[center]في نظرية السرد وتحليل الخطاب ـــ د: عز الدين بوبيش
السرد هو طريقة الحكي والإخبار ويسمى الخطاب. وقد كان منذ وجد الإنسان، وفي كل المجتمعات. ونجده في اللغة المكتوبة وفي اللغة الشفوية، كما نجده في لغة الإشارات والإيماء وفي الرسم والتاريخ، وفي كل ما نقرأه أو نسمعه، سواء أكان كلاماً عادياً أم فنياً. فهو بذلك عام ومتعدد ومتنوع. ومنه انحدرت الأجناس السردية الأدبية المعروفة قديماً وحديثاً كالأساطير والخرافات والحكايات الشعبية والمقامات والقصص والروايات.. الخ. ولكل إنسان في الحياة طريقة في الحكي، ومن ثم كان الرصيد المتراكم من السرود عبر التاريخ يعد بالملايين، فمنها ما هو مدون ومنها ما نتناقله عبر المشافهة ومنها ما ضاع لعدم تدوينه والمحافظة عليه أو بسبب إهماله.
وأمام هذا الركام الهائل من أنواع السرد وطرق الحكي احتاج الدارس إلى أن يبحث عن نظرية أو قواعد تضبط هذه الأعمال وتصنفها –شأنها في ذلك شأن باقي عناصر الحياة ومجالات العلوم المختلفة- لرصد مكوناتها والعلاقات فيما بينها للوصول إلى معرفة كيفية اشتغالها.
ولتحديد هذه النظرية وضبط قواعدها ينبغي الوقوف عند الأشكال التعبيرية السردية، وقد فعلت الدراسات القديمة شيئاً من ذلك من خلال الدراسات التاريخية للأدب، إلا أن هذه الدراسات كانت سطحية في عمومها، وحبيسة نظرة عابرة غير متخصصة لغياب المنهج الدقيق المناسب لمثل هذه العملية. وأمام هذا الركام الهائل من أنواع السرد وطرق الحكي –كما أسلفت- وجد الدارس نفسه في حاجة إلى ضبط هذا اللامحدود من السرود، وفق خطة عمل شاملة يمكن في ضوئها دراسة أي نص سردي مهما كان نوعه أو مصدر بيئته أو نوعية لغته. وهو ما يشبه العمل الذي قام به العالم السويسري "دوسوسير" عندما أراد دراسة اللغة. فوجد نفسه محاصراً بحوالي 3000 لغة. ورغم ما واجهه من صعوبات إلا أنه استطاع أن يضبط هذه اللغة على اتساعها وتنوعها، وأصبحنا نتعامل مع النصوص انطلاقاً مما توصل إليه هذا العالم وغيره من علماء اللغة الذين أسهموا في بناء نظرية اللغة.
وإن السؤال الذي واجه دارس السرد هو كيف يمكن ضبط هذا اللامحدود وجعله قابلاً للتحكم فيه والإمساك به؟، إنها صعوبة أكثر من تلك التي واجهت "دوسوسير" بلا شك، لأن المسألة أوسع وأعقد. فمن يتحمل إذن عبء هذه المسألة ويقبل مثل هذه المهمة التي مجرد التفكير فيها هو ضرب من المستحيل –على الأقل- كما تهيأ للبعض؟.
إن البنيويين هم الذين تحملوا عبء هذه المهمة، ورأوا أنها من صلاحياتهم، وبإمكانهم تحديد هذا اللامحدود وتطويعه لآليات تكشف عنها نصوص هي نصوص سردية بلاشك. وتعد الأبحاث التي قام بها الشكلانيون الروس وغيرهم من الشكلانيين، البدايات الأولى لنقد القصة والرواية، من منظور بنيوي صرف محاولة منهم الوقوف على الفوارق الفاصلة بين أشكال النصوص ولاسيما بين القصة والرواية، لكونهما شكلين أدبيين مختلفين، يتميز كل منهما بمواصفات معينة وبتقنيات خاصة، تتصل بطوابع مهيمنة أو بقواعد النوع. لكن أي هذه النصوص السردية تكون النموذج الأنسب لمثل هذه الدراسة؟.
إن النصوص التي وقع عليها الاختيار كانت منتقاة بحسب الشروط التي تكفي لرصد كل ملابسات السرد وحيثياته بوجه عام، وغربية بطبيعة الحال، ما دام المنهج غربياً والدارس غربياً أيضاً. وهذا بعد أن عملوا على إقصاء الكثير من الأشكال التعبيرية التي تفتقر إلى الفن أو تلك التي لا علاقة لها مع الأدب. فلم يبق أمامهم إلا ما نعرفه من أجناس السرد الحكائي والقصصي والروائي.. عمدوا ينظرون فيها ويقلبون نصوصها على مختلف الأوجه بغية استنباط أحكام على بنياتها في ضوء منهجهم البنيوي الذي رأوا أنه الكفيل بإنتاج مثل هذه النظرية. وحتى بعض هذه الأجناس الأدبية التي عادوا إليها قفزوا عليها لبساطتها، رغم ما تقدمه لهم من فائدة، واكتفوا بالنظر في جنس الرواية أكثر من غيره –رغم تأخر ظهوره قياساً إلى الكثير من الأجناس الأدبية الأخرى ولاسيما القديمة منها –وذلك لأن جنس الرواية يمكن أن يكون النموذج الذي يعول عليه، لما يتوافر عليه من عناصر ومكونات نجدها في باقي الأجناس الأدبية الأخرى والعكس غير صحيح.
وبعد تحديد مجال انحصار أبحاثهم في مجال جنس الرواية، تقريباً، للسبب المذكور آنفاً، واجههم سؤال جوهري هو من أين تكون بداية البحث؟ من اللغة طبعاً، ما دامت اللغة هي الشكل الأبرز في ذلك. واللغة ما دام –كما نعلم- تقدمت أبحاثها بفضل جهود اللسانيين على رأسهم "دوسوسير" قالوا: فلنبدأ إذن من حيث انتهت اللسانيات. ولما كانت حدود البحث في مجال اللسانيات هي الجملة، فلنبدأ من ما بعد الجملة. ولكن وجدوا أن ما بعد الجملة ليس إلا جملاً تنتهي مجتمعة إلى جملة كبيرة. ومن ثم طرحوا إمكانية توسيع اللسانيات لمجال أبحاثها لتشمل النص كاملاً، واقتنع اللسانيون بالفكرة فظهر ما يعرف بلسانيات النص أو لسانيات الخطاب.
ولكن إذا كانت اللسانيات تبحث في بنية الجملة التي تشمل وحدات قابلة للوصف، وتنظر إليها –أي إلى الجملة- على أنها أصغر وحدة لها معنى، وتقصر دراستها في البحث عن نظامها، فتكشف عن كيف ينتظم الحرف في الكلمة والكلمة في الكلمة إلى أن تنتج الجملة. فإن البنيوية تذهب إلى أبعد من ذلك فترى أن أصغر وحدة في الجملة لها معنى قد تكون (الكلمة)، وأن المعنى إذا كان في الجملة عند اللسانيين ينتج من نهايتها، فإن المعنى عند البنيويين لا يوجد في نهايتها وإنما يخترقها.
بالإضافة إلى وجود مكونات ووحدات أخرى أغفلها الدرس اللساني، أو كان ينظر إليها من زاوية أخرى، باعتبار ذلك خارج اختصاصه كـ: الزمن والمكان (الفضاء) والضمائر (الشخوص والأشياء) والأفعال والرؤية والصيغة... الخ. وهي عناصر تنتظم داخل النص السردي بطرق مختلفة، وتتميز من جنس أدبي إلى جنس أدبي آخر. وهي نفسها قابلة للوصف والتحليل لما تشتمل عليه من بنيات خاصة نلمسها عند الإصغاء لخصوصية كل نص ونوعية تركيبة خطابه.
