or=darkred]مفهوم النظم العربي والشعرية ـــ د.أحمد علي محمد
كانت سيرة النقد الأدبي عند العرب مرتبطة بسيرة الشعر العربي، ومن
المؤكد أن النقد بدأ مع الشعر، إذ وجدت بدايات غضة للنقد كما كانت هنالك
بدايات غضة للشعر، لا بل إن النقد كان شفهياً فطرياً يستحكم فيه الذوق وتلح
عليه الحاجة كما كان الشعر شفهياً وعفوياً ويمثل حاجة وجودية، ذلك لأن
العرب كونت ثقافتها مشافهة، ثم أودعت مناقبها في شعرها، فحفظت فيه سيرتها
وأيامها وسائر القيم التي استنبطتها في حياتها، فقال عمر بن الخطاب رضي
الله عنه "الشعر علم قوم لم يكن لديهم علم أصح منه"([2]) ومنه انبثقت
المقولة الخالدة: "الشعر ديوان العرب"
ويتعين على الأخذ بهذه المقولة جملة من الأفكار أجلها أن العرب لم تدون
شيئاً من تراثها إلا بطريق الشعر، من أجل ذلك كان الشعر مهوى أفئدتهم،
فأخذوا به، ووثقوا بملكاته، وصار عندهم بمنزلة الدليل والبرهان والحجة.
غير أن البحث في أصول النقد العربي لا يمتلك المسوغات الموضوعية التي
يحظى بها البحث في أصول الشعر، ذلك لأن الشعر سهل تداوله، سريع حفظه، ممكن
شيوعه وانتشاره، ومن الطبيعي أن يحتل مكاناً في الذاكرة، ثم ينتقل من جيل
إلى جيل بطريق الرواية، أما النقد فلم تحمل الذاكرة منه سوى النوادر
والحكايات، كالحكاية التي تناقلتها الألسنة من أمر زوج امرئ القيس في
تفضيلها علقمة على زوجها، وما حكي عن النابغة الذي كانت تضرب لـه قبة في
عكاظ ليحكم بين الشعراء. من أجل ذلك لم تصل إلينا مدونات نقدية من العصرين
الجاهلي والإسلامي يمكن الوثوق فيها.
لا شك أن أول مدونة نقدية يمكن أن يقوم عليها بحث علمي في تاريخ النقد
العربي كتاب "فحولة الشعراء" المنسوب للأصمعي، ومع أن الكتاب في مجمله لا
يخرج عن الملاحظات النقدية المتصلة بالذوق وبالفطرة إلا أنه انطوى على
مسألتين مهمتين: الأولى تتصل بإيجاد المصطلح، فالأصمعي في حدود معرفتي من
أوائل النقاد الذين اهتدوا إلى المصطلح النقدي من خلال لفظ استعاره من واقع
الحياة العربية أعني "الفحولة"، وإن لم يقصد إلى ذلك قصد الناقد المميز
أهمية مثل هذا الصنيع، ومع ذلك تحولت الكلمة التي أطلقها إلى مصطلح ذي
دلالة مقيدة أفيد منها فيما بعد في مسألتين كانتا نواة السجال النقدي عند
العرب أعني الموازنة والمفاضلة بين الشعراء، بمعنى أن كلمة (فحولة) أخذت
مكانها في الفكر النقدي العربي، فاستحالت مسوغاً للحكم، وكان الأصمعي نفسه
قد وجه الأذهان إلى ذلك حين وضع تعريفاً في غاية الدقة والأهمية لمصطلحه،
في سياق إجابته عن سؤال تلميذه السجستاني، أن الفحولة سمة وعلامة فارقة
للشاعر، كما هي في واقع الأمر سمة فارقة تميز الفحل من الإبل عن النوق.
والثانية تتعلق بالحكم على الشاعر، فالأصمعي لم يوازن بين معنى ومعنى
وإنما وازن بين شاعر وشاعر، فهو مثلاً يفضل النابغة على زهير، لا بل نراه
يجرد زهيراً من مزاياه حين يقول: "لا يحسن زهير أن يكون أجيراً للنابغة"،
والواقع أن زهيراً لـه مزايا في شعره، فهو من المحككين، والأصمعي نفسه يضعه
على رأس من سماهم بـ "عبيد الشعر"، لأنهم أطالوا فيه النظر وأخرجوه
إخراجاً يكاد يكون بريئاً من العيوب، ومع ذلك لم تنهض صفة التثقيف عند زهير
لترقى به إلى رتبة الفحولة في رأي الأصمعي، لأنها لم تكن علامة فارقة أو
مزية لزهير دون غيره من الشعراء، فهذه الصفة كما نفهم اليوم صفة مشتركة عند
عدد من الشعراء الذي أطلق عليهم د. طه حسين تسمية "المدرسة الأوسية".
مصطلح الفحولة عند الأصمعي يبين مزية كل شاعر من دون تحديد منزلته أو
طبقته بين أقرانه، فأمرؤ القيس فحل والنابغة فحل، والسؤال الذي واجه ناقداً
مثل ابن سلام أين يقف النابغة من امرئ القيس وأين يقف الأعشى منهما؟ بمعنى
هل الفحول جميعاً في درجة واحدة من الإجادة والتقدم والبروز؟
لقد آثر ابن سلام أن يصنف الفحول فاهتدى إلى مفهوم الطبقة، فوضع كل
أربعة شعراء في طبقة واحدة، إذ ضمت الطبقة الأولى من فحول الجاهلية امرأ
القيس والنابغة وزهيراً والأعشى، ومن الواضح أنه راعى التدرج هنا فقدم امرأ
القيس على سائر شعراء الطبقة الأولى، ثم قدم النابغة على زهير متأثراً
بحكم سابقه الأصمعي، مضيفاً إليهم الأعشى ليكتمل لـه التقسيم الرباعي.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن النقد الأدبي العربي بطريق هذين الرجلين أعني
الأصمعي وابن سلام قد أسس مداخله كما يؤسس كل علم ناشئ مداخله فما بين
اختراع المصطلح النقدي وتأصيله إلى مرحلة التصنيف العلمي يكون النقاد قد
وطدوا طريق البحث العلمي للوصول إلى حكم القيمة وهو الهدف الذي يسعى إليه
كل علم. غير أن البذور النقدية لم تتحول إلى صيغة فاعلة من دون إيجاد أساس
يحتكم إليه الناقد في إقامة حكم يتناول الشعر نفسه، وهنا برز ابن قتيبة
الذي أوجد تحولاً واضحاً في مسيرة النقد الأدبي حين انتقل من الحكم على
الشاعر إلى الحكم على الشعر.
