قراءة أولية في أعمال الكاتب والباحث جمال بوطيب / د. يوسف الإدريسي
د. يوسف الإدريسي
على /site/photo/94سبيل التمهيد :
ليس من باب الادعاء القول إن الأعمال الأدبية والنقدية لجمال بوطيب تتمنع - بثراء محكيها وتناغم تشكلاتها وعمق تصوراتها - على كل مقاربة سطحية ومتسرعة لا تعي الرؤى الجمالية المتحكمة في عوالمه التخييلية والموجهة لها، ولا تبصر الخيط الرفيع الرابط بين عمق التنظير وبلاغة التعبير ، ولا تدرك الخاصية الإبداعية التي تسم مسيرته الأدبية، والتي تكاد تكون "غريبة"، لكونه ما إن يستأسد في نوع أدبي ، ويصير علامة بارزة فيه حتى يغادره إلى نوع جديد ...ومغاير...
وليس مجازفة في القول التأكيد على قيمة الرجل وتميزه في المشهد الثقافي المغربي الراهن ، نظرا لما راكمته تجربته الأدبية والنقدية - خلال السنوات الأخيرة- من أعمال متنوعة في العديد من المجالات ، إلى حد يجعل المتتبع لأنشطته الفنية وكتاباته الأدبية والنقدية ، التي جاوزت إلى حدود هذه اللحظة الاحتفائية 11كتابا، يحار في تصنيفه ضمن إحدى خانات الأدب المغربي الحديث، فعلاوة على انخراطه في العمل المسرحي كتابة وتمثيلا ، ساهم في ترسيخ نمط جديد من الكتابة القصصية يحق له أن يفاخر بريادته فيه ، فكان من جيل - بالرغم من كونه لا يؤمن بمقولة الأجيال- رفض الإيمان بعقيدة الآباء المؤسسين ، واختار لخياله الشدو بلغة الممانعة والإقامة في الهامش، رافضا الحذو على منوال " التجارب المختمرة " ، و التزلف إلى محارب " الآباء المؤسسين، فإذا به يصبح هو المركز ويتحول كثير من المتشككين إلى الهامش ، ويكفيه فخرا هنا أنه صاحب أول مجموعة قصصية من القصص القصيرة جدا تصدر بالمغرب .
وبعد أن امتلك ناصية القصة، وأصبح اسمه مرتبطا بها ، تخلى عنها ، فجرب الكتابة في الرواية، ولم يكد القراء والمتتبعون ينتبهون إليه روائيا ، حتى فاجأ الجميع بإصدار ديوانه : أوراق الوجد الخفية،الذي ينم عن ملكة شعرية رصينة ومتميزة .
هكذا هو جمال بوطيب مع الأجناس الأدبية... ما إن يفض بكارة جنس أدبي جديد و يغوص في أحشائه الدافئة ، حتى يتخلى عنه مستكشفا مغامرة أخرى وتجربة جديدة مع جنس جديد ... ولعمري إنه مثل العاشق الولهان الذي كلما ابتهجت المرأة بسحر عالمه وجنونه الطفولي ، حتى يتركها باحثا لنفسه عن حضن دافئ جديد.. لم يوطأ من قبل...
1- جمال بوطيب ساردا :
إن هذا التنوع والتعدد الذي نتحدث عنه هنا ، والذي يكاد يشكل عنوانا عريضا للتجربة التخييلية لجمال بوطيب الموسومة بالفرادة والتميز، لا يعزى إلى كثرة كتاباته وتواليها، فالكتاب لا يذكرون بعدد المؤلفات التي تركوها ، ولا حتى بتنوع مجالاتها المعرفية والأدبية، وإنما بطبيعة مسارهم الأدبي والعلمي ، ونوع الإضافات التي قدموا. وإذا كانت مجموعته القصصية : زخة...ويبتدئ الشتاء الصادرة عن اتحاد كتاب المغرب سنة 2001 تجعله - بحق- رائدا في هذا النوع من القصص القصيرة جدا، فإن مجموعاته القصصية الأخرى لا تقل أهمية عنها، لكونها تميزت بمياسيم فنية وتقنيات سردية خاصة .
ذلك أن القارئ لقصص: الحكاية تأبى أن تكتمل (1993) وبرتقالة للزواج !! برتقالة للطلاق!! (1996) ومقام الارتجاف (1999)، فضلا عن " زخة" سيلاحظ أن جمال بوطيب يستدعي في محكيه السردي- لغايات جمالية وتجريبية أيضا- أساليب متنوعة مستمدة من خطابات متنوعة : الشعر والفلسفة والتصوف والثقافة الشعبية... وغيرها، وهو في ذلك- وبالرغم من الإشارات الإجناسية التي يثبتها على أغلفة قصصه- لا يروم تطبيق قواعد الكتابة القصصية وقوانينها على أعماله، وإنما يسعى إلى تشكيل نصوص تعي النظرية، وتسعى إلى تجاوزها وخرقها عبر كتابة نوع أدبي جديد يمتح من السرد محكيه ، ويستلهم من الشعر إيحاءاته المجازية ، ومن الفلسفة حكمتها وأسئلتها الأنطولوجية ، ومن التصوف إشراقاته ، لكي ينتج في نهاية المطاف نصا يقف في الحدود المتجاورة لكل هذه الخطابات ، كما تدل على ذلك العديد من المقاطع في قصصه.
