القراءة المنهجية للنص الأدبي النقدي
فريد أمعضشو
٢٤ أيار (مايو) ٢٠١١
لقد
عرف النقد العربي المعاصر تطوراً ملحوظاً، خلال النصف الثاني من القرن
الماضي، على مستوييِ الكمّ والكيف، نتيجةً لعدة عوامل، يأتي في مقدمتها
انفتاحُ نقدنا على نظيره الغربي، وتأثره به، واستفادته من مناهجه ونظرياته
وتصوُّراته وآلياته في مقارَبة الأعمال الأدبية. ويعد المنهج البنيوي
واحداً من المناهج النقدية الحديثة التي تأثر بها كثيرٌ من نقادنا
المعاصرين، واعتمدوها في تناوُل الأثر الأدبي منذ ستينيات القرن العشرين.
وهو طريقة في القراءة تدرسُ النص من الداخل، بوصفه بنية أو نسَقاً لغوياً
مكوَّناً من عناصر تنتظم وَفق شبكة من العلاقات، ولا تُولي اهتماماً
للعوامل الخارجية المُحيطة بالنص، والتي تترك، حَتماً، بصْماتها في ذلك
النص. ويَستقي هذا المنهجُ أسُسَه ومفاهيمَه وميكانيزمات اشتغاله من علم
اللغة الحديث (اللسانيات). وقد توسَّل عددٌ من نقادنا المشارقة والمغاربة
بهذا المنهج في دراسة الظاهرة الأدبية، وتحليل بنيتها من خلال الوقوف عند
مستوياتها المختلفة؛ مثلما فعل كمال أبو ديب، ومحمد مفتاح الذي وظف هذا
المنهج في كثير من دراساته في مجال النقد الأدبي منذ أوائل الثمانينيات.
إن النص الذي بين أيدينا* نموذجٌ واضح للدراسات التحليلية البنيوية،
التي تعالج النص من الداخل، دون التفاتٍ إلى تأثيرات خارجيّاته. وتؤكد ذلك
بعضُ مشيرات النص الدالّة، ولاسيما عنوانه وبدايته. وانطلاقاً من هاتين
العَتَبَتيْن، نتوقع أن يُفرِد مفتاح نصَّه هذا لتحليل بيت ابن عبدون
الأندلسي تحليلاً بنيوياً، ودراسته من جوانبَ داخليةٍ مختلفة، للوقوف على
مظاهر التوتر والخَرْق فيه.
وقبل الانتقال إلى دراسة النص مضمونياً وفنياً، يحسُن بنا أن نطرح بعضَ الأسئلة المهمّة التي سنسعى إلى الإجابة عنها لاحقاً، وهي:
ما القضية النقدية المحورية التي يتناوها النص؟ وما عناصرُها؟
وما الطريقة التي اعتمدها الكاتب لعرْضها ومعالجتها؟
وإلى أي حدٍّ يستطيع المنهج البنيوي تقديم قراءة وافية للنص، قادرة على إضاءته والإحاطة به؟
لقد اتضح لنا، بعد قراءة النص بتأنٍّ، أنه يعالج بيتاً واحداً لابن
عبدون معالجة داخلية، تعامَلت معه باعتباره بنية لغوية ذات مستويات
متدرِّجة، وتوخّت كشْف تجلّيات التوتُّر فيه. وقد تناول الناقدُ قضية نصه
المركزية عبْر عددٍ من الأفكار والقضايا الفرعية المتضافرة والمترابطة فيما
بينها، والرامية إلى تبيان القضية الأساس وتوضيحها للقارئ. إذ استهلّ محمد
مفتاح نصه بالإفصاح عن مُنطلَقه ومنهاجه في تحليل بيت ابن عبْدون الوارد
في أول النص، ثم انتقل مباشرةً إلى مقاربته بادئاً بدراسة بنيته الصوتية،
مُسجِّلاً هيْمنَة بعض الأصوات المتشاكِلة فيه، وهي أصوات الحلْق الدالة
على معنيَي الحزن والزَّجْر اللذين أكّدهما المُعجَم كذلك. وإلى جانب
وظيفتها التعبيرية، فإن لتلك الأصوات وظيفةً أخرى تنظيميةً وإيقاعية.