لم تكن الفحولة عند ابن قتيبة معياراً للجودة على أية حال، بدليل أنه
وقف عن شاهد للأعشى وهو عند ابن سلام فحل، فجعله في نهاية الرداءة، أعني به
قوله:
وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني
شاوٍ مِشَلٌّ شلولٌ شلشلٌ شَوِلُ
إذ الجودة عنده تتصل بالشعر أكثر من اتصالها بالشاعر، فشعر امرئ القيس
لم يكن في مجمله جيداً مع أنه من الفحول، وكذا النابغة وزهير والأعشى، لذا
تمخضت عن تأملات ابن قتيبة مفهوم الشعر أربعة أضرب: شعر حسنت ألفاظه
ومعانيه، وشعر حسنت ألفاظه وتراجعت معانيه، وشعر تراجعت ألفاظه وحسنت
معانيه، وشعر تراجعت ألفاظه ومعانيه([3])، وهذا التقسيم المنطقي يوسع في
الحقيقة مجال الحكم على الشعر، إذ الشعر عنده ليس جيداً أو رديئاً فحسب،
وإنما كان جيداً ووسطاً ورديئاً: الأول في غاية الجودة وهو ما حسن لفظه
ومعناه، يقابله شعر في نهاية الرداءة، وهو ما تراجع لفظه ومعناه، وهنالك
نوعان هما وسط بين الجودة والرداءة ما تأخر لفظه وحسن معناه، وما تراجع
معناه وحسن لفظه.
والحق أن ابن قتيبة قد وجه النظر النقدي في هذا التقسيم، إلى مشكلة
استنزفت طاقات النقد العربي لوقت طويل وهي مشكلة اللفظ والمعنى، غير أن عبد
القاهر الجرجاني حين تكلم على مسألة النظم كأنما أراد أن يفض الخلاف في
هذه المسألة، وبالفعل لم تعد قضية اللفظ والمعنى بعده تأخذ ذلك الصدى
العميق في مباحث النقاد، إذا اهتدى وهو يفتش عن فكرة الإعجاز في النص
القرآني إلى أن القيمة لا تتصل بالكلمة ولا بالمعنى بصورتيهما المنفردة،
وإنما تكمن قيمتها في السياق الذي تردان فيه.
لقد مضت فكرة النظم في النقد العربي في مسارين مختلفين: الأول اتضح في
أقوال الجاحظ الذي أشار إلى مفهوم المنظوم الذي يختلف عن المنثور من حيث
النوع ويوافقه من حيث المادة، فأظهر ذلك من خلال قوله المشهور: "وذهب الشيخ
إلى استحسان المعنى، والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي
والبدوي والقروي والمدني، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة
المخرج وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة وضرب من
النسج وجنس من التصوير"([4]).
ولبيان مقاصد الجاحظ لابد من النظر إلى المسائل الآتية:
أ. ترتبط مقولة الجاحظ الآنفة بمناسبة تشف عنها إشارته "وذهب الشيخ"
والسياق لا يبين من الشيخ المقصود هنا، غير أن الكلمة جاءت بعيد تعليقه على
رأي أبي عمرو الشيباني، فهل كان يرد على الشيباني في قولته حقاً؟ ثم هل
كان الشيباني من أصحاب المعنى؟
ب. المعنى عند الجاحظ بمنزلة مادة الصناعة الشعرية، كما هو ماد الصناعة
النثرية، لا بل إنه مادة الكلام عامة، والصناعة لا تتميز بمادتها، بمقدار
ما تتميز بشكلها وبطريقة إخراجها.
ت. لم يقلل الجاحظ من شأن المعنى ويرفع من شأن اللفظ على الإطلاق، ولم
يضع المعنى مقابل اللفظ أصلا، بل جعل المعنى مادة للصناعة الشعرية، والمادة
لا تدخل في حكم القيمة أساساً.
ث. إن القيمة الحقيقية للشعر تتمثل في طريقة صياغته، أي في نظمه، ولهذا
انطوت مقولته على شروط جودة النظم والتي تمثلت في ثلاثة عناصر: الوزن
واللفظ والتركيب، وكان كلام الجاحظ على الوزن مطلقاً، في حين جاء حديثه عن
اللفظ مقيداً بشروط ثلاثة: الاختيار والسهولة والطبع، وأما التركيب فاشترط
فيه أن يكون مسبوكاً.
وإذا ما تأملنا هذه العناصر وجدناه يقدم الوزن على اللفظ وعلى التركيب،
ليكون الوزن الخاصة الشعرية الفارقة وهو من ثم الحد الذي يفصل الشعر من
النثر، فالوزن علامة تبين النوع، ثم يأتي اللفظ ليبين القيمة فاللفظ نواة
التركيب ونواة الصورة، ومن ثم كان أساس الصناعة الشعرية على أن يكون
مختاراً سهلاً مطبوعاً، ثم علل ذلك بقوله: "فإنما الشعر صناعة وضرب من
النسج وجنس من التصوير" وهذا يعني أن الصناعة عنده تقوم على مادة وشكل،
فمادتها المعاني وهي مبذولة لكل متكلم، وشكلها الوزن واللفظ، ومن خلالهما
يتميز الصانع، وأما تركيزه على اللفظ فلكونه كما أشرت أداة التصاوير في
النص وعنصر النسج وأس الصناعة، وهذا الكلام يحيل على قيمة النظم أي الكلام
المنظوم أو المتقن في إطار لوزن.
والثاني: يبرز من خلال نظرية النظم التي جاء بها الجرجاني، وقد وضع
تعريفاً لما سماه بالنظم فقال: "واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع
الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت
فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تخل بشيء منها. وذلك أنا لا
نعلم شيئاً يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب وفروقه"([5])
ويحيل كلام الجرجاني على النظم هنا على مسائل عدة منها:
أ. يبدو للمتأمل أن طريقة الجرجاني في النظم تختلف عن سائر من بحث في
فكرة الإعجاز القرآني، فأغلب من بحث في هذه الفكرة جعلها هدفاً لمباحثه، في
حين جعل الجرجاني فكرة الإعجاز منطلق البحث البلاغي، فوصل إلى نتيجة
فحواها أن النظم لا يتصل بالكلمة ولا بالمعنى ولا بالصورة وإنما يتصل
بالسياق وهنا اهتدى إلى أهمية السياق في تحديد الدلالة.
ب. أدرك عبد القاهر أثر النحو في توجيه الدلالة، إذ النحو عنده ليس مجرد
آلة لضبط الكلام، بل أصبح يتحكم في المعنى، بمعنى أنه اهتدى إلى وظيفة
النحو التي تتصل بضبط الكلام مثل أن يكون الفاعل مرفوعاً والمفعول منصوباً،
بمثل اتصالها بالمعاني والدلالات، وعلى هذا النحو أصبح هنالك فارق في
التفسير بين البلاغيين والنحاة في المسائل البلاغية التي خرجت من مباحث
النحو كالحذف والتقديم والتأخير وغيرها، فإذا قلنا: في الدار رجل، قال
أصحاب النحو قدمت شبه الجملة لأن المبتدأ نكرة، والقاعدة النحوية لا تجيز
الابتداء بنكرة، أما أصحاب البلاغة في ضوء نظرية النظم فيقولون: غرض
التقديم هنا للتخصيص، أي لإظهار المعنى المهم في الكلام.
