفعيلةيحاربون شعراء قصيدة النثر بنفس السلاح الذي حاربهم به شعراء القصيدةالعمودية، فهم يرفضون التجديد ويقاومون الانزياح عن المشهد خوفا من اندثارمكانتهم. تلك هي المسألة.
إن السجال القائم بين فريقيالشعرية العربية، هو سجال عقيم، أضاعوا فيه وقتا ثمينا، وأراقوا حبراغزيرا في معركة وهمية زائفة، فلا بيانات شعراء قصيدة النثر قادرة علىانتزاع الاعتراف بهم وبشرعية ما يكتبون، ولا مماحكات خصومهم قادرة على طمسوجودهم كشعراء يجددون في شكل القصيدة. لهذا على شعراء قصيدة النثر الترفععن المماحكات، والتوجه للاستفادة من تجارب الآخرين وخصوصا خصومهم من شعراءالتفعيلة، فلم يكتسب شعر التفعيلة مكانته الفنية عن طريق البيانات أوالتنظيرات، وإنما عن طريق إنتاج نصوص ذات جمالية فنية عالية المستوى،تجاوبت مع نبض الناس واحتياجاتهم الفنية والذهنية والاجتماعية والوطنيةوالقومية، فأحسنوا استقبالها، ووجدوا فيها المتعة التي يهبها الشعرالحقيقي للمتلقين.
قصيدة النثر … تأصيل معرفي:
تخلقت قصيدة النثر من الصدعالاجتماعي، بمعنى شعور المرء بحالة من الاغتراب داخل مجتمعه، وعدم قدرتهنفسيا على التكيف مع واقع زائف يفرض عليه قيما وأنماطا اجتماعية وسياسيةتجاوزها الزمن، هذا الوضع خلق لدى الشاعر ما يشبه الرفض لكل ما هو ماض أوموروث، مما جعله يلج إلى عالم القصيدة متسلحا بذاتيته العالية لكي يثبتحضورها في واقع يسعى إلى تهميشها أو الهيمنة على تفكيرها, دون أن يلتفتإلى مسألة الوزن أو القافية، أو البحث في القاموس عن كلمة ليستقيم بها شطرالبيت، في محاولة يسابق بها الزمن الحاضر.
وكانت قصيدة النثر عنوانهالمعبر عن حالته النفسية المغتربة، نحو سعي الذات لكي تعبر عن ما يموربداخلها من مكبوتات، وتعلن ثورتها الاحتجاجية ونضالها الفكري ضد العبثبمصيرها أولا، ومصير مجتمعها ثانيا، في محاولة لهدم القيم والأنماطالاجتماعية السائدة، وبناء مجتمع يستقيم فيه سلم القيم والأخلاق بعيدا عنقهر الذات. تقول سوزان برنار: “لقد شب الجيل الذي خرج من المراهقة ما بين1880و1885 في المرارة والهزيمة وصخب الثورة، وانهارت من حوله القيم كلها،ولم يعد يؤمن بالجمهورية المهانة المستضعفة، ولا بالفعل التافه الخالي منالمثل، ولا بالأساتذة الذين يجلهم، لأنهم ما عادوا يلبون حاجاته”.
هذا هو الواقع الغربي الذيأنتج قصيدة النثر، أي أن الجيل الشاب تمرد على واقعه وأساتذته في محاولةللبحث عن ذاته في واقع مهزوم. وإذا نظرنا إلى الواقع العربي، نجد أن جيلالشعراء العرب، وخاصة الفلسطينيين، الذين تبنوا قصيدة النثر وكتبوها،كانوا يحسون بالمشاعر نفسها التي أحس بها أقرانهم الفرنسيون في عهود سابقةأو بما هو قريب منها. فقد عاش هؤلاء الشعراء مرارة الخيبة والهزيمة، بعدنكبة عام 1948، وانهيار القيم القومية والأيديولوجية بعد نكسة 1967،ومازالت النكبات والنكسات متواصلة.