فالنص السردي الحكائي أو القصصي أو الروائي يمر عبر قناة هي:
الراوي ـــ الحكاية ـــــ المتلقي
فلا توجد رواية بدون راو. لأن نقل الوقائع وتقديمها في قالب لغوي –شفاهي أو كتابي- يستوجب حضور هيئة تلفظية، هي شخصية السارد. التي تقوم بالتعبير عن هذه الأفعال والأحداث، العاجزة عن التعبير عن نفسها بنفسها. فشخصية السارد، تمثل بصوتها محور القصة أو الرواية، ((إذ يمكن ألا نسمع صوت الكاتب إطلاقاً، ولا صوت الشخصيات، ولكن بدون سارد، لا توجد قصة أو رواية))(1). وهنا ينبغي أن نشير إلى أن السارد ليس دائماً هو الكاتب، وإن كان قادراً على إخفاء نفسه وراء شخصية رئيسية تعبر عن رؤية العالم.
وقد تحاشت الدراسات الحديثة الوقوع في الخطأ الذي وقع فيه الدارسون القدامى، عندما كانوا يربطون النص بالكاتب، وينسبون إليه كل تبعات الحكي. وتحرت هذه الدراسات الدقة في التمييز بين ما هو خاص بالكاتب وماهو خاص بالسارد، انطلاقاً من أسس معرفية تخص النص والكاتب معاً. تنطلق من أن ((هناك مسافة تفصل بين الروائي والراوي، فهذا لا يساوي ذاك، إذ أن الراوي قناع من الأقنعة العديدة التي يتستر وراءها الروائي لتقديم عمله))(2). كما أن كل سرد يستوجب سارداً، فإنه يستوجب مسروداً له أيضاً وقد أدرك الشكلانيون الروس، وغيرهم من الدارسين للرواية، هذه العلاقة الموجودة بين السارد والقارئ، فدعوا إلى العناية بها. إلا أنه بالرغم مما لهذه الشخصية (القارئ) المتخيلة من أهمية في صنع الخطاب السردي، فإن الاهتمام بها، مع ذلك، ظل محدوداً وضئيلاً، إذا ما قورن بحجم الدراسات التي خصت بها شخصية السارد.
وما دام الخطاب السردي كباقي أنواع الخطابات الأخرى، يحتاج إلى متكلم ومستمع، فإنه بدونهما يفقد معناه، ويتحول هذياناً لا مبرر له. وهو ما يفسر حرص الكتاب/ الرواة، على أن يكون سردهم استجابة واعية لدعوة صادرة عن المسرود له، إن لم نقل إنه يتأسس عليه في بعض الأحيان، ولكن من غير أن تكون وجهة النظر صادرة عنه. يقول "بيرسي لوبوك": ((إنني مازلت أفترض أن الرواية الجديرة بالاعتبار هي الرواية التي تتطلب –في الواقع معظم الروايات كذلك- وجهة نظر ليست صادرة عن القارئ))(3). والحقيقة أنه بمجرد ما يعلن المتكلم عن نفسه، ويتسلم مقاليد اللغة، فإنه يغرس الآخر أمامه، كيفما كانت درجة الحضور التي يمنحها لهذا الآخر، لأن عملية السرد مشروطة، أساساً، باحتوائها على العناصر الثلاثة الرئيسية الضرورية لكل خطاب، وهي: السارد أو المرسل، والمسرود له أو المتلقي، والمتن الحكائي أو الرسالة.
ونحن بوصفنا قراء، لا ندرك المتن الحكائي إدراكاً مباشراً وأولياً، قبل إدراك السارد له، فهو الذي ندرك، من خلاله، أنواع العلاقات التي يقيمها مع شخصيات عالمه التخييلي، مما يكون له بدون شك انعكاسات واضحة على شكل تلقينا له. وهذه الطريقة التي يتم بها إدراك الحكاية من قبل السارد هي ما قصدها "تودوروف" بمصطلح (جهات الحكي). ولها مصطلحات أخرى متنوعة منها: وجهة النظر، الرؤية السردية، التبئير، المنظور، مظاهر السرد... الخ. وغيرها من المصطلحات الأخرى التي تفيد جميعها الطريقة التي يتم بها إدراك القصة أو الرواية من قبل السارد. وقد حدد "جون بويون" هذه الجهات (الرؤيات) التي تتخذ أصنافاً رئيسية ثلاثة في: السارد الشخصية الروائية "الرؤية من الخلف" /السارد الشخصية "الرؤية مع"/ السارد الشخصية "الرؤية من الخارج". وهذه الأصناف الثلاثة هي التي يلتزم بها "تودوروف" في إبراز جهات الحكي مع تعديل طفيف(4). وقد طالعتنا بها "يمنى العيد" التي أعادت صياغتها، في ظل تعاملها مع النص القصصي العربي، ولاحظت من خلال الراوي وعلاقته بما يرويه نوعين من الرواة، راو يحلل الأحداث من الداخل فهو إما: بطل يروي قصته بضمير الـ أنا (راو حاضر). كاتب يعرف كل شيء، إنه راو كلي المعرفة رغم أنه راو غير حاضر. أما الراوي الذي يراقب الأحداث من الخارج فهو إما: راو شاهد (حاضر لكنه لا يتدخل). كاتب يروي ولا يحلل إنه ينقل لكن بوساطة(5).
وإذا كان مصطلح جهات الحكي (الرؤية السردية) يتعلق بالطريقة التي يتم من خلالها إدراك القصة بوساطة الراوي فإن مصطلح (صيغة السرد) يتعلق بالطريقة التي يقدم بها الراوي القصة أو يعرضها. وهذان العنصران هما أكثر أهمية في القصة والرواية، لما يقومان به من دور كبير في جلب انتباه القارئ نحو سير الأحداث وتطور الأفعال، فالموضوع ليس كل شيء في القصة، وإنما المهم، هو طريقة المعالجة لهذا الموضوع وتجليته. وكان الدارسون يميزون في دراساتهم للسرد بين أشكال تعبيرية ثلاثة تخص خطاب المتكلم في النص هي: الأسلوب المباشر/ والأسلوب غير المباشر/ والأسلوب غير المباشر الحر. يتعلق الأسلوب الأول، في أي عمل أدبي، بكلام الشخصية عندما تتحدث بنفسها إلى نفسها من دون وساطة أو عندما تتحدث إلى غيرها، ففي الأولى نكون أمام (المونولوج) وفي الثانية نكون أمام (الحوار). وهما طريقتان يفسح فيهما الراوي المجال للشخصية لكي تتولى إدارة الحديث بذاتها وبشكل مباشر. ويسمى هذا النوع من الأسلوب (العرض). وباستعمال الراوي لهذا الأسلوب يبقي للمتكلم خصوصيته التعبيرية في مستوياتها الإيقاعية (الصوتية) والدلالية والجمالية. ويوفر للقارئ مصداقية تضمن له الانسجام مع النص بشكل أفضل. وهي تقنية تعزز الثقة بين الراوي والقارئ من جهة، وتكشف عن معالم الشخصية وعوالمها بشكل أوضح وأدق لا هيمنة للراوي فيها من جهة ثانية. والأسلوب الثاني، يطلق على كلام الشخصية المسرود بوساطة الراوي، وهو ما يجعله يأتي بصوته، وإن كان لغيره، لأن الراوي يتصرف فيه، ولا يبقيه على حرفيته. وبهذا التصرف لا يمكن نقل الكلام دون تحولات تسلبه هويته التي هي الأصل في الحكي. وتجعل الخصوصية التعبيرية للشخصية تضمحل، وتفقد الجملة المحكية بذلك نبرتها التأثيرية. وتصبح وجهة نظر الشخصية، في ضوء هذه التحولات، غير معززة ولا مبررة، لأن ((كل أنواع الإيجاز والحذف وغيرها مما هو مقبول في الخطاب المباشر، والتي تطال عناصر انفعالية وعاطفية ليست مقبولة في الخطاب غير المباشر، بسبب الميل التحليلي لهذا الأخير))(6). وهذا ما يفقد النص حرارته وحيويته، وينزع عنه المصداقية في الكلام، ويجعل القارئ في معزل عن الشخصية، لأن الراوي أصبح هو المهيمن على كل شيء يجري حولها. وأما الأسلوب الثالث، فهو أسلوب يزاوج بين الخطاب المباشر وغير المباشر، بحيث يستعير من الخطاب المباشر النغمة ونظام الكلمات وترتيبها، ومن الخطاب غير المباشر الأزمنة وضمائر الأفعال. وهذا النوع من الأسلوب يعطي للكاتب حرية أكبر في نسج كلام الشخصية داخل كلام الراوي، مما يجعله ملتبساً ومتداخلاً، فهو يكون على هذا الحال، منقولاً بصوت الراوي ومنقولاً بصوت الشخصية مباشرة وفي آن واحد. ولكنه –بالرغم من هذا التداخل- فإنه يحفظ لكلام الشخصية واقعيته ونبرته التي تسوغ الأخبار والوقائع التي جرت في النص.
