[center]تناسل المعارضات في الشعر الناصري
١٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١١بقلم محمد شداد الحراق
المعارضة الشعرية فضاء فني تستعرض فيه الذات الشاعرة طاقتها الإبداعية وقدرتها على محاكاة النصوص السابقة وإعادة إنتاجها بنفس شعري جديد يربط الحاضر بالماضي، ويحيى الأصوات القديمة ويمنحها حق الاستمرارية والخلود.
وتعد المعارضة آلية فنية لتنشيط الفعل الثقافي، ورافدا من روافد إثراء الحركة الشعرية بالانفتاح على التجارب الفنية الناضجة، وإقامة حوار فني بين الشعراء المنتمين لعصور أدبية مختلفة.
وقد اشتهر المغاربة والأندلسيون بفن المعارضة أكثر من المشارقة، إذ شكل الموروث الشعري المشرقي قاعدة أساسية للانطلاق في حركة الشعر المغربية. وكانت العديد من التجارب الشعرية قد نشأت إثر الانبهار بالشعر المشرقي، و نبعت من الرغبة في تقليده ومحاكاته والنسج على منواله. ولكنها سرعان ما تحولت إلى عملية مبارزة فنية يحاول فيها الشاعر اللاحق تجاوز النموذج القديم والتفوق عليه. وبذلك انتقلت المعارضة من مستوى المحاكاة والتقليد إلى مستوى التجاوز والإبداع.
ولم تكن المعارضة الشعرية قط نوعا من الشعور بالنقص أو الدونية أمام القصائد النموذج، بل كانت شكلا من أشكال التحدي وحب التفوق والرغبة في إظهار النجومية والتألق في الساحة الشعرية. فالشاعر يحتاج أحيانا إلى معارضة من سبقه كي يثبت ذاته الشاعرة، ويفرض وجوده في نادي الشعراء المجدين. ولم يكن يجرؤ على المعارضة إلا من تكاملت لديه ملكة الشعر، وتدفقت منها الأشعار متألقة ناضرة . وليست المعارضة مؤشرا أبديا على مفهوم قاصر ومتخلف للشعر – كما يذهب أحد نقادنا-. وليست المعارضات – في كل نماذجها- منافية لجوهر الإبداع ومرفوضة وخارجة من دائرة الشعر الحق مهما بلغت من القوة في رصف الكلمات وحشد الصور .لأن الإقدام على المحاكاة لا يتم إلا إذا استوت لدى الأديب القدرة على الإمساك بناصية الشعر، و على تطويع قواعد النظم لتستجيب له لحظة الممارسة الشعرية. وهل يمكن أن يشك أحد في شاعرية البارودي وشوقي بسبب ما أنتجاه من معارضات لا تقل جمالية عن النصوص /المرجع التي نظموا على منوالها.
إن القراءة الواعية للأصل اللغوي للفظة المعارضة تبرز احتضانها لأكثر من دلالة. فإلى جانب المحاكاة والمجاراة، تحمل لفظة المعارضة دلالة المقابلة والمنافسة والتحدي، وبذلك ينفتح هذا المصطلح على دلالتين متكاملتين نجد أثرهما في النصوص الشعرية التي عارض بها الشعراء من سبقهم ومن عاصرهم. فمنهم من تحكمت فيه نزعة الإعجاب والانبهار، ومنهم من قادته غريزة المنافسة وشهوة التفوق. وقد شكلت المعارضة- بمفهوميها- إحدى أهم الظواهر الفنية في الشعر الناصري، وأحد الروافد التي غذت نهر الإبداع، وساهمت في تنشيط حركة الشعر، وعملت على تلقيح التراث الشعري الناصري بقصائد تحمل من الخصائص الفنية ما يجعلها نماذج شعرية ناضجة لا تقل أهمية عن كثير من التجارب الشعرية الموروثة.
فقد تعاطى الناصريون لفن المعارضة، وأسهموا فيه إسهاما ملحوظا مشكلين بذلك نواة حقيقية لحركة إحيائية للتراث الشعري، على نحو ما قام به رواد الحركة الكلاسيكية في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين على يد كل من البارودي وشوقي وحافظ إبراهيم وغيرهم... فالعودة إلى الماضي والارتداد إلى التراث قاعدة أساسية لكل نهضة أدبية وحركة إحيائية. ولعل الأدباء الناصريين كانوا على وعي تام بخصوصية المرحلة التي وجدوا فيها، وبإشكالاتها الكبرى وأسئلتها الملحة. وقد أسهموا في إحياء التراث الشعري العربي بدون أن ينسبوا الفضل إليهم، وبدون أن يدعوا السبق أو يسعوا إلى تصدر مركز الريادة كما فعل من جاء بعدهم بقرنين من الزمن.
فلم يكن يحركهم هاجس الريادة أو الصدارة بقدر ما كان هدفهم إعادة دماء الحياة إلى جسد القصيدة العربية وإثبات الذات الشاعرة المغربية والمشاركة في حلبة الإبداع بدون عقدة ضعف أو مركب نقص.
ولعل أهم مظهر لحركة المعارضات الشعرية، انضمام الناصريين إلى (نادي الداليات)، وهي القصائد التي تناسلت وتكاثرت وتولد بعضها عن بعض منذ العصور الأدبية الأولى، وظلت مهيجة لقرائح الشعراء في كل زمان ومكان.