وبالنظر إلى سياق البيت وبُعْده الدلالي، فقد كان متوقعاً أن تحضر فيه،
بكثافة، حركة الكسْرة، بوصفها صائتاً مناسباً للتعبير عن الانكسار والحزن
والفاجعة، ولكنّ تلك الحركة قلّت في البيت؛ لأنه، في نظر الناقد، لا يدل
على اللطف والصِّغَر. وقسّم مفتاح إيقاع البيت الداخليَّ، ولاسيما المؤسَّس
على ظاهرة التَّكرار، إلى ما يكون فيه تكرار الأصوات حُرّاً اختيارياً،
وإلى ما يكون فيه الشاعرُ مُلزَماً باحترام تقاليد القصيدة العربية القديمة
في هذا الصَّدد.
ولم يقفِ الناقد عند حُدود تحليل البيت من جانب أصواته (صوامت وصوائت)،
بل انتقل إلى دراسته من الناحية المعجمية؛ فلاحَظ أن أكثر ألفاظه مُستقىً
من حقل الرثاء المعروف في تاريخ الشعر العربي، وأن ثمة مبدأ تحكَّم فيها؛
هو "التداعي بالمقاربة".
وأكد مفتاح، عقب ذلك، أن تناوُل البيت صوتياً ومعجمياً فقط غيرُ كافٍ
لفهْمه والوقوف على أسْراره، بل يلزم الانتقال إلى دراسته من الناحية
التركيبية سواء النحوية أو البلاغية؛ فحاوَل تحليل بيت ابن عبْدون من هذه
الزاوية، وأبرز مختلِف مظاهر التشويش والتوتر والخَرْق على مستوى تركيبة
البيت، واجتهد في تعليله وتسْويغه.
يبدو مما سبق أن ناقدَنا قد قارَبَ نصَّ ابن عبدون مقاربة انصبّت على
دواخِله، باعتماد المنهج البنيوي الذي مكّنه من تحليل النص، وتفكيك نسَقه
اللغوي، ودراسته انطلاقاً من مستوياتٍ متعددة ومتدرِّجة، والتوصُّل إلى
تعرُّف البنية المتحكِّمة فيه. ولم يكن يأخذ في الحُسبان ما يحيط بالنص من
ظروف وأطراف؛ وخصوصاً السياق التاريخي، والوسَط الاجتماعي، وحياة المُبدِع،
التي يلحّ عليها النقاد التاريخيون والاجتماعيون والنفسانيون مِمَّنْ
يرْكَنون إلى قراءة النص قراءة خارجية.
وقد اعتمد الناقد، في بناء نصه، خطة منهاجية استنباطية كشفت عن وحدة
النص الموضوعية، وجعلتْه خاضعاً لتصْميم واضح؛ بحيث بدأه بطرْح عامّ قدّم
خلاله منطلقه في تحليل البيت، ومنهجه في دراسته، ثم انتقل إلى مقاربته
بدءاً بأصواته فمعجمِه ثم تركيبه، ولم يختمْه بخاتمة يضمِّنُها نتيجة
مقاربته تلك!
واستخدم لغة دقيقة تقريرية مباشرة خالية من التصوير الفني ومن أساليب
التكلف، تلائم طبيعة النص، وتخدم مقصدية كاتبه. كما ضَمَّن نصَّه جملة
وافرة من المفاهيم والمصطلحات النقدية التي تُمِتّ بصلةٍ إلى المنهج
المعتمَد في تناوُل بيت ابن عبْدون؛ من مثل: التشاكل، والتبايُن، والبنية،
والأصوات، والمعجم، والتركيب، والرتبة، والإسناد.
كما توسّل بجُمَل طويلة أو مركّبة في الغالب الأعمّ، وبعددٍ من الأساليب
الحِجاجية/ الاستدلالية؛ كالشرح والتفسير، والتعليل، والوصْف، والتوكيد،
والقياس... وبكثيرٍ من الوسائل التي حققتْ للنص اتساقه وتماسكه، وأكْسبته
قوة تأثيرية وإقناعية؛ كحروف العطف، والأسماء الموصولة، والإحالة بمختلِف
أنواعها (وهي تتحقق، أساساً، بالضمائر وأسماء الإشارة)، وأسلوب الشرط،
والتكرار، والتقابُل.
