نقد ادبي: عري الكائن ودلالات الجسد.. قراءة نقدية في المجموعة القصصية (عري الكائن) لعبد الحميد الغرباوي |
علي أيت أوشن
"الآخر هو الجسد"
قد"الآخر هو الجسد"
يبدو الحديث عن الجسد البشري بسيطا من منظور علاقتنا المادية و الملموسة
بأجسادنا،إلا أن واقع البحث والاستقصاء يفيد النقيض نظرا لأن البحث في
الجسد هو بحث بشكل ما في المجتمع تماما شريطة امتلاك الأدوات و الفضاء
القيمي الحامل له و الدال عليه،نظرا لأن الجسد ليس معطى طبيعيا فقط، وإنما
هو نتاج تاريخي وثقافي وأيديولوجي،مما يجعل تأسيس خطاب متجانس عن الجسد
مستعصيا،إذ ليس هناك جسد يحمل بعدا واحدا،بل ثمة أجساد عديدة:الجسد
الفيزيولوجي والجسد الأنتربولوجي والإثنولوجي والميتافزيقي والأيروتيكي...
وبقدر ما يدرك الإنسان جسده ويعرفه يعرف ما حوله،وبقدر ما يعرف ما يحيط به
تتعزز معرفته وتتعمق بجسده: إن جسده هو الكائن في العالم،ولكنه المكونَّ
فيه و المتكون به، وهو الذي يكون باستمرار باعتباره حقيقة تدرك أكثر فأكثر
كلما كان هناك تشعب أكثر في العالم(1).
وقد أحاطت الفلسفة منذ القديم
الجسدَ بخطابات متعددة(2) فأفلاطون اعتبره الحاجز الذي يحول دون سمو النفس
إلى عالم المثل،فهو السجن الذي لا خلاص للنفس منه إلا عند الموت " إن الجسد
قبر"،والفلسفة الحق هي التدرب على إماتة شهوات الجسد ورغباته التي تقيدنا
بالعلم الحسي والوجود الزائف،وعلى الإنسان أن يعمل على استعادة صفاء النفس،
وذلك بفصلها تدريجيا عن الجسد،أما أرسطو فقد حاول الربط بين النفس والجسد.
أما
الفلسفة المعاصرة،فقد ميزت بين الجسد الموضوعي (البيولوجي) والجسد الذاتي
الذي هو موضوع تأملات الفيلسوف،وأصبحت الفينومولوجيا تركز على الجسد
وتعتبره لا كمجرد غلاف مادي لذواتنا، وإنما هو عين حضورنا في العالم
واتصالنا به، وقد انتقد"مورلوبونتي" علم النفس الكلاسيكي لأنه في نظره قد
شوه خبرة الإنسان بجسده وساهم في الفصل بين جسم الإنسان وبقية الأجسام،حيث
طرح ما يسميه (بالجسد الظاهراتي) والذي ليس ملكا للذات بقدر ما هو الذات
نفسها.إن الجسد بناء رمزي نكونه عبر تمثلاتنا السيكولوجية و الثقافية
والحضارية.
ويرى "بارت"(3) أن الفترات التي يهب فيها الجسد ذاته كانت
محدودة جدا في المجتمعات التقليدية،ومفصولة عن بقية فترات الحياة، فترات
الاحتفالات التي كانت تسمح للمرء بأن يلبس بشكل مختلف:الأعياد والرقصات
الطقوسية،وكانت الحياة منقسمة إلى قسمين:
ـ لحظة يعطي فيها الجسد عبر الاحتفال،وهذه نادرة جدا.
ـ الجزء الثاني والأكبر من الحياة ينمط المألوف، حيث لا يوجد الجسد إلا ضمن إطار العمل.
أما
المجتمعات المعاصرة، ونظرا لتغير طبيعة الظروف الحضارية و الممارسات
الاجتماعية والسياسية و الثقافية...، فقد غيرت نظرتنا وعلاقتنا بالجسد،فلم
يعد الجسد محفوفا بقداسة و مختفيا وراء الثياب،أو مصدر خجل وموضوع
عار،وفضاء منسيا وغريبا، وإنما أصبح الجسد مصدر اهتمام وعناية متزايدة، وتم
استغلاله ليساهم في عملية الإنتاج والاستهلاك وهو ما يسميه) فوكو(
بـ"ميكروفيزيا السلطة"، حيث الجسد المعاصر عبارة عن شبكة من العلاقات
والإشارات الوظيفية،وبذلك فقد الجسد العديد من خاصياته الأصلية و
الحقيقية،وكمثال على ذلك، عارضة الأزياء والتي لا يشكل جسدها في حد ذاته
موضوعا للرغبة والإثارة،بقدر ما هو علامة ورمز للموضة،ذلك أن الرغبة تنصب
على البضاعة المعروضة لا على الجسد.
حين يستحضر(عبد الحميد الغرباوي)
الجسد في مجموعته" عري الكائن " (4)،إنما يستحضره من منظور فلسفي عميق
وبليغ، وبلغة حارة تجعل من الجسد شعورا معيشا،وحضورا أنطولوجيا أصيلا ونقصد
الجسد كما نعيشه من الداخل، سواء في بعده الاجتماعي أو الحضاري أو الثقافي
أو الأيروتيكي...
إنها كتابة تخترق الذات، فلا تضعنا أمام جسد واحد
محدد ومفهوم، بل إن ما يقدمه من نصوص قصصية حول الجسد يقوم على الانتقال من
جسد إلى آخر عبر استلهام تجربة العشق و الرغبة واللذة التي لا تحد، وما
يجمع بين هذه النصوص هو بعض الإشارات والدلالات الرمزية التي لا تقدم
المعنى كليا، وإنما تتركه للقارئ ليحفر عنه بقع الخطاب الفارغة. إن الجسد
في هذه النصوص"هو ما لا يقبل أن يتحدث عنه، في حين أنه هو الذي يجعلنا
نتحدث، إنه ملتقى الموت والأيروسية"(5).