السرد والقصيدة:
لقد عنونا هذا القسم منالدراسة، السرد والقصيدة، وليس السرد والشعر، لان مفهوم القصيدة في رأيناأوسع وأشمل من مفهوم الشعر، فالشعر في أبسط تعاريفه هو الكلام الموزونالمقفى، وكما نرى فهو تعريف عام وشامل يمكن أن يطلق على أي شيء يوحيبالشعر، مثل ألفية ابن مالك، وشعر التقاريظ والمناسبات، قائمة على النظمالشعري ولكنها لا تعتبر قصيدة شعرية رغم الكلام الموزون والمقفى. أماالقصيدة فإنها كلمة محددة تدل على وجود مستقل، بناء لغوي قائم بذاته، سواءالتزم الوزن والقافية أو لم يلتزم فهو قصيدة.
وإذا كانت الشعرية كقيمةجمالية تتحد بمعارضة النثر بالشعر، حسب رولان بارت، فالنثر ذو طبيعة تتمتعبخاصية تلقائية ذات بنية عادية كالكلام المتداول بين الناس، بينما الشعرهو ما يحطم هذه الطبيعة الوظيفية، فيرفع الكلام إلى مستويات جديدة قوامهاالرمز الموحي الذي يخلق دلالات متعددة ومناخات نفسية توسع القدراتالتخيلية.
وبعد أن أوضحنا الفرق بين القصيدة والشعر، علينا أن نوضح دلالة السرد وعلاقته بالقصيدة.
يعرف السرد بأنه الحكيالقائم على دعامتين أساسيتين: الأولى، انه يحتوي على قصة ما تضم أحداثامعينة. والثانية، انه يعين الطريقة التي تحكى بها تلك القصة، وتسمى هذهالطريقة سردا، ذلك أن القصة يمكن أن تحكى بطرق متعددة، وأشكال متباينة.
وكون الحكي هو بالضرورة قصةمحكية يفترض وجود شخص يحكي، وشخص يحكى له، أي وجود تواصل بين طرفين: سارد،ومتلقي، وبينهما نص. وهذا تماما ما يتأتى للقصيدة فهي نص يحكي موضوعا ماأو قيمة جمالية ما، سواء بالشعر أو بالنثر، إذن ثمة شاعر ومتلقي وبينهمانص. وهنا تبرز العلاقة بينهما في الشكل العام بان السرد والقصيدة يطلبانالمتلقي، وتبقى الوسيلة التي يوصلان بها رسالتهما لهذا المتلقي مغايرة.فنجد أن السرد يتواصل مع المتلقي من خلال القصة أو الرواية أو النصالمسرحي أو السيرة، أي أن السرد يختار الشكل النثري لكي يوصل رسالته.وبهذا نلاحظ أن ثمة ترابطا بين السرد والنثر من حيث الشكل والمضمون.
إذن ما العلاقة التي تربطبين السرد وهو النثر، والقصيدة وهي شعر أو نثر؟ وهنا ثمة قاسم مشترك يجمعبين السرد والقصيدة النثرية، فما هو هذا القاسم المشترك وما دلالته؟، وهلثمة قاسم يجمع بين السرد والشعرية؟.
إن القصيدة بشكليها الشعريوالنثري، تعد حالة وجدانية فكرية، يتركز فيها الذهن على نقطة معينة منصورة، من فكرة، من قضية، وهي لذلك تتأثر بالعصر، وبالبيئة، وبظروف الحياةالتي تتطور باستمرار، والضرورة تستلزم أن يرافق تطور الحياة تطور مماثل فيشكل ومضمون القصيدة، خاصة بعد أن خلخلت التحولات الحداثية ثوابت نظريةالأنواع الأدبية التي كانت تحدد مواصفات كل جنس أدبي بقوانين وشروط أدبيةصارمة، فتلاقحت الأجناس والفنون، وانهمرت خواصها الفنية على بعضها، فظهرتتقنيات تشكيلية وسينمائية وسردية في القصيدة. وكذلك تداخلت الأجناسالأدبية في السرد نفسه، حيث تداخل الشعر في النص السردي سواء قصة أو روايةأو مسرحية، وعديد من النصوص المسرحية كتبت شعرا.
ورغم هذا التلاقح والتمازج بينالسرد والقصيدة، إلا انه تبقى ثمة حدود بين الجنسين الأدبيين، بحيث لايطغى احدهما على الأخر ويخرجه من جنسه الأدبي، فيبقى السرد كجنس أدبي لهخصائصه، وتبقى القصيدة جنس أدبي مستقل تستعين بمجموعة من خصائص السردلغايات جمالية.