وليس النص المدروس، هنا، متسِقاً فحسبُ، بل إنه منسجمٌ كذلك. وإذا كان
اتساقه قد تحقق بالأدوات المذكورة سابقاً، فإن انسجامَه تحقق بروابطَ أخرى
غير ظاهرة، وبمُراعاة مبادئ وعمليات جعلته قابلاً للفهْم والتأويل. فعلى
مستوى السياق العام، فالنصُّ الماثلُ أمامَنا منسجمٌ يندرج في سياق انفتاح
النقد المغربي المعاصر على نظيره الغربي، وتأثره بمناهجه الحديثة، ولاسيما
المقاربة البنيوية. وعلى مستوى التأويل المحلّي، نجد في النص عدة عناصر
تقيِّد الطاقة التأويلية لقارئه؛ كما في السطر الأول الذي حدّد فيه الناقد
بعضَ معالم قراءته للبيت قيد التحليل. وعلى مستوى التشابُه، فانسجامُ هذا
النص متحقق من خلال استحْضار جملة من التجارب النقدية العربية المعاصرة
التي عمدت إلى معالجة النصوص بمنظار بنيوي (أبو ديب مثلاً). وعلى مستوى
التغريض، نخلص إلى أن نقطة التمرْكُز التي يتمحْوَر حولها النص كلُّه،
والتي تتجمّع حولها مختلف عناصره، هي بيت ابن عبدون الذي سعى مفتاح إلى
إضاءَته وتحليله من ثلاث زوايا أساسية كما رأينا آنِفاً.
اِنطلاقاً ممّا تقدّم كله، يتبيّن أن الكاتب قد حلل في نصه هذا بيتاً
شعرياً من بعض مستوياته الداخلية، مستهدِفاً كشْف بنية التوتر فيه؛ وذلك
باعتماد لغة نقدية مباشرة، وأسلوب حجاجي إقناعي، وجملة من الروابط
الاتساقية والانسجامية.
والواقعُ أن منهج الكاتب في تناول ذلك البيت، وإنْ كان قد أسْعَفه في
تفكيكه ودراسته داخلياً من جوانب عدة، إلا أنه يظل قاصِراً غيرَ قادر على
الإحاطة بالمقروء من جميع زواياه. فهو يقاربُ النص من حيث بنيته الداخلية
وشكلُه، دون التفاتٍ إلى إحالاته ومرجعياته الخارجية التي لا يمكننا، بأي
حال، إغفالها وتجاهلُ أثرها في تشكيل العمل الأدبي. بأسلوب آخر، فإن
المنهجَ البنيوي يقرأ النص من الداخل تاركاً خارجَه، بخلاف المنهج
الاجتماعي، مثلاً، الذي يقرؤه من الخارج بالأساس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* النص المقروء في هذا المقال (وعنوانه "بنية التوتر"):
" يقول الشاعر ابنُ عبدون:
<blockquote class="spip_poesie">الدَّهْـرُ يَفجَــعُ بعدَ العـيْن بالأثـر
فما البُكاءُ على الأشْباحِ والصُّـوَر؟!
</blockquote>
لنبدأ في تحليل هذا البيت منطلِقين من المبدإ الذي يرى أن الشعر عبارة
عن تشاكُل وتبايُن. وسنشرع في التحليل مبتدئين من الأخصّ إلى الأعمّ. إن
أولَ ما ندْركه من التشاكلات هو الأصوات، وكثيرٌ منها يرجع إلى حيّز واحد،
وهو الحلق (أ، هـ، ع،ح)، وهي تدل هنا على معنىً أساسيّ، وهو الحزن والزجر.
ولْنرجعْ إلى المعجم لنتأكد من صحة هذا، فكلمة (أوَّه) وما شاكلها، معناها
التحزُّن. وها هيْتُ (زجرْت الإبل)، وكذا عاعى بالغنَم (زجرها)، وحأحأ
(زَجَر)... فالمعنيان معاً: التحزن والزجر تدل عليهما أصواتُ البيت. وإذا
ما نظرْنا إلى هذه الأصوات غير مركّبة فإننا نجد تتابُع العين يوحي
بالعَنْعَنَة التي تفيد الاستمرار والترتيب والانتقال من درجة إلى درجة.
ويدل تتابُع الهمزة على التألم والرثاء. وكما اشتقّ التراثُ كلمة
(عَنْعَنَة) ليعبِّّّر بها عن معانٍ خاصة، فإننا نشتقّ كلمة (أنْأنَة)
لتتابُع الأنين واسْتمراره. ففي المعاجم الأنَنَة الكثيرُ الكلام والبثّ
والشكوى.
