تحليل سيميائي للمسار السردي في راوية | |
التبر لإبراهيم الكوني | |
مليكة سعدي - الجزائر | |
مليكة سعدي: مرشحة دكتوراه جامعة وهران، وأستاذة لغة عربية في جامعة معسكر (الجزائر). إبراهيم الكوني: روائي ليبي يعيش في سويسرا. له مجموعة من الروايات منها رواية التبر موضوع التحليل. | |
الجزء الأول: مقدمة منهجية =1= مفهوم السيميائية انبثقت السيميائية عن ميراث مركب من "اللسانيات البنيوية، ودراسة الفولكلور والميثولوجيا"[1] فالسيميائية تركيبية الطبيعة، فهي تتركب من " مفاهيم بيولوجية، ومفاهيم فيزيائية، ومفاهيم الذكاء الاصطناعي...فهاجس التركيب موجود عالميا، ولكنه ينبني على توحيد ابستمولوجي"[2] وتهدف السيميائية إلى الكشف عن البنيات العميقة المستترة وراء البنيات السطحية، وهي تعمل بالتفكيك والتركيب، وتتحرك عبر مستويين، مستوى سطحي ومستوى عميق، وتبحث في كليهما عن الدلالة. والدلالة هي شكل وليست مادة، وتقوم على مبدأ العلاقات. تنطلق السيميائية من أن كل نص له شكل ومضمون، والنتيجة التي تريد الوصول إليها هي الكشف عن شكل المضمون. فالسيميائية دراسة شكلانية للمضمون، تمر عبر الشكل لمساءلة الدوال من أجل معرفة دقيقة وحقيقية للمعنى. وتمر السيميائية بالتحليل المحايث، وهو قريب من الآني، أي التحليل الذي يأخذ النص في حالته التي هو عليها. ومن ثم يتطلب الاستقراء الداخلي للوظائف النصية التي تساهم في توليد الدلالة، أو البحث عن شكل الوظائف الدلالية داخل النص، أي كل ما هو حيثيات سوسيوتاريخية. ولا يهمه نفسية المبدع، فهو يشتغل على العلاقات المولدة، أي إن الدلالة لا توجد قبل القراءة وإنما تصطنع أثناء القراءة. وتبحث السيميائية عن شكل المضمون عبر العلاقات التشاكلية والتضادية الموجودية عبر العناصر داخل العمل الأدبي. وإن المتتبع لتطور الدرس السيميائي يصل إلى أن منحدراته العلمية ظهرت في بعض جوانبه وبشكل واضح في الدراسات اللسانية وبوجه أخص في كتاب دروس في اللسانيات العامة لصاحبه فارديناند دي سوسير، بحيث" تمت الولادة الفعلية للسيميولوجية وهي ولادة سبقت التنظير الفعلي لهذا العلم على يد عالم المنطق الأمريكي بيرس بصفته السابق في المحاولة وتكرر المشهد مع هيلمسيلف ضمن مؤلفه مقدمات في نظرية الكلام، ثم تلاه بحوث الشكلانيين الروس"[3] السيميائية في منطلقها عند سوسير هي السيميولوجية أي العلم الذي يبحث في أنظمة العلامات،في حين أن اللسانيات تدرس الأنظمة اللغوية. وحصر سوسير هذا العلم في دراسة العلامات الدالة ولكن دلالتها اجتماعية. أما بيرس فيرى أن هذا العلم يسمى السيميوطيقا ويدرس العلامات العامة، ويراها مدخلا ضروريا للمنطق والفلسفة. وترى السيميائية أن النص هو منجز مغلق يتشكل من علاقات داخلية غير مرئية تقوم على مبدأين: مبدأ تشاكلي (أي تشابه) ومبدأ تضادي، ومن هنا تبنى على مبدأ كبير هو الاختلاف، وهو المبدأ الذي كان سببا في تطور البنيوية واللسانيات. =2= بين البنيوية والسيميائية: عند الحديث عن المنهج البنيوي، نذكر ثلاثة أمور: النسق أو النظام، السنكرونية، العلاقات. وهدف السيميائية هو الكشف عن العلاقات القائمة وراء البنيات السطحية. فهي تنطلق من آخر مرحلة وصلها التحليل اللساني، لأن هدفه الأسمى هو المستوى الأفقي للجملة. الوظيفة اللسانية توزيعية أفقية في حين أن السيميائية تشتغل بشكل أشمل أي تبحث عن المعنى الشامل كما يسميه بنفنيست، أي البحث عن الدلالات الكبرى. وبالتالي فإن فضاء السيميائية هو الخطاب، وهنا يظهر الاختلاف في الأهداف. السيميائية تفسر المعطيات ثم تؤول العلاقات الترابطية بين الدلالات، ثم تتجاوز البنية اللغوية الداخلية لتربط بينها وبين مرجعيات الثقافة، ومن هنا تسعى للوصول إلى الملابسات التأويلية المختلفة للخطاب. ونتيجة لذلك أحصت ثلاث اتجاهات: 1- السيميائية دراسة الأنظمة الدالة من خلال الظواهر الاجتماعية الملابسة للنص من منظور أنها جزء من اللسانيات (بارث، غريماس، كورتيس). 