هذه هي الأساليب الثلاثة التي ينتظمها الكلام، فمنها ما ينقل لذاته وبذاته، ومنها ما ينقل عن غيره، ومنها ما يجمع بينهما.
والأفعال في النص السردي الأدبي نوعان: أفعال ديناميكية تنمو مع وقائع السرد، وأفعال قارة أسميها (الأحداث)، لأنها تنتهي بانتهاء وقوعها مباشرة ولا وجود لاستمرار لها في السرد، فالأولى نامية والأخرى ثابتة. والفعل والحدث هو عبارة عن متواليات كبرى تنبثق عنها متواليات صغرى يمكن حصر مدلولاتها بالنظر إلى دلالاتها. ولا توجد في النص وحدة ضائعة، فكل شيء مهما بدا لنا بسيطاً يكون له دور في العمل السردي إن لم يكن على مستوى الأفعال (الوظائف) يكون على مستوى الزينة والديكور... وتكون له دلالة مفيدة في فهم أبعاد المتوالية التي يظهر فيها. ومن هنا اعتبر البنيويون ما ينشط داخل النص السردي (حوافز مشتركة) لاشتراكها مع بعضها البعض داخل النص، وما لا ينشط داخله (علامات أو وحدات إدماجية)، ويرون أن غياب العلامة في النص لا يخل ببنيته، كالأحداث والأشياء التي تذكر مجرد الذكر والوصف.. وهي تحيلنا على المعنى فقط، بينما غياب أي حافز مشترك –وهو الذي يحيلنا على وظيفة- يؤثر على التركيبة البنائية للنص فيهز وحدتها.
وتتمفصل وحدات النص وفق خطة تختلف من كاتب /راوي إلى آخر، بحسب نظرة كل واحد، فهناك وحدات كبرى ووحدات صغرى توزع داخل النص بالشكل الذي يضمن لها الانصهار والتوازن، وتظهر مقبولة الصياغة فنياً رغم مخالفتها للواقع الذي هو المادة التي تسبق الأدب. فتظهر العلاقات التراتبية والعلاقات الإدماجية، ونشهد تقديمات وتأخيرات يقبلها العقل في صورها المعروضة، إلى جانب وجود مساحات للقارئ داخل النص يوفرها له الكاتب/ الراوي، ليستريح فيها أو ليتحرك وفقاً لها، أو لينفذ من خلالها إلى التجربة الإبداعية ليصبح عنصراً من عناصرها، وهو الضمان الذي رأى الكاتب/ الراوي أنه، من خلاله، سيسمح للقارئ بملاحقة أفكاره، لأن القارئ محور في النص شئنا أم أبينا. وقد علم القدامى ما للقارئ أو المتلقي من أهمية، فظل ببالهم قبل الكتابة وبعدها، وكثيراً ما تردد ذلك على ألسنتهم، وإن لم يكن بالشكل المدروس كما تسعى إلى ذلك الدراسات الحديثة ومنها البنيوية.
وترى البنيوية في تحليلها للنص السردي (الخطاب) أن عنصر الزمن فني لاستحالة تكراره في صورته الأصل (الواقع)، وهو المعول عليه كثيراً في بناء النص، ولذلك كانوا يقولون عن جنس الرواية! إنه فن زمني، وهو يتوزع على الأزمنة الثلاثة المعروفة (ماضي، حاضر، مستقبل). والكاتب/ الراوي يتصرف في لعبته مع الزمن بحسب ما يراه، فتراه يقدم أو يؤخر أو يبطئ أو يسرع أو يتوقف أو يقفز، وكل ذلك يعرض من وجهة فنية خاصة.
ولأهمية عنصر الزمن في العمل السردي، أرى أنه كفيل وحده بأن يعتمد عليه في مسألة الفرق بين القصة والرواية وكذلك في الفرق بينهما وبين الحكاية، فالقصة، من وجهة نظري، تدور أحداثها في زمن الماضي وتظل فيه، والرواية تدور أحداثها في الزمن الحاضر وتتطلع إلى المستقبل، وقد تتضمن حديثاً عن زمن الماضي إلا أن السيطرة لا تكون له. وأما الفرق بينهما، أي القصة والرواية، وبين الحكاية فيظهر على مستوى التراتبية والسببية التي تجري فيها الوقائع حسب زمن الواقع في الحكاية، وبروز التصرف في الزمن بما يخالف الواقع في القصة والرواية. هذا بالإضافة إلى معايير أخرى تتراوح بين البساطة والتعقيد.. الخ، وليس يعود الفرق إلى مسألة الكم أو الحجم كما علمونا، إذ هناك روايات أقل حجماً من القصص والعكس صحيح أيضاً.
ويتضمن زمن السرد نوعين من الزمن: زمن القصة وزمن الخطاب، يكون الأول متعدد الأبعاد، إذ يمكن لأحداث كثيرة أن تجري في آن واحد. لكن زمن الخطاب ملزم بأن يرتبها ترتيباً متتالياً يأتي الواحد منها بعد الآخر، لأغراض جمالية يراها الكاتب.