تسعى هذه القراءة التي جمعت بعض
نصوص الجسد في مجموعة الغرباوي الأخيرة "عري الكائن" أن تبين كيف حضر
الجسد على مستوى التفكير الأنطولوجي للغرباوي إلى درجة التجذر مما جعل
الجسد على حد تعبير أحمد بوزفور(6)، يتخذ مظاهر عديدة:جسد
الأطفال،الفقراء،المجانين،المعوقين،المغتربين،الناسي ن والمنسيين...كل
هؤلاء يجتمعون في هذه المجموعة القصصية كلمات عارية... ولعل الجسد الأكثر
حضورا هو الجسد العاري، ونلمس العري بدءا بعنوان المجموعة القصصية "عري
الكائن" والذي يبئر مقولة الجسد العاري، حيث يمارس العري سلطته منذ العتبات
الأولى للنص،مما يجعل فعل القراءة يقوم على ميثاق ضمني يجعل من الجسد
العري حالة مشهدية تحكم عملية القراءة و التأويل، خاصة و أن القراءة
السياقية لنصوص المجموعة تنسجم مع هذه الاستراتيجية القرائية،حيث يقدمها
المؤلف في شكل بنيتين كبيرتين:
ـ بنية تحيل على الكائن.
ـ بنية تحيل على العري.
مع
الإشارة إلى أن لفظ (الكائن) ولفظ(العري) لا يحيلان على مرجع محدد وملموس،
بقدر ما يحيلان على معان عديدة تبعا لسياقهما الدلالي و التداولي.
الجسد العاري
إن
الجسد الذي تعود المجتمع ستره وحجبه يظهر الآن عاريا، عريا مطلقا وعنيفا،
ولعل استحضار الجسد بهذه الصورة يحدث في سلوكها تحولا جذريا ومفاجئا،
وتغيرا في تمثلاتنا عن أنفسنا، وعن الجسد العاري أمامنا و عن العالم أيضا.
فحين
يتحرر الجسد من اللباس كليا وأمام كل أخلاقيات المجتمع التي عودتنا على
ستره،خاصة و أن "الجسد البشري لم يكن أبدا عاريا بالكامل"،(7) فمعناه أن
هذا الجسد يرغب في الانفتاح والانعتاق و العودة إلى بدائيته، ويرفض
الانغلاق ليصبح العري ليس عريا مجانيا مبنيا على التظاهر، بقدر ما هو عري
يجسد الأصل و النهاية ويكشف عن الحقيقة:
" أما أنا فكما ترون، أعيش في
منتهى الوضوح مع جسدي ومعكم،لذا فأنا أتعرى أمامكم، ومن حسن حظي أني وجدت
هذه السيارة الحمراء، أتمدد على طول مقدمتها، أمارس عريي و أفضح ما أنتم
تسعون جهدكم إلى إخفائه...
أعرف فيما تفكرون الآن...
تقولون إنني مجنون..
أغبياء، أغبياء..." ص:71
يمكن قراءة هذا الملفوظ وفكه واستنتاج بعض دلالاته المختلفة المرتبطة بالجسد العاري:
الدلالة الأولى:
وضع الجسد في حالة مشهدية عارية، و كأنه يستعيد طقسا غاية في القدم مما يحيلنا على المجتمعات البدائية.
الدلالة
الثانية: فضح لما يسعى المجتمع للتستر عنه و إخفائه،لذا فهو صورة للانفلات
من سلطة الشعور و كشف للاشعور عبر بناء استيهامي أو هذياني، ورغم ذلك، فإن
هذا الجسد العاري لا يمكنه أن يشكل موضوعا للخطاب العلمي أو الأخلاقي لأن
العري هنا كشف وفضح للمخفي.
الدلالة الثالثة: حيث الجسد العاري يخضع
لمقياس محدد وتصور معين يجعل منه جسدا يوصف بالجنون، وبالمقابل، يوصف الجسد
المرتبط باللباس بالغباء، فالجسد العاري يريد من باقي الأجساد الأخرى أن
تتماهى معه، وتقتدي به، وتتخذ نفس وضعيته، وحين تختلف معه، فإنه يصفها
بالغباء، وهي تنعته بالجنون، وكأن الجنون هنا لحظة قوة، حيث استطاع الجسد
أن يعيش لحظة استعراض واستعراء غير عادية، « وبهذا المعنى لا يغدو ولا يكون
هذا الجسد أو ـ بصورة أدق ـ مثل هذا الجسد بحاجة إلى تقديم تعريف عن نفسه،
إنه يقدم نفسه عمليا، يقتحم الواقع، يبدو مشعا. ولهذا فهو يبث بيان قوته
الاستقطابية ويكون هناك متلق أو متلقون منتظرون رغم أنوفهم".
وفي نفس النص"العري" يحضر هذا الملفوظ، ص(69):
"أنتم
الواقفون و المحيطون بي الآن، أعرف فيما تفكرون...أنا أقدر على مالا
تقدرون عليه...أنا الآن أقرأ أفكاركم...أنا الآن أرى عريكم، رغم طبقات
اللباس التي تنزلونها على أجسادكم، أرى عريكم، أراه و أسمعه ينطق
بآثامكم..."
إن اللباس في هذا السياق يعادل التستر و المكر و العجز،
بينما العري هو فضح و كشف وقدرة على التفكير خارج السائد وإدراك للخفي،
للوصول إلى الحقيقة" فالجسد الاستعراضي، ليس وضعا لحقيقة لا تتجلى، إنما هو
علامة من علامات القوة،لأن الاستعراضية فضاء لتجلية القوة الممسرحة ومجال
لكشف المؤشر وبلاغة للسلطة المولدة من داخله، ويفيض بها"(9).