ت. نظرية النظم عند عبد القاهر تناولت في البدء فكرة الإعجاز، ثم أفاد
منها النقاد للحكم على جودة المنظوم والمنثور على حد سواء، بمعنى أنها لم
تكن في الأصل نظرية في نقد الشعر، لذا كان لها حيز مختلف في مجالات البحث
النقدي والبلاغي في تاريخ الفكر العربي، وأخذ الدارسون في الزمن الحديث
يربطون بين الأفكار التي انتهى إليها الجرجاني في كتابه "دلائل الإعجاز"
ومباحث الدارسين الغربيين الذي تكلموا على الدلالة والسياق. ومن الواضح أن
مفهوم النظم الذي تكلم عليه الجرجاني متصل بسبب أو بآخر بمسألة المنظوم
التي أثارها الجاحظ في قوله السابق، وفي الوقت ذاته ثمة اختلاف بين
المفهومين إذ يمكن تبيان ذلك بما يأتي:
أ. النظم عند الجاحظ والجرجاني هو الالتئام، بمعنى أن يجتمع الكلام في
صورة تركيبة مترابطة، يتحكم النحو في بنيتها عند عبد القاهر، ويستحكم الوزن
في صورتها عند الجاحظ.
ب. النظم عند الجاحظ كلام مقيد بوزن، والنظم عند الجرجاني كلام مقيد
بالنحو، وعليه فإن النظم المقيد بالوزن مقيد بالنحو أيضاً، غير أن النظم
المقيد بالنحو لا يشترط التقيد بالوزن، إذن النظم في النهاية نظم ولكن أصول
صناعته تفرض عليه قيوداً إضافية مثل أن يكون الشعر نظماً أي كلاماً مركباً
متجانساً خاضعاً لمقتضيات النحو الذي يتحكم في دلالته، ثم يكون موزوناً أي
جارياً على أوزان مخصوصة.
ت. النظم عند الجاحظ متصل بالشعر دون غيره من ضروب الكلام، والنظم عند عبد القاهر متصل بكل ضروب الكلام.
ث. نظرية عبد القاهر الجرجاني في النظم يحسن عدها نظرية لغوية تضاهي
النظريات اللغوية الحديثة لما انطوت عليه من أفكار لا ترتبط بفن من فنون
القول، في حين كلام الجاحظ على النظم يتعلق بالفن الشعري العربي بطوابعه
الخاصة.
ج. هنالك خلاف واضح في التصور، فالنظم عند الجاحظ يهدف إلى تمييز خصائص
القول الشعري فحسب، أما النظم عند الجرجاني فيتناول مجالات التعبير اللغوي
عامة.
لقد بدا مفهوم النظم الشعري من الجهة النقدية أشد بروزاً عند قدامة بن
جعفر في كتابه (نقد الشعر) الذي وضح حداً للشعر، اعتمد فيه على عنصرين من
العناصر التي حددها الجاحظ للمنظوم وهي الوزن واللفظ ليضيف إليها عنصرين
اثنين وهما المعنى والقافية ليغدو الشعر عنده كلاماً موزوناً مقفى دالاً
على معنى، والحق أن مجرد تفكير ناقد كقدامة بوضع حد للشعر يعني أنه أراد أن
يضع أساساً للشعرية للعربية.
2. لا شك أن مفهوم الشعرية بحسب الفهم العربي الحديث يكتنفه بعض الغموض،
أو أن النقاد لم يخلصوا فيه إلى تحديد ينقله من حيز التصور الواسع بعوالقه
الفكرية والثقافية إلى حيز التطبيق والممارسة أي المصطلح، مما أسهم بالفعل
في خلق إشكالية تثير كثيراً من الخلافات على مستوى النظرية والتطبيق على
حد سواء، فمن هذه الجهة لم يكن التحديد المنهجي الذي اقترحه أدونيس في
كتابه "الشعرية العربية" المتمثل بالمجاز ودلالاته الغامضة([6]) منضبطاً
بحيث يمكن من التبصر بحقيقة الشعرية في نص من النصوص، فالمجاز مهما تعددت
دلالاته يحيل على علاقات داخلية في النص، وهو من ثمة وسيلة للتعبير الشعري
والنثري في آن واحد، بمعنى أن قيمته لا تتحدد بأشكال المجازات فيما هو خارج
السياق النصي المدروس، إذ المجاز في الشعر أداة، كما هو في النثر أداة
أيضاً، والسؤال المهم كيف يتحول المجاز في الشعر إلى سمة شعرية؟
إن غموض الدلالات المجازية ليس خاصة من خواص الشعر بل يمكن أن تكون
المجازات في النثر غامضة أيضاً، فما معنى أن يكون المجاز علامة شعرية
فارقة؟
أراد كمال أبو ديب فيما بعد أن يتابع جهود أدونيس في استكمال التوصيف
النقدي لمشكلة الشعرية، فخالفه في طريقة تشخيص المشكلة ووافقه في النتيجة،
فكلاهما أراد حصر السمة الشعرية في حدود النص أو ما هو داخلي فيه، إذ رأى
أدونيس أن الشعرية يمكن أن تتمثل في النص من خلال ما يحيل عليه المجاز من
دلالات غامضة، في حين رأى أبو ديب أن تلك السمة تنبعث من خلال العلاقات
الناجمة عن عناصر الشعر، لهذا أشار إلى عدم جدوى تحديد الشعرية على أساس
الظاهرة المفردة كالوزن أو القافية أو الإيقاع أو الصور([7]). ومن الواضح
أن الفارق في التوصيف عند هذين الباحثين لم يلغ الالتقاء عند نتيجة واحدة
مثل أن يتفقا حول حصر الشعرية داخل النص الشعري.
إن الإصرار على العلائقية بين ما سماه أبو ديب ظواهر فنية في الشعر في
قوله: البنية الكلية هي وحدها القادرة على امتلاك طبيعة مميزة بإزاء بنية
أخرى مغايرة لها. وانطلاقاً من هذا المبدأ الجوهري لا يمكن أن توصف الشعرية
إلا من حيث يمكن أن تتكون أو تتبلور، أي في بنية كلية.