وينحدر نسب الداليات من شجرة عريقة، ومن أصل رفيع تمثله دالية النابغة الذبياني التي مدح بها (المتجردة) زوجة النعمان بن المنذر، ومطلعها: [الكامل]
أمن آل مية رائح أو مغـــــتد عجلان ذا زاد وغير مــزود
ومن هذا الأصل العريق امتدت الفروع، وتناسلت وأزهرت وأثمرت، فكانت النتيجة سلسلة من القصائد الدالية يحاكي بعضها بعضا، ويقتفي أثره ويتبع أنفاسه. ويعود الفضل إلى الإمام البوصيري في فتح باب المعارضة، وتأسيس تيار شعري إحيائي يستلهم الموروث الشعري ويضفي عليه حلة جديدة ويوجهه الوجهة الدينية، لتصبح الداليات مقترنة بقصائد المدح. فقد نظم البوصيري داليته وجعلها في مدح أبي العباس المرسي ومطلعها: [الكامل]
كتب المشيب بأبيض في أسود بفراق ما بيني وبين الخرد
ومنذ ذلك الحين استقرت الداليات في وجدان المجتمع الثقافي، واستوطنت قلوب الشعراء، وهيجت مشاعرهم وملكاتهم، وأيقظت فيهم الرغبة في النزول إلى حلبة المنافسة والمبارزة الشعرية. ولم يكن الشعراء المغاربة في منأى عن صدى هذا المد الشعري القادم من الشرق، ولم تكن ملكة الشعر عندهم عاجزة عن اقتحام هذا المضمار الفني الأصيل. فقد وجد اليوسي في نفسه الجرأة الكافية والقدرة اللازمة على الانضمام إلى نادي الداليات، فدخل من أوسع باب من خلال نظمه لإحدى مطولاته التي تفاعل معها كيان الشعراء، وتجاوبت معها- لوقعها القوي وأثرها الكبير- كل الحساسيات والملكات المبدعة. فقد أحدثت دالية اليوسي صخبا قويا في مجتمع الشعراء، وحركت المواهب الراكدة، واستفزت القرائح الفاترة، ولفتت أنظار الجميع إلى شخصية الشاعر وإلى شخصية ممدوحه، بحيث نهج اليوسي- في هذا الأمر- سبيل البوصيري وسار على منواله، فجعل داليته مدحا لشيخه الروحي محمد بن ناصر، ومطلعها: [الكامل]
عرج بمنعرج الهضــاب الــورد بين اللصاب وبين ذات الأرمد
لقد قدم اليوسي هذه القصيدة قربانا بين يدي شيخه ابن ناصر، ليعبر بها عن حبه وولائه وصدق انتمائه للخط الفكري الناصري. ولكن صدى هذه القصيدة طرق أسماع الشعراء الناصريين وجعلهم ينزلون إلى ساحة المعارضة، وكان على رأسهم الأديب أحمد بن عبد القادر التستاوتي (ت 1127) الذي تأمل دالية اليوسي طويلا، فلم يجرؤ على مجاراتها في حياة صاحبها، وانتظر حتى يرحل إلى دار البقاء، حينئذ استجمع شتات ملكته الشعرية، وانطلق معارضا له بقصيدتين، إحداهما تحقق فيها الاتساق الإيقاعي وحده واختلف الغرض، وهي داليته في مدح الرسول (ص) والتي مطلعها:
عرج بأطلال الأحبة واقصد آثارهم يوما لعلك تهتدي
وتدخل هذه القصيدة ضمن المعارضات الملفوظة التي يصرح ناظمها بمقصد المجاراة والمحاكاة. وفي ذلك يقول أحمد التستاوتي في تصديرها:
"وبعد... فإن القصيدة اليوسية البليغة السنية من أجل كوكب من سماء البلاغة طلع، وأسنى نور من قمر الفصاحة سطع. وقد ماشيته بقصيدة أشبه شيء بالعصيدة واختلفنا في المقاصد والمحامد مع اجتماعنا على روي واحد، فنرغب من سادتنا غض الطرف عن معانيها وقبح ما يظهر من تراكبها، فإنها وإن كانت كذلك اتصفت بما هنالك، فقد تزينت بشمائل الممدوح بها وتعطرت بأوصافه التي كان الثناء عليه من أربها صلى الله عليه وسلم والمرجو من الله القبول وبلوغ ما أردناه من السول...".
وقد نص التستاوتي صراحة واعترف بمجاراته لليوسي حينما قال (قد ماشيته بقصيدة...) ونلاحظ تواضع التستاوتي وحسن تأدبه في المقدمة التي صدر بها قصيدته . فهو لم يكن يقصد المنافسة أو التجاوز بقدر ما كان يرغب في ركوب مركب اليوسي والإبحار به في عالم الداليات. لكن التستاوتي كان ذكيا في اختياره للموضوع والغرض، ولعله كان يركز على شرف الغرض لتحظى داليته بالمكانة التي حظيت بها دالية اليوسي.
والذي يهمنا في هذا السياق هو أن شهية الإبداع تحركت لدى الشعراء الناصريين، وتحركت معها أقلامهم، وتدفقت القصائد والأشعار في نهر الشعر غزيرة، تدل على حركة شعرية حقيقية.
ولم يكتف التستاوتي بمعارضته الدالية، بل نظم معارضة أخرى من مطولاته، وهي تجمع بين الاتساق الإيقاعي والغرضي. وقد سلك فيها التستاوتي سبيل المغايرة. حينما خرق بعض عناصر قاعدة الاتساق الإيقاعي فغير الروي وجعله حرف اللام بدل الدال. ولم يخف التستاوتي مقصدية المجاراة لدالية اليوسي في المقدمة التي صدر بها قصيدته بقوله "أما بعد... فقد طالعت قصيدة الشيخ أبي علي سيدي الحسن بن مسعود اليوسي رحمه الله ورضي عنه التي امتدح بها الشيخ... محمد بن ناصر... فوجدتها بحرا تتلاطم أمواجه بالبيان وروضا متفتقا بأزهار العرفان... ولما رأيت منها ما بهرني حركني وارد لا أستطيع رده، ولا أقدر دفع حره وبرده، لوضع قصيدة تقرب من عددها وتقصر عن مردها، مع كبر سني وتناسي العلم مني، شتان ما بين حمار وفرس، وبين بدر طالع مع قبس وهي هذه:
قف ساعة بين الغوير فأربـــل واعطف بمنعطف الرسوم الهمل"
وقد شكلت دالية اليوسي وما تلاها من قصائد معارضة روائع الشعر الناصري، فهي قصائد تنهل من معين واحد، وتتناص في كثير من المواطن، وتتشابه في طول النفس، وتترابط بوشائج القربى التركيبية والإيقاعية. فقد شكلت المظلة الناصرية التغطية الروحية والإطار الفكري الذي تتواصل فيه الحساسيات الشعرية، وينفتح بعضها على البعض.
وقد تعددت نماذج المعارضات في الشعر الناصري بشكل أصبح ظاهرة لافتة للنظر تتخلل مختلف التجارب الشعرية لأدباء البيت الناصري. وهو مؤشر دال على خصوبة الحركة الشعرية الناصرية و على فعاليتها، في زمن كان الشعراء المغاربة يبحثون فيه عن ذواتهم الشاعرة المنزوية تحت ركام الحصار وخلف جدران الإقصاء. ويمكن التمييز داخل المعارضات الشعرية الناصرية بين أشكال وأنواع من المعارضات أهمها المعارضات الأفقية والعمودية:
1 ـ المعارضات الأفقية: وهي القصائد التي اتسقت إيقاعيا وتركيبيا مع نصوص شعرية تراثية بفعل انفتاح الأديب على الموروث الشعري وتفاعله معه. فقد أبدى الناصريون عناية فائقة بالشعر العربي المشرقي والأندلسي، فهاجرت إلى نصوصهم بعض المقومات الفنية في شكل إيقاعات مطردة في العديد من الأشعار.
