[center]«الوطن»(1) هذه اللفظة ذات البعد المدني الخالص اليوم، أصبح لها دلالاتها التي انبثقت من التشكلات الجغرافية الناتجة عن مجموعة من التطورات السياسية والاجتماعية والثقافية المتنوعة، والتي قبلها الإنسان عبر امتزاجه في هذه الحدود الجغرافية، وتعاطيه مع مجتمعه، ضمن الحقوق والواجبات المتفق عليها، بحكم عقد المواطنة الضمني الذي يحقق الإفادة والاستفادة، ويصنع من المجتمع وحدة واحدة لها حقوقها المكانية والاعتبارية ضمن دائرة أممية واسعة تنظم ارتباطها وعلاقاتها مصالح واتفاقيات ومعاهدات وتشرف على ذلك المنظمات والهيئات الدولية المختلفة.
يأتي «الوطن»(2) في اصطلاحه العربي مفهومًا حديثًا جدًا، ظهر مع بدايات الحركات التحررية في الوطن العربي، التي أسهمت بجهد يستحق الإكبار والإجلال في جلاء المستعمر، وبناء الأوطان بناء يقوم على الحرية، ويحمل المستعمر في كثير من الدراسات التاريخية والفكرية وزر هذا التقسيم الجغرافي، للوطن العربي الذي كان جسدًا واحدًا، ثم آب إلى هذا التقسيم والتشتت؛ ولذا كانت وما زالت فكرة الوطن ترتبط عند بعض المفكرين بأنها ناشئة دخيلة على الأمة المسلمة تفتت وحدتها، وتضيع جهودها، ويأتي هذا الخطاب أحيانًا ليحيل إلى أن هذا التقسيم الوطني للأمة قد أسهم في خلخلة قوة الأمة ووحدتها، وأضاع فرص النصر، واسترداد الحقوق المضاعة.
بل إن الأمر ليصل إلى أن يكون الوطن آلهة جديدة، يقول سيد قطب: «إن الناس يقيمون لهم اليوم آلهة يسمونها «القوم» ويسمونها «الوطن»، ويسمونها «الشعب»..إلى آخر ما يسمون. وهي لا تعدو أن تكون أصنامًا غير مجسدة كالأصنام الساذجة التي كان يقيمها الوثنيون. ولا تعدو أن تكون آلهة تشارك الله -سبحانه- في خلقه، وينذر لها الأبناء كما ينذرون للآلهة القديمة! ويضحون لها كالذبائح التي كانت تقدم في المعابد على نطاق واسع»(3) ولذا لم يك غريبًا أن يصرح الشيخ عادل الكلباني مجيبًا عن غياب الوطن عن أدبيات الإسلاميين بقوله: «لأنهم يسمونه الوثن...بعضهم يسمي الوطن الوثن».(4)
يواصل هذا الخطاب تقديم أطروحاته عبر استخدام وسائل الإعلام المختلفة ويركز في كثير من الأحيان على الإشارة إلى أن الحقوق المسلوبة والأراضي المغتصبة لا يمكن أن تعود، إلا بعودة الأمة الإسلامية الواحدة، وقيام الخلافة الراشدة واتحاد المسلمين مع إمام واحد، وهو طرح يقوم أحيانًا بالطرق السلمية العلمية الحوارية، ويتخذ أحيانًا أسلوبًا آخر من المواجهة العنيفة التي ترى أن التغيير لا يتم إلا بالسلاح، وأن إقامة الدولة أو الخلافة، لن يتم إلا بإعلان الجهاد، وهو جهاد يسحق في سبيل تحقيق آماله أية دعوة للحوار، أو المراجعة، أو التفكير، وبالتالي تصبح المواجهة مع الآخرين، مسلمين أو معاهدين مشروعة حتى تتحقق إقامة الخلافة الإسلامية، حسب تصوراتهم.
تتم كل هذه الدعوات التي تتسم بتنوع وسائلها والشعوب المسلمة تواصل إيمانها بالانتماء الوطني لبلدانها، واندماجها مع قضايا المسلمين العادلة في كل مكان دعمًا ودعاء ورغبة صادقة في تقديم كل شيء لاستعادة الحقوق الضائعة! ومن هنا يأتي مأزق الخطاب الداعي إلى الاستخلاف، في الوقت الذي يأتي فيه حضوره وإيجابيته، فهو خطاب يفقد معناه، ويتناقض مع الواقع، حيث يبدو التفاعل الجمعي الشعبي مع قضايا الأمة، وهو في ذات الوقت يحاول الاستفادة، وتوظيف العجز السياسي أحيانًا في سبيل تكريس خطابه، عبر التأكيد على مشاعر الألم التي يشعر بها المسلمون مع تخاذل الفعل السياسي، والقبول الضمني لمشروعات «الرأي الواحد» الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية مع قضايا المسلمين عمومًا، والعرب خصوصًا، وتصبح الإشارة إلى تأخر الفعل السياسي معزوفة يلذ لهذا الخطاب تكرارها مع كل مناسبة، وهو في ذلك يتناسى الأبعاد الأخرى التي تتحكم في صناعة ردات الفعل السياسي، وهي ردات فعل تأخذ في حسبانها ضمنًا المصالح الوطنية والاقتصادية، وتضع في حسبانها موازين القوى، وتستحضر التاريخ، وتعي جيدًا أن للمواجهة والمقاطعة حدودها التي لا يمكن تجاوزها، وبخاصة في ظل الظروف الحضارية البائسة التي تعيشها الأمة.
يواصل هذا الخطاب رؤيته وهو ينظر إلى أن الطريق الوحيد هو الخلافة الإسلامية وهو في أثناء ذلك يغض طرفه جاهلًا أو عامدًا عن رؤى مجموعة من العلماء المسلمين الذين يرون أن المواجهة الآنية غير ممكنة، إذ يعون أن الأمة غير قادرة على إحراز نتائج إيجابية؛ ولذا يرون أن طرق السلم والهدنة أمور مشروعة الآن، كما أن هذا الخطاب يتجاهل أن دعم القضايا العادلة للأمة ممكن عبر إيجاد الاتحاد الإسلامي والعربي، الذي يمكن معه أن تمثل البلدان العربية والإسلامية اتحادات مترابطة كما هو شأنها الآن، وعلى غرار ما يفعله الآخرون، دون المساس بالوحدة الوطنية، حيث تصبح دائرة الذات الإسلامية «دائرة شاملة لمجموعة من الدوائر الوطنية التي وإن اختلفت جغرافيتها - فإن حتمية وحدتها مع قضاياها يمكن أن يتحقق، بل إن تشكلات على هذا النحو اقتصاديًا يمكن أن يؤثر تأثيرًا إيجابيًا في سبيل التكامل، وتشكيل ضغط اقتصادي يمكن معه أن يولد مواقف سياسية جديدة، ويفرضها مثل هذا الاتحاد الاقتصادي وهو ما يجب أن تركز عليه الأطروحات الفكرية، وتتبناه السياسة، وهو أمر يحتاج إلى تظافر الفكري مع السياسي لصناعة واقع جديد.
ومن هنا فإن الوطنية ستخرج من عنق الزجاجة الذي حاول بعض المفكرين إدخالها إليه، عبر استقرائهم لبعض النماذج الوطنية والقومية التي تكتلت حول ذاتها وأغلقت الباب أمام كل محاولة للتواصل مع قضايا الأمة المسلمة، كما فعل جمال الدين الأفغاني في بعض مقالاته(5)، أو تلك الوطنية التي بذرها الاستعمار لتحويل حركات الجهاد كما بين ذلك محمد قطب(6).
لقد كانت الوطنية في المملكة العربية السعودية وطنية تعتز بالانتماء لهذه البلاد التي وحدها الملك عبدالعزيز في مجتمع واحد يقوم على الدعوة إلى الله، والاعتزاز بدينه، ولذا كان تاريخ المملكة منذ قيامها، وإقرار نظامها، وتشكيل سياستها الداخلية والخارجية ينطلق من هذا المنطلق، بل إن نظرة واعية منصفة لدلالات علمها الوطني يكشف بوضوح أن أية محاولة لإيجاد فجوة بين انتماء الدولة لدينها ووطنيتها ستبوء بالفشل..
وإذا كان الملك عبدالعزيز يقول في أحد خطاباته بكل وضوح: «عندي أمران لا أتهاون في شيء منهما ولا أتوانى في القضاء على من يحاول النيل منهما ولو بشعرة، الأول: كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، إني والله وبالله وتالله أقدم دمي ودم أولادي وكل آل سعود فداء لهذه الكلمة لا أضن به.. والثاني هذا الملك الذي جمع الله به شمل العرب بعد التفرقة، وأعزهم بعد الذلة، وكثرهم بعد قلة، فإني كذلك لا أدخر قطرة من دمي في سبيل الذود عن حياضه»(7).
ولم يكن خطاب الملك المؤسس هذا إلا أنموذجًا لكثير من خطاباته التي رسم بها سياسة وطنه، وقد جسد الملك وأبناؤه من بعده هذه القيمة الوطنية والإسلامية عبر سياسة داخلية سجلت للوطن والمواطنين نهضة حضارية كبرى إذا ما قيست بعمر الدول والقارات في البناء والتطور، كما كانت سياسة المملكة ولا زالت واضحة في تعاطيها مع قضايا الأمة، والأدلة كثيرة لو شئنا الإحصاء والتدليل..
ولا شك إن تناغم الوطني والإسلامي في السياسة السعودية هو ذاته التناغم الذي يرد في تراثنا الإسلامي العربي، الذي جسد هذه العلاقة الفطرية بين الإنسان ووطنه، ولعل من أوضح ذلك قوله تعالى: }ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرًا لهم وأشد تثبيتًا{ النساء: ٦٦ يقول الطبري: «ولو أنا فرضنا على هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك المحتكمين إلى الطاغوت أن يقتلوا أنفسهم، وأمرناهم بذلك، أو أن يخرجوا من ديارهم مهاجرين إلى دار أخرى سواها ما فعلوه(» وينقل الزمخشري المعنى ذاته مذكرًا بأنه كان لبني إسرائيل، ثم يقول بعد ذلك «وهذا توبيخ عظيم»(9) ويقول القاسمي: «والمعنى إنا لو شددنا التكليف على الناس، نحو أن نأمرهم بالقتل والخروج عن الأوطان، لصعب ذلك عليهم.. بل اكتفينا بتكليفهم بالأمور السهلة»(10).
ويرى الجاحظ في هذه الآية ملمحًا مهمًا، حين يقول ممهدًا لهذه الآية «ومما يؤكد ما قلنا في حب الأوطان، قول الله عز وجل حين ذكر الديار يخبر عن مواقعها من قلوب عباد فقال ولو أنا كتبنا....إلخ(11)». وقتل النفس كما يقول سيد قطب «والخروج من الديار مثلان للتكاليف الشاقة»(12).
كما أن الله سبحانه وتعالى قد قرن بين عقوبة القتل والنفي عن الأوطان كما في قوله تعالى: }إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنياولهم في الآخرة عذاب عظيم{ المائدة: ٣٣.
يعقب على ذلك محمد متولي الشعراوي في تفسيره بقوله: «والنفي معناه الطرد والإبعاد، والطرد لا يأتي إلا لثابت مستقر، والإبعاد لا يأتي إلا لمتمكن، إذن فقبل أن ينفى لا بد أن يكون له ثبوت وتمكن في موضع ما وهو ما نسميه (13).
لقد كانت فطرة الحنين إلى الوطن فطرة فطر الله عليها الإنسان، ولذلك نجدها متجلية واضحة عند الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ويورد محمد هاشم المشهداني بعضًا من أدلة هذا الحب الذي غرسه الله في قلوب أنبيائه لمكة شرفها الله، وبيته العتيق، وإلى موطن آبائهم وأجدادهم، حيث طلب موسى عليه السلام أن يدفن إلى جوار أبيه، وكذلك يعقوب عليه السلام، كما يورد أحاديث عن حنين الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة والمدينة إلى جانب أخبار الصحابة والعلماء والشعراء وغيرهم(14)، وهي مباحث تؤكد فطرة هذا الحب، ونزوع الإنسان إليه، وبخاصة حينما يبتعد عنه، وقد ذكر الجاحظ قبلًا أخبارًا كثيرة في ذلك في بابه الذي عقده في كتاب المحاسن والأضداد بعنوان «محاسن حب الوطن(15)» كما أعاد إبراهيم البيهقي، في كتابه «المحاسن والمساوي» أخبار الجاحظ التي أوردها في حب الوطن، وذم كرهه(16) على اختلاف يسير بينهما.
كما تحدثت بعض الدراسات الفكرية عن هذ الموضوع على نحو ما سبق، إضافة إلى ما كتبه عبدالرحمن الزنيدي في مبحثه المهم بعنوان «إمكانية تطبيق المواطنة لدى المسلمين(17)» إلى جانب الأوراق العلمية التي قدمت حول مفهوم الوطنية، في الفكر الإسلامي والمعاصر لنخبة من الأساتذة والباحثين(18).
وقد كتب بعض الباحثين المعاصرين حول علاقة الشعر بالوطنية حيث كتب أميل ناصف كتابًا أسماه «أروع ما قيل في الوطنيات» وهو عبارة عن اختيارات شعرية لم يكن من بينها للأسف أية نصوص للشعراء السعوديين، وهو الأمر ذاته الذي نجده عند يحيى شامي الذي ألف كتابًا عنوانه «أروع ما قيل في الوطنية» حيث طوف المؤلفات بشعراء مصر والشام والعراق والسودان ولكنهما لم يحاولا أن يطلعا على نتاج شعرائنا السعوديين في هذا اللون الشعري الحديث، كما اطلعوا على نتاج الشعراء الآخرين(19).