ولعل
استحضار الجسد العاري في المجموعة القصصية"عري الكائن" لم يلغ من مخيلة عبد
الحميد الغرباوي الجسد المرتبط باللباس،لأنه لا يسعنا على حد تعبير"بارت"
الكلام عن الجسد البشري،دون أن نطرح مسألة اللباس،لأن اللباس هو ما يتخذه
الجسد البشري كي يصبح دالا(10) وحاملا للعلامات...أو لعلاماته الخاصة أو
اللجوء إلى اللباس هنا فيه تثبيت لبعض القيم،وكذا الطقوس و التمثلات
الاجتماعية:
" أنا اليوم موظف بسيط، أملك معطفا أنجليزيا مستعملا،
وأرتدي قميصا أمريكيا بياقة صلبة ينحشر بثنيتها طوق ربطة عنق حريرية
مستعملة تنزل على طول القميص خضراء تزينها ورود وتيجان تعددت ألوانها و
اختلفت أشكالها وسروال"فيزكوز"إسباني الصنع و أنتعل زوج حذاء إيطالي
انتقيتهما بعد جهد جهيد من سوق الجوطية القديم..."
في ص(67):
" و
ألفيتني ذات صباح، تحف بي مجموعة من النساء، وأمامهن صينيات فضية يطلين كفي
وقدمي بالحناء،ويطوقن رسغي بخيط يتدلى منه كيس صغير جدا يمتلئ بالشبة
والحرمل...و أقبل أبي بشوشا،يحمل بين يديه ثيابا كانت غريبة على تلك
اللحظة،لكني عرفت فيما بعد، أنه اللباس المغربي التقليدي، السروال
القندريسي و الجبادور المطرز و السلهام،قطع ثلاث كلها بيضاء والطربوش
الأحمر، والبلغة الصفراء، وكل هذا وسط الزغاريد والأهازيج،وانا أرى وأسمع
ولا أفهم".
هكذا يتضح من خلال النصوص التي تتضمنها المجموعة أن الجسد
سواء حضر عاريا أو باللباس،فإنه يتخذ العديد من الدلالات و
الإيحاءات،فالعري مثلا،يعادل تبعا لسياقه التداولي: الضائقة(الفقر) ص47،
والصفاء(البراءة)ص66،والمكاشفة(الحقيقة)ص69،والشبقية
(الجنس)ص70،والفضح(الوضوح)ص79،ولعل هذه الدلالات المختلفة للعري تجعلنا
ندرك أننا لسنا أمام جسد واحد ومتجانس،بقدر ما نحن قبالة أجساد عديدة
ومختلفة رغم أنها تعيش لحظة واحدة،وهي لحظة العري.
الجسد الأيروتيكي
يقول
بارت" أليس الموضع الأكثر إيروسية في جسد ما، هو حيث ينفرج اللباس؟"(11)
إنه اللحظة التي تأسر، وتجعل الجسد سجنا،لأن مشهد الإثارة والرغبة هنا يفتض
الإدراك فتصبح بعض مناطق الجسد الأنثوي مشهدا يثير ويأسر ويفتن
الأبصار،خاصة في لحظة ترقب الجسد و التفرج عليه،كما في هذا الملفوظ
التقريري(ص14):
"أقبل سائحان، رجل وامرأة، عاينا المكان، راقهما، فقررت
الشقراء أن يأخذ لها الأشقر صورة تذكارية، صعدت الرابية التي هي على
اليمين، فيما استعد صاحبها لأخذ الصورة...في اللقطة الأولى، تمددت بطولها
على النبات، وفي الثانية، جلست ووضعت ساقا على ساق مبتسمة ابتسامة
خفيفة...مر العساس، ابتعد قليلا ثم عاد، انحسر ثوب الفستان على طرف من
جسدها...ساقاها بيضاوان ممتلئتان... اشتعلت عينا العساس شبقا..."
إن ما
يثير الشبق هنا هو أن الجسد ليس كله في حالة مشهدية، وإنما بعض أجزائه،
وبالضبط مناطق الفتنة والغواية والإثارة، مما يجعل الجسد يحمل بعدا واحدا
وهو الإغراء، وقد اكتسب هذا البعد دلالته من بعد نفسي مفاده أن الإنسان
عادة ما يجزئ الأشياء التي لا يملكها أو يرغب في الاستئتار بها والقبض
عليها مخافة أن تفلت منه، في هذه اللحظة يخاطب الرائي الجسد بلغة خاصة،
فيحدثه دون أن يتكلم، مما يجعل الجسد الأيروسي سجنا يصعب التحرر منه
ومقاومة فتنته، لأن هناك رغبة عميقة في القبض عليه، ومن ثمة، يبتعد الجسد
كل البعد عن كونه مجرد مشروع فيزيولوجي، وأداة باردة إلى جسد مسكون بالرغبة
إلى حد الانفجار، وهي رغبة أعمق من " أنا أفكر" حيث الارتباط بالجسد هنا
وحبه ليس مجرد ارتباط بالجسد بمعناه الخارجي، و يتضح الولاء المطلق للجسد
الأنثوي، خاصة أثناء الإمساك :
" وما لبثت حدة ضغط يدها على يدي أن
خفتت... ولعلها فعلت ذلك لاطمئنانها إلى أنني لا أفكر في التخلص من يدها...
بيدي لزوجة من فعل عرق يدها...لربما هي تعشق...يقولون، إن الفتى أو الفتاة
حين تعرق يده فذلك يعني أنه يعشق...
وبعد كل هذه السنين...أيحدث هذا !؟
نظرت
فيها طويلا...في عينيها الكحلاوين مرح طفولي، من قسمات محياها يبدو أنها
سريعة التأثر...مثلي...لكن، لو ترحمني وتقول كل ما تريد قوله. أما أنا
فوددت أن أقول لها:" أيا حلوة، أنا لا أعرفك فدعي يدي، فعجزت.."