ويتبدى ذلك التعدد والتنوع الذي نتحدث عنه في تجربة جمال بوطيب ، كما تتمظهر النزعة التجريبية التي تسم كتاباته في روايته : سوق النساء أو ص.ب :26، التي وصل فيها التففن في الكتابة والتمرد على مقولة " التجنيس" وقوانين الكتابة السردية إلى أبعد مدى، فجعل القارئ يقف مشدوها أمام عالمها التخييلي، الذي تمتزج فيه شعرية الحكي وسردية الإيحاء إلى حد يبيح القول إنها ديوان سردي أو شعر محكي.
فقد قسم جمال بوطيب روايته إلى عشرة فصول، إلا أنه لم يبدأ بالأول وينتهي بالعاشر، كما جرت العادة في الكتابات الأدبية وغير الأدبية، ولكنه عمد إلى خرق تراتبية فصولها، فصنفها بشكل متشابك مخادع على النحو الآتي:
- الفصل العاشر: رأس الخيط
- الفصل الثامن: خيط الرأس
- الفصل الأول: باب الريح
- الفصل الخامس: ميثاق العشرة
- الفصل السابع: ريح الباب
- الفصل الثالث: دار الضمانة
- الفصل الثاني: قدري
- الفصل التاسع: الربق
وإذا كان التشابك بين فصول الرواية يظهر جليا في بداية كلمات بعض الفصول بالكلمة التي ينتهي بها الفصل الأخير من ترتيب أجزاء الرواية، أو بجعل آخر كلمة من بعض الفصول هي أول ما يستهل به الفصل اللاحق مع تنويع ذلك تعريفا وتنكيرا (رأس الخيط /خيط الرأس، باب الريح/ريح الباب)، فإن " الخداع" يتبدى في إسقاط الفصلين الرابع والسادس من الرواية ، وهو إسقاط متعمد ينسجم و يتعالق مع قاعدته الأدبية التي سطرتها في أول مجموعة قصصية أصدرها، ألا وهي أن كل ما يكتبه حكايا تأبى أن تكتمل، هذا فضلا عن كونه يروم إيقاع قرائه في شرك تخييله، بجعلهم يشاركونه - بخيالاتهم- إكمال الحكاية ، في انتظار حلول موسم جديد ل" سوق النساء" ، وذلك بإصدار الجزء الثاني من الرواية !! !! !!
2 - بوطيب شاعرا:
ولا تكتسي الرواية قيمتها في هذا الجانب فحسب، بل في امتزاج الشعري والسردي في متنها النصي، وهو امتزاج يتخذ أشكالا عديدة ، ويمكن تلمسه من خلال مستويات متنوعة، إذ يتخلل الشعر بعض مقاطعها، ويطبع بعض أساليب حكيها بميسمه الإيحائي، مما يجعل القارئ يتساءل غير مرة إن كان إزاء قصيدة محكية أم أنه بصدد حكاية شعرية. وليس المقصود هنا المقاطع التي تم فيها حل كثير من المقاطع الشعرية القديمة والحديثة، وإعادة صياغتها بأسلوب نثري، وإنما المقاطع التي تخللها الشعر فأضفى على البنية السردية للرواية -بتناغماته الإيقاعية صوره الإيحائية- قيمة إيحائية بارزة تتبدى من الإهداء، وتظل حاضرة إلى آخر الرواية ، ويكفي التدليل على ذلك بقوله: « (...) وصادق ذلك الشاعر المغربي الذي سئل لماذا صار الشعراء يأكلون في المهرجانات أكثر مما يقرؤون القصائد، فأجاب ساخرا ساخطا: لأن المشرفين على المهرجانات هم أصلا منظمو حفلات.
ألا أيها الشعر مهلا
فإن وهن العظم
لم تهن الكبرياء
هي الخيل تكبو
لكن أعناقها
تطاول دوما عنان السماء*
(...)
* مقطع شعري للشاعر المغربي عبد الرفيع الجوهري[1]»
وقد بلغ تناغم السردي والشعري في روايته أعلى درجات الجمالية والإيحائية في قوله:
« (...) فارغ أنا من الداخل كعجز نخلة. وأشعر أن الفراغ خلفته " أما" يوم غرت بي حمرة وجهها وتوهجه وتركتني وسافرت ذات فجر.
حتى عندما أحببتك لم أفرح كثيرا.
" أما"...
وجل أنا من بعدك..سيدتي
إذ فجر " غشت" غشني
وبانطفائك رشني..
ألثم وجنة باردة
ويدا سكنت..
من بعد ما سكنت غلالات القلوب.
" أما"...
أعذريني حين نسيت صدرك،وخنت العهد.. وفكرت في أن أجعل من أخرى أما لي.
" أما"...
(...)[2] »
والواقع أن شعرية الحكي عند جمال بوطيب ليس وليدة روايته ، فقد ظهرت بجلاء قبل ذلك في مجموعاته القصصية على نحو لافت، حيث ظل الحكي عنده ممتزجا بالشعر ومتناغما معه. وإذا كان قد أعلن نفسه شاعرا سنة 2003 حين حصل على جائزة مفدي زكريا المغاربية للشعر، فقد مهرها رسميا بشهادة ميلاد بديوانه الشعري : أوراق الوجد الخفية (2007)، وهو ديوان تشي قصائده بطاقة إبداعية قادرة على توظيف الموروث الديني والأسطوري والنظريات النقدية والفلسفية - قديمها وحديثها- لتشكيل عوالم تخييلية جديدة ومتجددة، مما يعني أن قراءة قصائده والتفاعل -وجدانيا وذهنيا - معها لن يتحقق بصورة دقيقة وجيدة ما لم يع القارئ ويلم بالنصوص المعرفية والجمالية التي يتناص معها في قصائده، ويدرك الأمكنة والأحداث التي يحيل إليها ، فإذا كان متيسرا فهم ما يقوله في الورقة الأولى من قصيدة: أوراق الوجد الخفية عن فاس انطلاقا من استحضار البنية الدينية الحاضرة بقوة من خلال الآية 25 من سورة مريم، وذلك في قوله :
« (...)