ومن نماذج هذا النوع من المعارضات، قصيدة القاضي عبد الكبير الدرعي(ت 1134) أحد رموز النخبة الناصرية في رثائه لأحمد بن ناصر الخليفة (ت1129)ومطلعها: [السريع]
مات أبو العباس شيخ الورى فاربد وجه الأفق واستعبرا
و اغبرت الأرض فيحسـبها غير الذي يعرفها من يرى
فقد جاء هذا النص في شكل معارضة لقصيدة صلاح الدين الصفدي في رثائه للشيخ أبي حيان التوحيدي، ومطلعها : [السريع]
مات أثير الدين شيخ الورى فاستعر البـارق واستعبـرا
ورق من حزن نسيم الصـبا واعتل في الأسحار لما سرى
ونلاحظ أن القاضي الدرعي قد سلك طريق المماثلة في معارضته هاته. فقد تحقق فيها الاتساق التام على كل المستويات، إيقاعيا وغرضيا وتركيبيا.
ومن نماذج هذه المعارضات في الشعر الناصري، ما ساهم به الأديب محمد العلمي الحوات(ت1161)، أحد الرموز الشعرية في الزاوية الناصرية. فقد أبدى هذا الشاعر انبهارا كبيرا بالشعر الأندلسي واستيعابا كافيا له وإحاطة شاملة بخصائصه الفنية. وهذا ما جعله يقتحم باب المعارضة، وينجذب إلى بعض الإيقاعات الموروثة. فكان حلقة جديدة في سلسلة من القصائد الرائية التي اتسقت بنيتها الإيقاعية وصياغتها اللفظية.
فحينما يقول ابن جبير في قصيدته التي مطلعها :[المتقارب]
أقـــول وآنست بالليل نــارا لعــل سراج الهدى قد أنارا
نجد أبا سعيد فرج بن لب يجاريها على الإيقاع نفسه:
إذا القـــلب ثار أثار ادكـارا لقلبي فأذكـى علــيه أوارا
ويعلق أحمد المقري على هذه القصيدة قائلا "وقصد رحمه الله تعالى بهذه القصيدة معارضة قصيدة الشهاب محمود التي نظمها بالحجاز، مطلعها:
وصلنا السرى وهجرنا الديارا وجئناك نطوي إليك القفارا"
وهكذا مثل إيقاع هذه النصوص بؤرة انجذاب بالنسبة للشاعر الناصري محمد الحوات العلمي، الشيء الذي دفعه إلى أن يدلي بدلوه، وإلى أن يشارك السابقين ويزاحمهم بقصيدة تجاور ما سبقها من نصوص، وتتقاطع معها وتتناص مع إيقاعها وتراكيبها، ومطلعها :
أحبتنا أضرم البين نـــــارا وأذكى الغــرام بقلبي أوارا
ودمعي هذا جرى وابـــــلا بسفح الخــدود وهمى جارا
2 ـ المعارضات العمودية:
وهي القصائد التي عارض بها الشعراء الناصريون قصائد مغربية لأدباء الفترة التي احتضنتهم، وهو نوع من المعارضة الداخلية التي تدل على الحوار الثقافي القائم في نادي الشعر المغربي. وقد سجل الناصريون حضورهم باستمرار وبشكل لافت، وساهموا في دعم مسيرة الشعر المغربي و في إغنائه بتجارب شعرية قيمة. وقد كانت بينهم جسور فنية تمتد فيها الحروف والكلمات، وتتردد فيها الأوزان والإيقاعات. فلما مدح الأديب أحمد بن عبد الكريم المكيلدي( ت 1139)- وهو من كبار أتباع الطريقة الناصرية- الشيخ أحمد الخليفة بنونيته التي مطلعها: [الكامل]
من للكئيب المستهام العــانـي من فرط ما يلقاه من أشجـان
مترددا بين المعـــالم كي يرى أحدا فيوحي من خلال مغاني
ينتفض شاعر الزاوية وأديبها المبدع أحمد بن موسى الناصري(ت1156)، فيركب مركب وزن الكامل، ويستدعي حرف النون رويا ليعارض القصيدة السابقة بنص يتسق إيقاعا وغرضا ومطلعه :
هب النسيم معطـــر الأردان و الدوح يرفل في حلى الألوان
وكان بين أبناء البيت الناصري أكثر من وسيلة للتواصل والتحاور، فقد شكلت المعارضات أداة طيعة للمجاملات العائلية، وفيها يسعى الخلف إلى إحياء أنفاس السلف، و إلى حفظ تراث البيت الناصري بمعارضة نصوصه واستدعاء ما كان مشهورامنها أو مغمورا ، وجعله قاعدة لانطلاق الرحلات الجمالية بمركبات إيقاعية وتركيبية متسقة ومتجانسة. فقد نظم الأديب علي بن محمد بن ناصر قصيدته التي مطلعها: [الرمل]
حي بالسعد على فن الأقاح طير يمن بهنــاء ونجاح
فجاء رد أحمد بن موسى الناصري بقصيدة معارضة لها، تحمل بصمات القصيدة الأولى، وتردد أنفاسها، ومطلعها :
هالني الصد فقلبي موجـــــع مستـهام ورشــيق برماح
رق عذالي لنوحي ورثـــــوا وحبيب القلب راض بالنواح
وكان الأدباء الناصريون يكنون احتراما خاصا وتقديرا كبيرا لأدباء الزاوية الدلائية، وقد تجلى هذا التقدير في اطلاعهم على التراث الشعري الدلائي وفي حفظه واستيعابه وفي معارضة بعض نصوصه. وكانت هذه المعارضة تأتي بقصد التعبير عن الإعجاب و التقدير، ولم تكن قط نوعا من التحدي أو شكلا من أشكال الرغبة في التجاوز أو المنافسة. ومن ذلك هذا النموذج، يقول الأديب أحمد بن الحاج الدلائي (ت 1091) في إحدى قصائده التي مطلعها : [الطويل]
أريحا سرت بين الحدائق والنهر معنبرة الأذيال من نفحة الـزهـر
فمرت على أكناف دارين فانثنت تفاوح عرف المسك والعنبر الشجر
إذا ملت نحو الغرب يوما فبلغـي تحية مشتاق إلى ابن أبـي عمـر
وجدت هذه القصيدة ،بما تتميز به من مقومات فنية، تلقيا إيجابيا من طرف الأدباء الناصريين، فتفاعلوا معها بشكل منتج يحمل علامات التقدير وآيات الإعجاب. وهكذا نجد أحد أبناء البيت الناصري يعارضها وينسج على منوالها.تجسد ذلك في القصيدة المديحية لمحمد المكي بن ناصر(توفي بعد 1184) التي مطلعها: [الطويل]
أهبة ريح خالط العنبر الشجـر ففاح شذاه الطيب العابق النـشر
قفي واحملي مني السلام تحية إلى ساكني بطن العقيق ذوي الفخر
ونلاحظ ذلك التقاطع الكبير القائم بين القصيدتين على المستويين الإيقاعي والتركيبي، بحيث هاجرت الكثير من التعابير الشعرية من القصيدة الأم إلى القصيدة المعارضة.