ومن الدراسات النقدية في هذا الجانب رسالة ماجستير تقدم بها عطاالله مسفر الجعيد لجامعة أم القرى بعنوان: «الوطن في الشعر السعودي المعاصر» وقد اقتصر الباحث على قلة من الشعراء السعوديين، مما عكس صورة غير صحيحة عن الوطنية في الشعر السعودي، حيث اكتفى بنماذج قليلة بمحمد عواد وطاهر زمخشري وعبدالله الفيصل وحسين سرحان وحمزة شحاته وحسين عرب وسعد الحميدين وعلي الفيفي وعبدالله باشرحيل ومحمد فقيه، وقد أهمل البحث شعراء ما كان له أن يغفلهم، ومع ثقتي باستحالة رصد نتاج الشعراء السعوديين جميعًا إلا أني أحسب أن الباحث كان بحاجة إلى أن يتلمس نتاجًا شعريًا مهمًا لم تنله عنايته..!(20)
وممن كتب في هذا الموضوع محمد العلي تحت عنوان: «مفهوم الوطن» وقد أيد رأي د.عبدالله العلائلي حول مفهوم الوطن، وعدم وجود الحنين في الشعر العربي القديم، مضيفًا إلى أسباب غياب هذا الحنين: «أن الشعور بالوطن والتعبير عن الحنين إليه شيء ذاتي شخصي، والشعر العربي آنذاك لم يكن شعرا ذاتيًا، إنه تعبير عن مشاعر الجمع وحنين الجمع لإخفاقات الفرد الوجدانية». وأحسب أن إضافة العلي تحمل عمومية مقلقة لا يمكن الاطمئنان إليها، وبخاصة حين ينفي حضور الذات الشخصية إلا قي إطار التعبير عن الذات الجماعية (21) . كما تناول علي الألمعي هذا الموضوع ويخرج مجموعة من الحلقات في الملحق الثقافي لجريدة الجزيرة «الثقافية» تتحدث عن الوطن، وكان عنوانها: «قصيدة الوطن في شعر بعض شعراء عسير مقارنة فنية(22).
وواضح أن الباحث كان يبحث في الشعر العسيري فقط، ومع ذلك فقد أدخل إلى الشعر الوطني ما يمكن أن يسمى «بشاعرية المكان» حيث إن غناء الشعراء العسيريين وحنينهم لمدنهم وقراهم يعود إلى شعور وجداني يتعلق بالمكان وذكرياته، وباعتباراته الذاتية، لكنه لا ينطلق بالضرورة إلى شمولية «الوطن» الذي يأتي التعبير عنه محملًا بمزيته الشمولية، وطنًا قارًا بحدوده وجغرافيته وتاريخه وحضارته لدى الشاعر المتلقي، أما أن يكون حديث إبراهيم طالع عن «تهامة» ومحمد الزيداني عن «ألمع»(23) ومحمد زايد عن أبها(24) قصائد وطنية فهذا من التجاوز على خصوصية الوطن الشامل، الذي يعنيه المبدع والناقد والمتلقي حين يكون الحديث عنه، وطنًا يراعي هذه الخصوصية الحضارية المدنية الحديثة.
وقد تعرضت للوطن بشكل عابر بعض الكتب النقدية التي ألفت في بدايات الحركة النقدية السعودية حيث يقرر مؤلفًا كتاب « وحي الصحراء» عبدالله بلخير ومحمد سعيد العمودي أن تأليف كتابهما كان خدمة وطنية شريفة(25).
ويدفع الإحساس القومي الوطني عبدالله عبدالجبار لتأليف كتابه «التيارات الأدبية في قلب الجزيرة العربية» يقول: «والأمل كبير في أن نشجع دراستنا هذه أساتذة الأدب وطلاب الماجستير والدكتوراه في هذا المعهد وفي سائر الكليات الأدبية بجامعة الرياض وجامعات الجمهورية العربية المتحدة على أن يولوا هذه الناحية الجديدة من الدرس ما هي جديرة به من عناية وجهد وفقنا الله جميعًا لما فيه خير الثقافة العربية وكفاح الشعب العربي في كل مكان(26)» ويكتب عبدالسلام الساسي كتابه «شعراء الحجاز في العصر الحديث» وينقل قصائد وطنية في الحنين والحب(27).
بيد أن هذا الاتجاه نحو دراسة الشعر الوطني لم يتحقق على الوجه المأمول فقد تناول بعض النقاد العرب الذين كتبوا عن الشعر السعودي الشعر الوطني تناولًا سريعًا مقتضبًا، وسار هذا التوجه على مجموعة من النقاد الآخرين، حيث يعمد «بكري الشيخ أمين» إلى اختيار قصيدة «جدة» لحمزة شحاته مدللًا على الاتجاه الوطني، وقصيدة بكائية أخرى «للغزاوي» وثالثة لمحمد سرور الصبان، وهي قصائد يوردها بكري في هامش صفحاته(28).
ويتابعه بعد ذلك «محمد حسني المصطفى» حذو القذة بالقذة، وينقل النصوص ذاتها دون أن يشير إلى مصدره، مما يعد جناية علمية بحق البحث العلمي، وجناية أخرى بحق الشعر السعودي وشعرائه(29) وينقل بعد ذلك محمد حسن شراب عن بكري نص جدة ونص محد سرور الصبان، مع أن نص الصبان(30) كان كما يشير سرور بعد أن نفى شراب عن وطنه بعض الوقت، وهو الأمر الذي يدعو للغرابة أن يختار هذا النص بذاته، أو نص «جدة» لحمزة شحاته للتدليل على الاتجاه الوطني في السعودية.
ولم يتوقف النقاد السعوديون كثيرًا أمام هذا الاتجاه فحسن الهويمل يكتب فصلًا عن الاتجاه الوطني والقومي ولكنه يستحضر الاتجاه الوطني عبر قضية فلسطين عند البواردي، وهو خلل في تصور القومي والوطني، فليست فلسطين قضية وطنية أو قومية بل هي قضية إسلامية كبرى(31).
ولم يشر عبدالله الحامد إلى الاتجاه الوطني في الشعر السعودي، بل تجد لديه شعر التربية، وشعر النهضة والدعوة إلى العمل(32) على سبيل المثال.
ومن هنا فلا شك أن حضور الوطن في الشعر السعودي على المستوى النقدي قد ناله شيء من التجاهل والإهمال، وقد يكون الأمر مبررًا لو أن الشعراء السعوديين أقلوا أو أحجموا في الحديث عنه، ومحضه الحب والحنين، بيد أنهم على العكس من ذلك، كانوا منساقين إلى التعبير عن ذلك في تجلياتهم الشعرية، وهو ما أؤمل أن أعرض شيئًا منه في الصفحات الآتية إن شاء الله.
الشاعر السعودي وأزمة الموضوع
تتحرك قصيدة الوطن في المملكة العربية السعودية عبر مجموعة من الدوائر المتداخلة التي أنتجها الوطن بتاريخه المكاني والزماني والإنساني حيث يلحظ المتأمل لهذا الخطاب أنه يتجه نحو عناصر ثلاثة أساسية هي المكان والزمان والإنسان، وهي خصوصيات ثلاثة مهمة، أنتجت مجموعة من الدوائر التي كانت «الذات» الشاعرة تتجه أحيانًا إلى جزء منها، وأحيانًا أخرى إلى مجموعة من الدوائر المتداخلة.
وتعد الدوائر هنا قيمة مضمونية وفنية استطاع الشعراء في كثير من تجلياتهم أن يتحركوا معها متداخلين لا متقاطعين، حيث يبدو الخطاب الشعري امتزاجًا واعيًا لهذه الدوائر التي نظمها في صورة باذخة، تفيد من كل هذه الكثافة المضمونية والفنية للوطن، بأبعاده الخاصة التي انفرد بها ويضحي الحديث هنا عن الخصوصية ميزة فنية أسهمت في إمداد الصورة الشعرية بالرمز التاريخي الحضاري الذي يتوزع في تفاصيل الصورة الشعرية.
لقد كانت «ذات الشاعر» مركزًا مهمًا وفاعلًا ومنتجًا لحركية متدفقة وث�'َابة تنطلق إلى الوراء بذات السرعة التي تتجه فيها نحو الأمام، وتمزج بين المعطيات المكانية المهمة والزمانية؛ لتنتج خطابها الشعري الذي يأتي محملًا بالإيحاءات الفنية التي وإن استندت إلى الذات الشاعرة أساسًا، فإنها تستند أيضًا إلى هذه الذات في صياغة هذه المتنوعات الغنية بالدلالة المكثفة، نظرًا للخصوصية التي أضحت ملمحًا إيجابيًا أفاد منه الشعراء عبر هضم هذه الدلالات وتمليها في ذواتهم الإبداعية، ومن ثم تشكيلها في قصيدة الوطن، على نحو أضحى معه الشاعر السعودي أمام مهمة تاريخية نوعية استطاع في كثير من الأحيان أن يترجم هذه الكثافة المضمونية، والغزارة الحضارية، والمنجز الآني في صورة تعكس قدرته على استيعاب كل ذلك، ورصده وترجمته فنيًا في صورة شعرية تواكب بين الذات الشاعرة المنتجة لخطابها من خلال إحساسها العميق به، والذات الشاعرة التي تقف أمام عالمها الخارجي بمعطياته المتنوعة لتفيد منه.
لقد كان الشاعر السعودي «ذاتًا» مركزية واعية لمجموعة من المحاور التي شكلها هذا الخطاب، ولعل الشكل رقم (1) يوضح هذه الأبعاد المتنوعة.
إن حركية «الذات» الشاعرة هنا كانت موزعة إلى كل هذه الاتجاهات، فهو يتناولها ضمن وعيه الفكري، وغناه الثقافي، وقدرته على تملي هذه الإضاءات المتنوعة. ولم يك ذلك ليعني أن الشاعر ملزم - أمام كل هذه التنوعات الغنية لموضوعه - بالحديث والرصد، بيد أن ذلك يعني أن المتلقي يعي في كثير من الأحيان هذه التجليات «لوطنه» ولذا كان من الشعراء من حاول المزج بين كثير من هذه التجليات، وكان منهم من ركز على دائرة واحدة، ورآها جديرة بالتأمل، حرية بترجمتها فنيًا من خلال ذاته، وكان منهم من حاول أن يوزع هذه التجليات في كثير من قصائده كما سيأتي. فهل كان الشاعر في مأزق شعوري وهو يريد أن يتحدث عن وطنه؟ إنني أظن أن الإجابة، نعم! فقد كان هذا الوطن بحضوره الديني الروحي، وبتجلياته التاريخية ورصيده الغني من معطيات الحضارة، وآنيته التي سجلت حضورًا حضاريًا لافتًا أمام منجزه التاريخي مشكلًا مضامين غنية لا يمكن تجاهلها بمعنى أن الشاعر السعودي كان أمام وطن الإسلام والعروبة والتاريخ والأمجاد الماضية، بيد أنه كان إلى جانب ذلك أمام وطنه السعودي الذي حقق الوحدة بين قبائله المتناحرة وسجل خطوات حضارية هائلة حين استثمر الطفرة النفطية بوعي نادر في سبيل نهضة المكان والإنسان في ظل منظومة مدركة واعية، استطاعت أن توائم بين الثابت والمتحرك، بين سيرها نحو الاستفادة من كل المعطيات الحضارية التقنية التي جاءت من «الآخر» المختلف معها حضاريًا، دون تفريطها في ثوابتها وشخصيتها الحضارية التي حم�'َلها التاريخ إياها ولذا كان الشاعر أمام تدفق مضموني كبير ومتسع.
ولذا كان دالًا ولافتًا أن يكون الحديث عن هذا الوطن أحيانًا يتسم بوصفه بالمحافظة الشديدة، في ذات الوقت الذي يوصف بالتطور الحضاري السريع.
ولعل هذا يجعلنا نتأمل تجربة الشاعر السعودي الشعورية أمام كل هذه المتلاحقات فربما كان ذلك مهمًا في استكناه الأسباب الموضوعية لاتجاهه نحو الدوائر المتنوعة التي حاول أن يمزجها أحيانًا في نتاجه الشعري، آية ذلك أننا لا نجد كل هذه الدوائر أو أغلبها عند شعرائه الأوائل كما سيأتي.
شعراء الريادة
«الوحدة واستقراء المستقبل»
كان الإنجاز الذي تحقق على يد الملك عبدالعزيز - رحمه الله - حدثًا يتجاوز في دلالاته وتجليات بطولته وعزمه كثيرًا مما قيل عنه، ذاك أن الإصرار والشجاعة والقوة لم تكن كافية لتحقيق كل هذه الإنجازات المتتالية، بيد أن الملك عبدالعزيز كان ذا وعي نادر برسالته التي آمن بها، ومنطلقه الفكري الذي جعله همه وعمله وأمله.
لقد كان الملك عبدالعزيز صاحب رسالة فكرية استلهمت التاريخ، واستثمرت العواطف الدينية للمجتمع من خلال خطاباته التي كان يرسلها لأمته موضحًا أن رغبته كانت الوحدة والاعتصام، وإيقاظ الأمة النائمة لمواجهة مستقبل مختلف ولذا لم تكن دعوته تحريرية ثورية سياسية، بقدر ما كانت دعوة للعقول واستنهاضًا للعزائم للاتحاد، وكأنه - يرحمه الله - كان ينظر المستقبل بعيون واعية، تأخذ في حسبانها تلك الإرهاصات العالمية التي كانت مؤشرًا مهمًا للواعين بأن المستقبل سيكون مختلفًا ومذهلًا ومتسارعًا، وأن بلاده ستكون أسًا مهمًا من أسس إمداد هذه القفزات الحضارية العالمية بما تحتاجه من دعم نفطي يعد ركيزة من ركائز نهضة الإنسانية، التواقة لرفاهية الإنسان، وراحته بعد سنوات من إبادته وانتهاك حرياته، وقتل تطلعاته، ولذا كانت خطابات الملك عبدالعزيز تستند وتركز على البعد الحضاري الذي يأخذ قوامه وروعته من خلال التركيز على المصدر الإلهي في التوجيه والحكم، والنبع النبوي الشريف. هذه الرؤية هي التي استمدها الملك عبدالعزيز لمواجهة مستقبل كان يستقرئ ويتملى نتائجه بوعي وعمق؛ ولذا كان يحاول أن يهيئ شعبه لاستقباله من خلال وسطية موضوعية ترتكز على معطى فكري ثابت وقابل لكل جديد ومفيد، وكان الشعراء السعوديون الرواد يرصدون هذه الآمال والتطلعات، ويرسمون هذه الموازنة بين الثابت والمتحول، بل ربما كان اهتمام بعضهم. ينصب على رغبته في بعث الضياء الحضاري القديم، ولم يكن عجبًا أن يتسم نظم بعضهم بتقريرية علمية جافة كما كان لدى ابن سحمان(33) الذي كان همه أن يوطن فكريًا وفنيًا من وجهة نظره لهذا المنجز السياسي، في حين كان الشعر النجدي يتسم بوقفته التسجيلية والمباركة لإنجازات الملك عبدالعزيز، حيث يغدو رصدًا تراثيًا للحوادث الجديدة والانتصارات المتلاحقة، ولم يك محمد بن عثيمين وابن بليهد وابن مشرف ينطلقون نحو القصيدة القديمة في رصدهم الشعري، ولم يكونوا تراثيين فنيين في صورهم وألفاظهم فحسب، بل كانوا إلى جانب ذلك متسقين فنيًا وفكريًا وروحيًا مع الخطاب الديني والسياسي الذي ارتآه الملك عبدالعزيز من خلال اعتماده على الأصول الحضارية للأمة، فكان الخطاب الشعري متناغمًا كذلك مع هذا التوجه وهو توجه فرضته المرحلة، وواجه الشعراء النجديون الذين عايشوا تلك المعارك في جهاتها المختلفة، وهي تحقق الإنجازات المتوالية. ومن هنا فقد دعم الملك عبدالعزيز هذا الخطاب الشعري الراصد لظروف المرحلة بكل تفاصيلها المهمة، وكان هذا الخطاب متجليًا في ذلك من خلال محاكمته إلى ظروف وصلته السياسية، لا ظروفنا الآتية.