و قد
عبر بالعجز نظرا لأنه يعيش لحظة أسر لا تقاوم بفعل سلطة الجسد الأنثوي،
كجسد يعادل المتعة واللذة " و التي لم يستطع أحد إلى يومنا هذا معرفتها
المعرفة الدقيقة التي تخول له تفسير كل ما يحيط بها، لأنها الأصل و الحقيقة
التي تشدنا إلى الرغبة التي قد تستغرق كل الكيان و الوجود، كما أكد على
ذلك (كلود برويار)، حيث الرغبة هي ما يميز الإنسان، وما يجعل الجسد الأنثوي
استعارة تشع بالإعجاز رغم أن ثقافتنا المعاصرة قد أفسدت بصرنا وقتلت فينا
تلك الرغبة الطبيعية عندما شوهت الجسد الأنثوي عبر الإشهار و الملصقات
وقاعات العرض، والتي أصبحت تقدم الجسد الأنثوي لإنجاح عملية البيع، وكنتيجة
جعل هذا الجسد مجرد أداة تجارية لا تثير أية رغبة. إلا أن (الغرباوي)
يحاول أن يستعيد للجسد الأنثوي قيمته ومكانته الطبيعية، حيث يقدمه طافحا
بالحرارة والبراءة و الحب:
" وهنا، اعتاد أن يجد كوثر بشعرها الحريري
المتهدل على الكتفين والعينين الواسعتين، طلقة المحيا، عذبة الابتسام،
جالسة إلى جوار أمها على أحد المقاعد الأربعة لا تريم مكانها تنتظره".
و
حين يحضر الجسد في مثل هذا الملفوظ وبهذا الشكل، فإنه يعكس علاقتنا
الحميمية بالجسد ورغبتنا الحقيقية في التصالح معه، وليس كما قد نتوهم حين
نُشَيِّءُ الجسد و نختزله في جسد شهوي، لأن الواقع يفيد ارتباط هذا الشعور
بصميم الحياة الأصلي، لأن الجسد البشري منذ أن شطره "زيوس" إلى شطرين، حيث
انفصل الذكر عن الأنثى، ظل الجسد مسكونا بالرغبة في التوحد و التمازج، فكان
لابد من الحب بمعناه الأوسع حتى يتحرك كل شطر نحو الآخر فيتحد به عشيقا،
كما في لحظة الممارسة الجنسية، ولولا الحب الذي يعيدنا إلى حالتنا الأولى
لأنه يجعل من الشطرين المنفصلين كائنا كاملا، لما خففت الجروح التي لا يزال
يئن منها البشر، وتبعا لذلك، فإن الجسد في "عري الكائن" كثيرا ما شدنا إلى
هذه اللحظة(ص87):
" صامتة تطرد من داخل صدرها هواء مثقلا بمرارة...
فنجان القهوة بين أناملها المدربة ترفعه بين الفينة و الأخرى إلى حدود
شفتيها الرقيقتين لتلامسا حافته الملساء، راشفة قطرات صغيرة كقطرات ندى
ذابت فيها منذ لحظات قطعة سكر واحدة.
أنت قطعة سكر...همس لها ذات مساء..."
(ص89):
"
ستترك شعرها الأسود الطويل يطفو على صفحة ماء الموجة الزبدة، سيمتزج سواد
شعرها ببياض الزبد...ستقول لجسدها الراعش، انطلق أيها الجسد من عقالك، نض
عنك ثيابك،أقنعتك...حرر أجزاءك العطشى لترتوي من ماء عيون حبيبتك...هو ذا
البحر لك والفضاء لك والليل بسكونه ونجومه لك...لن يكون نزولهما إلى البحر
ليلا، في الليل يسود الصمت..."
إنه تعميق لجمالية الجسد الراغب في
التحرر والارتواء و الحلم...كشعور مبثوث من الباطن تلوذه فينا هذه الرغبة
العنيفة والرائعة التي لا يمكن مقاومتها، فيصبح الجسد على حد
تعبير(مورلوبونتي) هو "موطن ظهور التعبير"،مما يجعله مسكونا بالرغبة في
الاتصال بالجسد الآخر والتحرر من انغلاقه وعزلته:
" انطلق أيها الجسد من عقالك.."
إن
مثل هذه التجليات العفوية للجسد تحفر لنفسها طقسا خاصا بها يجعل من الجسد
يسعى إلى الانفلات من الرتابة و المحيط البارد والحياة المعادة إلى البحر
والليل والحلم لأنها الشاهد الأول على لحظة الارتواء من عيون الحبيب:
"
كم تود لو تظل في حلمها، في الحلم تجده بقربها، تستطيع أن تراه أكثر قربا
منها، كما تحب و تشتهي،قامة معتدلة وعينان يتدفق منهما الدفء،تارة تختارهما
عسليتين، ناعستين وتارة أخرى كحليتين ضاحكتين.."(ص90).
وحين يحضر
الجسد مرتبطا بصورة البحر،فإن ذلك يتم في سياق نفسي يعكس رغبة دفينة في
تحقيق وحدة شاملة مع الوجود،لأن البحر رمز للانهائي،حيث المغامرة والعشق
والإحساس العميق بإنسانية الإنسان(13).
وهنا تتحدد دلالات الجسد في الخاصيات الآتية:
ـ يعيش لحظته عيشا عميقا وشاملا.
ـ يقترن بالمكان إلى درجة الحلول.
ـ ينعم بالدفء و الأمان.
و ينسجم هذا الحضور للجسد مع ما يشع به الجسد من حرارة :
" وما لبثت حدة ضغط يدها على يدي أن خفتت...ولعلها فعلت ذلك لاطمئنانها إلى أنني لا أفكر في التخلص من يدها...".