2- تنحصر السيميائية في دراسة أنظمة الاتصال والإبلاغ. 3- أما الاتجاه الثالث فهو توفيقي، أي أن السيميائية إبلاغية ودلالية (أمبرتو إيكو، جوليا كريستيفا، محمد مفتاح، رشيد بن مالك). =3= السيميائية السردية: يتمثل موضوع بحث السيميائيين في المحتوى انطلاقا من العلاقة السردية للعلامة اللسانية المشكلة من دال (تعبير) ومدلول (محتوى)[4] باختيارهم للمدلول (المحتوى) يلغون وبشكل آلي الدال (التعبير) من دائرة اهتمامهم. ويؤكد ذلك شميث في قوله: "إن المهمة الأساسية للسرديات هي تحليل المحتوى بصفة عامة"[5] ويؤكد غريماس في مختلف دراساته الفكرة نفسها موضحا الهدف الذي تنشده السيميوطيقا وهو الإمساك بالمعنى أو الدلالة، بغض النظر عن المظاهر الأخرى التي يتخذها هذا السرد.[6] ويظهر هذا الاتجاه المنهجي للسيميائيين في التركيز على المحتوى من خلال التعريف الذي تقترحه جماعة "أنتروفرن" لمصطلح الحكاية، فهو" تتابع الحالات والتحولات المسجل في الخطاب والضامن لإنتاج المعنى"[7] وكان من نتائج السيميائيات بحسب الوجهة الدياكرونية أن جنحت إلى تفسير القصة فعدتها " بنية سردية، أي شبكة من العلاقات الواسعة تكون على أساس البنية السطحية التي لا يظهر منها إلا جزء."[8] ويرى كورتيس ارتباط الحكي ارتباطا وثيقا بالحكاية، وما يحددهما هو أن الحكي يتعلق بالانتقال من حالة إلى حالة أخرى، وهذا من شأنه إحداث تحول من وضعية أو حالة إلى وضعية جديدة عن طريق التتابع.[9] وإذا كان السيميائيون يركزون على المحتوى باعتباره الماهية التي تدور حولها الدراسات ويشتغل عليها تحليل الخطاب، فإن السرديين يهتمون بالتعبير أو الخطاب الذي يستخدم كمقابل للقصة باعتباره الصورة التي يتجلى أو يتحقق من خلالها المحتوى، وبالتالي يمكن أن يقدم محتوى واحد من خلال خطابات متعددة لكل منها خصوصيته.[10] فالخلاف بين الرؤيتين واضح وعميق، حيث يعتبر السرديون الخطاب عنصرا جماليا يصل المادة الحكائية بالأدبية، في حين تخالف نظرة السيميائيين ذلك. ويشير جيرار جينيت إلى الفرق الجوهري بين السرديين والسيميوطيقيين في قوله: "توجد الخاصية الأساسية في التركيز على الصيغة، وليس على المحتوى إذ لا وجود للمحتويات الحكائية، فهناك تسلسل أفعال أو أحداث قابلة لأن تجسد من خلال أية صيغة تمثيلية"[11] يعتبر غريماس - وهو أحد المنظرين لعلم الدلالة البنيوي- المقصوص أو الحكي جملة هائلة، حيث يمكن أن نجد فيها كل الوظائف الكبرى التي نراها في الجملة حيث ثنائيان وأربعة حدود، فأما الثنائي الأول فهو: فاعل -----------> موضوع، يربط بينهما التقابل على مستوى الرغبة أو البحث. ففي كل قصة هناك من يرغب في شخص أو شيء أو يبحث عنه. وأما الثنائي الثاني فهو مساند -----------> معارض، ينوبان على المستوى السردي عن الأول، وعن الصفات في المستوى النحوي ويربط بينهما التقابل على مستوى الاختبارات، لأن أحدهما يساند الفاعل في بحثه، والآخر يعارضه.