وهكذا فإن اهتمام الشعراء الناصريين بظاهرة المعارضة وتعاطيهم لها يعكس وعيهم بالواقع الثقافي، ويبين مستوى إدراكهم لحالة الشعر في عصرهم. فقد كانت القصيدة المغربية في تلك الفترة تبحث عن ذاتها، وتريد التخلص من آصار الماضي وأحماله الثقيلة. ولم يكن أمام الشاعر الناصري- وغيره- سوى الالتفات إلى البؤر الضوئية المشعة في تراثنا الشعري والاستئناس بها واستلهام النور منها. ولم يكن هذا الرجوع إلى الماضي ضربا من القصور أو نوعا من النكوص أو الضعف بقدر ما كان حركة تصحيحية لمسار القصيدة المغربية. وقد ساهم الناصريون إلى جانب غيرهم من شعراء الفترة في انتشال الشعر المغربي من سجنه السحيق ومن أنياب الرقابة الصارمة المضروبة على تخومه. و عملوا على صقل بنيانه وترميم هيكله وتلقيحه بلقاح التجدد والاستمرارية. ولذلك "لا ينبغي التسرع أمام هذه الظاهرة وقذف شعراء المرحلة عبرها بالاجترار والتكرار. وإنما ينبغي التنصيص على أن الظروف التي مر بها الشعر المغربي بعد وفاة المنصور السعدي، هي التي حملت هؤلاء الشعراء على شن دعوة تصحيحية، تنظيرية حينا، وتطبيقية أحيانا كثيرة، بغية العودة بالأسلوب الشعري إلى نضارته ونقاوته".
وبالفعل فقد استطاع الشاعر الناصري أن يفرض نفسه في هذا المشروع الإحيائي، وأن يثبت مشاركته الفاعلة، وذلك بعدما وجد في نفسه القدرة على مزاحمة شعراء المرحلة، وعلى المساهمة إلى جانبهم في هذا البرنامج الحضاري بدون أدنى إحساس بالنقص. وفي هذا السياق تندرج المعارضات كوسيلة فنية لربط الماضي بالحاضر، وكأداة لمد جسور التواصل بين التجارب الشعرية، وإعادة إنتاج النموذج الشعري بنفس مغربي يحمل بصمات الخصوصية المغربية، و يمتاح من المحيط الاجتماعي و الواقع الثقافي، كما يمتاح من انفعالات الذات وتجاربها الخاصة. ولهذا فإن "معارضة النصوص القديمة والنسج على منوالها... لا يجمل أن نعزوه دائما إلى قصور الشاعر المعارض ونضوب معينه الفكري والفني. ولكنها ظاهرة ـ إلى جانب كونها انعكاسا واضحا لثقافة معينة ـ تكرس رغبة الشعراء المعارضين في الحفاظ للشعر العربي على متانته وحسن ديباجته كلما هبت عليه ريح الضعف والتعثر".
الهوامش:
أحمد الطريسي أعراب، الرؤية و الفن في الشعر العربي الحديث بالمغرب ،ص:88، المؤسسة الحديثة للنشر والتوزيع-البيضاء.الدار العالمية للطباعة بيروت.
ديوان النابغة الذبياني، تحقيق محمد الطاهر بن عاشور، ص: 76.
ديوان البوصيري،تحقيق محمد سعيد كيلاني، ص: 117 مطبعة الحلبي- ط2، 1973.
ديوان اليوسي، ص: 10 طبعة حجرية فاس د ت. وأحمد بن خالد الناصري، طلعة المشتري في النسب الجعفري 1 / 187 ـ 209. المؤسسة الناصرية للثقافة و العلم
نزهة الناظروبهجة الغصن الناضرج2/ و 135ص265 مخ خ تطوان رقم10/11. طلعة المشتري 1 / 232 ـ 252.
النزهة، 2 / ورقة135 ص:264 طلعة المشتري 1 / 232.
النزهة 2 / ورقة 33 ص: 62، طلعة المشتري 1 / 210.
محمد المكي بن ناصر، الدرر المرصعة بأخبار صلحاء درعة، ص: 253 ـ 254.تحقيق الحبيب نوحي، رسالة جامعية كلية الآداب الرباط 1988
أحمد المقري التلمساني، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب: 2 / 593 ـ 540 ، شرح و ضبط يوسف علي طويل ومريم قاسم طويل، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان(ط1) 1995.
لسان الدين بن الخطيب، الإحاطة في أخبار غرناطة ،تحقيق محمد بن عبد الله عنان، ج 2، ص: 335 ـ 336، ،مكتبة الخانجي القاهرة، ط2، 1973،.
المقري : نفح الطيب، 5 / 509 ـ 511.
محمد المكي بن ناصر: الرياحين الوردية في الرحلة المراكشية، ص: 45.مخ م و 1864/د
محمد المكي بن ناصر:الروض الزاهر في التعريف بابن حسين وأتباعه الأكابر، ص : 322 ـ 327.مخ خ ح 11861/ز ضمن مجموع. وأحمد الناصري: طلعة المشتري،ج 2 / 61 ـ 65.
الدرر المرصعة، ص: 96. الرياحين الوردية، ص : 54. البرق الماطر في شرح النسيم العاطر مخ م و 1864/د.
الروض الزاهر، ص: 374.
م نفسه، ص: 374.
ابن الطيب القادري: نشر المثاني لأهل القرن الحادي عشر والثاني:ج 2 / 285 ـ 287، تحقيق محمد حجي وأحمد توفيق ، مكتبة الطالب الرباط، 1982 ،.
مخ م و 1864 / د، ص: 1 ـ 2، الدرر المرصعة، ص : 525، الكناشة الناصرية، ص: 264.مخ خ ح12029
عبد الجواد السقاط: بناء القصيدة المغربية في فجر الدولة العلوية ( 1045-1139) ص: 80 منشورات كلية الآداب- المحمدية،) ط 1( ،2004
م. نفسه، ص: 85.