الجسد الجريح
و
قد اخترنا تسميته بالجريح، رغم أن الجسد في هذا السياق، يرتبط بمرحلة
الطفولة، وهي المرحلة التي يجب أن يشعر فيها الجسد بالدفء و الأمان و
الاطمئنان لأنها المرحلة التي توحي بالبراءة والطهر و الإحساس المثالي
المؤسس على مقولة الخير، إلا أن هذا الأفق يخيب لأن الجسد الطفولي، كما
تقدمه نصوص "عري الكائن"، غالبا ما يكون جريحا ومقهورا و مريضا ومعذبا إلى
درجة الموت، وقلما حضر كرمز يعادل البراءة والطهر كما في هذا الملفوظ(ص39):
"
عثمان، طفل صغير ذو وجه مستدير أبيض كالشمع، مضيء كالبدر وشعر طويل فاحم
السواد وعينان براقتان حالمتان...عثمان لا تعجبه السماء حين تكون متجهمة
دكناء...يحبها في تلك الزرقة الرائقة الشفافة، وعلى جانب منها تتفتح شمس
كأقحوانة ربيع صفراء بعينين كبيرتين وفم يضحك..."
إن الجسد الطفولي في
"عري الكائن" جسد يعيش العذاب في كل لحظة زمنية و في مختلف الأمكنة، وكأن
الغرباوي بهذه الصور يريد أن يكشف عن حقيقة قلما انتبهنا إليها، ويحاول أن
يجسدها بعمق عبر استحضار الجسد الطفولي في مشاهد العذاب والاستغلال و
الموت(ص23):
" في شارع من شوارع المدينة الضاجة حركة، تتحولق جماعة حول
صغير في بركة دم تحت عجلة سيارة، وبالقرب منه زلابيات ملقاة على الأرض...من
بين الأرجل،ينسل طفل حافي القدمين و يسحب زلابية وينفلت هاربا..."
إنه الموت والضياع والمتاهة التي لا تنتهي، ويلتقي هذا الملفوظ المؤسس على الجسد الضائع مع ملفوظ آخر و لو عبر الاسترجاع (ص47):
"
أما أنا، فكلما داهمتني النوبة العصبية، استحضر صورا من طفولتي
البعيدة...منذ صباي و أنا أعيش الضائقة في كل شيء، ضائقة السكن، وضائقة في
الطعام، وضائقة في الحنان...شيء واحد كنت أستشعر فيه راحة واتساعا في
الصدر، هو اللباس، قمصاني كلها كانت كبيرة، وسراويلي عريضة أما قدماي
فكانتا طوال الوقت عاريتين أخذتا من الأرض بعضا من صلابتها وخشونتها..."
إن
الجسد الطفولي هنا يعادل الضائقة، والعذاب والضياع وكأنه حكم عليه بالجرح
الذي لن يلتئم، ومما يزيده جرحا الحرمان من التعلم، وبالمقابل يحضر التشرد
والأنين (ص22):
" وأنت،
كما أنت، كل يوم
تقف أمام باب المدرسة
و إن يعلن جرس المدرسة لحظة الخروج، تشرع في النداء" البينيي...البينيي".
إنها
صورة عن الجسد الطفولي الذي يعبر عن الحرمان والاغتراب والضائقة، حيث
سينتهي إلى الموت بعد أن فقد كل ما يربطه بالحياة، وهو يلتقي أيضا مع هذا
الجسد المريض والذي كان يعيش الاحتضار في كل لحظة نتيجة الداء الذي يسكنه(ص
65):
"طفولتي كلها قضيتها في المرض تلو المرض، وكلما كنت أجتاز مرضا من
تلك الأمراض التي لا تترك من ضحيتها سوى جلد على عظم، كانت الأصوات تصيح،
هاهو الميت يعود إلى الحياة، ومع مرور الزمن، نسي الأهل و الجيران اسمي
ولقبوني" الحي ـ الميت" حين أحمل إلى الفراش وقد علت وجهي صفرة الموت، "
الميت ـ الحي " حين أتماثل للشفاء..." الميت ـ الحي" سيعود بعد ساعات إلى
هرجه و مرجه، إذ برغم ضعفي و سقمي الذي لا يبرح ذاتي ، كنت سيد تلك الساعات
و الأيام التي قضيتها خارج دائرة المرض، أصنع المدهش و العجيب.."
هكذا
الجسد الطفولي يعادل المرض و الحرمان و الموت والنسيان إلى حد الإهمال.
وفي سياق آخر يشكل الجسد الطفولي الحامل للقضيب تحولا عميقا في رؤية الأب،
فهو الذي يعطي للوجود شكله الحقيقي، و كأن وجود الإنسان كفرد يمتاز بكونه
وجودا جسديا ذكوريا، مما يجعل من الجسد يشكل بناء رمزيا محفوفا بقداسة خاصة
جعلت من ذكورته مصدر اعتزاز وافتخار ، إنه الجسد في حالته الأنطولوجية
التي تحقق بقاءنا ووجودنا لأنه جسد قضيبي هويته تكمن في العضو التناسلي،
وبالمقابل، يحيل الجسد الأنثوي على الغرابة و الشقاء والتعاسة والموت، لأن
معرفة الطفل لأناه كما يقول"جاك لاكان" هي تمظهره عاريا أمام المرآة
متلاعبا بقضيبه،مبررا تفوقه أو نرجسيته على الأنثى بما أنها تعاني من عقدة
الإخصاء، وبدل أن يتلاعب الطفل بقضيبه،يتلاعب به الأب و هو في لحظة
احتفال(ص65):
" أراكم تشيحون بأنظاركم عن جسدي، لماذا؟..آه..لأنه يثير
غيظكم...هذا الجزء الصغير من جسدي يستفزكم، و أنا صغير أحبه أبي كثيرا و
كان مصدر اعتزازه وافتخاره و غير ما مرة، حملني بين ذراعيه القويتين عاريا
وقبله وكأنه يقبل شيئا مقدسا و هو يردد في نشوة" أخيرا بيننا رجل".