فاس
هزي إليك
بجدع الأبجدية
تساقط عليك حروفا
اهمزي الألف
والواو
وما لا يهمز »[3]
فلاشك أن الأمر متعذر على القارئ للورقة الثانية: وهران من القصيدة نفسها، إذا لم يكن له علم بجغرافية وهران وتاريخ الجزائر ككل، وخاصة في قوله:
« (...)
جبهةَ البحر ...
زجي بالرسغ
في طرف الصبوة
تنتفضْ
محجات " العربي بن مهيدي"
و " أحمد زبانة"
يصادر ماء " سعيدة" ،
يصفو ماؤك المالح،
تغدو
ضفيرة " جميلة بوحيرد "
زلالا للبلاد.
(...) » [4]
وسواء في قصصه أم في شعره ، تظل العلاقة المتشابكة بين الشعر والسرد حاضرة بقوة، وإذا كانا قد أشرنا أعلاه إلى أن الشعر يحضر بشكل لافت في قصصه وروايته، فمن الملاحظ أن الأمر نفسه يتحقق في ديوانه الشعري، خاصة في قصيدته : عتاب التي صاغها في قالب حواري، والتي تتناص أسطرها الشعرية مع عناوين أعماله القصصية، ويتضح ذلك من قوله(التشديد غير أصلي):
« اللائم:
لماذا كلما أوغل البحر
في النزيف
أرهقت
ذاكرة البرتقال الحزين
أو لم تعلمك الحكاية
ياصديقي
أن البعد
مرتعه الحنين؟
الملوم:
جراحي تترى...
ياخديم الشعر
لا تسل،
صديقك لم يرهق
ذاكرة برتقال...
صديقك لم تعلمه الحكاية
غير الصبر والدمع
وخنق السؤال...
(...)»[5]
ولاشك أن انشغال جمال بوطيب بتجريب نوع جديد من الكتابة الأدبية تقوم على هدم الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية، وفي مقدمتها الشعر والسرد، وابتكار نوع جديد يقف في التخوم الفاصلة بينهما، لا يدخل ضمن طموح أدبي فحسب، ولكنه يندرج ضمن انشغالاته العلمية والأكاديمية.
3-جمال بوطيب ناقدا :
يشكل موضوع السرد والشعر جزءا من المشروع النقدي لجمال بوطيب ، وهو مشروع استهله بكتابين هامين هما: الجسد السردي، أحادية الدال وتعدد المرجع (2006) ؛والسردي والشعري، مساءلات نصية (2007) ، ساءل فيهما حدود التداخل والتمايز القائمة بين الشعر والسرد ، ودرس أبرز القضايا والإشكالات التي ترتبط بهما، انطلاقا من رؤية منهجية تتوسل بالمقاربة النصية والتحليل الأسلوبي لكل منهما ، عبر نماذج منتقاة من مختلف عصور الأدب العربي.
ينطلق جمال بوطيب في كتابه الأول : الجسد السردي من فكرة جوهرية مؤداها : أن السرد - باعتباره فعلا ينتج حكيا - يمثل الحقيقة الكونية والجوهرية التي توحد - وتدور في فلكها- كل الظواهر الطبيعية والكائنات الحية بما فيها الإنسان، لا فرق في ذلك بين الذات/الجسد، والمنقوشات، والأخبار، والأصنام والرحلات، والحيوانات، بل وحتى الأشعار، وبذلك يغدو كل التراث إبداعا، لكونه يتضمن - مهما اختلفت مواضيعه وأساليبه- محكيا سرديا ، لأن« السرد باعتباره منقولا خبريا يوجد في منقوش ما، لتضمن هذا المنقوش لـ: السارد/ الناقش، والمنقوش له/ المسرود له - وإن كان الذات - والناقش الحقيقي والناقش الضمني والموضوع السردي. ثم إن صانع الصنم أو مشكله يحاكي ويحكي أثناء خلق الأجساد، ويخلق حكايتها، ويضمن عبادتها، ويخاطبها وينطقها في حالات ومواقف مختلفة ومتباينة، فرحا وحزنا وغضبا ورضا ...إلخ
ألا تحكي جمال العرب ونوقهم، ومحمولاتهم في رحلاتهم، وسلعهم، أخبار وقصص بلدانهم ومصادر الرحلة ومنتهياتها .