السرد والموروث الشعري العربي:
آثرنا قبل الشروع في إبرازدلالات السرد في قصيدة النثر، أن نعود إلى مرجعية تاريخية أدبية استفادتمن السرد في بناء عالمها الشعري، ونقصد بذلك التراث الشعري العربي.
إن علاقة السرد بالقصيدة قديمةقدم الشعر نفسه، وقد تحدثت الملاحم الشعرية الأولى في الأدب العالمي عنأبطال وأحداث وسير وأمكنة، وخير مثال على ذلك، ملحمتي الإلياذة والاوديسافي الأدب الإغريقي، وملحمة جلجامش في الأدب العربي. كذلك ثمة قصائد فيالشعر العربي بدأ من العصر الجاهلي وصولا إلى العصر الحديث أو المعاصر،نجد فيها مكونات سردية. ولسنا مبالغين إذا قلنا، بان وراء كل قصيدة قصة هيالمثير أو الدافع، مثل قصائد الحب والعشق، أو قصائد المعاناة والألم، أوالقصائد التاريخية.
لقد استخدم الشاعر العربي بعضامن تقنيات السرد، واتكأ على الحكاية أو القصة كوسيلة تعبيرية يبني عليهاحدث قصيدته. فنجد (امرؤ القيس) في معلقته يصف مغامراته في “دارة جلجل” ومع“بيضة الخدر” التي تجاوز أهلها وتبادل معها مختلف صنوف الحب واللهو. وهذا(المنخل اليشكري) يصف لنا في رائيته الشهيرة مشهد دخوله الخدر على فتاتهفي اليوم المطير. ولم يكن (عنترة بن شداد) بعيدا عن صاحبيه في قص الأخبارورواية الحكايات عن حبه لـ(عبلة) ومتذكرا إياها بين ضربات السيوف وطعنالرماح. وهؤلاء الشعراء لم يكن هدفهم القص بحد ذاته، وإنما رواية ما وقعلهم من أحداث ومغامرات في أسلوب قصصي متخذا من القصيدة الشعرية شكلا فنيا.
إن فن القص جزء من النفسالبشرية، تخلقه إذا لم تكن تعرفه، كوسيلة تعبيرية حينما تعجز الوسائلالأخرى عن التعبير. فنجد في العصور الإسلامية تطور ملموس للسرد في القصيدةحيث أدرجت قصص شعرية كاملة من حيث بناؤها ورسم شخصياتها وحبكتها فيالشعرية العربية. فهذا (الحطيئة) في قصيدته التي مطلعها:
وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل ببيداء لم يعرف بها ساكن رسما
يحكي القصة/ القصيدة عنمشاعر الأب وخشيته على سمعته بين القبائل إذا لم يكرم ضيفه الذي حلبدياره، وتنتقل مشاعر الهم والخوف إلى احد أبنائه، فيدنو من أبيه ويحاولحل الأزمة بطريقة مأساوية “يا أبت اذبحني ويسر له طعاما”، وتبلغ الحبكةذروتها عندما يهم الأب بذبح ابنه، حينها يسمع صوت قطيع من حمر الوحش تقصدبئر مجاور، فينسل الأب نحوها ويرسل سهما فتصيب إحداها، وهكذا يحل الشاعرعقدة قصته/ قصيدته سريعا.
هي قصة بكل مستويات السرد،ولكن لم يقل احد عنها قصة أو حكاية شعرية، لأنها قدمت للقارئ مرتدية الزيالعام للشعر، وهو إيقاع البيت ذي الشطرين، حيث كانت السمة الشعرية الوزنيةفيها طاغية على السرد ومكوناته.
وقد كان للشعراء العذريينحكايات وقصص كثيرة أيضا مع محبوباتهم نظموها شعرا، أمثال: قيس وليلى، وقيسولبنى، وكثير عزة، وجميل بثينة، وعمر بن أبي ربيعة، وغيرهم.
وحين أحس الشعراء القدامىبوطأة السرد على خطابهم الشعري، حاولوا أن يفتتحوا القصيدة بالغزل أوبالحكمة، فمثلا قصيدة (أبو تمام) عن فتح عمورية وهي قصيدة سردية، ولكنهاتبدأ بحكمتها الشعرية “السيف اصدق أنباء من الكتب”. وكذلك قصيدة (المتنبي)عن قلعة الحدث تحكي عن واقعة فيها بطل وحدث ومكان، لكنها تتقدم بلباسالحكمة “على قدر أهل العزم تأتي العزائم”.