تلك بعضُ الإيحاءات المُستخلَصة من تردُّد بعض الأصوات، وتُضاف إليها
وظيفة هندسية تنظيمية لبنية البيت، فهي عاملُ ربْطٍ بين الشطرين. إن هذه
الوظيفة التنظيمية هي من بين ما يُلْجئ الشاعرَ إلى استعمال بعض الأصوات
دون غيْرها، على أن في البيت أصواتاً أخرى، وهي (ل، م، ن، ر) لا يعني
تَكرارُها شيئاً إلا إذا كانت هناك قرائنُ مرجِّحة توجِّهُها إلى معنىً ما.
قد يتساءَل القارئ عم مغزى قلة حركة الكسْر في البيت، وقد تجيبه
الدراسات النفسانية – اللغوية بأن الكسرة تدل على اللطف والصِّغَر، وليس
هذا البيت بدالٍّ عليهما.
إن تكرارَ الأصوات السابقة "حُرّ"؛ بمعنى أن الشاعرَ ليس مُلزَماً
بإعادتها، ولكنّ الأمرَ ليس كذلك في الرّويّ؛ إذ تقاليدُ الشعر العربي
القديم تفرضُ أنْ تُبْنى القصيدةُ على رويٍّ واحد، ووزْن واحد، وقافية
واحدة، ولكنّ وحدة الوزن لا تَحُولُ دونَ وجود خلافٍ إيقاعيّ. فالشطرُ
الأولُ في هذا البيت ذو حركة سريعة معبِّرة عن الحَسْم والعزْم والسرعة في
إنجاز البطْش، والشطر الثاني ذو حركة بطيئة تحاكي استمرارَ أفعال الدهر
ودَيْمومة نتائجه؛ أي أن هذا الإيقاعَ يوحي بتقابُل بين تكرار الفعل،
وديمومة نتائجه.
إذا تجاوزْنا علاقة "الصوت بالمعنى" إلى "المعجم" فإننا نجدُ الشاعرَ
اسْتقاه من مدوَّنة الغرض. وقد تحكم في حضور كلماته مبدأ التداعي
بالمقاربة؛ فـ"العين" دعَتِ "الأثر"، و"الأشباح" استدعت "الصور"...
فالذاكرة قامت بدور أساسي في هذا التجميع لكلماتٍ معروفة ذهنياً لدى
المتلقي أيضاً، ولذلك جاءت مصحوبة بـ"أل"، بيدَ أن الأصوات وما توحي به من
معانٍ، والمعجم ومفرَداته، لا يكتفيان في فهْم الشعر وكشف أسراره، وإنما
يجب أن يُصاغا في تركيبٍ.
إن الرتبة الطبيعية في اللغة العربية هي: (الفعل + الفاعل + المفعول به)
و(المبتدأ + الخبر) و(الموصوف + الصفة). وإذا وقع غيرُ هذا الترتيب فإن
هناك تشويشاً في الرتبة يحتاج إلى تأويل. ولذلك، فإن تركيب: "الدهرُ يفجَع"
جاء على غير الأصل؛ لأن هدفَ الشاعر من تقديم الدهر هو أن يجعله موضوعاً
متحدَّثاً عنه، وما يتلوه تعليقاً عليه. كما أن الأصل في الاستفهام هو طلب
العلم، ولكن الشاعرَ لا يَقصد ذلك، وإنما يريد التوبيخ والتقريع. وهكذا،
فإن الجملة الخبرية والجملة الإنشائية أحْدَثتا توتراً تركيبياً في البيت
يعكس صراعاً بين الشاعر/ المتلقي وبين الدهر/ الإنسان.
ومهما يكن، فإن هناك خَرْقاً على مستوى التركيب نراه في ما يلي:
تشويش الرتبة.
الاستفهام المجازي الذي يعني النهي (لا تبْكِ).
الإسناد
المجازي في: "الدهر يفجع". إذ مقوِّماتُ "الدهر": [+ زمان]، [+ غير
محدود]، [+ مجرَّد]، [+ مُؤذٍ]، [– إنسان]. و"يفجع": [+ فعل مضارع]، [+
فاعله حيّ].
حذف المفعول؛ إذ "يفجع" فعل متعَدٍّ، ولكنه حذفٌ لتحقيق عُمومية الخطاب.
استعمال فعل استمراري خالٍ من الزمان."
مصدر النص: "تحليل الخطاب الشعري (استراتيجية التناص)" لمحمد مفتاح،
المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط.2، 1986، ص175-177، بتصرف.