وقد رأى "تودوروف" أن العمل السردي الأدبي مادة وبناء، فالمادة هي القصص (الحكايات) والبناء هو الخطاب. والخطاب نفسه مادة وخطاب في الوقت نفسه، بمعنى ((أنه يثير في الذهن واقعاً ما، وأحداثاً قد تكون وقعت وشخصيات روائية تختلط من هذه الوجهة بشخصيات الحياة الفعلية... غير أن العمل الأدبي خطاب في الوقت نفسه، فهناك سارد يحكي القصة، أمامه يوجد قارئ يدركها))(7). وقد كان "شلوفسكي" يصرح بأن القصة ليست عنصراً فنياً بل مادة سابقة على الأدب، بينما كان الخطاب وحده بناء جمالياً بالنسبة له. غير أنه تراجع فيما أعلنه من انفصال بين القصة والخطاب بعد ثلاثين سنة من تصريحاته وأكد على الوحدة غير القابلة للانفصال بين الجزء الحدثي وتنسيقه التركيبي لتعلقهما بالشيء ذاته أي بمعرفة الظاهرة(.وهو ما يكشف دقة الترابط والتمازج بينهما. إلا أن "تودوروف" يرى أن العمل السردي الأدبي في مستواه العام ذو وجهين –كما أسلفنا- قصة وخطاب. ورأى أن الجانب الثاني أكثر أهمية، وهو المعول عليه في فهم الأبعاد الفنية والجمالية لأي عمل سردي ((وعلى هذا الأساس ليست الأحداث التي يتم نقلها هي التي تهم، إنما الكيفية التي بها أطلعنا السارد على تلك الأحداث))(9). وهذا التصرف في الواقع المفعم بالتراكمات اللا متناهية التي يجب أن نتدخل فيها حتى نحصل على مبنى حكائي، هو الضمان الوحيد لإخراج الشيء من متوالية وقائع الحياة إلى واقعة فنية. وبحسب هذه التقنيات التي نحصل بها على مبنى حكائي فني، يرى "شلوفسكي" أنه يمكن بتقنيات أخرى التحكم في تطويل المبنى الحكائي وذلك عن طريق تضمين قصة قصيرة داخل قصة قصيرة تصلح إطاراً لقصص قصيرة أخرى. وإلى جانب هذه التقنيات توجد وسائل أوسع انتشاراً، كسرد القصص أو الحكايات بغية تأخير اكتمال هذا الحدث أو ذاك، أو المناقشة بمساعدة حكايات، إذ الحكايات تذكر للبرهنة على فكرة، كما تستعمل الحكاية الجديدة كاعتراض على سابقتها، وبهذا تدخل الأشعار والأقوال المأثورة في شكل تناص إلى جانب الحكايات ليستفاد منها في المبنى الحكائي الفني. وهذه الأنساق كتابية لا يعول عليها في المشافهة كالشعر لطول نصوصها التي تكون الصلة بين أجزائها باللغة الشكلية أيضاً إلى درجة أن القارئ هو وحده الذي يستطيع أن يدركها(10). ويعدد "شلوفسكي" مجموعة من أنساق الحوافز التي تنتج عن المقارنة والمقابلة والتناقض والمفارقة والزيف ويراها أساساً في أي عمل سردي لما ينتج عنها من تواترات تؤدي إلى تحقيق البناء الفني للقصة، فـ ((وصف حب متبادل وسعيد لا يمكن أن يسمح بتوليد قصة قصيرة لخلائه من العراقيل))(11). ومن ثم فلا وجود لرواية أو قصة ما لم تشمل نواة تمر عبر حوافز أساسية هي: (الرغبة) ويقابلها الحب و (التواصل) ويقابله المساراة و(المشاركة) ويقابلها المساعدة. وهي عناصر إيجابية ثلاثة تقابلها عناصر ضدية ثلاثة أيضاً هي: (الكراهية) و (الجهر) و(العائق). وباقي العلاقات في النص السردي هي فروع مشتقة من هذه الأصول، وبها ينتج الصراع الذي هو عنصر أساسي في أي حكاية أو قصة أو رواية.
ومن الأنساق الأخرى التي يتشكل منها العمل السردي التوازي الذي نكون بصدده أمام مفهومين لا يتصادفان، بل ينفي أحدهما الآخر من متواليات التشاركات المعتادة. وهي تقنية يلجأ الكاتب إلى اعتمادها للإيحاء أو الإغراب، ويحاول تبريرها بمحفزات واقعية كالقرابة أو فنية كالمشابهة. ويمكن ملاحظة التوازي في صنفين: توازي خيوط العقدة، وهو يخص الوحدات الكبرى للسرد، وتوازي الصيغ التعبيرية (التفاصيل) التي تقوم على التشابه بين صيغ تعبيرية لفظية تتمفصل داخل ظروف متماثلة. وغيرها مما قد تفرضه مخيلة الكاتب وفق القواعد المهيمنة لهذا الفن(12)، وبالمقارنة بين الأفعال تتبين حدود التوازي الذي يشكل الهيكل الأساس في أي عمل سردي.
وللقيام بتحليل بنيوي للسرد ينبغي إذن التمييز في البداية بين عدة مراتب وأركان للوصف ووضعها في إطار منظور تراتبي إدماجي. فالقصة أو كما يسميها "تودوروف" (الدليل) وتشمل الشخوص وعلاقاتها فيما بينها، والأفعال ومنطق ترابطها، والحوافز التي تحكم هذه العلاقات وفق منطق الترابط أيضاً. والخطاب يشمل الأزمنة ومظاهر السرد وصيغه. وفي ضوئهما، أي (القصة والخطاب) نقوم بتحديد أصناف الوحدات ونبين التركيب الوظيفي لها. وهي أسس يرتكز عليها السرد القصصي وتعكس القوانين التي تحكم حياة مجتمع شخصيات القصة.
وقد ظن كثير من الدارسين أن البنيوية التي تعمد وفق منهجها إلى تفكيك النص إلى وحدات هي دراسة تهتم بالشكل ولا تهتم بالمعنى. وهذا غير صحيح لأننا نحن العرب تأثرنا بالبنيوية سلباً عندما تعرفنا على نقدها قبل أن نعرفها. فالبنيوية ترى أن دراسة الشكل ليست دراسة شكلية ما دامت تؤدي إلى معرفة الشيء، فهذه المعرفة هي المعنى الذي ينتج من فهمنا للعلاقات الموجودة بين أصناف الوحدات داخل النص. وقديماً –عندنا- فهم "الجاحظ" أيضاً بأنه شكلاني عندما قال المعاني مطروحة في الطريق. ولم يفهم الرجل بأنه كان يرد على من كانوا يروجون للمعنى وينظرون إلى النص على أساس المنفعة، فأراد أن يبين لهم بأن أدبية الأدب تكمن في براعة التعبير عن هذه المعاني. ومن هنا يلتقي "الجاحظ" مع البنيويين في طرحه الذي لا يقصي المعنى، كما يتهيأ للبعض. فلا يوجد شكل بدون معنى ولا يوجد معنى بدون شكل.
ومن هنا يمكن اعتبار الاتجاه البنيوي أنموذجاً في تحليله لمكونات هذا الخطاب السردي لما يكشفه من ثراء خاص في مجاله، ويجسده من اختلافات نظرية بشكل ملموس.
الهوامش:
(1)عبد الحميد عقار: وضع السارد في الرواية بالمغرب، مجلة دراسات أدبية ولسانية، فاس –المغرب، العدد 1، 1985، ص24.
(2) سيزا قاسم: بناء الرواية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1984، ص131.
(3) بيرسي لوبوك: صنعة الرواية، ترجمة: عبد الستار جواد، بغداد، ص133.
(4) تزفيطان تودوروف: مقولات السرد الأدبي، ترجمة: الحسين سحبان وفؤاد صفا، مجلة آفاق، الرباط –المغرب، العدد 8-9، 1988، ص45.
(5) يمنى العيد: تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي، دار الفارابي، بيروت –لبنان، ط1، 1990، ص91-92.
(6) ميخائيل باختين: الماركسية وفلسفة اللغة، ترجمة: محمد البكري ويمنى العيد، دال توبقال للنشر، الدار البيضاء –المغرب، ط1، 1986، ص171.
(7) تزفيطان تودوروف: مقولات السرد الأدبي، ص31.
( المرجع نفسه، ص32.
(9) المرجع نفسه، ص31.
(10) ف. شلوفسكي: بناء القصة القصيرة والرواية، ترجمة: إبراهيم الخطيب، ضمن الكتاب: نظرية المنهج الشكلي نصوص الشكلانيين الروس، ص142، 143.
(11) المرجع نفسه، ص123.