لقد كان شعر المواجهة القريبة المحتكة بهذه الظروف العسكرية نسيجًا لوعي وطني يأخذ في حسبانه مهمته في الدعم والتأييد.
ولو ذهبنا نحصي مواقف ابن عثيمين مع الملك عبدالعزيز لوجدنا كثيرًا من قصائده تصور على طريقتها التراثية المتميزة هذه الانتصارات، والمتأمل لشعر ابن عثيمين يجد أنه كان صوتًا مختلفًا جدًا، حيث أعاد إلى القصيدة العربية توهجها، عبر قدرة واستيعاب للتراث، ومهارة فنية دالة وأنت واجد هذا الحس الوطني في دعم الملك عبدالعزيز من خلال قصائده المتنوعة في تهنئته بدخول الأحساء، وحائل وأبها...إلخ(34).
يقول مهنئًا الملك عبدالعزيز بسلامته:
لله في كل ما يجري به القدر
لطف تحاربه الأفهام والفكر
إن الذي قد شكا عين الزمان له
شكا له المسلمون البدو الحضر
أقول للناس إذا راعت شكيته
مهلًا فلله في أحوالنا نظر(35)
لقد كانت النفس الإيمانية، والحس الإبداعي السابق لزمنه واضحة هنا، حيث تأتي الأبيات ناقلة لعاطفة جمعية صادقة، أمام حدث مخيف ومحزن، بيد أنها تقف واثقة عالمة بأن لله حكمة في كل أمر، ومع تراثية الصورة هنا «عين الزمان» وتراثية المعجم فإن كل ذلك يحسب فنيًا للشاعر إذا مارس ضمن إطار عصره، وضمن نتاج معاصريه في المملكة وفي الدول العربية غير متناسين أن الشاعر وبقناعة فكرية نادرة قد أتلف في آخر حياته كثيرًا من شعره(36)، وقد أبقى هذا الشعر الوطني دون إتلاف في دلالة مهمة. ويسمي ابن بليهد ديوانه تسمية تدل على مساندة واعية، وسعادة بالغة بإنجازات الملك عبدالعزيز، حيث سماه: «ابتسامات الأيام في انتصارات الإمام» ويخصصه للحديث عن مدح وتأييد الملك عبدالعزيز، وابنه فيصل، ويظهر تأثره كابن عثيمين بالتراث الشعري العربي، يقول في حنينه لوطنه وهو بمصر، مستحضرًا رائية علي بن الجهم ومعارضًا لها:
عيون المها بين الجزيرة والنحر
جلبن لقلبي سالف العهد والذكر
حنيني إلى داري وأهلي وجيرتي
إلى مهرة تاهت دلالًا على المهر(37)
وهو استحضار أدبي للتراث عبر استحضار هذه القصيدة التي عارضها الشاعر هنا معارضة ناقصة أو ضمنية كما يسميها بعض النقاد(38).
وكان إلى جانب هؤلاء الشعراء في نجد شعراء آخرون في الحجاز يشعلون هذه الروح الوطنية، ويتقفون إلى جانب هذا الوطن الجديد، ويأتي أحمد الغزاوي واحدًا من هؤلاء الشعراء الذين وقفوا كثيرًا من شعرهم في مناصرة ومدح الملك عبدالعزيز وأبنائه، وسيطول المقام لو أردنا أن نستحضر مشعره الوطني حيث يؤكد د.مسعد العطوي غزارة نتاجه الوطني بقوله: «وأستطيع أن أقرر أن جل شعره الرصين يهدف إلى هذا الهدف السامي فهو إن مدح مدح بما يعود على الوطن بالخير، فمدح أولئك الذين ساهموا مساهمة فعالة في بناء هذا الكيان، ومجد أولئك الذين يضعون لبنة من لبنات التقدم والازدهار، أضف إلى ذلك حديثه عن وطنه الذي لا حدود له فهو متلبس بهذا الوطن وبأرضه وعقيدته وأفراد مجتمعه»(39). وهو اتجاه كان واضحًا لدى الشعراء قبل هذه الفترة في أنحاء الوطن، حيث يقول د.عبدالله أبو داهش عنه في جنوب البلاد، وهو شعر وطني يضرب في التراث ويختلف قوة وضعفًا حسب قدرة الشاعر، وتمكنه من أداته الفنية(40)، وتشارك القصيدة الشعرية الوطنية في عسير بمنتجها الوطني، وينقل د.عبدالله أبو داهش نماذج من هذه القصائد تتجه نحو الملك عبدالعزيز والاعتزاز بالوطن، بيد أنه يظهر عليها التقريرية لدى عبدالعزيز الغامدي وإبراهيم الحفظي وعبدالله الحميد وهي قصائد وطنية بها ضعف شعري إلى جانب ما يصفه د.أبو داهش «بالجفاف والركاكة والنثرية»(41).
لقد قامت القصيدة العمودية التراثية بدور وطني حديث جدًا وهي الضاربة بجذورها في التراث حيث كانت داعمة بأداتها الفنية هذه الوحدة السياسية التي دعا الملك عبدالعزيز إليها، وهي وإن كانت قد أعادت إلى القصيدة العربية رونقها الفني، فقد أسهمت إسهامًا مباشرًا في الدعوة إلى الوحدة الوطنية التي لا تتقوقع في ذاتها فقط وإن كانت تفخر به، وإنما انطلقت نحو كيانها العربي والإسلامي الكبير..
الحداثة الأولى
لم يكن صوت محمد حسن عواد إذا تمعنا فيه وهو يدعو إلى الجديد والحديث صوتًا منشقًا عن الأصوات الشعرية التراثية وإن كان هجومه الفكري حادًا وملغيًا ومهاجمًا بعض الأصوات التراثية الدينية التي تبنت طرقًا من الدجل واستغلال الدين في منافعها الذاتية، بيد أنه مع ذلك كان رجلًا يحمل همًا وطنيًا واضحًا، ولذا يمكن أن تعد دعوته التجديدية إرهاصًا لوعي الذات بتاريخها وحضارتها، ودعوة للنهوض والتقدم، وقد وجد الشعراء بعد ذلك متسعًا من الوقت لتملي هذا الوطن وتاريخه وحضارته وإرهاصات فقراته المتتالية المتسارعة(42).
فحين تهدأ الحوادث السياسية، ويطمئن الفعل الإبداعي، يؤوب إلى ذاته، ويتملى تجربته، ويتاح له الوقت ليطلع على تجارب الآخرين وليقرأ واقعه قراءة واعية مركزة بعيدًا عن المتلاحقات السياسية التي لم تتح - بحكم سرعتها وأهميتها- للشعراء الأوائل أن يرصدوا الوطن قيمة مجردة من الحوادث السياسية والطوارئ المتلاحقة، بيد أن مجموعة من الشعراء الذين واكبوا - صغارًا - هذه الحوادث، وجدوا فيما بعد أمامهم وطنًا جديدًا، ظهر إلى الوجود بعد مخاضات عسيرة من التضحيات الشجاعة الجبارة، التي رأوا جانبًا منها، ومن ثم كانت الصورة أمامهم تحمل بعدين حاضرين، حيث بعد «ما كان» قبل سنوات، «وما هو حاضر الآن»، إلى جانب الأبعاد الأولى التي أشرت إليها سابقًا(43).
ويمثل شعراء الحجاز مرتكزًا واعيًا لهذه الفترة، حيث بدأت لديهم الآمال العريضة في صياغة مستقبل مشرق، بعد كل هذه النجاحات العسكرية والسياسية وأمام ذلك الأمل والرخاء الذي بدت بواكيره وإرهاصاته.
ولئن كان الشعر في نجد ينطلق في جوانب كثيرة منه إلى الآني، والطارئ مهاجمًا وراصدًا ومتطلعًا، فقد كان الشعر الحجازي يمثل رؤية جديدة ترتكز على استحضار الماضي في سبيل نهضة الحاضر، وإشراق المستقبل، وكان شعور المستقبل الرائع، والدعوة إلى النهوض طريقًا فنيًا يعكس قناعة فكرية ثابتة بمواتاة الفرصة، وأهمية اهتبالها، لبناء غد مشرق واعد وهو خطاب يتجه نحو المباشرة أحيانًا، لتمكن الفكرة عقلًا، وتجسدها وعيًا موضوعيًا حادًا في ذهن الشاعر، يتناسى معه شرطها الفني، بيد أنه أحيانًا يتسق مع الشرط الفني حين يغدو «الوطن» في انتظار المجد الذي يلبسه أبناؤه.
يقول العواد:
وما حبك الأوطان دمعًا تريقه
وتشتاق دارًا أو حوارًا مهدمًا
ولكنه أن تجهد النفس ساعيًا
لتلبسها ثوبًا من المجد معلمًا(44)
ومع قلق البيت الثاني الناتج عن إشكالية إحالة الضمير في قوله «لتلبسها» حيث يعيده إلى «النفس» الأقرب ذكرًا، بينما المفترض عودته إلى «الوطن» «لتلبسه» لا إلى «النفس» إلا أن ذلك يرصد أن الخطاب الشعري الحديث عند الشعراء السعوديين، ممثلًا في الأب الجديد الذائع الذكر «العواد» كان يرفض القديم الذي يمثل الحالة الانهزامية أمام الوطن، وهو ما يعبر عنه الشاعر العربي بالبكاء والتفجع والألم أمام المكان الذي أصبح خاويًا بعد رحيل أحبته، حيث يرى العواد أن ذلك سلبية وانهزامية تحد من الفعل الذي يجب أن يكون التعبير عن حب الوطن من خلاله، وهو العمل الذي يصنع المجد ولن يعني ذلك قطعًا أن آهات الحب وآيات العشق انتهت لدى الشاعر السعودي من خلال هذه الدعوة، بل على العكس من ذلك فقد وقف الشاعر السعودي مرارًا وقفة الإعجاب والإكبار أمام وطنه، في ذات الوقت الذي كان يتفق مع العواد في دعوته لبذل الجهد لنهضته، ولذلك يبدو التفاؤل بالمستقبل من خلال رسم الحاضر ووهجه متسقًا وموضوعيًا، وتأتي الأفعال المضارعة المستقبلية إمعانًا في تحقق الفعل وحدوثه، بعد أن تعطى الجملة الخبرية دورها البلاغي في مفتتح قصيدة «السيد عبيد مدني»، حيث يكون الابتداء الاسمي، مرتكزًا لبعث الإجابات المؤيدة والمنكرة والمشككة، وفق سياقها البلاغي من حيث خلو الذهن أو الشك أو الإنكار(45):
بشرى فإنا في بوادر نهضة
ستحول الصعب الجموح ذلولا
ونشق منتظم الخضم بوارجًا
و«بواخرًا» فنجر فيه ذيولًا(46)
إن الاتكاء الواضح على المضارع المستقبلي يظهر من خلال رؤيتنا للقصيدة كاملة، حيث تحفل الأبيات الأربعة الأولى بثمانية أفعال مضارعة بمعدل فعلين لكل بيت، وهو أمر يفضي إلى تملي رؤية الشاعر المستقبلية التي يرسمها خياله للقادم، وهو مستقبل علمي تقني واضح حيث تجاوز القديم في طيره وبحره وصحرائه بالأساطيل والبواخر وخطوط الحديد واستخراج النفط، إذ تبدو الرغبة عارمة متشوقة محتفلة بهذه الألفاظ الجديدة، التي تأتي في صورة هدم ودك ومصادرة للراهن التقليدي الطبعي، فالجو والبحر والأرض مفاصل مهمة للتغيير في صور السيد عبيد مدني في قصيدته هذه.
ويرى ضياء الدين رجب أن مقولة«سر التقدم كامنة في الأجيال» صحيحة منطقية, ويرى الغد في صورة جديدة كل الجدة، حيث يفيد من آلية التشخيص للزمان:
وغدًا يكشف الزمان ستارًا
عن بني العصر في عظيم مجاله(47)
وهي صورة تتجاوز معناها التشخيصي للزمان إلى اقتناص عنصر المفاجأة والتشويق، وهي حرية بالتأمل الآن بعد أن زال الستار، الذي شاءه ضياء الدين منكرًا بأخذ صفة العمومية في حين آلف بين العصر وبنيه، ومن هنا يضحى فعل الزمان المعهود كشفًا لما هو أكثر إدهاشًا وغرابة، إنه مسرح الحياة الذي سيفتح عن تطورات هائلة جديدة، لن تكون أقل من فجائية الفن المسرحي، ولعل في التوظيف للمسرح هنا دلالة تتجاوز البعد الفني الدلالي إلى الإشارة الرامزة الدالة التي تشي بالغرابة والجديد، ولذا كانت الجدة والغرابة حاضرة في خيال الشعراء، وكأنهم يرسمون مسرح المستقبل من خلال بوادر الحاضر، وهي صرخات واعية، لو وجدت لها آنذاك همة شعبية حضارية شاملة!