0
الرد على هذا المقا
١٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١١بقلم محمد شداد الحراق
المعارضة الشعرية فضاء فني تستعرض فيه الذات الشاعرة طاقتها الإبداعية وقدرتها على محاكاة النصوص السابقة وإعادة إنتاجها بنفس شعري جديد يربط الحاضر بالماضي، ويحيى الأصوات القديمة ويمنحها حق الاستمرارية والخلود.
وتعد المعارضة آلية فنية لتنشيط الفعل الثقافي، ورافدا من روافد إثراء الحركة الشعرية بالانفتاح على التجارب الفنية الناضجة، وإقامة حوار فني بين الشعراء المنتمين لعصور أدبية مختلفة.
وقد اشتهر المغاربة والأندلسيون بفن المعارضة أكثر من المشارقة، إذ شكل الموروث الشعري المشرقي قاعدة أساسية للانطلاق في حركة الشعر المغربية. وكانت العديد من التجارب الشعرية قد نشأت إثر الانبهار بالشعر المشرقي، و نبعت من الرغبة في تقليده ومحاكاته والنسج على منواله. ولكنها سرعان ما تحولت إلى عملية مبارزة فنية يحاول فيها الشاعر اللاحق تجاوز النموذج القديم والتفوق عليه. وبذلك انتقلت المعارضة من مستوى المحاكاة والتقليد إلى مستوى التجاوز والإبداع.
ولم تكن المعارضة الشعرية قط نوعا من الشعور بالنقص أو الدونية أمام القصائد النموذج، بل كانت شكلا من أشكال التحدي وحب التفوق والرغبة في إظهار النجومية والتألق في الساحة الشعرية. فالشاعر يحتاج أحيانا إلى معارضة من سبقه كي يثبت ذاته الشاعرة، ويفرض وجوده في نادي الشعراء المجدين. ولم يكن يجرؤ على المعارضة إلا من تكاملت لديه ملكة الشعر، وتدفقت منها الأشعار متألقة ناضرة . وليست المعارضة مؤشرا أبديا على مفهوم قاصر ومتخلف للشعر – كما يذهب أحد نقادنا-. وليست المعارضات – في كل نماذجها- منافية لجوهر الإبداع ومرفوضة وخارجة من دائرة الشعر الحق مهما بلغت من القوة في رصف الكلمات وحشد الصور .لأن الإقدام على المحاكاة لا يتم إلا إذا استوت لدى الأديب القدرة على الإمساك بناصية الشعر، و على تطويع قواعد النظم لتستجيب له لحظة الممارسة الشعرية. وهل يمكن أن يشك أحد في شاعرية البارودي وشوقي بسبب ما أنتجاه من معارضات لا تقل جمالية عن النصوص /المرجع التي نظموا على منوالها.
إن القراءة الواعية للأصل اللغوي للفظة المعارضة تبرز احتضانها لأكثر من دلالة. فإلى جانب المحاكاة والمجاراة، تحمل لفظة المعارضة دلالة المقابلة والمنافسة والتحدي، وبذلك ينفتح هذا المصطلح على دلالتين متكاملتين نجد أثرهما في النصوص الشعرية التي عارض بها الشعراء من سبقهم ومن عاصرهم. فمنهم من تحكمت فيه نزعة الإعجاب والانبهار، ومنهم من قادته غريزة المنافسة وشهوة التفوق. وقد شكلت المعارضة- بمفهوميها- إحدى أهم الظواهر الفنية في الشعر الناصري، وأحد الروافد التي غذت نهر الإبداع، وساهمت في تنشيط حركة الشعر، وعملت على تلقيح التراث الشعري الناصري بقصائد تحمل من الخصائص الفنية ما يجعلها نماذج شعرية ناضجة لا تقل أهمية عن كثير من التجارب الشعرية الموروثة.
فقد تعاطى الناصريون لفن المعارضة، وأسهموا فيه إسهاما ملحوظا مشكلين بذلك نواة حقيقية لحركة إحيائية للتراث الشعري، على نحو ما قام به رواد الحركة الكلاسيكية في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين على يد كل من البارودي وشوقي وحافظ إبراهيم وغيرهم... فالعودة إلى الماضي والارتداد إلى التراث قاعدة أساسية لكل نهضة أدبية وحركة إحيائية. ولعل الأدباء الناصريين كانوا على وعي تام بخصوصية المرحلة التي وجدوا فيها، وبإشكالاتها الكبرى وأسئلتها الملحة. وقد أسهموا في إحياء التراث الشعري العربي بدون أن ينسبوا الفضل إليهم، وبدون أن يدعوا السبق أو يسعوا إلى تصدر مركز الريادة كما فعل من جاء بعدهم بقرنين من الزمن.
فلم يكن يحركهم هاجس الريادة أو الصدارة بقدر ما كان هدفهم إعادة دماء الحياة إلى جسد القصيدة العربية وإثبات الذات الشاعرة المغربية والمشاركة في حلبة الإبداع بدون عقدة ضعف أو مركب نقص.
ولعل أهم مظهر لحركة المعارضات الشعرية، انضمام الناصريين إلى (نادي الداليات)، وهي القصائد التي تناسلت وتكاثرت وتولد بعضها عن بعض منذ العصور الأدبية الأولى، وظلت مهيجة لقرائح الشعراء في كل زمان ومكان.