(12) تزفيطان تودوروف: مقولات السرد الأدبي، ص33.
السرد هو طريقة الحكي والإخبار ويسمى الخطاب. وقد كان منذ وجد الإنسان، وفي كل المجتمعات. ونجده في اللغة المكتوبة وفي اللغة الشفوية، كما نجده في لغة الإشارات والإيماء وفي الرسم والتاريخ، وفي كل ما نقرأه أو نسمعه، سواء أكان كلاماً عادياً أم فنياً. فهو بذلك عام ومتعدد ومتنوع. ومنه انحدرت الأجناس السردية الأدبية المعروفة قديماً وحديثاً كالأساطير والخرافات والحكايات الشعبية والمقامات والقصص والروايات.. الخ. ولكل إنسان في الحياة طريقة في الحكي، ومن ثم كان الرصيد المتراكم من السرود عبر التاريخ يعد بالملايين، فمنها ما هو مدون ومنها ما نتناقله عبر المشافهة ومنها ما ضاع لعدم تدوينه والمحافظة عليه أو بسبب إهماله.
وأمام هذا الركام الهائل من أنواع السرد وطرق الحكي احتاج الدارس إلى أن يبحث عن نظرية أو قواعد تضبط هذه الأعمال وتصنفها –شأنها في ذلك شأن باقي عناصر الحياة ومجالات العلوم المختلفة- لرصد مكوناتها والعلاقات فيما بينها للوصول إلى معرفة كيفية اشتغالها.
ولتحديد هذه النظرية وضبط قواعدها ينبغي الوقوف عند الأشكال التعبيرية السردية، وقد فعلت الدراسات القديمة شيئاً من ذلك من خلال الدراسات التاريخية للأدب، إلا أن هذه الدراسات كانت سطحية في عمومها، وحبيسة نظرة عابرة غير متخصصة لغياب المنهج الدقيق المناسب لمثل هذه العملية. وأمام هذا الركام الهائل من أنواع السرد وطرق الحكي –كما أسلفت- وجد الدارس نفسه في حاجة إلى ضبط هذا اللامحدود من السرود، وفق خطة عمل شاملة يمكن في ضوئها دراسة أي نص سردي مهما كان نوعه أو مصدر بيئته أو نوعية لغته. وهو ما يشبه العمل الذي قام به العالم السويسري "دوسوسير" عندما أراد دراسة اللغة. فوجد نفسه محاصراً بحوالي 3000 لغة. ورغم ما واجهه من صعوبات إلا أنه استطاع أن يضبط هذه اللغة على اتساعها وتنوعها، وأصبحنا نتعامل مع النصوص انطلاقاً مما توصل إليه هذا العالم وغيره من علماء اللغة الذين أسهموا في بناء نظرية اللغة.
وإن السؤال الذي واجه دارس السرد هو كيف يمكن ضبط هذا اللامحدود وجعله قابلاً للتحكم فيه والإمساك به؟، إنها صعوبة أكثر من تلك التي واجهت "دوسوسير" بلا شك، لأن المسألة أوسع وأعقد. فمن يتحمل إذن عبء هذه المسألة ويقبل مثل هذه المهمة التي مجرد التفكير فيها هو ضرب من المستحيل –على الأقل- كما تهيأ للبعض؟.
إن البنيويين هم الذين تحملوا عبء هذه المهمة، ورأوا أنها من صلاحياتهم، وبإمكانهم تحديد هذا اللامحدود وتطويعه لآليات تكشف عنها نصوص هي نصوص سردية بلاشك. وتعد الأبحاث التي قام بها الشكلانيون الروس وغيرهم من الشكلانيين، البدايات الأولى لنقد القصة والرواية، من منظور بنيوي صرف محاولة منهم الوقوف على الفوارق الفاصلة بين أشكال النصوص ولاسيما بين القصة والرواية، لكونهما شكلين أدبيين مختلفين، يتميز كل منهما بمواصفات معينة وبتقنيات خاصة، تتصل بطوابع مهيمنة أو بقواعد النوع. لكن أي هذه النصوص السردية تكون النموذج الأنسب لمثل هذه الدراسة؟.
إن النصوص التي وقع عليها الاختيار كانت منتقاة بحسب الشروط التي تكفي لرصد كل ملابسات السرد وحيثياته بوجه عام، وغربية بطبيعة الحال، ما دام المنهج غربياً والدارس غربياً أيضاً. وهذا بعد أن عملوا على إقصاء الكثير من الأشكال التعبيرية التي تفتقر إلى الفن أو تلك التي لا علاقة لها مع الأدب. فلم يبق أمامهم إلا ما نعرفه من أجناس السرد الحكائي والقصصي والروائي.. عمدوا ينظرون فيها ويقلبون نصوصها على مختلف الأوجه بغية استنباط أحكام على بنياتها في ضوء منهجهم البنيوي الذي رأوا أنه الكفيل بإنتاج مثل هذه النظرية. وحتى بعض هذه الأجناس الأدبية التي عادوا إليها قفزوا عليها لبساطتها، رغم ما تقدمه لهم من فائدة، واكتفوا بالنظر في جنس الرواية أكثر من غيره –رغم تأخر ظهوره قياساً إلى الكثير من الأجناس الأدبية الأخرى ولاسيما القديمة منها –وذلك لأن جنس الرواية يمكن أن يكون النموذج الذي يعول عليه، لما يتوافر عليه من عناصر ومكونات نجدها في باقي الأجناس الأدبية الأخرى والعكس غير صحيح.
وبعد تحديد مجال انحصار أبحاثهم في مجال جنس الرواية، تقريباً، للسبب المذكور آنفاً، واجههم سؤال جوهري هو من أين تكون بداية البحث؟ من اللغة طبعاً، ما دامت اللغة هي الشكل الأبرز في ذلك. واللغة ما دام –كما نعلم- تقدمت أبحاثها بفضل جهود اللسانيين على رأسهم "دوسوسير" قالوا: فلنبدأ إذن من حيث انتهت اللسانيات. ولما كانت حدود البحث في مجال اللسانيات هي الجملة، فلنبدأ من ما بعد الجملة. ولكن وجدوا أن ما بعد الجملة ليس إلا جملاً تنتهي مجتمعة إلى جملة كبيرة. ومن ثم طرحوا إمكانية توسيع اللسانيات لمجال أبحاثها لتشمل النص كاملاً، واقتنع اللسانيون بالفكرة فظهر ما يعرف بلسانيات النص أو لسانيات الخطاب.
ولكن إذا كانت اللسانيات تبحث في بنية الجملة التي تشمل وحدات قابلة للوصف، وتنظر إليها –أي إلى الجملة- على أنها أصغر وحدة لها معنى، وتقصر دراستها في البحث عن نظامها، فتكشف عن كيف ينتظم الحرف في الكلمة والكلمة في الكلمة إلى أن تنتج الجملة. فإن البنيوية تذهب إلى أبعد من ذلك فترى أن أصغر وحدة في الجملة لها معنى قد تكون (الكلمة)، وأن المعنى إذا كان في الجملة عند اللسانيين ينتج من نهايتها، فإن المعنى عند البنيويين لا يوجد في نهايتها وإنما يخترقها.
بالإضافة إلى وجود مكونات ووحدات أخرى أغفلها الدرس اللساني، أو كان ينظر إليها من زاوية أخرى، باعتبار ذلك خارج اختصاصه كـ: الزمن والمكان (الفضاء) والضمائر (الشخوص والأشياء) والأفعال والرؤية والصيغة... الخ. وهي عناصر تنتظم داخل النص السردي بطرق مختلفة، وتتميز من جنس أدبي إلى جنس أدبي آخر. وهي نفسها قابلة للوصف والتحليل لما تشتمل عليه من بنيات خاصة نلمسها عند الإصغاء لخصوصية كل نص ونوعية تركيبة خطابه.