فالشعرية إذن خصيصة علائقية، أي أنها تجسد في النص لشبكة من العلاقات
التي تنمو بين مكونات أولية سمتها الأساسية أن كلا منها يمكن أن يقع في
سياق آخر دون أن يكون شعرياً لكنه في السياق الذي تنشأ فيه هذه العلاقات
وفي حركته المتواجشة مع مكونات أخرى لها السمة الأساسية ذاتها يتحول إلى
فاعلية خلق للشعرية ومؤشر على وجودها"([8])، لا يؤدي إلى ناتج معرفي، فلو
استثنينا التوصيف البنيوي الذي تحيل عليه عبارته السابقة لا نجد ما يدل على
الإجراء النقدي الذي بوسعه تحديد شعرية الشعر، إذ العلائقية التي تكلم
عليها بلا معيار، فكيف يمكن تحديدها، ومن الذي يحدد العلاقات بين العناصر
إن كانت دراسة العناصر المكونة للشعر كالوزن والقافية والصورة مجالاً
لدراسة الشعرية من الناحية النقدية؟
إن حصر مجالات الشعرية في العناصر الشعرية مجتمعة أو منفردة، بحسب
علاقاتها البنيوية التي تفترضها سياقات الشعر أو بمعزل عن تلك العلاقات لا
يؤدي من حيث الإجراء النقدي إلى بيان واضح لمعالم الشعرية، لأننا في هذه
الحال نؤسس دراسة داخلية أو ربما موضعية لشعرية الشعر، وهذا خطأ في
التقدير، كما أظن، لأن الشعرية تتجلى بصورة أساسية بقياس درجة الانزياح بين
ما هو شعري وما هو غير شعري. بعبارة أخرى بيان ما يتصف به الشعر وما يتميز
به عن سائر ضروب الكلام، وللوصول إلى هذه النتيجة توجه الدراسة نحو
العلاقة بين ما هو داخلي في الشعر وما هو خارجي عنه، على مستوى المكون
الفني، وعلى مستوى السياق الذي يرتد إليه ذلك الشعر، ثم تشمل الدراسة
العلائقية الشعر والنثر، وربما اتسعت الدائرة في دراسة العلاقات لتشمل ضروب
الفن عامة، وقد تشمل ضروباً من معارف أخرى تتصل بالطبيعة والإنسان والكون.
أما صلاح فضل فقد نحا بالشعرية من خلال النماذج التي قدمها لكل من أحمد
شوقي ونزار قباني وغيرهما، نحواً آخر حين ركز على المحتوى مستشفاً منه ما
ينصر الشعرية في النصوص، وقد صرح بذلك في أثناء معالجته نموذج الأنثى في
شعر قباني حيث قال: "المرأة التي ينفذ نزار إلى ضميرها المكنون ويحرك بها
الوجود والتاريخ هي القصيدة الشعرية، وهي الإبداع الفني وهي ملتقى البحور
والأزمان...."([9])، وهذا الكلام في الواقع أشبه بعلم الخبايا، يستدعي
فيما يستدعيه طرائق المتصوفة في الكشف عن الأسرار المكنونة في الموجودات،
وهو من ثم يحيل على استحالة البحث عن وسائل حقيقية لكشف الشعرية في النصوص،
فما معنى أن يتحول الكشف عن قرارة الضمير المكنون إلى أداة بحثية تريد
تحديد السمة الشعرية تحديداً علمياً يوافق لغة النقد المعاصر اليوم؟
في الواقع أن كلام النقاد العرب على الشعرية لم يكن ببعيد عن النزاعات
الفكرية المتمخضة عن السجال الأدبي الذي بدأه النقاد الغربيون، منذ ظهور
كتاب جان كوهن (بنية اللغة الشعرية) في العقد السادس من القرن العشرين،
وكانت ملاحظات تودوروف ذات شأن يذكر في هذا الباب، حين اتهم كوهن بأنه ينظر
إلى الشعر" من وجهة نظر شيء آخر لا في ذاته، وأنه يميل إلى أن يأخذ الشعر
بما يختلف فيه عن النثر لا من حيث هو ظاهرة متكاملة"([10]).
ويوحي تودروف بهذا الاعتراض إلى أن تحديد الشعرية في الشعر لا يكتفي
بالحديث عن الفوارق بين الشعر والنثر لأنهما يشتركان في الخاصة الأدبية،
وإنما قد يطول ذلك التحديد مجالات أخرى كالخصائص العامة للأدب ونظام اللغة.
وقد ذهب ريفاتير إلى أبعد من ذلك حين اتهم كوهن بأنه يسعى إلى تحطيم النص
بتركيزه الشديد على الإنشائية([11]).
والحق أن كتاب جان كوهن مع ما يثيره من خلافات في التوصيف النقدي
للشعرية، يمتاز بفضيلة التحديد والضبط، أعني تحديد مجالات الشعرية في النص
في باب استخدام اللغة استخداماً شعرياً وفق معطيات النظام الشعري وتقييداته
الفنية بالنظر إلى مسألة الانزياح أو التوافق مع المعيار.
وقد لاقت هذه المسألة استحسان نفر من الباحثين العرب، كما دفعت باحثاً
كأحمد درويش إلى ترجمة الكتاب بسبب ارتباطه ببعض القضايا الماثلة في النقد
العربي كحديث عبد القاهر مثلاً عن معنى المعنى([12]).
ولعله من الطريف أن مشروعية الدافع لدى درويش لم تكن بمستوى جودة
الأداة، أقصد جودة الترجمة من جهة عدم التدقيق في استعمال المصطلح، وهذا
فيما يبدو قد دفع باحثين آخرين هما محمد الولي ومحمد العمري إلى إعادة
ترجمة الكتاب في أقل من عام على ظهور ترجمة درويش، إلا أن هذه المحاولة لم
تحظ باعتراف باحث كعبد النبي ذاكر الذي كتب مقالاً يعدد فيه مثالب
الترجمتين حيث يقول: "إذا كان بالإمكان ترميم ترجمة الولي والعمري من جهة
عدم التدقيق في ترجمة المصطلحات إلى درجة التلاعب إلا أن الأمر يستعصي في
ترجمة درويش التي تحتاج إلى إعادة نظر"([13]).
إن الاعتراضات التي أبداها الأستاذ ذاكر على عمل المترجمين لكتاب كوهن
في مجال المصطلح تؤثر في الحقيقة سلباً في الحصيلة المعرفية لدى قارئ
الكتاب، كما تؤثر في دقة تمثل قضاياه النقدية التي لا يمكن أن تنساق إلا من
خلال المصطلح، فنحن عملياً سندخل في تيه مع الترجمة العربية للكتاب، كما
ندخل في خطأ التقديرات إن سلمت لنا نسخة من ملاحظات تودروف وريفاتير بشأن
قيمة كتاب كوهن، والمسألة برمتها تؤدي إلى خلل حادث في الفهم النقدي
لإجراءات المنهج الغربي عامة، وفي هذه الحال لا ينتفع الجهد النقدي الذي
يريد أن يلتقي مع الجهد الغربي في هذا الباب إلا من جهة المقاربة، ومن هذه
الجهة أرى أن أحمد درويش كان محقاً في حصر دوافع ترجمته كتاب كوهن في
التقارب الحاصل بينه وبين طروحات النقد العربي، وبمعنى آخر إن كتاب كوهن
وإن لم تسلم لنا نحن قراء العربية نسخة مترجمة ترجمة دقيقة منه، إلا أنه
يلفت النظر بقوة إلى مقدرات النقد العربي، ومن ثم لابد من إتاحة الفرصة
للتساؤل حول ما إذا كان التفكير بالشعرية بعيداً أو قريباً من متناول
نقادنا القدامى؟ وإذا كان عند العرب بذور شعرية وهذا افتراض، وعند الغربيين
اليوم تصور كامل للشعرية وهذا محقق، ونحن نريد تطوير النقد العربي في ضوء
تلك النظرية وهذا ممكن، فهل يضير البحث إطلاق مزيد من الأسئلة حول بذور
التفكير الشعري عند النقاد القدامى؟
إن الغاية من ذلك الحوار كما أشرت إجراء نوع من المقاربة إن أثمر، ليس
من باب الحماسة أو الثقة الزائدة بمقدرات النقد العربي القديم إطلاقاً،
وإنما من باب الحوار الذي يمكن أن يفضي إلى فهم الذات قبل أن تأخذ من الآخر
ما هو أصيل ومكنون لديها. أقول إذا كانت لدينا أفكار سابقة في علم الشعر
أو الشعرية، فمن اليسير فهم الشعرية الغربية وتمثلها على النحو الذي يمكننا
من الاستفادة منها وهذه دعوة لفهم الذات قبل كل شيء ومن ثم متابعة ما
حصلته في موضوع الشعرية عندئذ يمكن الالتقاء مع النظرية الشعرية الغربية أو
مجانبتها.