فريد أمعضشو
٢٤ أيار (مايو) ٢٠١١
لقد
عرف النقد العربي المعاصر تطوراً ملحوظاً، خلال النصف الثاني من القرن
الماضي، على مستوييِ الكمّ والكيف، نتيجةً لعدة عوامل، يأتي في مقدمتها
انفتاحُ نقدنا على نظيره الغربي، وتأثره به، واستفادته من مناهجه ونظرياته
وتصوُّراته وآلياته في مقارَبة الأعمال الأدبية. ويعد المنهج البنيوي
واحداً من المناهج النقدية الحديثة التي تأثر بها كثيرٌ من نقادنا
المعاصرين، واعتمدوها في تناوُل الأثر الأدبي منذ ستينيات القرن العشرين.
وهو طريقة في القراءة تدرسُ النص من الداخل، بوصفه بنية أو نسَقاً لغوياً
مكوَّناً من عناصر تنتظم وَفق شبكة من العلاقات، ولا تُولي اهتماماً
للعوامل الخارجية المُحيطة بالنص، والتي تترك، حَتماً، بصْماتها في ذلك
النص. ويَستقي هذا المنهجُ أسُسَه ومفاهيمَه وميكانيزمات اشتغاله من علم
اللغة الحديث (اللسانيات). وقد توسَّل عددٌ من نقادنا المشارقة والمغاربة
بهذا المنهج في دراسة الظاهرة الأدبية، وتحليل بنيتها من خلال الوقوف عند
مستوياتها المختلفة؛ مثلما فعل كمال أبو ديب، ومحمد مفتاح الذي وظف هذا
المنهج في كثير من دراساته في مجال النقد الأدبي منذ أوائل الثمانينيات.
إن النص الذي بين أيدينا* نموذجٌ واضح للدراسات التحليلية البنيوية،
التي تعالج النص من الداخل، دون التفاتٍ إلى تأثيرات خارجيّاته. وتؤكد ذلك
بعضُ مشيرات النص الدالّة، ولاسيما عنوانه وبدايته. وانطلاقاً من هاتين
العَتَبَتيْن، نتوقع أن يُفرِد مفتاح نصَّه هذا لتحليل بيت ابن عبدون
الأندلسي تحليلاً بنيوياً، ودراسته من جوانبَ داخليةٍ مختلفة، للوقوف على
مظاهر التوتر والخَرْق فيه.
وقبل الانتقال إلى دراسة النص مضمونياً وفنياً، يحسُن بنا أن نطرح بعضَ الأسئلة المهمّة التي سنسعى إلى الإجابة عنها لاحقاً، وهي:
ما القضية النقدية المحورية التي يتناوها النص؟ وما عناصرُها؟
وما الطريقة التي اعتمدها الكاتب لعرْضها ومعالجتها؟
وإلى أي حدٍّ يستطيع المنهج البنيوي تقديم قراءة وافية للنص، قادرة على إضاءته والإحاطة به؟
لقد اتضح لنا، بعد قراءة النص بتأنٍّ، أنه يعالج بيتاً واحداً لابن
عبدون معالجة داخلية، تعامَلت معه باعتباره بنية لغوية ذات مستويات
متدرِّجة، وتوخّت كشْف تجلّيات التوتُّر فيه. وقد تناول الناقدُ قضية نصه
المركزية عبْر عددٍ من الأفكار والقضايا الفرعية المتضافرة والمترابطة فيما
بينها، والرامية إلى تبيان القضية الأساس وتوضيحها للقارئ. إذ استهلّ محمد
مفتاح نصه بالإفصاح عن مُنطلَقه ومنهاجه في تحليل بيت ابن عبْدون الوارد
في أول النص، ثم انتقل مباشرةً إلى مقاربته بادئاً بدراسة بنيته الصوتية،
مُسجِّلاً هيْمنَة بعض الأصوات المتشاكِلة فيه، وهي أصوات الحلْق الدالة
على معنيَي الحزن والزَّجْر اللذين أكّدهما المُعجَم كذلك. وإلى جانب
وظيفتها التعبيرية، فإن لتلك الأصوات وظيفةً أخرى تنظيميةً وإيقاعية.