فالنص السردي الحكائي أو القصصي أو الروائي يمر عبر قناة هي:
الراوي ـــ الحكاية ـــــ المتلقي
فلا توجد رواية بدون راو. لأن نقل الوقائع وتقديمها في قالب لغوي –شفاهي أو كتابي- يستوجب حضور هيئة تلفظية، هي شخصية السارد. التي تقوم بالتعبير عن هذه الأفعال والأحداث، العاجزة عن التعبير عن نفسها بنفسها. فشخصية السارد، تمثل بصوتها محور القصة أو الرواية، ((إذ يمكن ألا نسمع صوت الكاتب إطلاقاً، ولا صوت الشخصيات، ولكن بدون سارد، لا توجد قصة أو رواية))(1). وهنا ينبغي أن نشير إلى أن السارد ليس دائماً هو الكاتب، وإن كان قادراً على إخفاء نفسه وراء شخصية رئيسية تعبر عن رؤية العالم.
وقد تحاشت الدراسات الحديثة الوقوع في الخطأ الذي وقع فيه الدارسون القدامى، عندما كانوا يربطون النص بالكاتب، وينسبون إليه كل تبعات الحكي. وتحرت هذه الدراسات الدقة في التمييز بين ما هو خاص بالكاتب وماهو خاص بالسارد، انطلاقاً من أسس معرفية تخص النص والكاتب معاً. تنطلق من أن ((هناك مسافة تفصل بين الروائي والراوي، فهذا لا يساوي ذاك، إذ أن الراوي قناع من الأقنعة العديدة التي يتستر وراءها الروائي لتقديم عمله))(2). كما أن كل سرد يستوجب سارداً، فإنه يستوجب مسروداً له أيضاً وقد أدرك الشكلانيون الروس، وغيرهم من الدارسين للرواية، هذه العلاقة الموجودة بين السارد والقارئ، فدعوا إلى العناية بها. إلا أنه بالرغم مما لهذه الشخصية (القارئ) المتخيلة من أهمية في صنع الخطاب السردي، فإن الاهتمام بها، مع ذلك، ظل محدوداً وضئيلاً، إذا ما قورن بحجم الدراسات التي خصت بها شخصية السارد.
وما دام الخطاب السردي كباقي أنواع الخطابات الأخرى، يحتاج إلى متكلم ومستمع، فإنه بدونهما يفقد معناه، ويتحول هذياناً لا مبرر له. وهو ما يفسر حرص الكتاب/ الرواة، على أن يكون سردهم استجابة واعية لدعوة صادرة عن المسرود له، إن لم نقل إنه يتأسس عليه في بعض الأحيان، ولكن من غير أن تكون وجهة النظر صادرة عنه. يقول "بيرسي لوبوك": ((إنني مازلت أفترض أن الرواية الجديرة بالاعتبار هي الرواية التي تتطلب –في الواقع معظم الروايات كذلك- وجهة نظر ليست صادرة عن القارئ))(3). والحقيقة أنه بمجرد ما يعلن المتكلم عن نفسه، ويتسلم مقاليد اللغة، فإنه يغرس الآخر أمامه، كيفما كانت درجة الحضور التي يمنحها لهذا الآخر، لأن عملية السرد مشروطة، أساساً، باحتوائها على العناصر الثلاثة الرئيسية الضرورية لكل خطاب، وهي: السارد أو المرسل، والمسرود له أو المتلقي، والمتن الحكائي أو الرسالة.
ونحن بوصفنا قراء، لا ندرك المتن الحكائي إدراكاً مباشراً وأولياً، قبل إدراك السارد له، فهو الذي ندرك، من خلاله، أنواع العلاقات التي يقيمها مع شخصيات عالمه التخييلي، مما يكون له بدون شك انعكاسات واضحة على شكل تلقينا له. وهذه الطريقة التي يتم بها إدراك الحكاية من قبل السارد هي ما قصدها "تودوروف" بمصطلح (جهات الحكي). ولها مصطلحات أخرى متنوعة منها: وجهة النظر، الرؤية السردية، التبئير، المنظور، مظاهر السرد... الخ. وغيرها من المصطلحات الأخرى التي تفيد جميعها الطريقة التي يتم بها إدراك القصة أو الرواية من قبل السارد. وقد حدد "جون بويون" هذه الجهات (الرؤيات) التي تتخذ أصنافاً رئيسية ثلاثة في: السارد الشخصية الروائية "الرؤية من الخلف" /السارد الشخصية "الرؤية مع"/ السارد الشخصية "الرؤية من الخارج". وهذه الأصناف الثلاثة هي التي يلتزم بها "تودوروف" في إبراز جهات الحكي مع تعديل طفيف(4). وقد طالعتنا بها "يمنى العيد" التي أعادت صياغتها، في ظل تعاملها مع النص القصصي العربي، ولاحظت من خلال الراوي وعلاقته بما يرويه نوعين من الرواة، راو يحلل الأحداث من الداخل فهو إما: بطل يروي قصته بضمير الـ أنا (راو حاضر). كاتب يعرف كل شيء، إنه راو كلي المعرفة رغم أنه راو غير حاضر. أما الراوي الذي يراقب الأحداث من الخارج فهو إما: راو شاهد (حاضر لكنه لا يتدخل). كاتب يروي ولا يحلل إنه ينقل لكن بوساطة(5).
وإذا كان مصطلح جهات الحكي (الرؤية السردية) يتعلق بالطريقة التي يتم من خلالها إدراك القصة بوساطة الراوي فإن مصطلح (صيغة السرد) يتعلق بالطريقة التي يقدم بها الراوي القصة أو يعرضها. وهذان العنصران هما أكثر أهمية في القصة والرواية، لما يقومان به من دور كبير في جلب انتباه القارئ نحو سير الأحداث وتطور الأفعال، فالموضوع ليس كل شيء في القصة، وإنما المهم، هو طريقة المعالجة لهذا الموضوع وتجليته. وكان الدارسون يميزون في دراساتهم للسرد بين أشكال تعبيرية ثلاثة تخص خطاب المتكلم في النص هي: الأسلوب المباشر/ والأسلوب غير المباشر/ والأسلوب غير المباشر الحر. يتعلق الأسلوب الأول، في أي عمل أدبي، بكلام الشخصية عندما تتحدث بنفسها إلى نفسها من دون وساطة أو عندما تتحدث إلى غيرها، ففي الأولى نكون أمام (المونولوج) وفي الثانية نكون أمام (الحوار). وهما طريقتان يفسح فيهما الراوي المجال للشخصية لكي تتولى إدارة الحديث بذاتها وبشكل مباشر. ويسمى هذا النوع من الأسلوب (العرض). وباستعمال الراوي لهذا الأسلوب يبقي للمتكلم خصوصيته التعبيرية في مستوياتها الإيقاعية (الصوتية) والدلالية والجمالية. ويوفر للقارئ مصداقية تضمن له الانسجام مع النص بشكل أفضل. وهي تقنية تعزز الثقة بين الراوي والقارئ من جهة، وتكشف عن معالم الشخصية وعوالمها بشكل أوضح وأدق لا هيمنة للراوي فيها من جهة ثانية. والأسلوب الثاني، يطلق على كلام الشخصية المسرود بوساطة الراوي، وهو ما يجعله يأتي بصوته، وإن كان لغيره، لأن الراوي يتصرف فيه، ولا يبقيه على حرفيته. وبهذا التصرف لا يمكن نقل الكلام دون تحولات تسلبه هويته التي هي الأصل في الحكي. وتجعل الخصوصية التعبيرية للشخصية تضمحل، وتفقد الجملة المحكية بذلك نبرتها التأثيرية. وتصبح وجهة نظر الشخصية، في ضوء هذه التحولات، غير معززة ولا مبررة، لأن ((كل أنواع الإيجاز والحذف وغيرها مما هو مقبول في الخطاب المباشر، والتي تطال عناصر انفعالية وعاطفية ليست مقبولة في الخطاب غير المباشر، بسبب الميل التحليلي لهذا الأخير))(6). وهذا ما يفقد النص حرارته وحيويته، وينزع عنه المصداقية في الكلام، ويجعل القارئ في معزل عن الشخصية، لأن الراوي أصبح هو المهيمن على كل شيء يجري حولها. وأما الأسلوب الثالث، فهو أسلوب يزاوج بين الخطاب المباشر وغير المباشر، بحيث يستعير من الخطاب المباشر النغمة ونظام الكلمات وترتيبها، ومن الخطاب غير المباشر الأزمنة وضمائر الأفعال. وهذا النوع من الأسلوب يعطي للكاتب حرية أكبر في نسج كلام الشخصية داخل كلام الراوي، مما يجعله ملتبساً ومتداخلاً، فهو يكون على هذا الحال، منقولاً بصوت الراوي ومنقولاً بصوت الشخصية مباشرة وفي آن واحد. ولكنه –بالرغم من هذا التداخل- فإنه يحفظ لكلام الشخصية واقعيته ونبرته التي تسوغ الأخبار والوقائع التي جرت في النص.