الواقع أن النقاد العرب كانوا قد تكلموا على شعرية الشعر، أعني على
العلم الذي يريد أن يجعل من الشعر موضوعاً له، فقد ورد على لسان ابن سلام
الجمحي تعبير بالغ الأهمية في هذا الباب حين ذكر" وللشعر صناعة يعرفها أهل
العلم"([14])، ومن المحتمل أن ابن سلام لم يدر نهاية ما تؤدي إليه هذه
الكلمة، لأن قرارة ما كان يعيه من هذه العبارة بيان القصد من أهل العلم
بالشعر أي النقاد، ولكن الغريب في الأمر أنه لم يقل النقاد وكذلك لم يقل
الرواة أيضاً مع أن هاتين الكلمتين جديرتان بالوفاء بمعناه إن كان يقصد
بالفعل نقاد الشعر ورواته أعني العارفين بأسرار صناعته، ويبدو أن المسألة
تتعدى عنده حيز الرواية والنقد، لأن كلمة علم أو عالم جزء من اللغة النقدية
لديه، فنراه في موضع أخر من كتابه "طبقات فحول الشعراء" يستخدم الكلمة في
سياق آخر يحيل على دلالة عصية على التحديد إن قيست بمقاييس اللغة النقدية
القديمة، حين يصف خلفاً الأحمر بقوله: "كان عالماً بالشعر"([15])، وقد فهم
من كلامه هنا أن خلفا متبصر بطرائق العرب بالخطاب الشعري ليس غير.
وأظن أن هذه العبارات التي أطلقها ابن سلام قد وقعت بالمصادفة موقعاً
يحيل على دلالة أعمق كما يفهمها النقد الحديث اليوم، فعلم الشعر أو فلان
عالم بالشعر بحسب فهمنا اليوم هو أبرز ما يتصل بحد الشعرية وتعريفها، إذ
الشعرية كما يقول جون كوهين: علم موضوعه الشعر"([16]).
والحق أنني لا أريد أن أربط بين عبارات ابن سلام وتعريف كوهين في مسألة
الشعرية، لأنني أدرك تماماً مؤدى مقولات ابن سلام، فهو من غير شك لم يقصد
ما قصد إليه كوهين، ولكن المثير في القضية التركيز على علمية الشعر التي
وإن كانت لا تجوز عند ابن سلام المعرفة بدقائق صناعته، إلا أنها تختزن في
أقوال قدامة بن جعفر دلالات تفيض عن كل تحديد.
إن حد الشعر الذي وضعه قدامة بن جعفر لم يحظ على الإطلاق باعتراف
المدافعين عن حقيقة الشعر، حين عرفه بقوله: "إنه كلام موزون مقفى دال على
معنى"([17]). وقد أثيرت مشكلات جمة بوجه هذا التعريف أظهرها أنه محا الفارق
بين الشعر والنظم، أو أنه تعريف يتناول شكل الشعر دون قضاياه المضمونية
والشعورية ووسائله التصويرية([18]). والواقع أن قدامة رجل منطق ينزع إلى
تبيان الحدود ووضع التعريفات، وتعريفه الآنِف محاولة لتحديد ماهية الشعر من
جهة التصنيف أو أساسيات العلم، فقد أراد أن يضمن تعريفه من بين عناصر
الشعر ما يقبل المعايير، فوضع بذلك أساساً للشعرية على اعتبارها نزوعاً
علمياً لدراسة الشعر، من أجل ذلك استبعد ماله صلة بالشعور والعاطفة، لأن
تلك العناصر لا تنضبط من الناحية المعيارية، أي لا يمكن أن تكون موضوعاً
للعلم أو موضوعاً للشعرية بحسب التصور النقدي الحديث لهذا المفهوم.
إذن قدامة بن جعفر من أوائل النقاد الذين حاولوا إثارة الخلاف حول حدود
الشعر وماهيته، مؤسساً بذلك دراسة نقدية رائدة مجالها دراسة الشعر دراسة
علمية، وكان ذلك في حدود وعيه حتمية تطور الأشكال الشعرية بين مستويين
أساسيين دلالي وصوتي، وإذا ما أعدنا النظر إلى تعريفه السابق وجدناه يحصر
مكونات الشعر الأساسية بأربعة عناصر: اللفظ والمعنى والوزن والقافية، وفيها
عنصران يتصلان بالدلالة: اللفظ والمعنى، وعنصران صوتيان: الوزن والقافية،
وينبغي ألا نفهم من الدلالات أو الأصوات هنا التوصيف اللغوي الحديث كما شفت
عنه مباحث دوسوسير أو غيره، وإنما نريد من ذلك أن اللفظ والمعنى عنصران لا
يختصان بالشعر وحده إذ هما عنصران مشتركان بين الشعر والنثر، ومشتركان بين
الأدب وضروب التعبير كافة، غير أن ما يميز اللفظ والمعنى في الشعر
شعريتهما، وهنا يكمن الخلاف بين الشعر والنثر، وما يميز لفظ الشعر ومعناه
عن لفظ النثر ومعناه هو انسجامهما مع العنصرين الصوتيين أعني الوزن
والقافية،وهذا هو أساس الشعرية في الشعر بحسب الذوق النقدي القديم الذي لا
يريد أن يعترف بشعر دون وزن وقافية، في حين يبدو انسجام اللفظ والمعنى في
النثر مع عناصر إضافية في النثر نفسه ما يحدد أدبية النثر. لقد أعاد بعض
النقاد الغربيين الجدل من جديد حول شعرية الشعر، لا سيما حين ظهر كتاب
"قضايا الشعرية" لجاكبسون، وكتاب "بنية اللغة الشعرية" لجان كوهن، "بجانب
دراسات رديفة أخرى في النقد الغربي الحديث أثرت النقاش في هذا
الموضوع([19]).