ألا تقوم معلقة امرئ القيس كلها - وهي الشعر- على الحكي سواء أكان مضمرا أم معلنا(...)»[6]
وفي رأي بوطيب أن الحضور السردي اللافت في كثير من الأشعار القديمة يستلزم مراجعة الأحكام التي سطرها النقاد والدارسون، قديما وحديثا، وصنفوا من خلالها العديد من " القصائد" ضمن الجنس الشعري ، بالرغم من كونها حافلة بالحكي السردي. ولذلك يؤكد ضرورة إعادة تسمية كثير من النصوص التراثية ، وفي مقدمتها الشعر، والنظر إليها ليس باعتبارها قصائد ، وإنما مسردات ، لأن السرد حاضر فيها وبجلاء، فـ«الأخطل يحكي، وجرير أيضا. والفرزدق نظم سردا موزونا. وانتظم من والاهم أو من عاصرهم للبنية السردية العامة في الكتابة: "عمر بن أبي ربيعة" و "عكاشة العمي" و " جميل بثينة" و " مجنون ليلى" و " المتنبي" و " أبو تمام" ، بل أكثر من ذلك ابتدعت نصوص سردية نواة للنص السردي الكبير وصدرت بها النصوص.»[7]
ولم يكتف جمال بوطيب في الاستدلال على قوة طرحه ونجاعته بالنظر في الشعر فحسب، ولكنه وسع مجال دراسته وتحليله ليشمل مستويات متعددة ومتنوعة من الموروث العربي الذي تنتظم بنيته النصية وتتشكل على أساس الحكي السردي، فكشف عن المرجع الرمزي المتحكم في : كليلة ودمنة، وتناول المرجع الإحالي في : ألف ليلة وليلة، وقارب المرجع الخيالي الرمزي في: المقامة، وأبرز المرجع المثال في : السير الشخصية، والمرجع الواقعي في :الرحلات....إلخ
وإذا كان بوطيب قد ظل منشغلا في : الجسد السردي بالاستدلال على كون المحكي السردي هو المتحكم في بنيات النصوص التي درسها ومضامينها، فقد أفرد للعلاقة بين السردي والشعري كتابا خاصا، حاول في ثناياه مساءلة المتبقي من خصائص كل واحد منهما ، في ظل التداخل القائم بينهما على مستوى أجناس الكتابة وفروعها، والذي يتجلى أساسا في تخلي بعض النصوص السردية عن سرديتها لصالح الشعر، وهكذا وقف -بعد أن سطر تحديدا مفهوميا لجملة من المفاهيم كالشعري والسردي ، والشعرية والسردية...- عند بعض النصوص السردية والشعرية ليثبت نجاعة الفرضية التي يقوم عليها الكتاب والمتمثلة في « غياب الاستقلالية الجنسية في الكتابة وهجانة النوع الأدبي، واستعصائه الدائم والمستمر على التصنيفات المدرسية الصارمة، ومروقه ونزه عن المناهج التحليلية التي قد تصر بمرجعياتها الفكرية والنظرية ، وبمفاهيمها الضابطة وتمثلاتها التطبيقية على خنق حرية النص المؤسسة على سؤاله الدائم والمستوجب للمساءلة النصية الدائمة أيضا»[8]
لقد مكنت الرؤية المنهجية والتحليل الأسلوبي الذي تبناه جمال بوطيب في كتابه : السردي والشعري من الكشف عن الشعرية الكامنة في النصوص الروائية التي اشتغل عليها ، دون اختيار مسبق ومقصود لها، فانتهى إلى أن طريقة التسلسل المتناغم للأحداث في : مخلوقات الأشواق الطائرة، لإدوارد الخراط، كما أن الانزياح عن التقسيم الثلاثي للزمن الذي يتخلى عن وظيفته في تنمية السرد لصالح تكثيف الشحنة الإيحائية للحظة السرد ، والحرص على الإطناب في الوصف المغرق في الذاتية ، فضلا عن توظيف طاقات الخرق والتجاوز والانزياح في اللغة المستعملة كل ذلك -وغيره مما فصل بوطيب القول فيه- يجعل أسلوب الكتابة الشعرية حاضرا في رواية إدوارد الخراط بشكل لافت. والأمر نفسه يتحقق في كثير من الدواوين الشعرية كما أوضح في كتابه من خلال النماذج المدروسة.
ومضة الختام:
سعت هذه الورقة المتواضعة إلى الإيماء إلى أهمية أعمال الأستاذ الباحث والأديب المبـدع : د. جمال بوطيب عبر تقديم إشارات متفرقة ، وتسجيل ملاحظات أولية تومئ إلى بعض جوانب الخصوصية والتميز في تجربته التخييلية وممارسته النقدية، وإذا كان ثابتا أنه راكم تجربة غنية وهامة في الأدب والنقد ، فمما لاشك فيه أن كل عمل من أعماله يحتاج إلى قراءات فاحصة ومستفيضة للوقوف بدقة على طبيعة وحدود إسهامه في إثراء المشهد الثقافي المغربي الراهن.
[1]جمال بوطيب: سوق النساء أو ص.ب: 26، ط1، 2006، ص18.
[2]نفسه، ص31.
[3] جمال بوطيب: أوراق الوجد الخفية،شعر، منشورات ما بعد الحداثة، فاس، ط1، 2007، ص 10.
[4]نفسه ، ص 16.
[5]جمال بوطيب: أوراق الوجد الخفية، مذكور ،ص 31-32.
[6]جمال بوطيب: الجسد السردي، أحادية الدال وتعدد المرجع، دراسات في الموروث السردي العربي،IMBH، آسفي، ط1، 2006، ص10.
[7] نفسه، ص 11- 12.
[8]جمال بوطيب: السردي والشعري، مساءلات نصية، منشورات الديوان-7،آسفي، ط1، 2007، ص8.