هذه هي الأساليب الثلاثة التي ينتظمها الكلام، فمنها ما ينقل لذاته وبذاته، ومنها ما ينقل عن غيره، ومنها ما يجمع بينهما.
والأفعال في النص السردي الأدبي نوعان: أفعال ديناميكية تنمو مع وقائع السرد، وأفعال قارة أسميها (الأحداث)، لأنها تنتهي بانتهاء وقوعها مباشرة ولا وجود لاستمرار لها في السرد، فالأولى نامية والأخرى ثابتة. والفعل والحدث هو عبارة عن متواليات كبرى تنبثق عنها متواليات صغرى يمكن حصر مدلولاتها بالنظر إلى دلالاتها. ولا توجد في النص وحدة ضائعة، فكل شيء مهما بدا لنا بسيطاً يكون له دور في العمل السردي إن لم يكن على مستوى الأفعال (الوظائف) يكون على مستوى الزينة والديكور... وتكون له دلالة مفيدة في فهم أبعاد المتوالية التي يظهر فيها. ومن هنا اعتبر البنيويون ما ينشط داخل النص السردي (حوافز مشتركة) لاشتراكها مع بعضها البعض داخل النص، وما لا ينشط داخله (علامات أو وحدات إدماجية)، ويرون أن غياب العلامة في النص لا يخل ببنيته، كالأحداث والأشياء التي تذكر مجرد الذكر والوصف.. وهي تحيلنا على المعنى فقط، بينما غياب أي حافز مشترك –وهو الذي يحيلنا على وظيفة- يؤثر على التركيبة البنائية للنص فيهز وحدتها.
وتتمفصل وحدات النص وفق خطة تختلف من كاتب /راوي إلى آخر، بحسب نظرة كل واحد، فهناك وحدات كبرى ووحدات صغرى توزع داخل النص بالشكل الذي يضمن لها الانصهار والتوازن، وتظهر مقبولة الصياغة فنياً رغم مخالفتها للواقع الذي هو المادة التي تسبق الأدب. فتظهر العلاقات التراتبية والعلاقات الإدماجية، ونشهد تقديمات وتأخيرات يقبلها العقل في صورها المعروضة، إلى جانب وجود مساحات للقارئ داخل النص يوفرها له الكاتب/ الراوي، ليستريح فيها أو ليتحرك وفقاً لها، أو لينفذ من خلالها إلى التجربة الإبداعية ليصبح عنصراً من عناصرها، وهو الضمان الذي رأى الكاتب/ الراوي أنه، من خلاله، سيسمح للقارئ بملاحقة أفكاره، لأن القارئ محور في النص شئنا أم أبينا. وقد علم القدامى ما للقارئ أو المتلقي من أهمية، فظل ببالهم قبل الكتابة وبعدها، وكثيراً ما تردد ذلك على ألسنتهم، وإن لم يكن بالشكل المدروس كما تسعى إلى ذلك الدراسات الحديثة ومنها البنيوية.
وترى البنيوية في تحليلها للنص السردي (الخطاب) أن عنصر الزمن فني لاستحالة تكراره في صورته الأصل (الواقع)، وهو المعول عليه كثيراً في بناء النص، ولذلك كانوا يقولون عن جنس الرواية! إنه فن زمني، وهو يتوزع على الأزمنة الثلاثة المعروفة (ماضي، حاضر، مستقبل). والكاتب/ الراوي يتصرف في لعبته مع الزمن بحسب ما يراه، فتراه يقدم أو يؤخر أو يبطئ أو يسرع أو يتوقف أو يقفز، وكل ذلك يعرض من وجهة فنية خاصة.
ولأهمية عنصر الزمن في العمل السردي، أرى أنه كفيل وحده بأن يعتمد عليه في مسألة الفرق بين القصة والرواية وكذلك في الفرق بينهما وبين الحكاية، فالقصة، من وجهة نظري، تدور أحداثها في زمن الماضي وتظل فيه، والرواية تدور أحداثها في الزمن الحاضر وتتطلع إلى المستقبل، وقد تتضمن حديثاً عن زمن الماضي إلا أن السيطرة لا تكون له. وأما الفرق بينهما، أي القصة والرواية، وبين الحكاية فيظهر على مستوى التراتبية والسببية التي تجري فيها الوقائع حسب زمن الواقع في الحكاية، وبروز التصرف في الزمن بما يخالف الواقع في القصة والرواية. هذا بالإضافة إلى معايير أخرى تتراوح بين البساطة والتعقيد.. الخ، وليس يعود الفرق إلى مسألة الكم أو الحجم كما علمونا، إذ هناك روايات أقل حجماً من القصص والعكس صحيح أيضاً.
ويتضمن زمن السرد نوعين من الزمن: زمن القصة وزمن الخطاب، يكون الأول متعدد الأبعاد، إذ يمكن لأحداث كثيرة أن تجري في آن واحد. لكن زمن الخطاب ملزم بأن يرتبها ترتيباً متتالياً يأتي الواحد منها بعد الآخر، لأغراض جمالية يراها الكاتب.