وتستمر مسيرة القصةالشعرية لتصل ذروتها مع قصائد الرعيل الأول من شعراء النهضة أو الإحياء،بتأثير من التراث الشعري العربي الذي تم إحياؤه، أمثال: احمد شوقي، ومحمودسامي البارودي، ومعروف الرصافي، والأخطل الصغير، والياس أبو شبكة، وخليلمطران، وحافظ إبراهيم، وإيليا أبو ماضي، وغيرهم.
وفي تجربة شعر التفعيلة ثمةإمكانات هائلة استثمرها الشعراء ليصلوا بالسرد الشعري إلى مدى أوسع وآفاقأرحب، ومن يقرأ قصائد (نزار قباني) يجد قصائد كثيرة تؤكد هذا الحضورالسردي الشعري. وكذلك لدى شاعر العربية (محمود درويش) قصائد عديدة تحاكيفن السرد، في قصيدتي “الحديقة النائمة” و”كان ما سوف يكون” من ديوانأعراس، و”الحوار الأخير في باريس” و”بيروت” من ديوان حصار لمدائح البحر،ويتوج المحاكاة السردية في عمله الإبداعي”في حضرة الغياب”. وهذا بالإضافةإلى تجارب أخرى عند معين بسيسو، وأمل دنقل، واحمد عبد المعطي حجازي، وصلاحعبد الصبور، واحمد دحبور، ومحمد الفيتوري، وسعدي يوسف، وغيرهم.
ومهما توغلت قصيدة التفعيلة فيالسرد واعتمدت مكوناتها على حكاية أو قصة شعرية، ونجد أن مفرداتهاالبنائية والدلالية هي مفردات قصة بحدثها وحوارها الداخلي، إلا أن إيقاعهاشعري يؤكد انتماؤها إلى الشعر لا إلى السرد
السرد وقصيدة النثر:
انطلاقا مما تحدثنا عنه من سردفي الشعرية العربية القديمة والحديثة، نؤكد أن قصيدة النثر في علاقتهابالسرد أو تمازج السرد في مكوناتها الجمالية، لم يأت من فراغ، بل ارتكزإلى أشكال أخرى سابقة. واعتماد قصيدة النثر على التجريب واختيار سبلعديدة، هذا لا يعني أنها أضحت بديلا عن الأنماط الشعرية الأخرى، بل هي جزءلا يتجزأ من المشهد الشعري الراهن، تتجاور وتتجاوز وتتشابك مع تلك الأنماط.
لقد استندت قصيدة النثر فيبنيتها ـ بشكل جوهري ـ إلى السرد، فهي بتواطئها باستمرار مع أجناس قريبةمنها، كما عبرت سوزان برنار، تحطيمها للإيقاع الخارجي، وجدت نفسها تعتمدبشكل كبير على السرد والحكي والحوار والخبر والاستغراق في تصوير الجزئيات،والتركيز على المفارقة، وهي كلها من خصائص فن القص. وتؤكد “مارغوريتمورفي” على تمازج قصيدة النثر بفن السرد، تقول: هذا الجنس الأدبي المبتدع،والذي يشبه بسهولة شديدة أنواع النثر الأخرى، لهذا كثيرا ما يتم خلطه معمقتطفات من أشكال خطابية أخرى، فالكثير من قصائد النثر قد تشبه الحكاياتأو الأمثال الرمزية أو القصص أو غيرها من الشذرات النثرية. لهذا رفضالنقاد بعض ما تضمنه كتاب بودلير “سوداوية باريس” على اعتبار أنها ليستقصائد نثر، بل هي أشبه بالقصص الفلسفية ونصوص تكاد تكون مستلة من يومياتهتطغى عليها الانطباعات الشخصية والحكم الأخلاقية.