منقول
د. يوسف الإدريسي
على /site/photo/94سبيل التمهيد :
ليس من باب الادعاء القول إن الأعمال الأدبية والنقدية لجمال بوطيب تتمنع - بثراء محكيها وتناغم تشكلاتها وعمق تصوراتها - على كل مقاربة سطحية ومتسرعة لا تعي الرؤى الجمالية المتحكمة في عوالمه التخييلية والموجهة لها، ولا تبصر الخيط الرفيع الرابط بين عمق التنظير وبلاغة التعبير ، ولا تدرك الخاصية الإبداعية التي تسم مسيرته الأدبية، والتي تكاد تكون "غريبة"، لكونه ما إن يستأسد في نوع أدبي ، ويصير علامة بارزة فيه حتى يغادره إلى نوع جديد ...ومغاير...
وليس مجازفة في القول التأكيد على قيمة الرجل وتميزه في المشهد الثقافي المغربي الراهن ، نظرا لما راكمته تجربته الأدبية والنقدية - خلال السنوات الأخيرة- من أعمال متنوعة في العديد من المجالات ، إلى حد يجعل المتتبع لأنشطته الفنية وكتاباته الأدبية والنقدية ، التي جاوزت إلى حدود هذه اللحظة الاحتفائية 11كتابا، يحار في تصنيفه ضمن إحدى خانات الأدب المغربي الحديث، فعلاوة على انخراطه في العمل المسرحي كتابة وتمثيلا ، ساهم في ترسيخ نمط جديد من الكتابة القصصية يحق له أن يفاخر بريادته فيه ، فكان من جيل - بالرغم من كونه لا يؤمن بمقولة الأجيال- رفض الإيمان بعقيدة الآباء المؤسسين ، واختار لخياله الشدو بلغة الممانعة والإقامة في الهامش، رافضا الحذو على منوال " التجارب المختمرة " ، و التزلف إلى محارب " الآباء المؤسسين، فإذا به يصبح هو المركز ويتحول كثير من المتشككين إلى الهامش ، ويكفيه فخرا هنا أنه صاحب أول مجموعة قصصية من القصص القصيرة جدا تصدر بالمغرب .
وبعد أن امتلك ناصية القصة، وأصبح اسمه مرتبطا بها ، تخلى عنها ، فجرب الكتابة في الرواية، ولم يكد القراء والمتتبعون ينتبهون إليه روائيا ، حتى فاجأ الجميع بإصدار ديوانه : أوراق الوجد الخفية،الذي ينم عن ملكة شعرية رصينة ومتميزة .
هكذا هو جمال بوطيب مع الأجناس الأدبية... ما إن يفض بكارة جنس أدبي جديد و يغوص في أحشائه الدافئة ، حتى يتخلى عنه مستكشفا مغامرة أخرى وتجربة جديدة مع جنس جديد ... ولعمري إنه مثل العاشق الولهان الذي كلما ابتهجت المرأة بسحر عالمه وجنونه الطفولي ، حتى يتركها باحثا لنفسه عن حضن دافئ جديد.. لم يوطأ من قبل...
1- جمال بوطيب ساردا :
إن هذا التنوع والتعدد الذي نتحدث عنه هنا ، والذي يكاد يشكل عنوانا عريضا للتجربة التخييلية لجمال بوطيب الموسومة بالفرادة والتميز، لا يعزى إلى كثرة كتاباته وتواليها، فالكتاب لا يذكرون بعدد المؤلفات التي تركوها ، ولا حتى بتنوع مجالاتها المعرفية والأدبية، وإنما بطبيعة مسارهم الأدبي والعلمي ، ونوع الإضافات التي قدموا. وإذا كانت مجموعته القصصية : زخة...ويبتدئ الشتاء الصادرة عن اتحاد كتاب المغرب سنة 2001 تجعله - بحق- رائدا في هذا النوع من القصص القصيرة جدا، فإن مجموعاته القصصية الأخرى لا تقل أهمية عنها، لكونها تميزت بمياسيم فنية وتقنيات سردية خاصة .
ذلك أن القارئ لقصص: الحكاية تأبى أن تكتمل (1993) وبرتقالة للزواج !! برتقالة للطلاق!! (1996) ومقام الارتجاف (1999)، فضلا عن " زخة" سيلاحظ أن جمال بوطيب يستدعي في محكيه السردي- لغايات جمالية وتجريبية أيضا- أساليب متنوعة مستمدة من خطابات متنوعة : الشعر والفلسفة والتصوف والثقافة الشعبية... وغيرها، وهو في ذلك- وبالرغم من الإشارات الإجناسية التي يثبتها على أغلفة قصصه- لا يروم تطبيق قواعد الكتابة القصصية وقوانينها على أعماله، وإنما يسعى إلى تشكيل نصوص تعي النظرية، وتسعى إلى تجاوزها وخرقها عبر كتابة نوع أدبي جديد يمتح من السرد محكيه ، ويستلهم من الشعر إيحاءاته المجازية ، ومن الفلسفة حكمتها وأسئلتها الأنطولوجية ، ومن التصوف إشراقاته ، لكي ينتج في نهاية المطاف نصا يقف في الحدود المتجاورة لكل هذه الخطابات ، كما تدل على ذلك العديد من المقاطع في قصصه.