تجب الإشارة إلى أهمية المنهج الذي بدأ به كوهن كتابه المشار إليه
آنفاً، حين ألمح إلى المقاربة بين موضوع الدراسة والمنهج، فبدأ كتابه على
النحو الذي بدأ به قدامة بن جعفر، أعني بالتعريفات، فكما بدأ قدامه كتابه
"نقد الشعر" بوضع حد للشعر، بدأ كوهن بتعريف الشعرية بقوله: "الشعرية علم
موضوعه الشعر". ثم حاول أن يزيل الملابسات التي علقت بمصطلح الشعر، وهذا ما
لم يكن متاحاً لقدامة، ومن هنا نفهم اللبس الذي علق بتعريف قدامة الشعر،
في حين نجا تصنيف كوهن من كثير من الاعتراضات، لأنه نظر إلى مصطلح الشعر من
خلال مفهوم تطوري، فبين أن كلمة شعر في العصر الكلاسيكي واضحة لا لبس فيها
لارتباطها بالنظم، وهو الأمر المطابق تماماً لمفهوم الشعر عند قدامة حين
قرن العناصر الدلالية بالعناصر الصوتية، ومن الطبيعي أن يشمل كلام كوهن
الفهم الحديث لكلمة شعر وعند جمهور المثقفين خاصة، وهذا اشتراط مهم في
الدراسة لأن مفهوم الشعرية كان يراود أذهان القدماء وإن لم يكن المصطلح
بتقيداته الحالية معروفاً لديهم، بمعنى أن تأصيل المصطلح عند كوهن من
إجراءات المنهج وهذا عمل في صميم المنهج العلمي.
لقد امتد مصطلح الشعر عند كوهن بين مرحلتين بينهما فاصل تاريخي ومعرفي
هائل، فكان بين النظم وهو المفهوم الكلاسيكي للشعر والإحساس الجمالي وهو
الفهم المعاصر للشعر، وعلينا أن ندرك أمرين من هذا التحديد المنهجي: الأول:
تحديد المسافة التي سبح فيها الشعر من المستوى الخاص بالنظم أي الجهة
الصوتية بوصفها معياراً للشعر، إلى المستوى الدلالي اللا محدود، يتخطى
الاشتراطات الشكلية بصورة كلية، أي محو الفارق ليس بين الشعر والنظم كما
الشأن عند قدامة، بل بين الشعر والنثر، لأن الإحساس الجمالي لا يشترط النظم
أصلا، من أجل ذلك أمكن أن ينبجس الإحساس الجمالي من شعر منظوم ومن شعر
منثور كما يمكن أن ينبجس من نثر منظوم أو نثر مغسول من النظم، إذ المعيار
في ذلك الدلالة. والثاني: تحديد المساحة التي تصول فيها الشعرية، إذ تصور
كوهن أن مجال الشعرية لا يقتصر على الشعر وحده وإنما قد تكون في الموسيقى
والرسم كما يمكن أن تتجسد في المناظر الطبيعية كما يقول بول فاليري عن
المنظر الطبيعي: إنه شعري.
وأكثر من ذلك قد نقول عن شخص: إنه شعري. وربما اتسعت دائرة الشعرية
لتستوعب الوجود كله، يقول كوهن: "لا نعتقد أن الظاهرة الشعرية تنحصر في
حدود الأدب، كما لا نعتقد أن البحث في الكائنات الطبيعية أو شروط الحياة
باعتبارها من عوامل هذه الظاهرة بحث غير مشروع، فمن الممكن بالطبع أن نسعى
لإيجاد شعرية عامة تبحث عن الملامح المشتركة بين جميع الموضوعات الفنية
والطبيعية التي من شأنها أن تثير الانفعال الشعري"([20]).
لقد أدرك كوهن كما أدرك قدامة بن جعفر أن الشعر قبل أن يكون موضوعاً
للشعرية ينبغي أن يتبلور بصورة تعريف واضح يقبل المعيار، ومن هنا نفهم
إصرار قدامة على حصر تعريف الشعر فيما يقبل من عناصره التكوينية المعيار
كاللفظ والمعنى والوزن والقافية، وهي القضية التي توقف عندها كوهن حين قال:
إن كلمة شعر لا تسلم في الاستخدام المعاصر من اللبس ولاسيما مع وجود تعبير
عصري شائع الاستعمال اليوم وهو ما يعرف بالقصيدة النثرية، من هنا فقدت
كلمة شعر في الفهم المعاصر وضوحها التام، أي عندما تجاوز الشعر قيد النظم
الذي كان يحدد مفهومه ويميزه من النثر، ولهذا رأى أن تعبير القصيدة النثرية
يفترض إعادة تحديد مفهوم الشعر اليوم تمهيداً لدراسة شعريته دراسة علمية،
وهو الهدف نفسه الذي توخاه قدامة من تعريفه الشعر في القرن الثالث الهجري.
انطلق كوهن في تعريفه الجديد للشعر من تحليل البنية اللغوية، لافتراضه
أن اللغة تقبل التحليل من الجهتين الصوتية والدلالية، وقد لاحظ أن المستوى
الصوتي في اللغة لا يقوم إلا على النظم، ويحيل في كلامه هنا على معيارية
اللغة وقواعدها، فليست هنالك لغة بلا قواعد لذا فالمعيار في اللغة موجود
افتراضاً وحقيقة، غير أن اللغة لا تكتمل بجانبها الصوتي المعياري فحسب بل
تحتاج إلى الجانب الدلالي الذي أخضع هو الآخر إلى المعيارية بطريق فن
الكتابة أو البلاغة، وصحيح أن الجانب البلاغي اختيار بيد أنه في آخر الأمر
يشكل معياراً لا يختلف عن المعيار الصوتي إلا من حيث الالتزام أو الحرية،
بمعنى أن الجانب الصوتي في اللغة معيار إلزامي والجانب الدلالي معيار
اختياري.
لقد اقر كوهن أن معايير النظم في السابق كانت تحكم الشعرية، ولما جاءت
البلاغة أسهمت في دفع الوسائل الصوتية إلى المعيارية الخالصة، أما الشعرية
في الزمن الحديث فقد انطلقت من مستويات ثلاثة في الشعر، الأول يتمثل بقصيدة
النثر أو قصيدة الدلالة التي تتحرر من الجانب الصوتي، أو أنه غير مستغل
فيها، من أجل ذلك نهض فيها الجانب الدلالي ليحقق الجمال المطلوب. والثاني:
قصائد صوتية لا شيء يفرقها عن النثر سوى إقامة القافية والوزن، وهذا الضرب
من الشعر تتراجع فيه مردودية الشعرية. والثالث: الشعر الصوتي الدلالي أو ما
سماه بالشعر الكامل يقابل في الجدول الآتي النثر الكامل:
كانت سيرة النقد الأدبي عند العرب مرتبطة بسيرة الشعر العربي، ومن
المؤكد أن النقد بدأ مع الشعر، إذ وجدت بدايات غضة للنقد كما كانت هنالك
بدايات غضة للشعر، لا بل إن النقد كان شفهياً فطرياً يستحكم فيه الذوق وتلح
عليه الحاجة كما كان الشعر شفهياً وعفوياً ويمثل حاجة وجودية، ذلك لأن
العرب كونت ثقافتها مشافهة، ثم أودعت مناقبها في شعرها، فحفظت فيه سيرتها
وأيامها وسائر القيم التي استنبطتها في حياتها، فقال عمر بن الخطاب رضي
الله عنه "الشعر علم قوم لم يكن لديهم علم أصح منه"([2]) ومنه انبثقت
المقولة الخالدة: "الشعر ديوان العرب"
ويتعين على الأخذ بهذه المقولة جملة من الأفكار أجلها أن العرب لم تدون
شيئاً من تراثها إلا بطريق الشعر، من أجل ذلك كان الشعر مهوى أفئدتهم،
فأخذوا به، ووثقوا بملكاته، وصار عندهم بمنزلة الدليل والبرهان والحجة.