وينحدر نسب الداليات من شجرة عريقة، ومن أصل رفيع تمثله دالية النابغة الذبياني التي مدح بها (المتجردة) زوجة النعمان بن المنذر، ومطلعها: [الكامل]
أمن آل مية رائح أو مغـــــتد عجلان ذا زاد وغير مــزود
ومن هذا الأصل العريق امتدت الفروع، وتناسلت وأزهرت وأثمرت، فكانت النتيجة سلسلة من القصائد الدالية يحاكي بعضها بعضا، ويقتفي أثره ويتبع أنفاسه. ويعود الفضل إلى الإمام البوصيري في فتح باب المعارضة، وتأسيس تيار شعري إحيائي يستلهم الموروث الشعري ويضفي عليه حلة جديدة ويوجهه الوجهة الدينية، لتصبح الداليات مقترنة بقصائد المدح. فقد نظم البوصيري داليته وجعلها في مدح أبي العباس المرسي ومطلعها: [الكامل]
كتب المشيب بأبيض في أسود بفراق ما بيني وبين الخرد
ومنذ ذلك الحين استقرت الداليات في وجدان المجتمع الثقافي، واستوطنت قلوب الشعراء، وهيجت مشاعرهم وملكاتهم، وأيقظت فيهم الرغبة في النزول إلى حلبة المنافسة والمبارزة الشعرية. ولم يكن الشعراء المغاربة في منأى عن صدى هذا المد الشعري القادم من الشرق، ولم تكن ملكة الشعر عندهم عاجزة عن اقتحام هذا المضمار الفني الأصيل. فقد وجد اليوسي في نفسه الجرأة الكافية والقدرة اللازمة على الانضمام إلى نادي الداليات، فدخل من أوسع باب من خلال نظمه لإحدى مطولاته التي تفاعل معها كيان الشعراء، وتجاوبت معها- لوقعها القوي وأثرها الكبير- كل الحساسيات والملكات المبدعة. فقد أحدثت دالية اليوسي صخبا قويا في مجتمع الشعراء، وحركت المواهب الراكدة، واستفزت القرائح الفاترة، ولفتت أنظار الجميع إلى شخصية الشاعر وإلى شخصية ممدوحه، بحيث نهج اليوسي- في هذا الأمر- سبيل البوصيري وسار على منواله، فجعل داليته مدحا لشيخه الروحي محمد بن ناصر، ومطلعها: [الكامل]
عرج بمنعرج الهضــاب الــورد بين اللصاب وبين ذات الأرمد
لقد قدم اليوسي هذه القصيدة قربانا بين يدي شيخه ابن ناصر، ليعبر بها عن حبه وولائه وصدق انتمائه للخط الفكري الناصري. ولكن صدى هذه القصيدة طرق أسماع الشعراء الناصريين وجعلهم ينزلون إلى ساحة المعارضة، وكان على رأسهم الأديب أحمد بن عبد القادر التستاوتي (ت 1127) الذي تأمل دالية اليوسي طويلا، فلم يجرؤ على مجاراتها في حياة صاحبها، وانتظر حتى يرحل إلى دار البقاء، حينئذ استجمع شتات ملكته الشعرية، وانطلق معارضا له بقصيدتين، إحداهما تحقق فيها الاتساق الإيقاعي وحده واختلف الغرض، وهي داليته في مدح الرسول (ص) والتي مطلعها:
عرج بأطلال الأحبة واقصد آثارهم يوما لعلك تهتدي
وتدخل هذه القصيدة ضمن المعارضات الملفوظة التي يصرح ناظمها بمقصد المجاراة والمحاكاة. وفي ذلك يقول أحمد التستاوتي في تصديرها:
"وبعد... فإن القصيدة اليوسية البليغة السنية من أجل كوكب من سماء البلاغة طلع، وأسنى نور من قمر الفصاحة سطع. وقد ماشيته بقصيدة أشبه شيء بالعصيدة واختلفنا في المقاصد والمحامد مع اجتماعنا على روي واحد، فنرغب من سادتنا غض الطرف عن معانيها وقبح ما يظهر من تراكبها، فإنها وإن كانت كذلك اتصفت بما هنالك، فقد تزينت بشمائل الممدوح بها وتعطرت بأوصافه التي كان الثناء عليه من أربها صلى الله عليه وسلم والمرجو من الله القبول وبلوغ ما أردناه من السول...".
وقد نص التستاوتي صراحة واعترف بمجاراته لليوسي حينما قال (قد ماشيته بقصيدة...) ونلاحظ تواضع التستاوتي وحسن تأدبه في المقدمة التي صدر بها قصيدته . فهو لم يكن يقصد المنافسة أو التجاوز بقدر ما كان يرغب في ركوب مركب اليوسي والإبحار به في عالم الداليات. لكن التستاوتي كان ذكيا في اختياره للموضوع والغرض، ولعله كان يركز على شرف الغرض لتحظى داليته بالمكانة التي حظيت بها دالية اليوسي.
والذي يهمنا في هذا السياق هو أن شهية الإبداع تحركت لدى الشعراء الناصريين، وتحركت معها أقلامهم، وتدفقت القصائد والأشعار في نهر الشعر غزيرة، تدل على حركة شعرية حقيقية.
ولم يكتف التستاوتي بمعارضته الدالية، بل نظم معارضة أخرى من مطولاته، وهي تجمع بين الاتساق الإيقاعي والغرضي. وقد سلك فيها التستاوتي سبيل المغايرة. حينما خرق بعض عناصر قاعدة الاتساق الإيقاعي فغير الروي وجعله حرف اللام بدل الدال. ولم يخف التستاوتي مقصدية المجاراة لدالية اليوسي في المقدمة التي صدر بها قصيدته بقوله "أما بعد... فقد طالعت قصيدة الشيخ أبي علي سيدي الحسن بن مسعود اليوسي رحمه الله ورضي عنه التي امتدح بها الشيخ... محمد بن ناصر... فوجدتها بحرا تتلاطم أمواجه بالبيان وروضا متفتقا بأزهار العرفان... ولما رأيت منها ما بهرني حركني وارد لا أستطيع رده، ولا أقدر دفع حره وبرده، لوضع قصيدة تقرب من عددها وتقصر عن مردها، مع كبر سني وتناسي العلم مني، شتان ما بين حمار وفرس، وبين بدر طالع مع قبس وهي هذه:
قف ساعة بين الغوير فأربـــل واعطف بمنعطف الرسوم الهمل"
وقد شكلت دالية اليوسي وما تلاها من قصائد معارضة روائع الشعر الناصري، فهي قصائد تنهل من معين واحد، وتتناص في كثير من المواطن، وتتشابه في طول النفس، وتترابط بوشائج القربى التركيبية والإيقاعية. فقد شكلت المظلة الناصرية التغطية الروحية والإطار الفكري الذي تتواصل فيه الحساسيات الشعرية، وينفتح بعضها على البعض.
وقد تعددت نماذج المعارضات في الشعر الناصري بشكل أصبح ظاهرة لافتة للنظر تتخلل مختلف التجارب الشعرية لأدباء البيت الناصري. وهو مؤشر دال على خصوبة الحركة الشعرية الناصرية و على فعاليتها، في زمن كان الشعراء المغاربة يبحثون فيه عن ذواتهم الشاعرة المنزوية تحت ركام الحصار وخلف جدران الإقصاء. ويمكن التمييز داخل المعارضات الشعرية الناصرية بين أشكال وأنواع من المعارضات أهمها المعارضات الأفقية والعمودية:
1 ـ المعارضات الأفقية: وهي القصائد التي اتسقت إيقاعيا وتركيبيا مع نصوص شعرية تراثية بفعل انفتاح الأديب على الموروث الشعري وتفاعله معه. فقد أبدى الناصريون عناية فائقة بالشعر العربي المشرقي والأندلسي، فهاجرت إلى نصوصهم بعض المقومات الفنية في شكل إيقاعات مطردة في العديد من الأشعار.