ويتبدى ذلك التعدد والتنوع الذي نتحدث عنه في تجربة جمال بوطيب ، كما تتمظهر النزعة التجريبية التي تسم كتاباته في روايته : سوق النساء أو ص.ب :26، التي وصل فيها التففن في الكتابة والتمرد على مقولة " التجنيس" وقوانين الكتابة السردية إلى أبعد مدى، فجعل القارئ يقف مشدوها أمام عالمها التخييلي، الذي تمتزج فيه شعرية الحكي وسردية الإيحاء إلى حد يبيح القول إنها ديوان سردي أو شعر محكي.
فقد قسم جمال بوطيب روايته إلى عشرة فصول، إلا أنه لم يبدأ بالأول وينتهي بالعاشر، كما جرت العادة في الكتابات الأدبية وغير الأدبية، ولكنه عمد إلى خرق تراتبية فصولها، فصنفها بشكل متشابك مخادع على النحو الآتي:
- الفصل العاشر: رأس الخيط
- الفصل الثامن: خيط الرأس
- الفصل الأول: باب الريح
- الفصل الخامس: ميثاق العشرة
- الفصل السابع: ريح الباب
- الفصل الثالث: دار الضمانة
- الفصل الثاني: قدري
- الفصل التاسع: الربق
وإذا كان التشابك بين فصول الرواية يظهر جليا في بداية كلمات بعض الفصول بالكلمة التي ينتهي بها الفصل الأخير من ترتيب أجزاء الرواية، أو بجعل آخر كلمة من بعض الفصول هي أول ما يستهل به الفصل اللاحق مع تنويع ذلك تعريفا وتنكيرا (رأس الخيط /خيط الرأس، باب الريح/ريح الباب)، فإن " الخداع" يتبدى في إسقاط الفصلين الرابع والسادس من الرواية ، وهو إسقاط متعمد ينسجم و يتعالق مع قاعدته الأدبية التي سطرتها في أول مجموعة قصصية أصدرها، ألا وهي أن كل ما يكتبه حكايا تأبى أن تكتمل، هذا فضلا عن كونه يروم إيقاع قرائه في شرك تخييله، بجعلهم يشاركونه - بخيالاتهم- إكمال الحكاية ، في انتظار حلول موسم جديد ل" سوق النساء" ، وذلك بإصدار الجزء الثاني من الرواية !! !! !!
2 - بوطيب شاعرا:
ولا تكتسي الرواية قيمتها في هذا الجانب فحسب، بل في امتزاج الشعري والسردي في متنها النصي، وهو امتزاج يتخذ أشكالا عديدة ، ويمكن تلمسه من خلال مستويات متنوعة، إذ يتخلل الشعر بعض مقاطعها، ويطبع بعض أساليب حكيها بميسمه الإيحائي، مما يجعل القارئ يتساءل غير مرة إن كان إزاء قصيدة محكية أم أنه بصدد حكاية شعرية. وليس المقصود هنا المقاطع التي تم فيها حل كثير من المقاطع الشعرية القديمة والحديثة، وإعادة صياغتها بأسلوب نثري، وإنما المقاطع التي تخللها الشعر فأضفى على البنية السردية للرواية -بتناغماته الإيقاعية صوره الإيحائية- قيمة إيحائية بارزة تتبدى من الإهداء، وتظل حاضرة إلى آخر الرواية ، ويكفي التدليل على ذلك بقوله: « (...) وصادق ذلك الشاعر المغربي الذي سئل لماذا صار الشعراء يأكلون في المهرجانات أكثر مما يقرؤون القصائد، فأجاب ساخرا ساخطا: لأن المشرفين على المهرجانات هم أصلا منظمو حفلات.
ألا أيها الشعر مهلا
فإن وهن العظم
لم تهن الكبرياء
هي الخيل تكبو
لكن أعناقها
تطاول دوما عنان السماء*
(...)
* مقطع شعري للشاعر المغربي عبد الرفيع الجوهري[1]»
وقد بلغ تناغم السردي والشعري في روايته أعلى درجات الجمالية والإيحائية في قوله:
« (...) فارغ أنا من الداخل كعجز نخلة. وأشعر أن الفراغ خلفته " أما" يوم غرت بي حمرة وجهها وتوهجه وتركتني وسافرت ذات فجر.
حتى عندما أحببتك لم أفرح كثيرا.
" أما"...
وجل أنا من بعدك..سيدتي
إذ فجر " غشت" غشني
وبانطفائك رشني..
ألثم وجنة باردة
ويدا سكنت..
من بعد ما سكنت غلالات القلوب.
" أما"...
أعذريني حين نسيت صدرك،وخنت العهد.. وفكرت في أن أجعل من أخرى أما لي.
" أما"...
(...)[2] »
والواقع أن شعرية الحكي عند جمال بوطيب ليس وليدة روايته ، فقد ظهرت بجلاء قبل ذلك في مجموعاته القصصية على نحو لافت، حيث ظل الحكي عنده ممتزجا بالشعر ومتناغما معه. وإذا كان قد أعلن نفسه شاعرا سنة 2003 حين حصل على جائزة مفدي زكريا المغاربية للشعر، فقد مهرها رسميا بشهادة ميلاد بديوانه الشعري : أوراق الوجد الخفية (2007)، وهو ديوان تشي قصائده بطاقة إبداعية قادرة على توظيف الموروث الديني والأسطوري والنظريات النقدية والفلسفية - قديمها وحديثها- لتشكيل عوالم تخييلية جديدة ومتجددة، مما يعني أن قراءة قصائده والتفاعل -وجدانيا وذهنيا - معها لن يتحقق بصورة دقيقة وجيدة ما لم يع القارئ ويلم بالنصوص المعرفية والجمالية التي يتناص معها في قصائده، ويدرك الأمكنة والأحداث التي يحيل إليها ، فإذا كان متيسرا فهم ما يقوله في الورقة الأولى من قصيدة: أوراق الوجد الخفية عن فاس انطلاقا من استحضار البنية الدينية الحاضرة بقوة من خلال الآية 25 من سورة مريم، وذلك في قوله :
« (...)