و بمقابل الاحتفال بالجسد القضيبي وتكريس نرجسيته على الأنثى،يتم تحقير الجسد الأنثوي و الاعتداء عليه(ص70):
"
من يصدق أن رجلا محترما في مثل سنك يعبث بجسد صبية خادمة،كل يوم، حين
تغادر زوجته البيت إلى عملها، نعم، تتظاهر بالخروج قبلها، تصعد إلى سطح
العمارة ، تعد الثواني و الدقائق، ثم تنزل عائدا إلى البيت، الباب غير
مسدود،علامة خروجها...عليك اللعنة، علمت الصبية، وحين تدخل تجدها عارية
تنتظر".
هكذا يتضح من خلال هذا الملفوظ وغيره أن الجسد الطفولي مبحث
خصب تستدعي مقاربته تضافر مستويات معرفية عديدة أدبية وسيكولوجية واجتماعية
وأنثربولوجية...لأنه جسد دال ومفتوح على العديد من الدلالات و
الإيحاءات(14).
و
قد اخترنا تسميته بالجريح، رغم أن الجسد في هذا السياق، يرتبط بمرحلة
الطفولة، وهي المرحلة التي يجب أن يشعر فيها الجسد بالدفء و الأمان و
الاطمئنان لأنها المرحلة التي توحي بالبراءة والطهر و الإحساس المثالي
المؤسس على مقولة الخير، إلا أن هذا الأفق يخيب لأن الجسد الطفولي، كما
تقدمه نصوص "عري الكائن"، غالبا ما يكون جريحا ومقهورا و مريضا ومعذبا إلى
درجة الموت، وقلما حضر كرمز يعادل البراءة والطهر كما في هذا الملفوظ(ص39):
"
عثمان، طفل صغير ذو وجه مستدير أبيض كالشمع، مضيء كالبدر وشعر طويل فاحم
السواد وعينان براقتان حالمتان...عثمان لا تعجبه السماء حين تكون متجهمة
دكناء...يحبها في تلك الزرقة الرائقة الشفافة، وعلى جانب منها تتفتح شمس
كأقحوانة ربيع صفراء بعينين كبيرتين وفم يضحك..."
إن الجسد الطفولي في
"عري الكائن" جسد يعيش العذاب في كل لحظة زمنية و في مختلف الأمكنة، وكأن
الغرباوي بهذه الصور يريد أن يكشف عن حقيقة قلما انتبهنا إليها، ويحاول أن
يجسدها بعمق عبر استحضار الجسد الطفولي في مشاهد العذاب والاستغلال و
الموت(ص23):
" في شارع من شوارع المدينة الضاجة حركة، تتحولق جماعة حول
صغير في بركة دم تحت عجلة سيارة، وبالقرب منه زلابيات ملقاة على الأرض...من
بين الأرجل،ينسل طفل حافي القدمين و يسحب زلابية وينفلت هاربا..."
إنه الموت والضياع والمتاهة التي لا تنتهي، ويلتقي هذا الملفوظ المؤسس على الجسد الضائع مع ملفوظ آخر و لو عبر الاسترجاع (ص47):
"
أما أنا، فكلما داهمتني النوبة العصبية، استحضر صورا من طفولتي
البعيدة...منذ صباي و أنا أعيش الضائقة في كل شيء، ضائقة السكن، وضائقة في
الطعام، وضائقة في الحنان...شيء واحد كنت أستشعر فيه راحة واتساعا في
الصدر، هو اللباس، قمصاني كلها كانت كبيرة، وسراويلي عريضة أما قدماي
فكانتا طوال الوقت عاريتين أخذتا من الأرض بعضا من صلابتها وخشونتها..."
إن
الجسد الطفولي هنا يعادل الضائقة، والعذاب والضياع وكأنه حكم عليه بالجرح
الذي لن يلتئم، ومما يزيده جرحا الحرمان من التعلم، وبالمقابل يحضر التشرد
والأنين (ص22):
" وأنت،
كما أنت، كل يوم
تقف أمام باب المدرسة
و إن يعلن جرس المدرسة لحظة الخروج، تشرع في النداء" البينيي...البينيي".
إنها
صورة عن الجسد الطفولي الذي يعبر عن الحرمان والاغتراب والضائقة، حيث
سينتهي إلى الموت بعد أن فقد كل ما يربطه بالحياة، وهو يلتقي أيضا مع هذا
الجسد المريض والذي كان يعيش الاحتضار في كل لحظة نتيجة الداء الذي يسكنه(ص
65):
"طفولتي كلها قضيتها في المرض تلو المرض، وكلما كنت أجتاز مرضا من
تلك الأمراض التي لا تترك من ضحيتها سوى جلد على عظم، كانت الأصوات تصيح،
هاهو الميت يعود إلى الحياة، ومع مرور الزمن، نسي الأهل و الجيران اسمي
ولقبوني" الحي ـ الميت" حين أحمل إلى الفراش وقد علت وجهي صفرة الموت، "
الميت ـ الحي " حين أتماثل للشفاء..." الميت ـ الحي" سيعود بعد ساعات إلى
هرجه و مرجه، إذ برغم ضعفي و سقمي الذي لا يبرح ذاتي ، كنت سيد تلك الساعات
و الأيام التي قضيتها خارج دائرة المرض، أصنع المدهش و العجيب.."
هكذا
الجسد الطفولي يعادل المرض و الحرمان و الموت والنسيان إلى حد الإهمال.