ومن نماذج هذا النوع من المعارضات، قصيدة القاضي عبد الكبير الدرعي(ت 1134) أحد رموز النخبة الناصرية في رثائه لأحمد بن ناصر الخليفة (ت1129)ومطلعها: [السريع]
مات أبو العباس شيخ الورى فاربد وجه الأفق واستعبرا
و اغبرت الأرض فيحسـبها غير الذي يعرفها من يرى
فقد جاء هذا النص في شكل معارضة لقصيدة صلاح الدين الصفدي في رثائه للشيخ أبي حيان التوحيدي، ومطلعها : [السريع]
مات أثير الدين شيخ الورى فاستعر البـارق واستعبـرا
ورق من حزن نسيم الصـبا واعتل في الأسحار لما سرى
ونلاحظ أن القاضي الدرعي قد سلك طريق المماثلة في معارضته هاته. فقد تحقق فيها الاتساق التام على كل المستويات، إيقاعيا وغرضيا وتركيبيا.
ومن نماذج هذه المعارضات في الشعر الناصري، ما ساهم به الأديب محمد العلمي الحوات(ت1161)، أحد الرموز الشعرية في الزاوية الناصرية. فقد أبدى هذا الشاعر انبهارا كبيرا بالشعر الأندلسي واستيعابا كافيا له وإحاطة شاملة بخصائصه الفنية. وهذا ما جعله يقتحم باب المعارضة، وينجذب إلى بعض الإيقاعات الموروثة. فكان حلقة جديدة في سلسلة من القصائد الرائية التي اتسقت بنيتها الإيقاعية وصياغتها اللفظية.
فحينما يقول ابن جبير في قصيدته التي مطلعها :[المتقارب]
أقـــول وآنست بالليل نــارا لعــل سراج الهدى قد أنارا
نجد أبا سعيد فرج بن لب يجاريها على الإيقاع نفسه:
إذا القـــلب ثار أثار ادكـارا لقلبي فأذكـى علــيه أوارا
ويعلق أحمد المقري على هذه القصيدة قائلا "وقصد رحمه الله تعالى بهذه القصيدة معارضة قصيدة الشهاب محمود التي نظمها بالحجاز، مطلعها:
وصلنا السرى وهجرنا الديارا وجئناك نطوي إليك القفارا"
وهكذا مثل إيقاع هذه النصوص بؤرة انجذاب بالنسبة للشاعر الناصري محمد الحوات العلمي، الشيء الذي دفعه إلى أن يدلي بدلوه، وإلى أن يشارك السابقين ويزاحمهم بقصيدة تجاور ما سبقها من نصوص، وتتقاطع معها وتتناص مع إيقاعها وتراكيبها، ومطلعها :
أحبتنا أضرم البين نـــــارا وأذكى الغــرام بقلبي أوارا
ودمعي هذا جرى وابـــــلا بسفح الخــدود وهمى جارا
2 ـ المعارضات العمودية:
وهي القصائد التي عارض بها الشعراء الناصريون قصائد مغربية لأدباء الفترة التي احتضنتهم، وهو نوع من المعارضة الداخلية التي تدل على الحوار الثقافي القائم في نادي الشعر المغربي. وقد سجل الناصريون حضورهم باستمرار وبشكل لافت، وساهموا في دعم مسيرة الشعر المغربي و في إغنائه بتجارب شعرية قيمة. وقد كانت بينهم جسور فنية تمتد فيها الحروف والكلمات، وتتردد فيها الأوزان والإيقاعات. فلما مدح الأديب أحمد بن عبد الكريم المكيلدي( ت 1139)- وهو من كبار أتباع الطريقة الناصرية- الشيخ أحمد الخليفة بنونيته التي مطلعها: [الكامل]
من للكئيب المستهام العــانـي من فرط ما يلقاه من أشجـان
مترددا بين المعـــالم كي يرى أحدا فيوحي من خلال مغاني
ينتفض شاعر الزاوية وأديبها المبدع أحمد بن موسى الناصري(ت1156)، فيركب مركب وزن الكامل، ويستدعي حرف النون رويا ليعارض القصيدة السابقة بنص يتسق إيقاعا وغرضا ومطلعه :
هب النسيم معطـــر الأردان و الدوح يرفل في حلى الألوان
وكان بين أبناء البيت الناصري أكثر من وسيلة للتواصل والتحاور، فقد شكلت المعارضات أداة طيعة للمجاملات العائلية، وفيها يسعى الخلف إلى إحياء أنفاس السلف، و إلى حفظ تراث البيت الناصري بمعارضة نصوصه واستدعاء ما كان مشهورامنها أو مغمورا ، وجعله قاعدة لانطلاق الرحلات الجمالية بمركبات إيقاعية وتركيبية متسقة ومتجانسة. فقد نظم الأديب علي بن محمد بن ناصر قصيدته التي مطلعها: [الرمل]
حي بالسعد على فن الأقاح طير يمن بهنــاء ونجاح
فجاء رد أحمد بن موسى الناصري بقصيدة معارضة لها، تحمل بصمات القصيدة الأولى، وتردد أنفاسها، ومطلعها :
هالني الصد فقلبي موجـــــع مستـهام ورشــيق برماح
رق عذالي لنوحي ورثـــــوا وحبيب القلب راض بالنواح
وكان الأدباء الناصريون يكنون احتراما خاصا وتقديرا كبيرا لأدباء الزاوية الدلائية، وقد تجلى هذا التقدير في اطلاعهم على التراث الشعري الدلائي وفي حفظه واستيعابه وفي معارضة بعض نصوصه. وكانت هذه المعارضة تأتي بقصد التعبير عن الإعجاب و التقدير، ولم تكن قط نوعا من التحدي أو شكلا من أشكال الرغبة في التجاوز أو المنافسة. ومن ذلك هذا النموذج، يقول الأديب أحمد بن الحاج الدلائي (ت 1091) في إحدى قصائده التي مطلعها : [الطويل]
أريحا سرت بين الحدائق والنهر معنبرة الأذيال من نفحة الـزهـر
فمرت على أكناف دارين فانثنت تفاوح عرف المسك والعنبر الشجر
إذا ملت نحو الغرب يوما فبلغـي تحية مشتاق إلى ابن أبـي عمـر
وجدت هذه القصيدة ،بما تتميز به من مقومات فنية، تلقيا إيجابيا من طرف الأدباء الناصريين، فتفاعلوا معها بشكل منتج يحمل علامات التقدير وآيات الإعجاب. وهكذا نجد أحد أبناء البيت الناصري يعارضها وينسج على منوالها.تجسد ذلك في القصيدة المديحية لمحمد المكي بن ناصر(توفي بعد 1184) التي مطلعها: [الطويل]
أهبة ريح خالط العنبر الشجـر ففاح شذاه الطيب العابق النـشر
قفي واحملي مني السلام تحية إلى ساكني بطن العقيق ذوي الفخر
ونلاحظ ذلك التقاطع الكبير القائم بين القصيدتين على المستويين الإيقاعي والتركيبي، بحيث هاجرت الكثير من التعابير الشعرية من القصيدة الأم إلى القصيدة المعارضة.