وبالنظر إلى سياق البيت وبُعْده الدلالي، فقد كان متوقعاً أن تحضر فيه،
بكثافة، حركة الكسْرة، بوصفها صائتاً مناسباً للتعبير عن الانكسار والحزن
والفاجعة، ولكنّ تلك الحركة قلّت في البيت؛ لأنه، في نظر الناقد، لا يدل
على اللطف والصِّغَر. وقسّم مفتاح إيقاع البيت الداخليَّ، ولاسيما المؤسَّس
على ظاهرة التَّكرار، إلى ما يكون فيه تكرار الأصوات حُرّاً اختيارياً،
وإلى ما يكون فيه الشاعرُ مُلزَماً باحترام تقاليد القصيدة العربية القديمة
في هذا الصَّدد.
ولم يقفِ الناقد عند حُدود تحليل البيت من جانب أصواته (صوامت وصوائت)،
بل انتقل إلى دراسته من الناحية المعجمية؛ فلاحَظ أن أكثر ألفاظه مُستقىً
من حقل الرثاء المعروف في تاريخ الشعر العربي، وأن ثمة مبدأ تحكَّم فيها؛
هو "التداعي بالمقاربة".
وأكد مفتاح، عقب ذلك، أن تناوُل البيت صوتياً ومعجمياً فقط غيرُ كافٍ
لفهْمه والوقوف على أسْراره، بل يلزم الانتقال إلى دراسته من الناحية
التركيبية سواء النحوية أو البلاغية؛ فحاوَل تحليل بيت ابن عبْدون من هذه
الزاوية، وأبرز مختلِف مظاهر التشويش والتوتر والخَرْق على مستوى تركيبة
البيت، واجتهد في تعليله وتسْويغه.
يبدو مما سبق أن ناقدَنا قد قارَبَ نصَّ ابن عبدون مقاربة انصبّت على
دواخِله، باعتماد المنهج البنيوي الذي مكّنه من تحليل النص، وتفكيك نسَقه
اللغوي، ودراسته انطلاقاً من مستوياتٍ متعددة ومتدرِّجة، والتوصُّل إلى
تعرُّف البنية المتحكِّمة فيه. ولم يكن يأخذ في الحُسبان ما يحيط بالنص من
ظروف وأطراف؛ وخصوصاً السياق التاريخي، والوسَط الاجتماعي، وحياة المُبدِع،
التي يلحّ عليها النقاد التاريخيون والاجتماعيون والنفسانيون مِمَّنْ
يرْكَنون إلى قراءة النص قراءة خارجية.
وقد اعتمد الناقد، في بناء نصه، خطة منهاجية استنباطية كشفت عن وحدة
النص الموضوعية، وجعلتْه خاضعاً لتصْميم واضح؛ بحيث بدأه بطرْح عامّ قدّم
خلاله منطلقه في تحليل البيت، ومنهجه في دراسته، ثم انتقل إلى مقاربته
بدءاً بأصواته فمعجمِه ثم تركيبه، ولم يختمْه بخاتمة يضمِّنُها نتيجة
مقاربته تلك!
واستخدم لغة دقيقة تقريرية مباشرة خالية من التصوير الفني ومن أساليب
التكلف، تلائم طبيعة النص، وتخدم مقصدية كاتبه. كما ضَمَّن نصَّه جملة
وافرة من المفاهيم والمصطلحات النقدية التي تُمِتّ بصلةٍ إلى المنهج
المعتمَد في تناوُل بيت ابن عبْدون؛ من مثل: التشاكل، والتبايُن، والبنية،
والأصوات، والمعجم، والتركيب، والرتبة، والإسناد.
كما توسّل بجُمَل طويلة أو مركّبة في الغالب الأعمّ، وبعددٍ من الأساليب
الحِجاجية/ الاستدلالية؛ كالشرح والتفسير، والتعليل، والوصْف، والتوكيد،
والقياس... وبكثيرٍ من الوسائل التي حققتْ للنص اتساقه وتماسكه، وأكْسبته
قوة تأثيرية وإقناعية؛ كحروف العطف، والأسماء الموصولة، والإحالة بمختلِف
أنواعها (وهي تتحقق، أساساً، بالضمائر وأسماء الإشارة)، وأسلوب الشرط،
والتكرار، والتقابُل.