يقول علي حافظ:
أحي�'ِ في بني وطني الشبابا
وأبصر فيهم العجب العجابا
وأرفع هامتي عزًا وفخرًا
بهم «وأراهموا» الأمل المجابا
شباب جزيرتي وصقور سربي
ومن ركبوا إلى العليا الصعابا
هذه الدهشة هي دهشة الجديد الذي رآه الشعراء في المستحدثات والمخترعات التي بدأ الشباب السعودي يتعامل معها، حيث صقور السرب لدى حافظ هي إشارة إلى تمكن حلم النهضة ومسايرة العصر، وهي رغبة رصدها الشعراء بعد أن جاهد في سبيل إحلالها القرار السياسي الواعي، رغم كل ما فرضه ورفضه بعض المناوئين للحديث عن سلامة نية كبيرة، وجهل كبير أيضًا! وتأتي ميمية طاهر زمخشري تأكيدًا لهذه النظرة المستقبلية، وإيحاء دالًا إلى ضرورة النظر للمستقبل، والتخلص من استعباد القديم المتمثل في الجمود والتخلف، وتأخذ نبرة زمخشري نفسًا فخريًا، ربما كان من أوائل الشعراء السعوديين الذين تباهوا بالوطن وإنسانه في صورة جمعية دالة(48):
سندعو إلى المجد أبطاله
ونرفع في الناس أسمى علم
وتسحق أهدافنا الترها
وتقشع من حالكات الظلم
سننسى بأنا أضعنا التراث
صروحًا تسامق أعلى القمم
تآكل بنيانها فارتمت
ببابًا يلف مداها العدم
وننسى بأنا طوانا الجمو
د فبتنا ننوح على ما انهدم(49)
إن الموقف الشعري هنا يمرر موقفًا فكريًا رائعًا، وتوجهًا حضاريًا متميزًا حيث لا يقف القديم ماضيًا نتغنى به فقط، ولا يتحول عائقًا أمام النهضة. إن إنجازات الماضي يجب أن تتحول رصيدًا يسهم في قوة الحاضر، وقادحًا لعزائم المستقبل، وهو موقف فكري تحيله الغنائية الزمخشرية إلى أن يكون نشيدًا يسهل ترداده وتذكره والتغني به، ولذا يأتي «البحر (المتقارب)» وتفعيلته الراقصة فعولن وترددها النغمي، إغناء إنشاديًا، وإطرابًا فنيًا لجمود الفكرة وعقليتها حيث العقل يوائم بين الماضي والحاضر.
وتجعل من آيه شرعة
ولا ترتضي بسواها حكم(50)
فالفكرة هنا حادة واضحة موضوعية مباشرة، بيد أن الموسيقى تعطيها بعدًا فنيًا مرققًا وكابحًا لانجرافها المعرفي العلمي الواضح.
لقد كان طاهر زمخشري يستحضر المعادلة النهضوية من خلال تأكيد على ارتكازها على البعد الحضاري الأصيل لهذه البلاد، فهو لا يفتأ يذكر بهذا البعد، مستحضرًا أهميته في نداءاته الوطنية المتكررة للنهوض، ولذا يصبح الوطن في رؤيته حبًا وأملًا، عشقًا آنيًا، وإشراقًا يرى أهمية المبادرة والاستعداد للنهوض؛ ولذا تراه أحيانًا يمزج الحب والولاء والوفاء والتضحية لهذا الوطن، مع نبرة استفهامية استنكارية موجعة لحاضره الذي يراه طاهر زمخشري مزعجًا، من حيث عدم استعداد بعض مواطنيه للمهمة الحضارية التي يراها زمخشري واجبة؛ بحكم تاريخه العريق. يقول في بعض أبيات قصيدته «وطني»:
وطني يفيدك ظني واليقين
والتفاني فيك إيمان ودين
طال إغفاؤك فاهتاج الأنين
فمتى تصحو وتصغي للحزين(51)
تقوم البنية النصية للقصيدة الزمخشرية هنا على الاستفهام، الذي يبدأ بالجملة الخبرية الفخرية الواثقة، والمركزة لمعاني الولاء والحب، فهو حب الظن واليقين، وهو بالتالي يستحق الوفاء والتفاني تعبدًا وإيمانًا، حيث تأتي الدلالة «الإيمانية» هنا نوعًا من الإثارة الفنية التي تبنتها القصيدة في مطلعها، مذ جاءت لفظة الظن؛ لتثير الأسئلة، ثم جاءت الإيمانية الدينية لتعطى الدلالة بعدًا ينتشلها من براثن التأويل للظني إلى حتمية الديني، بيد أن البداية هنا عبر البيتين تستلهم في جزئها الثاني سؤال النهضة التي طال انتظارها، حيث تأتي ذات الشاعر مجسدة لكل «ذات» موضوعية متحرقة ومتشوقة لهذه النهضة، وتأتي الفنية المعجمية مواكبة لهذه «الذات» في جوها الخارجي والداخلي؛ حين تختار كلمة «الحزين» وهي كلمة ذات بعد يبعث الأسى، ليس من خلال اختيار اللفظ المعجمي فقط، بل من خلال الصورة التكاملية التي رسمها «زمخشري»، وراح يجسد ويبني على هذه الدعامة الفنية، وهي دعامة رغم تقريريتها الظاهرة، إلا أنها تمنح الفعل البنائي والاستفهامي دلالات جديدة، ولذا تأتي الاستفهامات المتتالية تتجاوز معناها الحقيقي إلى معان جديدة، تتمثل في الإنكار والتوبيخ:
كل من حولي أشلاء رفات
فمتى تنفخ في الصور الحياة؟
أنيام أم رفات في لحود
أم خمول كيف نرجو أن نسود؟
ليس للخامل ذكر في الوجود
فمتى تسعى وللماضي تعود؟
مهبط الفرقان مهد المكرمات
ماله يحيى غريقًا في السبات؟
أسبات والرزايا صاحيات
والأسى يلهب شجوي والشكاة(52)
إن توالي الاستفهامات يكشف جانبًا فنيًا مهمًا ركز عليه الشاعر، وهو في ذات الوقت تكثيف للواقع، حيث يكثف الاستفهام المتتابع «واقعه» في ذات الوقت الذي يصنع فيه مستقبله الناهض، يغدو الاستفهام هنا جامعًا لثلاث صور متنوعة: - «الماضي» الذي يحضر من خلال إشارة الشاعر له في ربطه الموفق بين حركية السعي بدلالاتها المستقبلية الأمامية من خلال العودة للماضي، الذي يعزز من دفع هذا التقدم، ويشد من أزره، حتى ولو كان ماضيًا «فمتى تسعى وللماضي تعود» وهنا دلالة لها مردودها النفسي، ثم يطرح الاستفهام صورة «الواقع» وهي صورة تبعث على الأسى حيث دلالات الصورة بدءًا من مكوناتها المعجمية بالغة الإحباط في تصويرها «الإغفاءة - القبر - الأشلاء - الرفات - اللحود - السبات) ثم تأتي «الصورة المستقبلية» مصنوعة من خلال فتح المجال للمتلقي ليشارك في رسم هذه الصورة، كما يراها، فالنهضة يجب أن تنطلق من كل شاب ومواطن، يعي ماذا قدم الوطن في ماضيه من حضور وهاج، سجله التاريخ بكل أمانة. وتصبح النهضة هنا بقدر ما هي رؤية مستقبلية إلا أنها تتخذ من الماضي رمزًا يمكن أن يحتذيه الناهضون، ولذا فلا غرابة أن تعتمد الصورة الحاضرة لدى طاهر زمخشري على بنية الاستفهام، بينما تعتمد الصورة الماضية على «الجملة الاسمية» التي تتجاوز إشكالاتها الخبرية من حيث المطابقة أو عدمها(53)، فهذه الاسمية تأخذ مطابقتها، وشهادتها من خلال تاريخها المضيء المشرق، ولذا تصبح «الخبرية» عند زمخشري مجاوزة احتمالية «الصدق والكذب» كما هما في علم المعاني، إلى حتمية تاريخية دالة ورامزة.
وطني مبعث هدي وعظات
هي ما زالت منارًا للهداة
ولذا يأتي النداء بعد ذلك لونًا إنشائيًا يقلل من هذه الخبرية المتوالية وينوعها، على الرغم من المباشرة الواضحة في الأبيات:
وطني يا مطلع الفجر المنير
والضحى المشرق بالخير الوفير
وطني يا معقل الدين الحنيف
عزمه الجبار مصقول رهيف
وطني يا مبعث الخلق الرصين
وعليه أنت في الدنيا أمين(54)
ومن هنا فإن الوطن هنا بتراثه وألقه الحضاري يصبح موضع النداء وموضع الخبر «يا معقل الدين» ثم تأتي الخبرية «عزمة الجبار مصقول رهيف» ثم «يا مبعث الخلق الرصين» بندائيتها التي تواجه الخبرية في عجز البيت ذاته «وعليه أنت في الدنيا أمين».
شعراء المرحلة الثانية
يفترض أن تمثل هذه المرحلة امتدادًا للمرحلة الأولى التي ركز فيها الخطاب الشعري الوطني على الدعوة والاعتزاز بتاريخ هذا الوطن، واستحضار مستقبله الذي رآه الشعراء مزدهرًا رائعًا، وقد مهد الشعراء الأوائل لشعراء هذه المرحلة الطريق إلى استحضار الوطن والحديث عنه، والتعلق به.
عايش شعراء هذه المرحلة النهضة الحقيقية في شكلها الرائع، بعد أن عاش كثير منهم طفولته وبلاده تشهد نوعًا من النقص وعدم اكتمال البنى التحتية، فكان شعرهم امتزاجًا لبداية الازدهار، وعكسًا لهذا التلاحق المتتابع في منجزات بلادهم..
كانت دوائر حديثهم عن الوطن تتجه نحو أبعاد الحب والولاء، واستحضار تاريخه وأمجاده، وتصوير منجزاته الحاضرة، واستحضار قصة وحدته عبر الحديث عن بطلها الملك المؤسس «عبدالعزيز» يرحمه الله..
لقد كان الشعراء موزعين في مشاعرهم الوطنية إلى مضامين تحتاج كل واحدة منها بحكم أهميتها وتجليها في تاريخ وحاضر الوطن إلى التعبير، ولذا كان الشعراء يزاوجون بين دوائر «التاريخ» ومعطياته الدينية والحضارية، و«المكان» بامتداده التاريخي وحضوره الحضاري، و«الإنسان» الفاعل تاريخيًا وآنيا، و«الإنجاز» المتمثل في التطورات المتلاحقة التي يصعب تصورها بحقيقتها المتحققة وفق شرطها «الزماني والمكاني»، لقد كانت الكثافة المضمونية لهذا الوطن ضربة لازب تمثلت أمام شاعر هذه المرحلة، الذي عايش هذه التطورات المتلاحقة، وإذا كانت التجارب الشعورية تحتاج إلى مهاد زمني واسع للتملي والتأمل والتمثل فقد كان شاعر هذه المرحلة أمام متلاحقات ومنجزات حضارية متتابعة، وماض عابق بالمنجزات، فقد كان موزعًا بحكم حجم تجربته الشعورية بين عدد من المضامين، وكان لذلك ينساق إلى هذا التنوع الذي أثرى وحدة العمل الموضوعية والعضوية بنصوص شعرية مكثفة، استطاعت أن تطامن من البعد التاريخي، وتحد من الوصف التقريري في صورة مكثفة دالة، وتأتي قصة توحيد المملكة أنموذجًا واضحًا للحدث التاريخي المعلن والمكرر مع كل مناسبة، بيد أن الشاعرية تحيله إلى صورة فنية، تفيد من «القصة» في إدهاشها ومن «الصورة» في تكثيفها، ويأتي «عبدالعزيز» رمزًا دالًا وفاعلًا في هذا التناول بطبيعة الحال، لكنه يتحول فنيًا إلى «الرمز» المنقذ الذي تنتظره الصحراء والجبال والوهاد! يقول غازي القصيبي مستخدمًا «الانزياح» الكامل عن المعنى المقصود في بدء قصيدته، عبر استحضار شخصية قيادية مؤثرة، تخاطب باستغاثية فخرية، تتجاوز الإنسان إلى المكان بسمائه وأرضه:
أسرج حصانك.. قرن الشمس ينتظر
وهز بندك.. يسمع خفقه الظفر
تنفست لهفة الصحراء عن نبأ
عذب كما سال في قلب الظما المطر
هل جاء؟! ماست بها الكثبان والهة
هل جاء؟ غنى بها في الخيمة السمر
الفجر لاحت رياض العز وابتسمت
«هنا التقى فارس والشعب والقدر»
تغفو الجزيرة حينًا.. ثم يوقظها
صدى الأذان فيندى الموسم العطر(55)
إن الاتجاه نحو «الصورة» يعكس فنية الشاعر المتجلية، وقدرته على رصد الحركة التاريخية من خلال السرد الصوري الذي يبدأ مفاجئًا، معتمدًا على إثارة التساؤل، مستحضرًا تاريخية المهمة، وحضورها اللافت، حتى أصبحت مهمة نوعية ستغير، وتثير وتثري وتأتي دلالة «قرن الشمس» في البيت الأول حاملة إشارية «جغرافية» واعية، حيث الانطلاق من الكويت شرقًا نحو الغرب، كما أنها تشي بحمولات المفارقة حيث الليل الذي ناء بكلكله على القبائل المتناحرة المتواجهة:
في كل شبر دويلات مبعثرة(56).
ثم تأتي الصورة الأخرى منتزعة من البيئة الصحراوية، كما كانت سابقتها، بيد أن لهفة الصحراء هنا تأتي مواجهة لانتظار قرن الشمس، كما يأتي «سماع الظفر لخفق البند» مواجهًا «لسيلان المطر على قلب الظما»، وكأن الإشارة هنا تحيط بأبعاد رأسية وأفقية تنتظر هذا الفارس، حيث يغدو «المطر» هنا رغم دلالاته المختلفة متسقًا مع الظمأ، فهو غيث الرحمة، وماء الحياة للصحراء التي أهلكها الظمأ، فبات شوقها متلهفًا للقاء المرتقب.
ويركز الشاعر على الصورة الأخرى التي ظهرت بعد حضور البطل، فحين كان فعل «الأمر» واضحًا في شطر البيت الأول، تحول الفعل في عجزه إلى «المضارعة» إمعانًا في حركية الصورة وتواصلها، كما اختلف المعجم من «أسرج - وهز» وهما دالان على الحقيقة إلى استعارية تفتح المجال لبناء الصور المتتالية المتلاحقة «يسمع خفقة - قرن الشمس ينتظر» وما بين سماع قرن الشمس، وتنفس الصحراء إشارة إلى شمولية الحركة وتواصلها واتساعها.