وفي سياق آخر يشكل الجسد الطفولي الحامل للقضيب تحولا عميقا في رؤية الأب،
فهو الذي يعطي للوجود شكله الحقيقي، و كأن وجود الإنسان كفرد يمتاز بكونه
وجودا جسديا ذكوريا، مما يجعل من الجسد يشكل بناء رمزيا محفوفا بقداسة خاصة
جعلت من ذكورته مصدر اعتزاز وافتخار ، إنه الجسد في حالته الأنطولوجية
التي تحقق بقاءنا ووجودنا لأنه جسد قضيبي هويته تكمن في العضو التناسلي،
وبالمقابل، يحيل الجسد الأنثوي على الغرابة و الشقاء والتعاسة والموت، لأن
معرفة الطفل لأناه كما يقول"جاك لاكان" هي تمظهره عاريا أمام المرآة
متلاعبا بقضيبه،مبررا تفوقه أو نرجسيته على الأنثى بما أنها تعاني من عقدة
الإخصاء، وبدل أن يتلاعب الطفل بقضيبه،يتلاعب به الأب و هو في لحظة
احتفال(ص65):
" أراكم تشيحون بأنظاركم عن جسدي، لماذا؟..آه..لأنه يثير
غيظكم...هذا الجزء الصغير من جسدي يستفزكم، و أنا صغير أحبه أبي كثيرا و
كان مصدر اعتزازه وافتخاره و غير ما مرة، حملني بين ذراعيه القويتين عاريا
وقبله وكأنه يقبل شيئا مقدسا و هو يردد في نشوة" أخيرا بيننا رجل".
و بمقابل الاحتفال بالجسد القضيبي وتكريس نرجسيته على الأنثى،يتم تحقير الجسد الأنثوي و الاعتداء عليه(ص70):
"
من يصدق أن رجلا محترما في مثل سنك يعبث بجسد صبية خادمة،كل يوم، حين
تغادر زوجته البيت إلى عملها، نعم، تتظاهر بالخروج قبلها، تصعد إلى سطح
العمارة ، تعد الثواني و الدقائق، ثم تنزل عائدا إلى البيت، الباب غير
مسدود،علامة خروجها...عليك اللعنة، علمت الصبية، وحين تدخل تجدها عارية
تنتظر".
هكذا يتضح من خلال هذا الملفوظ وغيره أن الجسد الطفولي مبحث
خصب تستدعي مقاربته تضافر مستويات معرفية عديدة أدبية وسيكولوجية واجتماعية
وأنثربولوجية...لأنه جسد دال ومفتوح على العديد من الدلالات و
الإيحاءات(14).
الجسد العصابي
إننا
حين نتأمل ما قد ينتاب أجسادنا من إحساسات قد يولدها الشعور بالقلق
والاضطراب،فإن الجسد هنا يمكن أن يوصف بأنه جسد عصابي يعيش لحظة انزعاج
داخلي، فكل سلوك يقوم به ، وكل وظيفة يؤديها قد تحمل معنى يظهر منعكسا على
مستوى الذات التي قد تنعت بالتمرد فتتجاوز ذاتها ليصبح الجسد عبارة عن
علاقة لها مدلولاتها الخاصة ،دون حاجة إلى اللغة، لأن الجسد هنا يصبح أفضل
نموذج يعبر عن طبيعته الخاصة، ويفصح عنها بشكل صريح،فهو لا يعبر فقط عن
رغبة قد تمتلك كيانه ككل، وإنما يعبر أيضا عن وجوده وفق شعور معين، ولعل
الصورة التي ترسمها نصوص "عري الكائن" في هذا السياق تجعل من الجسد جسدا
عصابيا لا تدرك حقيقته إلا وفق استحضار كل الانعكاسات العصابية(ص69):
"حقيقة
أنا أنسى.. وكنت قد التجأت إلى النسيان كوسيلة، من زمان، لمحاربة ضغط
الدم، وحرق الأعصاب،وهول الصدمات، وفعلا وجدت في النسيان راحتي فأدمنته و
أنا أعرف أنني بهذه الطريقة أدفع الثمن غاليا".
فالجسد هنا شاهد على
النسيان ليس موضوعا خارجا عنه أو معنى جزئيا من معانيه، بل إن النسيان هو
المعنى الكلي و المعيش من الداخل و الحامل المباشر لهموم الجسد، ورغم ذلك،
فإنه وسيلة الخلاص من ضغط الدم، واحتراق الأعصاب، وهول الصدمات، وكما يقر
الجسد بحقيقة عصابية، ويعبر عنها بصراحة متناهية لأنه قد بلغ درجة لا تسمح
إلا بالبوح وبذلك سيحافظ على توازنه(ص:47):
"أعترف أني عصبي المزاج...
الغاوون
ملاحظات وتحاليل، جعلوا من شخصي المتواضع مجالا لاشتغالاتهم واجتهاداتهم
الفكرية، فمن القائل أن عصبيتي لها علاقة بسوء التغذية و المناخ، إلى
القائل، إنها أسلوب جديد من أساليب الاحتجاج السياسي، أما جماعة أخرى
فاعتبرت عصبيتي نتاج شيطاني لها علاقة باكتمال القمر واستدارته وتحوله إلى
بدر".
إلا أن هذا الاعتراف بعصبية الجسد سرعان ما يتحول إلى نار رهيبة
تندلع بالداخل ثم تتحول إلى صراخ يدمر الجسد بسبب العجز والاستفزاز(ص55):
" تضيق بعيني الدنيا وتندلع بداخلي نيران رهيبة ويعلو صرير أنفاسي، فأصرخ، أصرخ صرختي المعهودة، وأضرب على صدري..."
إنها صورة للإنسان الذي يحاول أن يدرك ويعرف جسده، ويعرف ما حوله، وبقدر ما يعرف ما يحيط به تتعزز معرفته و تتعمق بجسده.
بهذا
الحضور المختلف للجسد في "عري الكائن" والذي تتعدد دلالاته بتعدد القراءة،
أدركنا أن الإنسان ـ كما أشار ديكارت ـ يسكن جسده و يعيشه جسدا مندمجا وسط
عالم مألوف من الأفعال و الانفعالات التي تكتسي معاني ودلالات، أي أن
السلوك الجسدي لا يمكن تفسيره بلغة المثيرات والاستجابات، بقدر ما هو فعل
عام إزاء موقف من المواقف الدالة بالنسبة للجسد نفسه.