غير أن البحث في أصول النقد العربي لا يمتلك المسوغات الموضوعية التي
يحظى بها البحث في أصول الشعر، ذلك لأن الشعر سهل تداوله، سريع حفظه، ممكن
شيوعه وانتشاره، ومن الطبيعي أن يحتل مكاناً في الذاكرة، ثم ينتقل من جيل
إلى جيل بطريق الرواية، أما النقد فلم تحمل الذاكرة منه سوى النوادر
والحكايات، كالحكاية التي تناقلتها الألسنة من أمر زوج امرئ القيس في
تفضيلها علقمة على زوجها، وما حكي عن النابغة الذي كانت تضرب لـه قبة في
عكاظ ليحكم بين الشعراء. من أجل ذلك لم تصل إلينا مدونات نقدية من العصرين
الجاهلي والإسلامي يمكن الوثوق فيها.
لا شك أن أول مدونة نقدية يمكن أن يقوم عليها بحث علمي في تاريخ النقد
العربي كتاب "فحولة الشعراء" المنسوب للأصمعي، ومع أن الكتاب في مجمله لا
يخرج عن الملاحظات النقدية المتصلة بالذوق وبالفطرة إلا أنه انطوى على
مسألتين مهمتين: الأولى تتصل بإيجاد المصطلح، فالأصمعي في حدود معرفتي من
أوائل النقاد الذين اهتدوا إلى المصطلح النقدي من خلال لفظ استعاره من واقع
الحياة العربية أعني "الفحولة"، وإن لم يقصد إلى ذلك قصد الناقد المميز
أهمية مثل هذا الصنيع، ومع ذلك تحولت الكلمة التي أطلقها إلى مصطلح ذي
دلالة مقيدة أفيد منها فيما بعد في مسألتين كانتا نواة السجال النقدي عند
العرب أعني الموازنة والمفاضلة بين الشعراء، بمعنى أن كلمة (فحولة) أخذت
مكانها في الفكر النقدي العربي، فاستحالت مسوغاً للحكم، وكان الأصمعي نفسه
قد وجه الأذهان إلى ذلك حين وضع تعريفاً في غاية الدقة والأهمية لمصطلحه،
في سياق إجابته عن سؤال تلميذه السجستاني، أن الفحولة سمة وعلامة فارقة
للشاعر، كما هي في واقع الأمر سمة فارقة تميز الفحل من الإبل عن النوق.
والثانية تتعلق بالحكم على الشاعر، فالأصمعي لم يوازن بين معنى ومعنى
وإنما وازن بين شاعر وشاعر، فهو مثلاً يفضل النابغة على زهير، لا بل نراه
يجرد زهيراً من مزاياه حين يقول: "لا يحسن زهير أن يكون أجيراً للنابغة"،
والواقع أن زهيراً لـه مزايا في شعره، فهو من المحككين، والأصمعي نفسه يضعه
على رأس من سماهم بـ "عبيد الشعر"، لأنهم أطالوا فيه النظر وأخرجوه
إخراجاً يكاد يكون بريئاً من العيوب، ومع ذلك لم تنهض صفة التثقيف عند زهير
لترقى به إلى رتبة الفحولة في رأي الأصمعي، لأنها لم تكن علامة فارقة أو
مزية لزهير دون غيره من الشعراء، فهذه الصفة كما نفهم اليوم صفة مشتركة عند
عدد من الشعراء الذي أطلق عليهم د. طه حسين تسمية "المدرسة الأوسية".
مصطلح الفحولة عند الأصمعي يبين مزية كل شاعر من دون تحديد منزلته أو
طبقته بين أقرانه، فأمرؤ القيس فحل والنابغة فحل، والسؤال الذي واجه ناقداً
مثل ابن سلام أين يقف النابغة من امرئ القيس وأين يقف الأعشى منهما؟ بمعنى
هل الفحول جميعاً في درجة واحدة من الإجادة والتقدم والبروز؟
لقد آثر ابن سلام أن يصنف الفحول فاهتدى إلى مفهوم الطبقة، فوضع كل
أربعة شعراء في طبقة واحدة، إذ ضمت الطبقة الأولى من فحول الجاهلية امرأ
القيس والنابغة وزهيراً والأعشى، ومن الواضح أنه راعى التدرج هنا فقدم امرأ
القيس على سائر شعراء الطبقة الأولى، ثم قدم النابغة على زهير متأثراً
بحكم سابقه الأصمعي، مضيفاً إليهم الأعشى ليكتمل لـه التقسيم الرباعي.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن النقد الأدبي العربي بطريق هذين الرجلين أعني
الأصمعي وابن سلام قد أسس مداخله كما يؤسس كل علم ناشئ مداخله فما بين
اختراع المصطلح النقدي وتأصيله إلى مرحلة التصنيف العلمي يكون النقاد قد
وطدوا طريق البحث العلمي للوصول إلى حكم القيمة وهو الهدف الذي يسعى إليه
كل علم. غير أن البذور النقدية لم تتحول إلى صيغة فاعلة من دون إيجاد أساس
يحتكم إليه الناقد في إقامة حكم يتناول الشعر نفسه، وهنا برز ابن قتيبة
الذي أوجد تحولاً واضحاً في مسيرة النقد الأدبي حين انتقل من الحكم على
الشاعر إلى الحكم على الشعر.