فاس
هزي إليك
بجدع الأبجدية
تساقط عليك حروفا
اهمزي الألف
والواو
وما لا يهمز »[3]
فلاشك أن الأمر متعذر على القارئ للورقة الثانية: وهران من القصيدة نفسها، إذا لم يكن له علم بجغرافية وهران وتاريخ الجزائر ككل، وخاصة في قوله:
« (...)
جبهةَ البحر ...
زجي بالرسغ
في طرف الصبوة
تنتفضْ
محجات " العربي بن مهيدي"
و " أحمد زبانة"
يصادر ماء " سعيدة" ،
يصفو ماؤك المالح،
تغدو
ضفيرة " جميلة بوحيرد "
زلالا للبلاد.
(...) » [4]
وسواء في قصصه أم في شعره ، تظل العلاقة المتشابكة بين الشعر والسرد حاضرة بقوة، وإذا كانا قد أشرنا أعلاه إلى أن الشعر يحضر بشكل لافت في قصصه وروايته، فمن الملاحظ أن الأمر نفسه يتحقق في ديوانه الشعري، خاصة في قصيدته : عتاب التي صاغها في قالب حواري، والتي تتناص أسطرها الشعرية مع عناوين أعماله القصصية، ويتضح ذلك من قوله(التشديد غير أصلي):
« اللائم:
لماذا كلما أوغل البحر
في النزيف
أرهقت
ذاكرة البرتقال الحزين
أو لم تعلمك الحكاية
ياصديقي
أن البعد
مرتعه الحنين؟
الملوم:
جراحي تترى...
ياخديم الشعر
لا تسل،
صديقك لم يرهق
ذاكرة برتقال...
صديقك لم تعلمه الحكاية
غير الصبر والدمع
وخنق السؤال...
(...)»[5]
ولاشك أن انشغال جمال بوطيب بتجريب نوع جديد من الكتابة الأدبية تقوم على هدم الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية، وفي مقدمتها الشعر والسرد، وابتكار نوع جديد يقف في التخوم الفاصلة بينهما، لا يدخل ضمن طموح أدبي فحسب، ولكنه يندرج ضمن انشغالاته العلمية والأكاديمية.
3-جمال بوطيب ناقدا :
يشكل موضوع السرد والشعر جزءا من المشروع النقدي لجمال بوطيب ، وهو مشروع استهله بكتابين هامين هما: الجسد السردي، أحادية الدال وتعدد المرجع (2006) ؛والسردي والشعري، مساءلات نصية (2007) ، ساءل فيهما حدود التداخل والتمايز القائمة بين الشعر والسرد ، ودرس أبرز القضايا والإشكالات التي ترتبط بهما، انطلاقا من رؤية منهجية تتوسل بالمقاربة النصية والتحليل الأسلوبي لكل منهما ، عبر نماذج منتقاة من مختلف عصور الأدب العربي.
ينطلق جمال بوطيب في كتابه الأول : الجسد السردي من فكرة جوهرية مؤداها : أن السرد - باعتباره فعلا ينتج حكيا - يمثل الحقيقة الكونية والجوهرية التي توحد - وتدور في فلكها- كل الظواهر الطبيعية والكائنات الحية بما فيها الإنسان، لا فرق في ذلك بين الذات/الجسد، والمنقوشات، والأخبار، والأصنام والرحلات، والحيوانات، بل وحتى الأشعار، وبذلك يغدو كل التراث إبداعا، لكونه يتضمن - مهما اختلفت مواضيعه وأساليبه- محكيا سرديا ، لأن« السرد باعتباره منقولا خبريا يوجد في منقوش ما، لتضمن هذا المنقوش لـ: السارد/ الناقش، والمنقوش له/ المسرود له - وإن كان الذات - والناقش الحقيقي والناقش الضمني والموضوع السردي. ثم إن صانع الصنم أو مشكله يحاكي ويحكي أثناء خلق الأجساد، ويخلق حكايتها، ويضمن عبادتها، ويخاطبها وينطقها في حالات ومواقف مختلفة ومتباينة، فرحا وحزنا وغضبا ورضا ...إلخ
ألا تحكي جمال العرب ونوقهم، ومحمولاتهم في رحلاتهم، وسلعهم، أخبار وقصص بلدانهم ومصادر الرحلة ومنتهياتها .