إننا
حين نتأمل ما قد ينتاب أجسادنا من إحساسات قد يولدها الشعور بالقلق
والاضطراب،فإن الجسد هنا يمكن أن يوصف بأنه جسد عصابي يعيش لحظة انزعاج
داخلي، فكل سلوك يقوم به ، وكل وظيفة يؤديها قد تحمل معنى يظهر منعكسا على
مستوى الذات التي قد تنعت بالتمرد فتتجاوز ذاتها ليصبح الجسد عبارة عن
علاقة لها مدلولاتها الخاصة ،دون حاجة إلى اللغة، لأن الجسد هنا يصبح أفضل
نموذج يعبر عن طبيعته الخاصة، ويفصح عنها بشكل صريح،فهو لا يعبر فقط عن
رغبة قد تمتلك كيانه ككل، وإنما يعبر أيضا عن وجوده وفق شعور معين، ولعل
الصورة التي ترسمها نصوص "عري الكائن" في هذا السياق تجعل من الجسد جسدا
عصابيا لا تدرك حقيقته إلا وفق استحضار كل الانعكاسات العصابية(ص69):
"حقيقة
أنا أنسى.. وكنت قد التجأت إلى النسيان كوسيلة، من زمان، لمحاربة ضغط
الدم، وحرق الأعصاب،وهول الصدمات، وفعلا وجدت في النسيان راحتي فأدمنته و
أنا أعرف أنني بهذه الطريقة أدفع الثمن غاليا".
فالجسد هنا شاهد على
النسيان ليس موضوعا خارجا عنه أو معنى جزئيا من معانيه، بل إن النسيان هو
المعنى الكلي و المعيش من الداخل و الحامل المباشر لهموم الجسد، ورغم ذلك،
فإنه وسيلة الخلاص من ضغط الدم، واحتراق الأعصاب، وهول الصدمات، وكما يقر
الجسد بحقيقة عصابية، ويعبر عنها بصراحة متناهية لأنه قد بلغ درجة لا تسمح
إلا بالبوح وبذلك سيحافظ على توازنه(ص:47):
"أعترف أني عصبي المزاج...
الغاوون
ملاحظات وتحاليل، جعلوا من شخصي المتواضع مجالا لاشتغالاتهم واجتهاداتهم
الفكرية، فمن القائل أن عصبيتي لها علاقة بسوء التغذية و المناخ، إلى
القائل، إنها أسلوب جديد من أساليب الاحتجاج السياسي، أما جماعة أخرى
فاعتبرت عصبيتي نتاج شيطاني لها علاقة باكتمال القمر واستدارته وتحوله إلى
بدر".
إلا أن هذا الاعتراف بعصبية الجسد سرعان ما يتحول إلى نار رهيبة
تندلع بالداخل ثم تتحول إلى صراخ يدمر الجسد بسبب العجز والاستفزاز(ص55):
" تضيق بعيني الدنيا وتندلع بداخلي نيران رهيبة ويعلو صرير أنفاسي، فأصرخ، أصرخ صرختي المعهودة، وأضرب على صدري..."
إنها صورة للإنسان الذي يحاول أن يدرك ويعرف جسده، ويعرف ما حوله، وبقدر ما يعرف ما يحيط به تتعزز معرفته و تتعمق بجسده.
بهذا
الحضور المختلف للجسد في "عري الكائن" والذي تتعدد دلالاته بتعدد القراءة،
أدركنا أن الإنسان ـ كما أشار ديكارت ـ يسكن جسده و يعيشه جسدا مندمجا وسط
عالم مألوف من الأفعال و الانفعالات التي تكتسي معاني ودلالات، أي أن
السلوك الجسدي لا يمكن تفسيره بلغة المثيرات والاستجابات، بقدر ما هو فعل
عام إزاء موقف من المواقف الدالة بالنسبة للجسد نفسه.
الهوامش:
(1) إبراهيم محمود: الجسد العربي الجريح. كتابات معاصرة ع:20 ص96/1994.
(2) جلال الدين سعيد: فلسفة الجسد ـ دار أمية للنشر ـ تونس 1993.
(3) رولان بارث: الجسد أيضا و أيضا ـ العرب و الفكر العالمي،ع7 ،1989.
(4) عبد الحميد الغرباوي: عري الكائن،قصص قصيرة،طبع ونشر الاتحاد الأخوي1994.
(5) رولان بارث: لذة النص ـ ترجمة فؤاد صفا و الحسين سبحان ـ دار نوبقال للنشر 1988.
(6) عبد الحميد الغرباوي: عري الكائن ـ قصص قصيرة ـ نشر الاتحاد الأخوي 1994.
(7) رولان بارث: الجسد أيضا و أيضا.
( إبراهيم محمود: الجسد الاستعراضي ـ كتابات معاصرة،ع:19 ص: 32/1993.
(9) المرجع نفسه.
(10) رولان بارث: الجسد أيضا و أيضا.
(11) رولان بارث: لة النص ـ ص:19.
(12) منصف الوهايبي: الجسد في الشعر الجاهلي ـ الحياة الثقافية 1993.
(13) انظر مقالنا المنشور بجريدة الاتحاد الاشتراكي (م.ث)14 أكتوبر 1994.
ميثولوجيا البحر (المجموعة القصصية : رائحة الورس،لعبد النبي داشين).
(14) أحمد فرشوخ: لغة الجسد في نماذج من القصة المغربية ـ كتابات معاصرة ـ ع:22 ـ ص: 115
تنويه: نشرت هذه الدراسة بالملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي:28 يوليوز1995
--------
ـ سبينوزا ـ