[12] يتطلب البحث المنهجي في بنية العمل السردي الروائي التمييز نظريا بين العمل السردي الروائي من حيث هو حكاية وخطاب. فهو حكاية باعتباره يثير واقعة، وبالتالي يفترض أشخاصا يفعلون الأحداث ويختلطون بصورهم المروية مع الحياة الواقعية.[13] والعمل الروائي السردي هو خطاب باعتباره يحتاج إلى صيغة تروى بها أفعال الأشخاص وترتب بها الأحداث. وتستوجب الحكاية بواسطة الكتابة راويا يرويها، كما تستوجب قارئا يقرا ما يروي الراوي، وبذلك لا تصبح مجموعة الأحداث التي وقعت هي الأهم في العمل السردي الروائي بل كيفية الرواية، أي كيف يروي الراوي الحكاية. وهذا لا يجعل العمل الروائي حكاية وحسب، بل هو خطاب أيضا. على أن النظر في العمل الروائي من حيث هو خطاب أو حكاية لا يعني الفصل بينهما، إنما هو منهج تقيمه الدراسة على المستوى النظري، إذ لا وجود للحكاية إلا في خطاب ولا لخطاب سردي إلا في حكاية.[14] وتتحقق الحكاية من خلال وجود العناصر الآتية في الإنتاج الأدبي: 1- فعل أو حدث قابل للحكي. 2- فاعل أو عامل يقوم بدور في الفعل. 3- زمان الفعل. 4- فضاؤه أو مكانه. ويمكننا النظر إلى كل عنصر من عناصر الحكائية في ذاته باعتباره بنية كلية تضم بنيات جزئية في مستوى من التحليل، ويمكن أن يبحث في مستوى آخر عن العلاقات التي تربط بين مختلف هذه البنيات.[15] وغالبا ما استعمل النموذج العاملي الذي عرضه غريماس في تحليل الحكايات وكان له أهمية كبرى في الدراسات السيميائية. وقد حدد العالم اللساني تانيار فواعل ثلاثة: من يقوم بالفعل أي الفاعل في النحو التقليدي، من يتحمل الفعل أو الموضوع، وأخيرا من يستفيد من الفعل أو من يضر به وهو من يعبر عنه بالفاعل الثالث.[16] أما الفضلة فتشير إلى الزمان والمكان والحال. وتخلى غريماس عن مفهوم الضحية، وأخذ مفهوم المستفيد، وقد سمى هذا الثنائي من العوامل: مرسلا ومرسلا إليه، وهما العبارتان اللتان استعارهما من جاكوبسون.[17] ويتكون النموذج العاملي لغريماس من الذات، الموضوع، المرسل، المرسل إليه، المساعد، الضديد وهو عبارة عن تعديل لنموذج بروب (الشخصيات الخرافية) وشخصيات المسرح سوريو ويتجلى من خلال قراءة عناصر نموذج غريماس أن التواصل والرغبة هما المحوران اللذان يدور حولهما الثنائيان: مرسل/مرسل إليه (التواصل)، وذات/موضوع (الرغبة). أما الفاعلان الجديدان فهما يوجدان عن طريق صلتهما برغبة الذات، فالمساعد يسهل رغبة الذات، والضديد يحول دون ذلك.[18] الجزء الثاني: تحليل سيميائي للمسار السردي في رواية التبر: سنعتمد في تحليل المسار السردي وبناء الحدث على تحديد أهم البرامج السردية المنجزة من قبل الذات الفاعلة. ومفهوم البرنامج السردي هو: "تتابع الحالات وتحولاتها المتسلسلة على أساس العلاقة بين الفاعل والموضوع وتحولها، إنه التحقيق الخصوصي للمقطوعة السردية في حكاية معطاة"[19] يفتتح نص الرواية بهذه الفقرة: "عندما تلقاه هدية من زعيم قبائل آهجار وهو لا يزال مهرا صغيرا، يطيب له أن يفاخر به بين أقرانه في الأمسيات المقمرة ويتلذذ بمحاورة نفسه في صورة السائل والمجيب: هل سبق لأحدكم أن شاهد مهريا أبلق؟ ويجيب نفسه: لا. هل سبق لأحدكم أن رأى مهريا في رشاقته وخفته وتناسق قوامه؟ لا. هل سبق لأحدكم أن رأى مهريا ينافسه في الكبرياء والشجاعة والوفاء؟ لا. هل سبق لأحدكم أن رأى غزالا في صورة مهري؟ لا. هل رأيتم أجمل وأنبل؟ لا لا لا. اعترفوا أنكم لم تروه ولن تروه."[20] |
تحليل سيميائي للمسار السردي في راوية
- تاريخ التسجيل : 31/12/1969
- مساهمة رقم 1