هذه الحركة التاريخية عند «القصيبي» التي تستجلي قصة الفعل، تتحول عند «إبراهيم مفتاح»
يأتي «الوطن»(2) في اصطلاحه العربي مفهومًا حديثًا جدًا، ظهر مع بدايات الحركات التحررية في الوطن العربي، التي أسهمت بجهد يستحق الإكبار والإجلال في جلاء المستعمر، وبناء الأوطان بناء يقوم على الحرية، ويحمل المستعمر في كثير من الدراسات التاريخية والفكرية وزر هذا التقسيم الجغرافي، للوطن العربي الذي كان جسدًا واحدًا، ثم آب إلى هذا التقسيم والتشتت؛ ولذا كانت وما زالت فكرة الوطن ترتبط عند بعض المفكرين بأنها ناشئة دخيلة على الأمة المسلمة تفتت وحدتها، وتضيع جهودها، ويأتي هذا الخطاب أحيانًا ليحيل إلى أن هذا التقسيم الوطني للأمة قد أسهم في خلخلة قوة الأمة ووحدتها، وأضاع فرص النصر، واسترداد الحقوق المضاعة.
بل إن الأمر ليصل إلى أن يكون الوطن آلهة جديدة، يقول سيد قطب: «إن الناس يقيمون لهم اليوم آلهة يسمونها «القوم» ويسمونها «الوطن»، ويسمونها «الشعب»..إلى آخر ما يسمون. وهي لا تعدو أن تكون أصنامًا غير مجسدة كالأصنام الساذجة التي كان يقيمها الوثنيون. ولا تعدو أن تكون آلهة تشارك الله -سبحانه- في خلقه، وينذر لها الأبناء كما ينذرون للآلهة القديمة! ويضحون لها كالذبائح التي كانت تقدم في المعابد على نطاق واسع»(3) ولذا لم يك غريبًا أن يصرح الشيخ عادل الكلباني مجيبًا عن غياب الوطن عن أدبيات الإسلاميين بقوله: «لأنهم يسمونه الوثن...بعضهم يسمي الوطن الوثن».(4)
يواصل هذا الخطاب تقديم أطروحاته عبر استخدام وسائل الإعلام المختلفة ويركز في كثير من الأحيان على الإشارة إلى أن الحقوق المسلوبة والأراضي المغتصبة لا يمكن أن تعود، إلا بعودة الأمة الإسلامية الواحدة، وقيام الخلافة الراشدة واتحاد المسلمين مع إمام واحد، وهو طرح يقوم أحيانًا بالطرق السلمية العلمية الحوارية، ويتخذ أحيانًا أسلوبًا آخر من المواجهة العنيفة التي ترى أن التغيير لا يتم إلا بالسلاح، وأن إقامة الدولة أو الخلافة، لن يتم إلا بإعلان الجهاد، وهو جهاد يسحق في سبيل تحقيق آماله أية دعوة للحوار، أو المراجعة، أو التفكير، وبالتالي تصبح المواجهة مع الآخرين، مسلمين أو معاهدين مشروعة حتى تتحقق إقامة الخلافة الإسلامية، حسب تصوراتهم.
تتم كل هذه الدعوات التي تتسم بتنوع وسائلها والشعوب المسلمة تواصل إيمانها بالانتماء الوطني لبلدانها، واندماجها مع قضايا المسلمين العادلة في كل مكان دعمًا ودعاء ورغبة صادقة في تقديم كل شيء لاستعادة الحقوق الضائعة! ومن هنا يأتي مأزق الخطاب الداعي إلى الاستخلاف، في الوقت الذي يأتي فيه حضوره وإيجابيته، فهو خطاب يفقد معناه، ويتناقض مع الواقع، حيث يبدو التفاعل الجمعي الشعبي مع قضايا الأمة، وهو في ذات الوقت يحاول الاستفادة، وتوظيف العجز السياسي أحيانًا في سبيل تكريس خطابه، عبر التأكيد على مشاعر الألم التي يشعر بها المسلمون مع تخاذل الفعل السياسي، والقبول الضمني لمشروعات «الرأي الواحد» الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية مع قضايا المسلمين عمومًا، والعرب خصوصًا، وتصبح الإشارة إلى تأخر الفعل السياسي معزوفة يلذ لهذا الخطاب تكرارها مع كل مناسبة، وهو في ذلك يتناسى الأبعاد الأخرى التي تتحكم في صناعة ردات الفعل السياسي، وهي ردات فعل تأخذ في حسبانها ضمنًا المصالح الوطنية والاقتصادية، وتضع في حسبانها موازين القوى، وتستحضر التاريخ، وتعي جيدًا أن للمواجهة والمقاطعة حدودها التي لا يمكن تجاوزها، وبخاصة في ظل الظروف الحضارية البائسة التي تعيشها الأمة.
يواصل هذا الخطاب رؤيته وهو ينظر إلى أن الطريق الوحيد هو الخلافة الإسلامية وهو في أثناء ذلك يغض طرفه جاهلًا أو عامدًا عن رؤى مجموعة من العلماء المسلمين الذين يرون أن المواجهة الآنية غير ممكنة، إذ يعون أن الأمة غير قادرة على إحراز نتائج إيجابية؛ ولذا يرون أن طرق السلم والهدنة أمور مشروعة الآن، كما أن هذا الخطاب يتجاهل أن دعم القضايا العادلة للأمة ممكن عبر إيجاد الاتحاد الإسلامي والعربي، الذي يمكن معه أن تمثل البلدان العربية والإسلامية اتحادات مترابطة كما هو شأنها الآن، وعلى غرار ما يفعله الآخرون، دون المساس بالوحدة الوطنية، حيث تصبح دائرة الذات الإسلامية «دائرة شاملة لمجموعة من الدوائر الوطنية التي وإن اختلفت جغرافيتها - فإن حتمية وحدتها مع قضاياها يمكن أن يتحقق، بل إن تشكلات على هذا النحو اقتصاديًا يمكن أن يؤثر تأثيرًا إيجابيًا في سبيل التكامل، وتشكيل ضغط اقتصادي يمكن معه أن يولد مواقف سياسية جديدة، ويفرضها مثل هذا الاتحاد الاقتصادي وهو ما يجب أن تركز عليه الأطروحات الفكرية، وتتبناه السياسة، وهو أمر يحتاج إلى تظافر الفكري مع السياسي لصناعة واقع جديد.
ومن هنا فإن الوطنية ستخرج من عنق الزجاجة الذي حاول بعض المفكرين إدخالها إليه، عبر استقرائهم لبعض النماذج الوطنية والقومية التي تكتلت حول ذاتها وأغلقت الباب أمام كل محاولة للتواصل مع قضايا الأمة المسلمة، كما فعل جمال الدين الأفغاني في بعض مقالاته(5)، أو تلك الوطنية التي بذرها الاستعمار لتحويل حركات الجهاد كما بين ذلك محمد قطب(6).
لقد كانت الوطنية في المملكة العربية السعودية وطنية تعتز بالانتماء لهذه البلاد التي وحدها الملك عبدالعزيز في مجتمع واحد يقوم على الدعوة إلى الله، والاعتزاز بدينه، ولذا كان تاريخ المملكة منذ قيامها، وإقرار نظامها، وتشكيل سياستها الداخلية والخارجية ينطلق من هذا المنطلق، بل إن نظرة واعية منصفة لدلالات علمها الوطني يكشف بوضوح أن أية محاولة لإيجاد فجوة بين انتماء الدولة لدينها ووطنيتها ستبوء بالفشل..
وإذا كان الملك عبدالعزيز يقول في أحد خطاباته بكل وضوح: «عندي أمران لا أتهاون في شيء منهما ولا أتوانى في القضاء على من يحاول النيل منهما ولو بشعرة، الأول: كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، إني والله وبالله وتالله أقدم دمي ودم أولادي وكل آل سعود فداء لهذه الكلمة لا أضن به.. والثاني هذا الملك الذي جمع الله به شمل العرب بعد التفرقة، وأعزهم بعد الذلة، وكثرهم بعد قلة، فإني كذلك لا أدخر قطرة من دمي في سبيل الذود عن حياضه»(7).
ولم يكن خطاب الملك المؤسس هذا إلا أنموذجًا لكثير من خطاباته التي رسم بها سياسة وطنه، وقد جسد الملك وأبناؤه من بعده هذه القيمة الوطنية والإسلامية عبر سياسة داخلية سجلت للوطن والمواطنين نهضة حضارية كبرى إذا ما قيست بعمر الدول والقارات في البناء والتطور، كما كانت سياسة المملكة ولا زالت واضحة في تعاطيها مع قضايا الأمة، والأدلة كثيرة لو شئنا الإحصاء والتدليل..
ولا شك إن تناغم الوطني والإسلامي في السياسة السعودية هو ذاته التناغم الذي يرد في تراثنا الإسلامي العربي، الذي جسد هذه العلاقة الفطرية بين الإنسان ووطنه، ولعل من أوضح ذلك قوله تعالى: }ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرًا لهم وأشد تثبيتًا{ النساء: ٦٦ يقول الطبري: «ولو أنا فرضنا على هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك المحتكمين إلى الطاغوت أن يقتلوا أنفسهم، وأمرناهم بذلك، أو أن يخرجوا من ديارهم مهاجرين إلى دار أخرى سواها ما فعلوه(» وينقل الزمخشري المعنى ذاته مذكرًا بأنه كان لبني إسرائيل، ثم يقول بعد ذلك «وهذا توبيخ عظيم»(9) ويقول القاسمي: «والمعنى إنا لو شددنا التكليف على الناس، نحو أن نأمرهم بالقتل والخروج عن الأوطان، لصعب ذلك عليهم.. بل اكتفينا بتكليفهم بالأمور السهلة»(10).
ويرى الجاحظ في هذه الآية ملمحًا مهمًا، حين يقول ممهدًا لهذه الآية «ومما يؤكد ما قلنا في حب الأوطان، قول الله عز وجل حين ذكر الديار يخبر عن مواقعها من قلوب عباد فقال ولو أنا كتبنا....إلخ(11)». وقتل النفس كما يقول سيد قطب «والخروج من الديار مثلان للتكاليف الشاقة»(12).
كما أن الله سبحانه وتعالى قد قرن بين عقوبة القتل والنفي عن الأوطان كما في قوله تعالى: }إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنياولهم في الآخرة عذاب عظيم{ المائدة: ٣٣.
يعقب على ذلك محمد متولي الشعراوي في تفسيره بقوله: «والنفي معناه الطرد والإبعاد، والطرد لا يأتي إلا لثابت مستقر، والإبعاد لا يأتي إلا لمتمكن، إذن فقبل أن ينفى لا بد أن يكون له ثبوت وتمكن في موضع ما وهو ما نسميه (13).
لقد كانت فطرة الحنين إلى الوطن فطرة فطر الله عليها الإنسان، ولذلك نجدها متجلية واضحة عند الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ويورد محمد هاشم المشهداني بعضًا من أدلة هذا الحب الذي غرسه الله في قلوب أنبيائه لمكة شرفها الله، وبيته العتيق، وإلى موطن آبائهم وأجدادهم، حيث طلب موسى عليه السلام أن يدفن إلى جوار أبيه، وكذلك يعقوب عليه السلام، كما يورد أحاديث عن حنين الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة والمدينة إلى جانب أخبار الصحابة والعلماء والشعراء وغيرهم(14)، وهي مباحث تؤكد فطرة هذا الحب، ونزوع الإنسان إليه، وبخاصة حينما يبتعد عنه، وقد ذكر الجاحظ قبلًا أخبارًا كثيرة في ذلك في بابه الذي عقده في كتاب المحاسن والأضداد بعنوان «محاسن حب الوطن(15)» كما أعاد إبراهيم البيهقي، في كتابه «المحاسن والمساوي» أخبار الجاحظ التي أوردها في حب الوطن، وذم كرهه(16) على اختلاف يسير بينهما.
كما تحدثت بعض الدراسات الفكرية عن هذ الموضوع على نحو ما سبق، إضافة إلى ما كتبه عبدالرحمن الزنيدي في مبحثه المهم بعنوان «إمكانية تطبيق المواطنة لدى المسلمين(17)» إلى جانب الأوراق العلمية التي قدمت حول مفهوم الوطنية، في الفكر الإسلامي والمعاصر لنخبة من الأساتذة والباحثين(18).
وقد كتب بعض الباحثين المعاصرين حول علاقة الشعر بالوطنية حيث كتب أميل ناصف كتابًا أسماه «أروع ما قيل في الوطنيات» وهو عبارة عن اختيارات شعرية لم يكن من بينها للأسف أية نصوص للشعراء السعوديين، وهو الأمر ذاته الذي نجده عند يحيى شامي الذي ألف كتابًا عنوانه «أروع ما قيل في الوطنية» حيث طوف المؤلفات بشعراء مصر والشام والعراق والسودان ولكنهما لم يحاولا أن يطلعا على نتاج شعرائنا السعوديين في هذا اللون الشعري الحديث، كما اطلعوا على نتاج الشعراء الآخرين(19).