وقد رأى "تودوروف" أن العمل السردي الأدبي مادة وبناء، فالمادة هي القصص (الحكايات) والبناء هو الخطاب. والخطاب نفسه مادة وخطاب في الوقت نفسه، بمعنى ((أنه يثير في الذهن واقعاً ما، وأحداثاً قد تكون وقعت وشخصيات روائية تختلط من هذه الوجهة بشخصيات الحياة الفعلية... غير أن العمل الأدبي خطاب في الوقت نفسه، فهناك سارد يحكي القصة، أمامه يوجد قارئ يدركها))(7). وقد كان "شلوفسكي" يصرح بأن القصة ليست عنصراً فنياً بل مادة سابقة على الأدب، بينما كان الخطاب وحده بناء جمالياً بالنسبة له. غير أنه تراجع فيما أعلنه من انفصال بين القصة والخطاب بعد ثلاثين سنة من تصريحاته وأكد على الوحدة غير القابلة للانفصال بين الجزء الحدثي وتنسيقه التركيبي لتعلقهما بالشيء ذاته أي بمعرفة الظاهرة(.وهو ما يكشف دقة الترابط والتمازج بينهما. إلا أن "تودوروف" يرى أن العمل السردي الأدبي في مستواه العام ذو وجهين –كما أسلفنا- قصة وخطاب. ورأى أن الجانب الثاني أكثر أهمية، وهو المعول عليه في فهم الأبعاد الفنية والجمالية لأي عمل سردي ((وعلى هذا الأساس ليست الأحداث التي يتم نقلها هي التي تهم، إنما الكيفية التي بها أطلعنا السارد على تلك الأحداث))(9). وهذا التصرف في الواقع المفعم بالتراكمات اللا متناهية التي يجب أن نتدخل فيها حتى نحصل على مبنى حكائي، هو الضمان الوحيد لإخراج الشيء من متوالية وقائع الحياة إلى واقعة فنية. وبحسب هذه التقنيات التي نحصل بها على مبنى حكائي فني، يرى "شلوفسكي" أنه يمكن بتقنيات أخرى التحكم في تطويل المبنى الحكائي وذلك عن طريق تضمين قصة قصيرة داخل قصة قصيرة تصلح إطاراً لقصص قصيرة أخرى. وإلى جانب هذه التقنيات توجد وسائل أوسع انتشاراً، كسرد القصص أو الحكايات بغية تأخير اكتمال هذا الحدث أو ذاك، أو المناقشة بمساعدة حكايات، إذ الحكايات تذكر للبرهنة على فكرة، كما تستعمل الحكاية الجديدة كاعتراض على سابقتها، وبهذا تدخل الأشعار والأقوال المأثورة في شكل تناص إلى جانب الحكايات ليستفاد منها في المبنى الحكائي الفني. وهذه الأنساق كتابية لا يعول عليها في المشافهة كالشعر لطول نصوصها التي تكون الصلة بين أجزائها باللغة الشكلية أيضاً إلى درجة أن القارئ هو وحده الذي يستطيع أن يدركها(10). ويعدد "شلوفسكي" مجموعة من أنساق الحوافز التي تنتج عن المقارنة والمقابلة والتناقض والمفارقة والزيف ويراها أساساً في أي عمل سردي لما ينتج عنها من تواترات تؤدي إلى تحقيق البناء الفني للقصة، فـ ((وصف حب متبادل وسعيد لا يمكن أن يسمح بتوليد قصة قصيرة لخلائه من العراقيل))(11). ومن ثم فلا وجود لرواية أو قصة ما لم تشمل نواة تمر عبر حوافز أساسية هي: (الرغبة) ويقابلها الحب و (التواصل) ويقابله المساراة و(المشاركة) ويقابلها المساعدة. وهي عناصر إيجابية ثلاثة تقابلها عناصر ضدية ثلاثة أيضاً هي: (الكراهية) و (الجهر) و(العائق). وباقي العلاقات في النص السردي هي فروع مشتقة من هذه الأصول، وبها ينتج الصراع الذي هو عنصر أساسي في أي حكاية أو قصة أو رواية.
ومن الأنساق الأخرى التي يتشكل منها العمل السردي التوازي الذي نكون بصدده أمام مفهومين لا يتصادفان، بل ينفي أحدهما الآخر من متواليات التشاركات المعتادة. وهي تقنية يلجأ الكاتب إلى اعتمادها للإيحاء أو الإغراب، ويحاول تبريرها بمحفزات واقعية كالقرابة أو فنية كالمشابهة. ويمكن ملاحظة التوازي في صنفين: توازي خيوط العقدة، وهو يخص الوحدات الكبرى للسرد، وتوازي الصيغ التعبيرية (التفاصيل) التي تقوم على التشابه بين صيغ تعبيرية لفظية تتمفصل داخل ظروف متماثلة. وغيرها مما قد تفرضه مخيلة الكاتب وفق القواعد المهيمنة لهذا الفن(12)، وبالمقارنة بين الأفعال تتبين حدود التوازي الذي يشكل الهيكل الأساس في أي عمل سردي.
وللقيام بتحليل بنيوي للسرد ينبغي إذن التمييز في البداية بين عدة مراتب وأركان للوصف ووضعها في إطار منظور تراتبي إدماجي. فالقصة أو كما يسميها "تودوروف" (الدليل) وتشمل الشخوص وعلاقاتها فيما بينها، والأفعال ومنطق ترابطها، والحوافز التي تحكم هذه العلاقات وفق منطق الترابط أيضاً. والخطاب يشمل الأزمنة ومظاهر السرد وصيغه. وفي ضوئهما، أي (القصة والخطاب) نقوم بتحديد أصناف الوحدات ونبين التركيب الوظيفي لها. وهي أسس يرتكز عليها السرد القصصي وتعكس القوانين التي تحكم حياة مجتمع شخصيات القصة.
وقد ظن كثير من الدارسين أن البنيوية التي تعمد وفق منهجها إلى تفكيك النص إلى وحدات هي دراسة تهتم بالشكل ولا تهتم بالمعنى. وهذا غير صحيح لأننا نحن العرب تأثرنا بالبنيوية سلباً عندما تعرفنا على نقدها قبل أن نعرفها. فالبنيوية ترى أن دراسة الشكل ليست دراسة شكلية ما دامت تؤدي إلى معرفة الشيء، فهذه المعرفة هي المعنى الذي ينتج من فهمنا للعلاقات الموجودة بين أصناف الوحدات داخل النص. وقديماً –عندنا- فهم "الجاحظ" أيضاً بأنه شكلاني عندما قال المعاني مطروحة في الطريق. ولم يفهم الرجل بأنه كان يرد على من كانوا يروجون للمعنى وينظرون إلى النص على أساس المنفعة، فأراد أن يبين لهم بأن أدبية الأدب تكمن في براعة التعبير عن هذه المعاني. ومن هنا يلتقي "الجاحظ" مع البنيويين في طرحه الذي لا يقصي المعنى، كما يتهيأ للبعض. فلا يوجد شكل بدون معنى ولا يوجد معنى بدون شكل.
ومن هنا يمكن اعتبار الاتجاه البنيوي أنموذجاً في تحليله لمكونات هذا الخطاب السردي لما يكشفه من ثراء خاص في مجاله، ويجسده من اختلافات نظرية بشكل ملموس.
الهوامش:
(1)عبد الحميد عقار: وضع السارد في الرواية بالمغرب، مجلة دراسات أدبية ولسانية، فاس –المغرب، العدد 1، 1985، ص24.
(2) سيزا قاسم: بناء الرواية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1984، ص131.
(3) بيرسي لوبوك: صنعة الرواية، ترجمة: عبد الستار جواد، بغداد، ص133.
(4) تزفيطان تودوروف: مقولات السرد الأدبي، ترجمة: الحسين سحبان وفؤاد صفا، مجلة آفاق، الرباط –المغرب، العدد 8-9، 1988، ص45.
(5) يمنى العيد: تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي، دار الفارابي، بيروت –لبنان، ط1، 1990، ص91-92.
(6) ميخائيل باختين: الماركسية وفلسفة اللغة، ترجمة: محمد البكري ويمنى العيد، دال توبقال للنشر، الدار البيضاء –المغرب، ط1، 1986، ص171.
(7) تزفيطان تودوروف: مقولات السرد الأدبي، ص31.
( المرجع نفسه، ص32.
(9) المرجع نفسه، ص31.
(10) ف. شلوفسكي: بناء القصة القصيرة والرواية، ترجمة: إبراهيم الخطيب، ضمن الكتاب: نظرية المنهج الشكلي نصوص الشكلانيين الروس، ص142، 143.
(11) المرجع نفسه، ص123.
(12) تزفيطان تودوروف: مقولات السرد الأدبي، ص33.