ألا تقوم معلقة امرئ القيس كلها - وهي الشعر- على الحكي سواء أكان مضمرا أم معلنا(...)»[6]
وفي رأي بوطيب أن الحضور السردي اللافت في كثير من الأشعار القديمة يستلزم مراجعة الأحكام التي سطرها النقاد والدارسون، قديما وحديثا، وصنفوا من خلالها العديد من " القصائد" ضمن الجنس الشعري ، بالرغم من كونها حافلة بالحكي السردي. ولذلك يؤكد ضرورة إعادة تسمية كثير من النصوص التراثية ، وفي مقدمتها الشعر، والنظر إليها ليس باعتبارها قصائد ، وإنما مسردات ، لأن السرد حاضر فيها وبجلاء، فـ«الأخطل يحكي، وجرير أيضا. والفرزدق نظم سردا موزونا. وانتظم من والاهم أو من عاصرهم للبنية السردية العامة في الكتابة: "عمر بن أبي ربيعة" و "عكاشة العمي" و " جميل بثينة" و " مجنون ليلى" و " المتنبي" و " أبو تمام" ، بل أكثر من ذلك ابتدعت نصوص سردية نواة للنص السردي الكبير وصدرت بها النصوص.»[7]
ولم يكتف جمال بوطيب في الاستدلال على قوة طرحه ونجاعته بالنظر في الشعر فحسب، ولكنه وسع مجال دراسته وتحليله ليشمل مستويات متعددة ومتنوعة من الموروث العربي الذي تنتظم بنيته النصية وتتشكل على أساس الحكي السردي، فكشف عن المرجع الرمزي المتحكم في : كليلة ودمنة، وتناول المرجع الإحالي في : ألف ليلة وليلة، وقارب المرجع الخيالي الرمزي في: المقامة، وأبرز المرجع المثال في : السير الشخصية، والمرجع الواقعي في :الرحلات....إلخ
وإذا كان بوطيب قد ظل منشغلا في : الجسد السردي بالاستدلال على كون المحكي السردي هو المتحكم في بنيات النصوص التي درسها ومضامينها، فقد أفرد للعلاقة بين السردي والشعري كتابا خاصا، حاول في ثناياه مساءلة المتبقي من خصائص كل واحد منهما ، في ظل التداخل القائم بينهما على مستوى أجناس الكتابة وفروعها، والذي يتجلى أساسا في تخلي بعض النصوص السردية عن سرديتها لصالح الشعر، وهكذا وقف -بعد أن سطر تحديدا مفهوميا لجملة من المفاهيم كالشعري والسردي ، والشعرية والسردية...- عند بعض النصوص السردية والشعرية ليثبت نجاعة الفرضية التي يقوم عليها الكتاب والمتمثلة في « غياب الاستقلالية الجنسية في الكتابة وهجانة النوع الأدبي، واستعصائه الدائم والمستمر على التصنيفات المدرسية الصارمة، ومروقه ونزه عن المناهج التحليلية التي قد تصر بمرجعياتها الفكرية والنظرية ، وبمفاهيمها الضابطة وتمثلاتها التطبيقية على خنق حرية النص المؤسسة على سؤاله الدائم والمستوجب للمساءلة النصية الدائمة أيضا»[8]
لقد مكنت الرؤية المنهجية والتحليل الأسلوبي الذي تبناه جمال بوطيب في كتابه : السردي والشعري من الكشف عن الشعرية الكامنة في النصوص الروائية التي اشتغل عليها ، دون اختيار مسبق ومقصود لها، فانتهى إلى أن طريقة التسلسل المتناغم للأحداث في : مخلوقات الأشواق الطائرة، لإدوارد الخراط، كما أن الانزياح عن التقسيم الثلاثي للزمن الذي يتخلى عن وظيفته في تنمية السرد لصالح تكثيف الشحنة الإيحائية للحظة السرد ، والحرص على الإطناب في الوصف المغرق في الذاتية ، فضلا عن توظيف طاقات الخرق والتجاوز والانزياح في اللغة المستعملة كل ذلك -وغيره مما فصل بوطيب القول فيه- يجعل أسلوب الكتابة الشعرية حاضرا في رواية إدوارد الخراط بشكل لافت. والأمر نفسه يتحقق في كثير من الدواوين الشعرية كما أوضح في كتابه من خلال النماذج المدروسة.
ومضة الختام:
سعت هذه الورقة المتواضعة إلى الإيماء إلى أهمية أعمال الأستاذ الباحث والأديب المبـدع : د. جمال بوطيب عبر تقديم إشارات متفرقة ، وتسجيل ملاحظات أولية تومئ إلى بعض جوانب الخصوصية والتميز في تجربته التخييلية وممارسته النقدية، وإذا كان ثابتا أنه راكم تجربة غنية وهامة في الأدب والنقد ، فمما لاشك فيه أن كل عمل من أعماله يحتاج إلى قراءات فاحصة ومستفيضة للوقوف بدقة على طبيعة وحدود إسهامه في إثراء المشهد الثقافي المغربي الراهن.
[1]جمال بوطيب: سوق النساء أو ص.ب: 26، ط1، 2006، ص18.
[2]نفسه، ص31.
[3] جمال بوطيب: أوراق الوجد الخفية،شعر، منشورات ما بعد الحداثة، فاس، ط1، 2007، ص 10.
[4]نفسه ، ص 16.
[5]جمال بوطيب: أوراق الوجد الخفية، مذكور ،ص 31-32.
[6]جمال بوطيب: الجسد السردي، أحادية الدال وتعدد المرجع، دراسات في الموروث السردي العربي،IMBH، آسفي، ط1، 2006، ص10.
[7] نفسه، ص 11- 12.
[8]جمال بوطيب: السردي والشعري، مساءلات نصية، منشورات الديوان-7،آسفي، ط1، 2007، ص8.
منقول