ومن الدراسات النقدية في هذا الجانب رسالة ماجستير تقدم بها عطاالله مسفر الجعيد لجامعة أم القرى بعنوان: «الوطن في الشعر السعودي المعاصر» وقد اقتصر الباحث على قلة من الشعراء السعوديين، مما عكس صورة غير صحيحة عن الوطنية في الشعر السعودي، حيث اكتفى بنماذج قليلة بمحمد عواد وطاهر زمخشري وعبدالله الفيصل وحسين سرحان وحمزة شحاته وحسين عرب وسعد الحميدين وعلي الفيفي وعبدالله باشرحيل ومحمد فقيه، وقد أهمل البحث شعراء ما كان له أن يغفلهم، ومع ثقتي باستحالة رصد نتاج الشعراء السعوديين جميعًا إلا أني أحسب أن الباحث كان بحاجة إلى أن يتلمس نتاجًا شعريًا مهمًا لم تنله عنايته..!(20)
وممن كتب في هذا الموضوع محمد العلي تحت عنوان: «مفهوم الوطن» وقد أيد رأي د.عبدالله العلائلي حول مفهوم الوطن، وعدم وجود الحنين في الشعر العربي القديم، مضيفًا إلى أسباب غياب هذا الحنين: «أن الشعور بالوطن والتعبير عن الحنين إليه شيء ذاتي شخصي، والشعر العربي آنذاك لم يكن شعرا ذاتيًا، إنه تعبير عن مشاعر الجمع وحنين الجمع لإخفاقات الفرد الوجدانية». وأحسب أن إضافة العلي تحمل عمومية مقلقة لا يمكن الاطمئنان إليها، وبخاصة حين ينفي حضور الذات الشخصية إلا قي إطار التعبير عن الذات الجماعية (21) . كما تناول علي الألمعي هذا الموضوع ويخرج مجموعة من الحلقات في الملحق الثقافي لجريدة الجزيرة «الثقافية» تتحدث عن الوطن، وكان عنوانها: «قصيدة الوطن في شعر بعض شعراء عسير مقارنة فنية(22).
وواضح أن الباحث كان يبحث في الشعر العسيري فقط، ومع ذلك فقد أدخل إلى الشعر الوطني ما يمكن أن يسمى «بشاعرية المكان» حيث إن غناء الشعراء العسيريين وحنينهم لمدنهم وقراهم يعود إلى شعور وجداني يتعلق بالمكان وذكرياته، وباعتباراته الذاتية، لكنه لا ينطلق بالضرورة إلى شمولية «الوطن» الذي يأتي التعبير عنه محملًا بمزيته الشمولية، وطنًا قارًا بحدوده وجغرافيته وتاريخه وحضارته لدى الشاعر المتلقي، أما أن يكون حديث إبراهيم طالع عن «تهامة» ومحمد الزيداني عن «ألمع»(23) ومحمد زايد عن أبها(24) قصائد وطنية فهذا من التجاوز على خصوصية الوطن الشامل، الذي يعنيه المبدع والناقد والمتلقي حين يكون الحديث عنه، وطنًا يراعي هذه الخصوصية الحضارية المدنية الحديثة.
وقد تعرضت للوطن بشكل عابر بعض الكتب النقدية التي ألفت في بدايات الحركة النقدية السعودية حيث يقرر مؤلفًا كتاب « وحي الصحراء» عبدالله بلخير ومحمد سعيد العمودي أن تأليف كتابهما كان خدمة وطنية شريفة(25).
ويدفع الإحساس القومي الوطني عبدالله عبدالجبار لتأليف كتابه «التيارات الأدبية في قلب الجزيرة العربية» يقول: «والأمل كبير في أن نشجع دراستنا هذه أساتذة الأدب وطلاب الماجستير والدكتوراه في هذا المعهد وفي سائر الكليات الأدبية بجامعة الرياض وجامعات الجمهورية العربية المتحدة على أن يولوا هذه الناحية الجديدة من الدرس ما هي جديرة به من عناية وجهد وفقنا الله جميعًا لما فيه خير الثقافة العربية وكفاح الشعب العربي في كل مكان(26)» ويكتب عبدالسلام الساسي كتابه «شعراء الحجاز في العصر الحديث» وينقل قصائد وطنية في الحنين والحب(27).
بيد أن هذا الاتجاه نحو دراسة الشعر الوطني لم يتحقق على الوجه المأمول فقد تناول بعض النقاد العرب الذين كتبوا عن الشعر السعودي الشعر الوطني تناولًا سريعًا مقتضبًا، وسار هذا التوجه على مجموعة من النقاد الآخرين، حيث يعمد «بكري الشيخ أمين» إلى اختيار قصيدة «جدة» لحمزة شحاته مدللًا على الاتجاه الوطني، وقصيدة بكائية أخرى «للغزاوي» وثالثة لمحمد سرور الصبان، وهي قصائد يوردها بكري في هامش صفحاته(28).
ويتابعه بعد ذلك «محمد حسني المصطفى» حذو القذة بالقذة، وينقل النصوص ذاتها دون أن يشير إلى مصدره، مما يعد جناية علمية بحق البحث العلمي، وجناية أخرى بحق الشعر السعودي وشعرائه(29) وينقل بعد ذلك محمد حسن شراب عن بكري نص جدة ونص محد سرور الصبان، مع أن نص الصبان(30) كان كما يشير سرور بعد أن نفى شراب عن وطنه بعض الوقت، وهو الأمر الذي يدعو للغرابة أن يختار هذا النص بذاته، أو نص «جدة» لحمزة شحاته للتدليل على الاتجاه الوطني في السعودية.
ولم يتوقف النقاد السعوديون كثيرًا أمام هذا الاتجاه فحسن الهويمل يكتب فصلًا عن الاتجاه الوطني والقومي ولكنه يستحضر الاتجاه الوطني عبر قضية فلسطين عند البواردي، وهو خلل في تصور القومي والوطني، فليست فلسطين قضية وطنية أو قومية بل هي قضية إسلامية كبرى(31).
ولم يشر عبدالله الحامد إلى الاتجاه الوطني في الشعر السعودي، بل تجد لديه شعر التربية، وشعر النهضة والدعوة إلى العمل(32) على سبيل المثال.
ومن هنا فلا شك أن حضور الوطن في الشعر السعودي على المستوى النقدي قد ناله شيء من التجاهل والإهمال، وقد يكون الأمر مبررًا لو أن الشعراء السعوديين أقلوا أو أحجموا في الحديث عنه، ومحضه الحب والحنين، بيد أنهم على العكس من ذلك، كانوا منساقين إلى التعبير عن ذلك في تجلياتهم الشعرية، وهو ما أؤمل أن أعرض شيئًا منه في الصفحات الآتية إن شاء الله.
الشاعر السعودي وأزمة الموضوع
تتحرك قصيدة الوطن في المملكة العربية السعودية عبر مجموعة من الدوائر المتداخلة التي أنتجها الوطن بتاريخه المكاني والزماني والإنساني حيث يلحظ المتأمل لهذا الخطاب أنه يتجه نحو عناصر ثلاثة أساسية هي المكان والزمان والإنسان، وهي خصوصيات ثلاثة مهمة، أنتجت مجموعة من الدوائر التي كانت «الذات» الشاعرة تتجه أحيانًا إلى جزء منها، وأحيانًا أخرى إلى مجموعة من الدوائر المتداخلة.
وتعد الدوائر هنا قيمة مضمونية وفنية استطاع الشعراء في كثير من تجلياتهم أن يتحركوا معها متداخلين لا متقاطعين، حيث يبدو الخطاب الشعري امتزاجًا واعيًا لهذه الدوائر التي نظمها في صورة باذخة، تفيد من كل هذه الكثافة المضمونية والفنية للوطن، بأبعاده الخاصة التي انفرد بها ويضحي الحديث هنا عن الخصوصية ميزة فنية أسهمت في إمداد الصورة الشعرية بالرمز التاريخي الحضاري الذي يتوزع في تفاصيل الصورة الشعرية.
لقد كانت «ذات الشاعر» مركزًا مهمًا وفاعلًا ومنتجًا لحركية متدفقة وث�'َابة تنطلق إلى الوراء بذات السرعة التي تتجه فيها نحو الأمام، وتمزج بين المعطيات المكانية المهمة والزمانية؛ لتنتج خطابها الشعري الذي يأتي محملًا بالإيحاءات الفنية التي وإن استندت إلى الذات الشاعرة أساسًا، فإنها تستند أيضًا إلى هذه الذات في صياغة هذه المتنوعات الغنية بالدلالة المكثفة، نظرًا للخصوصية التي أضحت ملمحًا إيجابيًا أفاد منه الشعراء عبر هضم هذه الدلالات وتمليها في ذواتهم الإبداعية، ومن ثم تشكيلها في قصيدة الوطن، على نحو أضحى معه الشاعر السعودي أمام مهمة تاريخية نوعية استطاع في كثير من الأحيان أن يترجم هذه الكثافة المضمونية، والغزارة الحضارية، والمنجز الآني في صورة تعكس قدرته على استيعاب كل ذلك، ورصده وترجمته فنيًا في صورة شعرية تواكب بين الذات الشاعرة المنتجة لخطابها من خلال إحساسها العميق به، والذات الشاعرة التي تقف أمام عالمها الخارجي بمعطياته المتنوعة لتفيد منه.
لقد كان الشاعر السعودي «ذاتًا» مركزية واعية لمجموعة من المحاور التي شكلها هذا الخطاب، ولعل الشكل رقم (1) يوضح هذه الأبعاد المتنوعة.
إن حركية «الذات» الشاعرة هنا كانت موزعة إلى كل هذه الاتجاهات، فهو يتناولها ضمن وعيه الفكري، وغناه الثقافي، وقدرته على تملي هذه الإضاءات المتنوعة. ولم يك ذلك ليعني أن الشاعر ملزم - أمام كل هذه التنوعات الغنية لموضوعه - بالحديث والرصد، بيد أن ذلك يعني أن المتلقي يعي في كثير من الأحيان هذه التجليات «لوطنه» ولذا كان من الشعراء من حاول المزج بين كثير من هذه التجليات، وكان منهم من ركز على دائرة واحدة، ورآها جديرة بالتأمل، حرية بترجمتها فنيًا من خلال ذاته، وكان منهم من حاول أن يوزع هذه التجليات في كثير من قصائده كما سيأتي. فهل كان الشاعر في مأزق شعوري وهو يريد أن يتحدث عن وطنه؟ إنني أظن أن الإجابة، نعم! فقد كان هذا الوطن بحضوره الديني الروحي، وبتجلياته التاريخية ورصيده الغني من معطيات الحضارة، وآنيته التي سجلت حضورًا حضاريًا لافتًا أمام منجزه التاريخي مشكلًا مضامين غنية لا يمكن تجاهلها بمعنى أن الشاعر السعودي كان أمام وطن الإسلام والعروبة والتاريخ والأمجاد الماضية، بيد أنه كان إلى جانب ذلك أمام وطنه السعودي الذي حقق الوحدة بين قبائله المتناحرة وسجل خطوات حضارية هائلة حين استثمر الطفرة النفطية بوعي نادر في سبيل نهضة المكان والإنسان في ظل منظومة مدركة واعية، استطاعت أن توائم بين الثابت والمتحرك، بين سيرها نحو الاستفادة من كل المعطيات الحضارية التقنية التي جاءت من «الآخر» المختلف معها حضاريًا، دون تفريطها في ثوابتها وشخصيتها الحضارية التي حم�'َلها التاريخ إياها ولذا كان الشاعر أمام تدفق مضموني كبير ومتسع.
ولذا كان دالًا ولافتًا أن يكون الحديث عن هذا الوطن أحيانًا يتسم بوصفه بالمحافظة الشديدة، في ذات الوقت الذي يوصف بالتطور الحضاري السريع.
ولعل هذا يجعلنا نتأمل تجربة الشاعر السعودي الشعورية أمام كل هذه المتلاحقات فربما كان ذلك مهمًا في استكناه الأسباب الموضوعية لاتجاهه نحو الدوائر المتنوعة التي حاول أن يمزجها أحيانًا في نتاجه الشعري، آية ذلك أننا لا نجد كل هذه الدوائر أو أغلبها عند شعرائه الأوائل كما سيأتي.
شعراء الريادة
«الوحدة واستقراء المستقبل»
كان الإنجاز الذي تحقق على يد الملك عبدالعزيز - رحمه الله - حدثًا يتجاوز في دلالاته وتجليات بطولته وعزمه كثيرًا مما قيل عنه، ذاك أن الإصرار والشجاعة والقوة لم تكن كافية لتحقيق كل هذه الإنجازات المتتالية، بيد أن الملك عبدالعزيز كان ذا وعي نادر برسالته التي آمن بها، ومنطلقه الفكري الذي جعله همه وعمله وأمله.
لقد كان الملك عبدالعزيز صاحب رسالة فكرية استلهمت التاريخ، واستثمرت العواطف الدينية للمجتمع من خلال خطاباته التي كان يرسلها لأمته موضحًا أن رغبته كانت الوحدة والاعتصام، وإيقاظ الأمة النائمة لمواجهة مستقبل مختلف ولذا لم تكن دعوته تحريرية ثورية سياسية، بقدر ما كانت دعوة للعقول واستنهاضًا للعزائم للاتحاد، وكأنه - يرحمه الله - كان ينظر المستقبل بعيون واعية، تأخذ في حسبانها تلك الإرهاصات العالمية التي كانت مؤشرًا مهمًا للواعين بأن المستقبل سيكون مختلفًا ومذهلًا ومتسارعًا، وأن بلاده ستكون أسًا مهمًا من أسس إمداد هذه القفزات الحضارية العالمية بما تحتاجه من دعم نفطي يعد ركيزة من ركائز نهضة الإنسانية، التواقة لرفاهية الإنسان، وراحته بعد سنوات من إبادته وانتهاك حرياته، وقتل تطلعاته، ولذا كانت خطابات الملك عبدالعزيز تستند وتركز على البعد الحضاري الذي يأخذ قوامه وروعته من خلال التركيز على المصدر الإلهي في التوجيه والحكم، والنبع النبوي الشريف. هذه الرؤية هي التي استمدها الملك عبدالعزيز لمواجهة مستقبل كان يستقرئ ويتملى نتائجه بوعي وعمق؛ ولذا كان يحاول أن يهيئ شعبه لاستقباله من خلال وسطية موضوعية ترتكز على معطى فكري ثابت وقابل لكل جديد ومفيد، وكان الشعراء السعوديون الرواد يرصدون هذه الآمال والتطلعات، ويرسمون هذه الموازنة بين الثابت والمتحول، بل ربما كان اهتمام بعضهم. ينصب على رغبته في بعث الضياء الحضاري القديم، ولم يكن عجبًا أن يتسم نظم بعضهم بتقريرية علمية جافة كما كان لدى ابن سحمان(33) الذي كان همه أن يوطن فكريًا وفنيًا من وجهة نظره لهذا المنجز السياسي، في حين كان الشعر النجدي يتسم بوقفته التسجيلية والمباركة لإنجازات الملك عبدالعزيز، حيث يغدو رصدًا تراثيًا للحوادث الجديدة والانتصارات المتلاحقة، ولم يك محمد بن عثيمين وابن بليهد وابن مشرف ينطلقون نحو القصيدة القديمة في رصدهم الشعري، ولم يكونوا تراثيين فنيين في صورهم وألفاظهم فحسب، بل كانوا إلى جانب ذلك متسقين فنيًا وفكريًا وروحيًا مع الخطاب الديني والسياسي الذي ارتآه الملك عبدالعزيز من خلال اعتماده على الأصول الحضارية للأمة، فكان الخطاب الشعري متناغمًا كذلك مع هذا التوجه وهو توجه فرضته المرحلة، وواجه الشعراء النجديون الذين عايشوا تلك المعارك في جهاتها المختلفة، وهي تحقق الإنجازات المتوالية. ومن هنا فقد دعم الملك عبدالعزيز هذا الخطاب الشعري الراصد لظروف المرحلة بكل تفاصيلها المهمة، وكان هذا الخطاب متجليًا في ذلك من خلال محاكمته إلى ظروف وصلته السياسية، لا ظروفنا الآتية.