وليس النص المدروس، هنا، متسِقاً فحسبُ، بل إنه منسجمٌ كذلك. وإذا كان
اتساقه قد تحقق بالأدوات المذكورة سابقاً، فإن انسجامَه تحقق بروابطَ أخرى
غير ظاهرة، وبمُراعاة مبادئ وعمليات جعلته قابلاً للفهْم والتأويل. فعلى
مستوى السياق العام، فالنصُّ الماثلُ أمامَنا منسجمٌ يندرج في سياق انفتاح
النقد المغربي المعاصر على نظيره الغربي، وتأثره بمناهجه الحديثة، ولاسيما
المقاربة البنيوية. وعلى مستوى التأويل المحلّي، نجد في النص عدة عناصر
تقيِّد الطاقة التأويلية لقارئه؛ كما في السطر الأول الذي حدّد فيه الناقد
بعضَ معالم قراءته للبيت قيد التحليل. وعلى مستوى التشابُه، فانسجامُ هذا
النص متحقق من خلال استحْضار جملة من التجارب النقدية العربية المعاصرة
التي عمدت إلى معالجة النصوص بمنظار بنيوي (أبو ديب مثلاً). وعلى مستوى
التغريض، نخلص إلى أن نقطة التمرْكُز التي يتمحْوَر حولها النص كلُّه،
والتي تتجمّع حولها مختلف عناصره، هي بيت ابن عبدون الذي سعى مفتاح إلى
إضاءَته وتحليله من ثلاث زوايا أساسية كما رأينا آنِفاً.
اِنطلاقاً ممّا تقدّم كله، يتبيّن أن الكاتب قد حلل في نصه هذا بيتاً
شعرياً من بعض مستوياته الداخلية، مستهدِفاً كشْف بنية التوتر فيه؛ وذلك
باعتماد لغة نقدية مباشرة، وأسلوب حجاجي إقناعي، وجملة من الروابط
الاتساقية والانسجامية.
والواقعُ أن منهج الكاتب في تناول ذلك البيت، وإنْ كان قد أسْعَفه في
تفكيكه ودراسته داخلياً من جوانب عدة، إلا أنه يظل قاصِراً غيرَ قادر على
الإحاطة بالمقروء من جميع زواياه. فهو يقاربُ النص من حيث بنيته الداخلية
وشكلُه، دون التفاتٍ إلى إحالاته ومرجعياته الخارجية التي لا يمكننا، بأي
حال، إغفالها وتجاهلُ أثرها في تشكيل العمل الأدبي. بأسلوب آخر، فإن
المنهجَ البنيوي يقرأ النص من الداخل تاركاً خارجَه، بخلاف المنهج
الاجتماعي، مثلاً، الذي يقرؤه من الخارج بالأساس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* النص المقروء في هذا المقال (وعنوانه "بنية التوتر"):
" يقول الشاعر ابنُ عبدون:
<blockquote class="spip_poesie">الدَّهْـرُ يَفجَــعُ بعدَ العـيْن بالأثـر
فما البُكاءُ على الأشْباحِ والصُّـوَر؟!
</blockquote>
لنبدأ في تحليل هذا البيت منطلِقين من المبدإ الذي يرى أن الشعر عبارة
عن تشاكُل وتبايُن. وسنشرع في التحليل مبتدئين من الأخصّ إلى الأعمّ. إن
أولَ ما ندْركه من التشاكلات هو الأصوات، وكثيرٌ منها يرجع إلى حيّز واحد،
وهو الحلق (أ، هـ، ع،ح)، وهي تدل هنا على معنىً أساسيّ، وهو الحزن والزجر.
ولْنرجعْ إلى المعجم لنتأكد من صحة هذا، فكلمة (أوَّه) وما شاكلها، معناها
التحزُّن. وها هيْتُ (زجرْت الإبل)، وكذا عاعى بالغنَم (زجرها)، وحأحأ
(زَجَر)... فالمعنيان معاً: التحزن والزجر تدل عليهما أصواتُ البيت. وإذا
ما نظرْنا إلى هذه الأصوات غير مركّبة فإننا نجد تتابُع العين يوحي
بالعَنْعَنَة التي تفيد الاستمرار والترتيب والانتقال من درجة إلى درجة.
ويدل تتابُع الهمزة على التألم والرثاء. وكما اشتقّ التراثُ كلمة
(عَنْعَنَة) ليعبِّّّر بها عن معانٍ خاصة، فإننا نشتقّ كلمة (أنْأنَة)
لتتابُع الأنين واسْتمراره. ففي المعاجم الأنَنَة الكثيرُ الكلام والبثّ
والشكوى.