ولم يبتعد الكتاب والنقادوالشعراء العرب عن هذه المواقف، إذ أكدوا على تمازج السرد في قصيدة النثرواعتباره مكون أساسي من مكوناتها، يقول عبد القادر الجنابي: أن قصيدةالنثر تعتمد على عناصر سردية قريبة من عناصر الحكاية: كان ذلك في …، وبعدأن …، فطوفت في ذلك الليل الأخير حتى مطلع الفجر ….، ثم راح …، بقعة صفراءأشبه بقمر توقف عن الحركة. ويؤكد ادونيس على حضور السرد في قصيدة النثر،إلا أن ذلك يبقى مشروطا بان يتسامى بالقصيدة ويعلو بها لغاية شعرية خالصة،بمعنى أن تغلب الشعرية على السرد وليس العكس، وإلا تحولت إلى جنس أخر.ويرى أمجد ناصر أن قصيدة النثر لها خاصية القص تارة، والسرد تارة أخرى،والأمثولة حينا، والاستطراد حينا أخر، ولها ما للنثر أيضا من أخبار وبرهنةوتحليل.
ومع هذا فليست لها أبداالغائية التي يهدف إليها السرد في الحكاية. فالسرد في قصيدة النثر هدفهخلق عنصر تأثير أخر على المتلقي يضاف إلى عناصر التأثير الأخرى المبثوثةفي جسد النص، مما يجعل المتلقي يشعر حينما يقرأ نصا شعريا، كأنه يسمع صوتالشاعر يحول النص الشعري إلى نص بصري وسمعي، بالإضافة إلى انه نص فكريوتأملي ووجداني، لان بناء قصيدة النثر السردية سيوحي للقارئ بأنه يشاهدمنظر الشاعر أمامه ويتخيل سماع صوته, ومعبرا عن ذات المتلقي.
وقد حفلت التجاربالإبداعية في مشهد قصيدة النثر العربية بالعديد من النماذج التي تؤكد حضورالسرد ضمن جماليتها. يقول الشاعر (عباس بيضون): “الأربعة النائمون على الطاولة وسط الجبال لم يشعروا بخيال الطائر وهو يتضخم في الغرفة”، سرد نثري، كأنه يحكي قصة فيها شخصيات “أربعة”، ومكان “وسط الجبال”، وحدث “لم يشعروا بخيال الطائر ..”.
ويشير الناقد “حسن ناظم”إلى أن ديوان (سركون بولص) (شاعر عراقي توفى في المنفى) الأخير الذي صدربعد وفاته بعنوان “عظمة أخرى لكلب القبيلة” عام 2008، يرتكز قوامه الشعريعلى السرد، حيث تربو قصائد السرد فيه على النصف، نقرأ من قصيدة الكرسي:
في البدء يشخص الكرسي:
كرسي جدي ما زال يهتز على
أسوار أوراك
تحته يعبر النهر، يتقلب فيه
الأحياء والموتى.
نص سردي يحضر فيه الجد والأبوالصديق، وشخصيات حقيقية ومتخيلة يروي عنها آلامها وشدائدها، فالديوانقصائد سرد عن حكايات الأحياء والأموات في الزمن الغابر من الأيام والحاضر.
وفي ديوان الشاعر (سيفالرحبي)الأخير “حيث السحرة ينادون بعضهم بأسماء مستعارة” الصادر عام 2010،يذكر الناقد “فيصل عبد الحسن” أن الديوان يضم نصوصا تقترب في تقنياتها إلىفن القص والحكاية الشعرية، وتحتمل التأويل أكثر مما تحتمله القصيدةالاعتيادية. ونقرأ في نصه “قمر الهضاب” نصا سرديا بامتياز، حيث ينقلنا إلىعالم نثري ثري، يجوس من خلاله حول مفردة قالتها الحبيبة عن قمر الشاعر،الذي يسألها هاتفيا، إن كانت ترى القمر في بيتها مثلما يراه في بيته فيهذه اللحظة، فتجيبه انه “ضاح” في البيت وعلى الشرفات وعلى هضاب المكان.وتحيل مفردة “ضاح” الشاعر إلى طفولته وتصير بؤرة مشعة ينطلق منها النصالقصصي.
ويكتب (جبرا إبراهيم جبرا) فيقصيدة “في يومي ذاك الأخضر” من ديوان “تموز في المدينة”، نصا سرديا يرويفيه ملامح من سيرته الذاتية في زمن الطفولة قبل خروجه من فلسطين إلى ولديه(سدير، وياسر) المهداة إليهما القصيدة. يقول:
في يومي ذاك الأخضر
إذ كنت كالعود الطري
اخضر يومي وليلي