لقد كان شعر المواجهة القريبة المحتكة بهذه الظروف العسكرية نسيجًا لوعي وطني يأخذ في حسبانه مهمته في الدعم والتأييد.
ولو ذهبنا نحصي مواقف ابن عثيمين مع الملك عبدالعزيز لوجدنا كثيرًا من قصائده تصور على طريقتها التراثية المتميزة هذه الانتصارات، والمتأمل لشعر ابن عثيمين يجد أنه كان صوتًا مختلفًا جدًا، حيث أعاد إلى القصيدة العربية توهجها، عبر قدرة واستيعاب للتراث، ومهارة فنية دالة وأنت واجد هذا الحس الوطني في دعم الملك عبدالعزيز من خلال قصائده المتنوعة في تهنئته بدخول الأحساء، وحائل وأبها...إلخ(34).
يقول مهنئًا الملك عبدالعزيز بسلامته:
لله في كل ما يجري به القدر
لطف تحاربه الأفهام والفكر
إن الذي قد شكا عين الزمان له
شكا له المسلمون البدو الحضر
أقول للناس إذا راعت شكيته
مهلًا فلله في أحوالنا نظر(35)
لقد كانت النفس الإيمانية، والحس الإبداعي السابق لزمنه واضحة هنا، حيث تأتي الأبيات ناقلة لعاطفة جمعية صادقة، أمام حدث مخيف ومحزن، بيد أنها تقف واثقة عالمة بأن لله حكمة في كل أمر، ومع تراثية الصورة هنا «عين الزمان» وتراثية المعجم فإن كل ذلك يحسب فنيًا للشاعر إذا مارس ضمن إطار عصره، وضمن نتاج معاصريه في المملكة وفي الدول العربية غير متناسين أن الشاعر وبقناعة فكرية نادرة قد أتلف في آخر حياته كثيرًا من شعره(36)، وقد أبقى هذا الشعر الوطني دون إتلاف في دلالة مهمة. ويسمي ابن بليهد ديوانه تسمية تدل على مساندة واعية، وسعادة بالغة بإنجازات الملك عبدالعزيز، حيث سماه: «ابتسامات الأيام في انتصارات الإمام» ويخصصه للحديث عن مدح وتأييد الملك عبدالعزيز، وابنه فيصل، ويظهر تأثره كابن عثيمين بالتراث الشعري العربي، يقول في حنينه لوطنه وهو بمصر، مستحضرًا رائية علي بن الجهم ومعارضًا لها:
عيون المها بين الجزيرة والنحر
جلبن لقلبي سالف العهد والذكر
حنيني إلى داري وأهلي وجيرتي
إلى مهرة تاهت دلالًا على المهر(37)
وهو استحضار أدبي للتراث عبر استحضار هذه القصيدة التي عارضها الشاعر هنا معارضة ناقصة أو ضمنية كما يسميها بعض النقاد(38).
وكان إلى جانب هؤلاء الشعراء في نجد شعراء آخرون في الحجاز يشعلون هذه الروح الوطنية، ويتقفون إلى جانب هذا الوطن الجديد، ويأتي أحمد الغزاوي واحدًا من هؤلاء الشعراء الذين وقفوا كثيرًا من شعرهم في مناصرة ومدح الملك عبدالعزيز وأبنائه، وسيطول المقام لو أردنا أن نستحضر مشعره الوطني حيث يؤكد د.مسعد العطوي غزارة نتاجه الوطني بقوله: «وأستطيع أن أقرر أن جل شعره الرصين يهدف إلى هذا الهدف السامي فهو إن مدح مدح بما يعود على الوطن بالخير، فمدح أولئك الذين ساهموا مساهمة فعالة في بناء هذا الكيان، ومجد أولئك الذين يضعون لبنة من لبنات التقدم والازدهار، أضف إلى ذلك حديثه عن وطنه الذي لا حدود له فهو متلبس بهذا الوطن وبأرضه وعقيدته وأفراد مجتمعه»(39). وهو اتجاه كان واضحًا لدى الشعراء قبل هذه الفترة في أنحاء الوطن، حيث يقول د.عبدالله أبو داهش عنه في جنوب البلاد، وهو شعر وطني يضرب في التراث ويختلف قوة وضعفًا حسب قدرة الشاعر، وتمكنه من أداته الفنية(40)، وتشارك القصيدة الشعرية الوطنية في عسير بمنتجها الوطني، وينقل د.عبدالله أبو داهش نماذج من هذه القصائد تتجه نحو الملك عبدالعزيز والاعتزاز بالوطن، بيد أنه يظهر عليها التقريرية لدى عبدالعزيز الغامدي وإبراهيم الحفظي وعبدالله الحميد وهي قصائد وطنية بها ضعف شعري إلى جانب ما يصفه د.أبو داهش «بالجفاف والركاكة والنثرية»(41).
لقد قامت القصيدة العمودية التراثية بدور وطني حديث جدًا وهي الضاربة بجذورها في التراث حيث كانت داعمة بأداتها الفنية هذه الوحدة السياسية التي دعا الملك عبدالعزيز إليها، وهي وإن كانت قد أعادت إلى القصيدة العربية رونقها الفني، فقد أسهمت إسهامًا مباشرًا في الدعوة إلى الوحدة الوطنية التي لا تتقوقع في ذاتها فقط وإن كانت تفخر به، وإنما انطلقت نحو كيانها العربي والإسلامي الكبير..
الحداثة الأولى
لم يكن صوت محمد حسن عواد إذا تمعنا فيه وهو يدعو إلى الجديد والحديث صوتًا منشقًا عن الأصوات الشعرية التراثية وإن كان هجومه الفكري حادًا وملغيًا ومهاجمًا بعض الأصوات التراثية الدينية التي تبنت طرقًا من الدجل واستغلال الدين في منافعها الذاتية، بيد أنه مع ذلك كان رجلًا يحمل همًا وطنيًا واضحًا، ولذا يمكن أن تعد دعوته التجديدية إرهاصًا لوعي الذات بتاريخها وحضارتها، ودعوة للنهوض والتقدم، وقد وجد الشعراء بعد ذلك متسعًا من الوقت لتملي هذا الوطن وتاريخه وحضارته وإرهاصات فقراته المتتالية المتسارعة(42).
فحين تهدأ الحوادث السياسية، ويطمئن الفعل الإبداعي، يؤوب إلى ذاته، ويتملى تجربته، ويتاح له الوقت ليطلع على تجارب الآخرين وليقرأ واقعه قراءة واعية مركزة بعيدًا عن المتلاحقات السياسية التي لم تتح - بحكم سرعتها وأهميتها- للشعراء الأوائل أن يرصدوا الوطن قيمة مجردة من الحوادث السياسية والطوارئ المتلاحقة، بيد أن مجموعة من الشعراء الذين واكبوا - صغارًا - هذه الحوادث، وجدوا فيما بعد أمامهم وطنًا جديدًا، ظهر إلى الوجود بعد مخاضات عسيرة من التضحيات الشجاعة الجبارة، التي رأوا جانبًا منها، ومن ثم كانت الصورة أمامهم تحمل بعدين حاضرين، حيث بعد «ما كان» قبل سنوات، «وما هو حاضر الآن»، إلى جانب الأبعاد الأولى التي أشرت إليها سابقًا(43).
ويمثل شعراء الحجاز مرتكزًا واعيًا لهذه الفترة، حيث بدأت لديهم الآمال العريضة في صياغة مستقبل مشرق، بعد كل هذه النجاحات العسكرية والسياسية وأمام ذلك الأمل والرخاء الذي بدت بواكيره وإرهاصاته.
ولئن كان الشعر في نجد ينطلق في جوانب كثيرة منه إلى الآني، والطارئ مهاجمًا وراصدًا ومتطلعًا، فقد كان الشعر الحجازي يمثل رؤية جديدة ترتكز على استحضار الماضي في سبيل نهضة الحاضر، وإشراق المستقبل، وكان شعور المستقبل الرائع، والدعوة إلى النهوض طريقًا فنيًا يعكس قناعة فكرية ثابتة بمواتاة الفرصة، وأهمية اهتبالها، لبناء غد مشرق واعد وهو خطاب يتجه نحو المباشرة أحيانًا، لتمكن الفكرة عقلًا، وتجسدها وعيًا موضوعيًا حادًا في ذهن الشاعر، يتناسى معه شرطها الفني، بيد أنه أحيانًا يتسق مع الشرط الفني حين يغدو «الوطن» في انتظار المجد الذي يلبسه أبناؤه.
يقول العواد:
وما حبك الأوطان دمعًا تريقه
وتشتاق دارًا أو حوارًا مهدمًا
ولكنه أن تجهد النفس ساعيًا
لتلبسها ثوبًا من المجد معلمًا(44)
ومع قلق البيت الثاني الناتج عن إشكالية إحالة الضمير في قوله «لتلبسها» حيث يعيده إلى «النفس» الأقرب ذكرًا، بينما المفترض عودته إلى «الوطن» «لتلبسه» لا إلى «النفس» إلا أن ذلك يرصد أن الخطاب الشعري الحديث عند الشعراء السعوديين، ممثلًا في الأب الجديد الذائع الذكر «العواد» كان يرفض القديم الذي يمثل الحالة الانهزامية أمام الوطن، وهو ما يعبر عنه الشاعر العربي بالبكاء والتفجع والألم أمام المكان الذي أصبح خاويًا بعد رحيل أحبته، حيث يرى العواد أن ذلك سلبية وانهزامية تحد من الفعل الذي يجب أن يكون التعبير عن حب الوطن من خلاله، وهو العمل الذي يصنع المجد ولن يعني ذلك قطعًا أن آهات الحب وآيات العشق انتهت لدى الشاعر السعودي من خلال هذه الدعوة، بل على العكس من ذلك فقد وقف الشاعر السعودي مرارًا وقفة الإعجاب والإكبار أمام وطنه، في ذات الوقت الذي كان يتفق مع العواد في دعوته لبذل الجهد لنهضته، ولذلك يبدو التفاؤل بالمستقبل من خلال رسم الحاضر ووهجه متسقًا وموضوعيًا، وتأتي الأفعال المضارعة المستقبلية إمعانًا في تحقق الفعل وحدوثه، بعد أن تعطى الجملة الخبرية دورها البلاغي في مفتتح قصيدة «السيد عبيد مدني»، حيث يكون الابتداء الاسمي، مرتكزًا لبعث الإجابات المؤيدة والمنكرة والمشككة، وفق سياقها البلاغي من حيث خلو الذهن أو الشك أو الإنكار(45):
بشرى فإنا في بوادر نهضة
ستحول الصعب الجموح ذلولا
ونشق منتظم الخضم بوارجًا
و«بواخرًا» فنجر فيه ذيولًا(46)
إن الاتكاء الواضح على المضارع المستقبلي يظهر من خلال رؤيتنا للقصيدة كاملة، حيث تحفل الأبيات الأربعة الأولى بثمانية أفعال مضارعة بمعدل فعلين لكل بيت، وهو أمر يفضي إلى تملي رؤية الشاعر المستقبلية التي يرسمها خياله للقادم، وهو مستقبل علمي تقني واضح حيث تجاوز القديم في طيره وبحره وصحرائه بالأساطيل والبواخر وخطوط الحديد واستخراج النفط، إذ تبدو الرغبة عارمة متشوقة محتفلة بهذه الألفاظ الجديدة، التي تأتي في صورة هدم ودك ومصادرة للراهن التقليدي الطبعي، فالجو والبحر والأرض مفاصل مهمة للتغيير في صور السيد عبيد مدني في قصيدته هذه.
ويرى ضياء الدين رجب أن مقولة«سر التقدم كامنة في الأجيال» صحيحة منطقية, ويرى الغد في صورة جديدة كل الجدة، حيث يفيد من آلية التشخيص للزمان:
وغدًا يكشف الزمان ستارًا
عن بني العصر في عظيم مجاله(47)
وهي صورة تتجاوز معناها التشخيصي للزمان إلى اقتناص عنصر المفاجأة والتشويق، وهي حرية بالتأمل الآن بعد أن زال الستار، الذي شاءه ضياء الدين منكرًا بأخذ صفة العمومية في حين آلف بين العصر وبنيه، ومن هنا يضحى فعل الزمان المعهود كشفًا لما هو أكثر إدهاشًا وغرابة، إنه مسرح الحياة الذي سيفتح عن تطورات هائلة جديدة، لن تكون أقل من فجائية الفن المسرحي، ولعل في التوظيف للمسرح هنا دلالة تتجاوز البعد الفني الدلالي إلى الإشارة الرامزة الدالة التي تشي بالغرابة والجديد، ولذا كانت الجدة والغرابة حاضرة في خيال الشعراء، وكأنهم يرسمون مسرح المستقبل من خلال بوادر الحاضر، وهي صرخات واعية، لو وجدت لها آنذاك همة شعبية حضارية شاملة!