تلك بعضُ الإيحاءات المُستخلَصة من تردُّد بعض الأصوات، وتُضاف إليها
وظيفة هندسية تنظيمية لبنية البيت، فهي عاملُ ربْطٍ بين الشطرين. إن هذه
الوظيفة التنظيمية هي من بين ما يُلْجئ الشاعرَ إلى استعمال بعض الأصوات
دون غيْرها، على أن في البيت أصواتاً أخرى، وهي (ل، م، ن، ر) لا يعني
تَكرارُها شيئاً إلا إذا كانت هناك قرائنُ مرجِّحة توجِّهُها إلى معنىً ما.
قد يتساءَل القارئ عم مغزى قلة حركة الكسْر في البيت، وقد تجيبه
الدراسات النفسانية – اللغوية بأن الكسرة تدل على اللطف والصِّغَر، وليس
هذا البيت بدالٍّ عليهما.
إن تكرارَ الأصوات السابقة "حُرّ"؛ بمعنى أن الشاعرَ ليس مُلزَماً
بإعادتها، ولكنّ الأمرَ ليس كذلك في الرّويّ؛ إذ تقاليدُ الشعر العربي
القديم تفرضُ أنْ تُبْنى القصيدةُ على رويٍّ واحد، ووزْن واحد، وقافية
واحدة، ولكنّ وحدة الوزن لا تَحُولُ دونَ وجود خلافٍ إيقاعيّ. فالشطرُ
الأولُ في هذا البيت ذو حركة سريعة معبِّرة عن الحَسْم والعزْم والسرعة في
إنجاز البطْش، والشطر الثاني ذو حركة بطيئة تحاكي استمرارَ أفعال الدهر
ودَيْمومة نتائجه؛ أي أن هذا الإيقاعَ يوحي بتقابُل بين تكرار الفعل،
وديمومة نتائجه.
إذا تجاوزْنا علاقة "الصوت بالمعنى" إلى "المعجم" فإننا نجدُ الشاعرَ
اسْتقاه من مدوَّنة الغرض. وقد تحكم في حضور كلماته مبدأ التداعي
بالمقاربة؛ فـ"العين" دعَتِ "الأثر"، و"الأشباح" استدعت "الصور"...
فالذاكرة قامت بدور أساسي في هذا التجميع لكلماتٍ معروفة ذهنياً لدى
المتلقي أيضاً، ولذلك جاءت مصحوبة بـ"أل"، بيدَ أن الأصوات وما توحي به من
معانٍ، والمعجم ومفرَداته، لا يكتفيان في فهْم الشعر وكشف أسراره، وإنما
يجب أن يُصاغا في تركيبٍ.
إن الرتبة الطبيعية في اللغة العربية هي: (الفعل + الفاعل + المفعول به)
و(المبتدأ + الخبر) و(الموصوف + الصفة). وإذا وقع غيرُ هذا الترتيب فإن
هناك تشويشاً في الرتبة يحتاج إلى تأويل. ولذلك، فإن تركيب: "الدهرُ يفجَع"
جاء على غير الأصل؛ لأن هدفَ الشاعر من تقديم الدهر هو أن يجعله موضوعاً
متحدَّثاً عنه، وما يتلوه تعليقاً عليه. كما أن الأصل في الاستفهام هو طلب
العلم، ولكن الشاعرَ لا يَقصد ذلك، وإنما يريد التوبيخ والتقريع. وهكذا،
فإن الجملة الخبرية والجملة الإنشائية أحْدَثتا توتراً تركيبياً في البيت
يعكس صراعاً بين الشاعر/ المتلقي وبين الدهر/ الإنسان.
ومهما يكن، فإن هناك خَرْقاً على مستوى التركيب نراه في ما يلي:
تشويش الرتبة.
الاستفهام المجازي الذي يعني النهي (لا تبْكِ).
الإسناد
المجازي في: "الدهر يفجع". إذ مقوِّماتُ "الدهر": [+ زمان]، [+ غير
محدود]، [+ مجرَّد]، [+ مُؤذٍ]، [– إنسان]. و"يفجع": [+ فعل مضارع]، [+
فاعله حيّ].
حذف المفعول؛ إذ "يفجع" فعل متعَدٍّ، ولكنه حذفٌ لتحقيق عُمومية الخطاب.
استعمال فعل استمراري خالٍ من الزمان."
مصدر النص: "تحليل الخطاب الشعري (استراتيجية التناص)" لمحمد مفتاح،
المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط.2، 1986، ص175-177، بتصرف.