وهكذا فإن اهتمام الشعراء الناصريين بظاهرة المعارضة وتعاطيهم لها يعكس وعيهم بالواقع الثقافي، ويبين مستوى إدراكهم لحالة الشعر في عصرهم. فقد كانت القصيدة المغربية في تلك الفترة تبحث عن ذاتها، وتريد التخلص من آصار الماضي وأحماله الثقيلة. ولم يكن أمام الشاعر الناصري- وغيره- سوى الالتفات إلى البؤر الضوئية المشعة في تراثنا الشعري والاستئناس بها واستلهام النور منها. ولم يكن هذا الرجوع إلى الماضي ضربا من القصور أو نوعا من النكوص أو الضعف بقدر ما كان حركة تصحيحية لمسار القصيدة المغربية. وقد ساهم الناصريون إلى جانب غيرهم من شعراء الفترة في انتشال الشعر المغربي من سجنه السحيق ومن أنياب الرقابة الصارمة المضروبة على تخومه. و عملوا على صقل بنيانه وترميم هيكله وتلقيحه بلقاح التجدد والاستمرارية. ولذلك "لا ينبغي التسرع أمام هذه الظاهرة وقذف شعراء المرحلة عبرها بالاجترار والتكرار. وإنما ينبغي التنصيص على أن الظروف التي مر بها الشعر المغربي بعد وفاة المنصور السعدي، هي التي حملت هؤلاء الشعراء على شن دعوة تصحيحية، تنظيرية حينا، وتطبيقية أحيانا كثيرة، بغية العودة بالأسلوب الشعري إلى نضارته ونقاوته".
وبالفعل فقد استطاع الشاعر الناصري أن يفرض نفسه في هذا المشروع الإحيائي، وأن يثبت مشاركته الفاعلة، وذلك بعدما وجد في نفسه القدرة على مزاحمة شعراء المرحلة، وعلى المساهمة إلى جانبهم في هذا البرنامج الحضاري بدون أدنى إحساس بالنقص. وفي هذا السياق تندرج المعارضات كوسيلة فنية لربط الماضي بالحاضر، وكأداة لمد جسور التواصل بين التجارب الشعرية، وإعادة إنتاج النموذج الشعري بنفس مغربي يحمل بصمات الخصوصية المغربية، و يمتاح من المحيط الاجتماعي و الواقع الثقافي، كما يمتاح من انفعالات الذات وتجاربها الخاصة. ولهذا فإن "معارضة النصوص القديمة والنسج على منوالها... لا يجمل أن نعزوه دائما إلى قصور الشاعر المعارض ونضوب معينه الفكري والفني. ولكنها ظاهرة ـ إلى جانب كونها انعكاسا واضحا لثقافة معينة ـ تكرس رغبة الشعراء المعارضين في الحفاظ للشعر العربي على متانته وحسن ديباجته كلما هبت عليه ريح الضعف والتعثر".
الهوامش:
أحمد الطريسي أعراب، الرؤية و الفن في الشعر العربي الحديث بالمغرب ،ص:88، المؤسسة الحديثة للنشر والتوزيع-البيضاء.الدار العالمية للطباعة بيروت.
ديوان النابغة الذبياني، تحقيق محمد الطاهر بن عاشور، ص: 76.
ديوان البوصيري،تحقيق محمد سعيد كيلاني، ص: 117 مطبعة الحلبي- ط2، 1973.
ديوان اليوسي، ص: 10 طبعة حجرية فاس د ت. وأحمد بن خالد الناصري، طلعة المشتري في النسب الجعفري 1 / 187 ـ 209. المؤسسة الناصرية للثقافة و العلم
نزهة الناظروبهجة الغصن الناضرج2/ و 135ص265 مخ خ تطوان رقم10/11. طلعة المشتري 1 / 232 ـ 252.
النزهة، 2 / ورقة135 ص:264 طلعة المشتري 1 / 232.
النزهة 2 / ورقة 33 ص: 62، طلعة المشتري 1 / 210.
محمد المكي بن ناصر، الدرر المرصعة بأخبار صلحاء درعة، ص: 253 ـ 254.تحقيق الحبيب نوحي، رسالة جامعية كلية الآداب الرباط 1988
أحمد المقري التلمساني، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب: 2 / 593 ـ 540 ، شرح و ضبط يوسف علي طويل ومريم قاسم طويل، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان(ط1) 1995.
لسان الدين بن الخطيب، الإحاطة في أخبار غرناطة ،تحقيق محمد بن عبد الله عنان، ج 2، ص: 335 ـ 336، ،مكتبة الخانجي القاهرة، ط2، 1973،.
المقري : نفح الطيب، 5 / 509 ـ 511.
محمد المكي بن ناصر: الرياحين الوردية في الرحلة المراكشية، ص: 45.مخ م و 1864/د
محمد المكي بن ناصر:الروض الزاهر في التعريف بابن حسين وأتباعه الأكابر، ص : 322 ـ 327.مخ خ ح 11861/ز ضمن مجموع. وأحمد الناصري: طلعة المشتري،ج 2 / 61 ـ 65.
الدرر المرصعة، ص: 96. الرياحين الوردية، ص : 54. البرق الماطر في شرح النسيم العاطر مخ م و 1864/د.
الروض الزاهر، ص: 374.
م نفسه، ص: 374.
ابن الطيب القادري: نشر المثاني لأهل القرن الحادي عشر والثاني:ج 2 / 285 ـ 287، تحقيق محمد حجي وأحمد توفيق ، مكتبة الطالب الرباط، 1982 ،.
مخ م و 1864 / د، ص: 1 ـ 2، الدرر المرصعة، ص : 525، الكناشة الناصرية، ص: 264.مخ خ ح12029
عبد الجواد السقاط: بناء القصيدة المغربية في فجر الدولة العلوية ( 1045-1139) ص: 80 منشورات كلية الآداب- المحمدية،) ط 1( ،2004
م. نفسه، ص: 85.
0
الرد على هذا المقا