يقول علي حافظ:
أحي�'ِ في بني وطني الشبابا
وأبصر فيهم العجب العجابا
وأرفع هامتي عزًا وفخرًا
بهم «وأراهموا» الأمل المجابا
شباب جزيرتي وصقور سربي
ومن ركبوا إلى العليا الصعابا
هذه الدهشة هي دهشة الجديد الذي رآه الشعراء في المستحدثات والمخترعات التي بدأ الشباب السعودي يتعامل معها، حيث صقور السرب لدى حافظ هي إشارة إلى تمكن حلم النهضة ومسايرة العصر، وهي رغبة رصدها الشعراء بعد أن جاهد في سبيل إحلالها القرار السياسي الواعي، رغم كل ما فرضه ورفضه بعض المناوئين للحديث عن سلامة نية كبيرة، وجهل كبير أيضًا! وتأتي ميمية طاهر زمخشري تأكيدًا لهذه النظرة المستقبلية، وإيحاء دالًا إلى ضرورة النظر للمستقبل، والتخلص من استعباد القديم المتمثل في الجمود والتخلف، وتأخذ نبرة زمخشري نفسًا فخريًا، ربما كان من أوائل الشعراء السعوديين الذين تباهوا بالوطن وإنسانه في صورة جمعية دالة(48):
سندعو إلى المجد أبطاله
ونرفع في الناس أسمى علم
وتسحق أهدافنا الترها
وتقشع من حالكات الظلم
سننسى بأنا أضعنا التراث
صروحًا تسامق أعلى القمم
تآكل بنيانها فارتمت
ببابًا يلف مداها العدم
وننسى بأنا طوانا الجمو
د فبتنا ننوح على ما انهدم(49)
إن الموقف الشعري هنا يمرر موقفًا فكريًا رائعًا، وتوجهًا حضاريًا متميزًا حيث لا يقف القديم ماضيًا نتغنى به فقط، ولا يتحول عائقًا أمام النهضة. إن إنجازات الماضي يجب أن تتحول رصيدًا يسهم في قوة الحاضر، وقادحًا لعزائم المستقبل، وهو موقف فكري تحيله الغنائية الزمخشرية إلى أن يكون نشيدًا يسهل ترداده وتذكره والتغني به، ولذا يأتي «البحر (المتقارب)» وتفعيلته الراقصة فعولن وترددها النغمي، إغناء إنشاديًا، وإطرابًا فنيًا لجمود الفكرة وعقليتها حيث العقل يوائم بين الماضي والحاضر.
وتجعل من آيه شرعة
ولا ترتضي بسواها حكم(50)
فالفكرة هنا حادة واضحة موضوعية مباشرة، بيد أن الموسيقى تعطيها بعدًا فنيًا مرققًا وكابحًا لانجرافها المعرفي العلمي الواضح.
لقد كان طاهر زمخشري يستحضر المعادلة النهضوية من خلال تأكيد على ارتكازها على البعد الحضاري الأصيل لهذه البلاد، فهو لا يفتأ يذكر بهذا البعد، مستحضرًا أهميته في نداءاته الوطنية المتكررة للنهوض، ولذا يصبح الوطن في رؤيته حبًا وأملًا، عشقًا آنيًا، وإشراقًا يرى أهمية المبادرة والاستعداد للنهوض؛ ولذا تراه أحيانًا يمزج الحب والولاء والوفاء والتضحية لهذا الوطن، مع نبرة استفهامية استنكارية موجعة لحاضره الذي يراه طاهر زمخشري مزعجًا، من حيث عدم استعداد بعض مواطنيه للمهمة الحضارية التي يراها زمخشري واجبة؛ بحكم تاريخه العريق. يقول في بعض أبيات قصيدته «وطني»:
وطني يفيدك ظني واليقين
والتفاني فيك إيمان ودين
طال إغفاؤك فاهتاج الأنين
فمتى تصحو وتصغي للحزين(51)
تقوم البنية النصية للقصيدة الزمخشرية هنا على الاستفهام، الذي يبدأ بالجملة الخبرية الفخرية الواثقة، والمركزة لمعاني الولاء والحب، فهو حب الظن واليقين، وهو بالتالي يستحق الوفاء والتفاني تعبدًا وإيمانًا، حيث تأتي الدلالة «الإيمانية» هنا نوعًا من الإثارة الفنية التي تبنتها القصيدة في مطلعها، مذ جاءت لفظة الظن؛ لتثير الأسئلة، ثم جاءت الإيمانية الدينية لتعطى الدلالة بعدًا ينتشلها من براثن التأويل للظني إلى حتمية الديني، بيد أن البداية هنا عبر البيتين تستلهم في جزئها الثاني سؤال النهضة التي طال انتظارها، حيث تأتي ذات الشاعر مجسدة لكل «ذات» موضوعية متحرقة ومتشوقة لهذه النهضة، وتأتي الفنية المعجمية مواكبة لهذه «الذات» في جوها الخارجي والداخلي؛ حين تختار كلمة «الحزين» وهي كلمة ذات بعد يبعث الأسى، ليس من خلال اختيار اللفظ المعجمي فقط، بل من خلال الصورة التكاملية التي رسمها «زمخشري»، وراح يجسد ويبني على هذه الدعامة الفنية، وهي دعامة رغم تقريريتها الظاهرة، إلا أنها تمنح الفعل البنائي والاستفهامي دلالات جديدة، ولذا تأتي الاستفهامات المتتالية تتجاوز معناها الحقيقي إلى معان جديدة، تتمثل في الإنكار والتوبيخ:
كل من حولي أشلاء رفات
فمتى تنفخ في الصور الحياة؟
أنيام أم رفات في لحود
أم خمول كيف نرجو أن نسود؟
ليس للخامل ذكر في الوجود
فمتى تسعى وللماضي تعود؟
مهبط الفرقان مهد المكرمات
ماله يحيى غريقًا في السبات؟
أسبات والرزايا صاحيات
والأسى يلهب شجوي والشكاة(52)
إن توالي الاستفهامات يكشف جانبًا فنيًا مهمًا ركز عليه الشاعر، وهو في ذات الوقت تكثيف للواقع، حيث يكثف الاستفهام المتتابع «واقعه» في ذات الوقت الذي يصنع فيه مستقبله الناهض، يغدو الاستفهام هنا جامعًا لثلاث صور متنوعة: - «الماضي» الذي يحضر من خلال إشارة الشاعر له في ربطه الموفق بين حركية السعي بدلالاتها المستقبلية الأمامية من خلال العودة للماضي، الذي يعزز من دفع هذا التقدم، ويشد من أزره، حتى ولو كان ماضيًا «فمتى تسعى وللماضي تعود» وهنا دلالة لها مردودها النفسي، ثم يطرح الاستفهام صورة «الواقع» وهي صورة تبعث على الأسى حيث دلالات الصورة بدءًا من مكوناتها المعجمية بالغة الإحباط في تصويرها «الإغفاءة - القبر - الأشلاء - الرفات - اللحود - السبات) ثم تأتي «الصورة المستقبلية» مصنوعة من خلال فتح المجال للمتلقي ليشارك في رسم هذه الصورة، كما يراها، فالنهضة يجب أن تنطلق من كل شاب ومواطن، يعي ماذا قدم الوطن في ماضيه من حضور وهاج، سجله التاريخ بكل أمانة. وتصبح النهضة هنا بقدر ما هي رؤية مستقبلية إلا أنها تتخذ من الماضي رمزًا يمكن أن يحتذيه الناهضون، ولذا فلا غرابة أن تعتمد الصورة الحاضرة لدى طاهر زمخشري على بنية الاستفهام، بينما تعتمد الصورة الماضية على «الجملة الاسمية» التي تتجاوز إشكالاتها الخبرية من حيث المطابقة أو عدمها(53)، فهذه الاسمية تأخذ مطابقتها، وشهادتها من خلال تاريخها المضيء المشرق، ولذا تصبح «الخبرية» عند زمخشري مجاوزة احتمالية «الصدق والكذب» كما هما في علم المعاني، إلى حتمية تاريخية دالة ورامزة.
وطني مبعث هدي وعظات
هي ما زالت منارًا للهداة
ولذا يأتي النداء بعد ذلك لونًا إنشائيًا يقلل من هذه الخبرية المتوالية وينوعها، على الرغم من المباشرة الواضحة في الأبيات:
وطني يا مطلع الفجر المنير
والضحى المشرق بالخير الوفير
وطني يا معقل الدين الحنيف
عزمه الجبار مصقول رهيف
وطني يا مبعث الخلق الرصين
وعليه أنت في الدنيا أمين(54)
ومن هنا فإن الوطن هنا بتراثه وألقه الحضاري يصبح موضع النداء وموضع الخبر «يا معقل الدين» ثم تأتي الخبرية «عزمة الجبار مصقول رهيف» ثم «يا مبعث الخلق الرصين» بندائيتها التي تواجه الخبرية في عجز البيت ذاته «وعليه أنت في الدنيا أمين».
شعراء المرحلة الثانية
يفترض أن تمثل هذه المرحلة امتدادًا للمرحلة الأولى التي ركز فيها الخطاب الشعري الوطني على الدعوة والاعتزاز بتاريخ هذا الوطن، واستحضار مستقبله الذي رآه الشعراء مزدهرًا رائعًا، وقد مهد الشعراء الأوائل لشعراء هذه المرحلة الطريق إلى استحضار الوطن والحديث عنه، والتعلق به.
عايش شعراء هذه المرحلة النهضة الحقيقية في شكلها الرائع، بعد أن عاش كثير منهم طفولته وبلاده تشهد نوعًا من النقص وعدم اكتمال البنى التحتية، فكان شعرهم امتزاجًا لبداية الازدهار، وعكسًا لهذا التلاحق المتتابع في منجزات بلادهم..
كانت دوائر حديثهم عن الوطن تتجه نحو أبعاد الحب والولاء، واستحضار تاريخه وأمجاده، وتصوير منجزاته الحاضرة، واستحضار قصة وحدته عبر الحديث عن بطلها الملك المؤسس «عبدالعزيز» يرحمه الله..
لقد كان الشعراء موزعين في مشاعرهم الوطنية إلى مضامين تحتاج كل واحدة منها بحكم أهميتها وتجليها في تاريخ وحاضر الوطن إلى التعبير، ولذا كان الشعراء يزاوجون بين دوائر «التاريخ» ومعطياته الدينية والحضارية، و«المكان» بامتداده التاريخي وحضوره الحضاري، و«الإنسان» الفاعل تاريخيًا وآنيا، و«الإنجاز» المتمثل في التطورات المتلاحقة التي يصعب تصورها بحقيقتها المتحققة وفق شرطها «الزماني والمكاني»، لقد كانت الكثافة المضمونية لهذا الوطن ضربة لازب تمثلت أمام شاعر هذه المرحلة، الذي عايش هذه التطورات المتلاحقة، وإذا كانت التجارب الشعورية تحتاج إلى مهاد زمني واسع للتملي والتأمل والتمثل فقد كان شاعر هذه المرحلة أمام متلاحقات ومنجزات حضارية متتابعة، وماض عابق بالمنجزات، فقد كان موزعًا بحكم حجم تجربته الشعورية بين عدد من المضامين، وكان لذلك ينساق إلى هذا التنوع الذي أثرى وحدة العمل الموضوعية والعضوية بنصوص شعرية مكثفة، استطاعت أن تطامن من البعد التاريخي، وتحد من الوصف التقريري في صورة مكثفة دالة، وتأتي قصة توحيد المملكة أنموذجًا واضحًا للحدث التاريخي المعلن والمكرر مع كل مناسبة، بيد أن الشاعرية تحيله إلى صورة فنية، تفيد من «القصة» في إدهاشها ومن «الصورة» في تكثيفها، ويأتي «عبدالعزيز» رمزًا دالًا وفاعلًا في هذا التناول بطبيعة الحال، لكنه يتحول فنيًا إلى «الرمز» المنقذ الذي تنتظره الصحراء والجبال والوهاد! يقول غازي القصيبي مستخدمًا «الانزياح» الكامل عن المعنى المقصود في بدء قصيدته، عبر استحضار شخصية قيادية مؤثرة، تخاطب باستغاثية فخرية، تتجاوز الإنسان إلى المكان بسمائه وأرضه:
أسرج حصانك.. قرن الشمس ينتظر
وهز بندك.. يسمع خفقه الظفر
تنفست لهفة الصحراء عن نبأ
عذب كما سال في قلب الظما المطر
هل جاء؟! ماست بها الكثبان والهة
هل جاء؟ غنى بها في الخيمة السمر
الفجر لاحت رياض العز وابتسمت
«هنا التقى فارس والشعب والقدر»
تغفو الجزيرة حينًا.. ثم يوقظها
صدى الأذان فيندى الموسم العطر(55)
إن الاتجاه نحو «الصورة» يعكس فنية الشاعر المتجلية، وقدرته على رصد الحركة التاريخية من خلال السرد الصوري الذي يبدأ مفاجئًا، معتمدًا على إثارة التساؤل، مستحضرًا تاريخية المهمة، وحضورها اللافت، حتى أصبحت مهمة نوعية ستغير، وتثير وتثري وتأتي دلالة «قرن الشمس» في البيت الأول حاملة إشارية «جغرافية» واعية، حيث الانطلاق من الكويت شرقًا نحو الغرب، كما أنها تشي بحمولات المفارقة حيث الليل الذي ناء بكلكله على القبائل المتناحرة المتواجهة:
في كل شبر دويلات مبعثرة(56).
ثم تأتي الصورة الأخرى منتزعة من البيئة الصحراوية، كما كانت سابقتها، بيد أن لهفة الصحراء هنا تأتي مواجهة لانتظار قرن الشمس، كما يأتي «سماع الظفر لخفق البند» مواجهًا «لسيلان المطر على قلب الظما»، وكأن الإشارة هنا تحيط بأبعاد رأسية وأفقية تنتظر هذا الفارس، حيث يغدو «المطر» هنا رغم دلالاته المختلفة متسقًا مع الظمأ، فهو غيث الرحمة، وماء الحياة للصحراء التي أهلكها الظمأ، فبات شوقها متلهفًا للقاء المرتقب.
ويركز الشاعر على الصورة الأخرى التي ظهرت بعد حضور البطل، فحين كان فعل «الأمر» واضحًا في شطر البيت الأول، تحول الفعل في عجزه إلى «المضارعة» إمعانًا في حركية الصورة وتواصلها، كما اختلف المعجم من «أسرج - وهز» وهما دالان على الحقيقة إلى استعارية تفتح المجال لبناء الصور المتتالية المتلاحقة «يسمع خفقة - قرن الشمس ينتظر» وما بين سماع قرن الشمس، وتنفس الصحراء إشارة إلى شمولية الحركة وتواصلها واتساعها.
هذه الحركة التاريخية عند «القصيبي» التي تستجلي قصة الفعل، تتحول عند «إبراهيم مفتاح»