لم تكن الفحولة عند ابن قتيبة معياراً للجودة على أية حال، بدليل أنه
وقف عن شاهد للأعشى وهو عند ابن سلام فحل، فجعله في نهاية الرداءة، أعني به
قوله:
وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني
شاوٍ مِشَلٌّ شلولٌ شلشلٌ شَوِلُ
إذ الجودة عنده تتصل بالشعر أكثر من اتصالها بالشاعر، فشعر امرئ القيس
لم يكن في مجمله جيداً مع أنه من الفحول، وكذا النابغة وزهير والأعشى، لذا
تمخضت عن تأملات ابن قتيبة مفهوم الشعر أربعة أضرب: شعر حسنت ألفاظه
ومعانيه، وشعر حسنت ألفاظه وتراجعت معانيه، وشعر تراجعت ألفاظه وحسنت
معانيه، وشعر تراجعت ألفاظه ومعانيه([3])، وهذا التقسيم المنطقي يوسع في
الحقيقة مجال الحكم على الشعر، إذ الشعر عنده ليس جيداً أو رديئاً فحسب،
وإنما كان جيداً ووسطاً ورديئاً: الأول في غاية الجودة وهو ما حسن لفظه
ومعناه، يقابله شعر في نهاية الرداءة، وهو ما تراجع لفظه ومعناه، وهنالك
نوعان هما وسط بين الجودة والرداءة ما تأخر لفظه وحسن معناه، وما تراجع
معناه وحسن لفظه.
والحق أن ابن قتيبة قد وجه النظر النقدي في هذا التقسيم، إلى مشكلة
استنزفت طاقات النقد العربي لوقت طويل وهي مشكلة اللفظ والمعنى، غير أن عبد
القاهر الجرجاني حين تكلم على مسألة النظم كأنما أراد أن يفض الخلاف في
هذه المسألة، وبالفعل لم تعد قضية اللفظ والمعنى بعده تأخذ ذلك الصدى
العميق في مباحث النقاد، إذا اهتدى وهو يفتش عن فكرة الإعجاز في النص
القرآني إلى أن القيمة لا تتصل بالكلمة ولا بالمعنى بصورتيهما المنفردة،
وإنما تكمن قيمتها في السياق الذي تردان فيه.
لقد مضت فكرة النظم في النقد العربي في مسارين مختلفين: الأول اتضح في
أقوال الجاحظ الذي أشار إلى مفهوم المنظوم الذي يختلف عن المنثور من حيث
النوع ويوافقه من حيث المادة، فأظهر ذلك من خلال قوله المشهور: "وذهب الشيخ
إلى استحسان المعنى، والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي
والبدوي والقروي والمدني، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة
المخرج وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة وضرب من
النسج وجنس من التصوير"([4]).
ولبيان مقاصد الجاحظ لابد من النظر إلى المسائل الآتية:
أ. ترتبط مقولة الجاحظ الآنفة بمناسبة تشف عنها إشارته "وذهب الشيخ"
والسياق لا يبين من الشيخ المقصود هنا، غير أن الكلمة جاءت بعيد تعليقه على
رأي أبي عمرو الشيباني، فهل كان يرد على الشيباني في قولته حقاً؟ ثم هل
كان الشيباني من أصحاب المعنى؟
ب. المعنى عند الجاحظ بمنزلة مادة الصناعة الشعرية، كما هو ماد الصناعة
النثرية، لا بل إنه مادة الكلام عامة، والصناعة لا تتميز بمادتها، بمقدار
ما تتميز بشكلها وبطريقة إخراجها.
ت. لم يقلل الجاحظ من شأن المعنى ويرفع من شأن اللفظ على الإطلاق، ولم
يضع المعنى مقابل اللفظ أصلا، بل جعل المعنى مادة للصناعة الشعرية، والمادة
لا تدخل في حكم القيمة أساساً.
ث. إن القيمة الحقيقية للشعر تتمثل في طريقة صياغته، أي في نظمه، ولهذا
انطوت مقولته على شروط جودة النظم والتي تمثلت في ثلاثة عناصر: الوزن
واللفظ والتركيب، وكان كلام الجاحظ على الوزن مطلقاً، في حين جاء حديثه عن
اللفظ مقيداً بشروط ثلاثة: الاختيار والسهولة والطبع، وأما التركيب فاشترط
فيه أن يكون مسبوكاً.
وإذا ما تأملنا هذه العناصر وجدناه يقدم الوزن على اللفظ وعلى التركيب،
ليكون الوزن الخاصة الشعرية الفارقة وهو من ثم الحد الذي يفصل الشعر من
النثر، فالوزن علامة تبين النوع، ثم يأتي اللفظ ليبين القيمة فاللفظ نواة
التركيب ونواة الصورة، ومن ثم كان أساس الصناعة الشعرية على أن يكون
مختاراً سهلاً مطبوعاً، ثم علل ذلك بقوله: "فإنما الشعر صناعة وضرب من
النسج وجنس من التصوير" وهذا يعني أن الصناعة عنده تقوم على مادة وشكل،
فمادتها المعاني وهي مبذولة لكل متكلم، وشكلها الوزن واللفظ، ومن خلالهما
يتميز الصانع، وأما تركيزه على اللفظ فلكونه كما أشرت أداة التصاوير في
النص وعنصر النسج وأس الصناعة، وهذا الكلام يحيل على قيمة النظم أي الكلام
المنظوم أو المتقن في إطار لوزن.
والثاني: يبرز من خلال نظرية النظم التي جاء بها الجرجاني، وقد وضع
تعريفاً لما سماه بالنظم فقال: "واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع
الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت
فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تخل بشيء منها. وذلك أنا لا
نعلم شيئاً يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب وفروقه"([5])
ويحيل كلام الجرجاني على النظم هنا على مسائل عدة منها:
أ. يبدو للمتأمل أن طريقة الجرجاني في النظم تختلف عن سائر من بحث في
فكرة الإعجاز القرآني، فأغلب من بحث في هذه الفكرة جعلها هدفاً لمباحثه، في
حين جعل الجرجاني فكرة الإعجاز منطلق البحث البلاغي، فوصل إلى نتيجة
فحواها أن النظم لا يتصل بالكلمة ولا بالمعنى ولا بالصورة وإنما يتصل
بالسياق وهنا اهتدى إلى أهمية السياق في تحديد الدلالة.
ب. أدرك عبد القاهر أثر النحو في توجيه الدلالة، إذ النحو عنده ليس مجرد
آلة لضبط الكلام، بل أصبح يتحكم في المعنى، بمعنى أنه اهتدى إلى وظيفة
النحو التي تتصل بضبط الكلام مثل أن يكون الفاعل مرفوعاً والمفعول منصوباً،
بمثل اتصالها بالمعاني والدلالات، وعلى هذا النحو أصبح هنالك فارق في
التفسير بين البلاغيين والنحاة في المسائل البلاغية التي خرجت من مباحث
النحو كالحذف والتقديم والتأخير وغيرها، فإذا قلنا: في الدار رجل، قال
أصحاب النحو قدمت شبه الجملة لأن المبتدأ نكرة، والقاعدة النحوية لا تجيز
الابتداء بنكرة، أما أصحاب البلاغة في ضوء نظرية النظم فيقولون: غرض
التقديم هنا للتخصيص، أي لإظهار المعنى المهم في الكلام.
ت. نظرية النظم عند عبد القاهر تناولت في البدء فكرة الإعجاز، ثم أفاد
منها النقاد للحكم على جودة المنظوم والمنثور على حد سواء، بمعنى أنها لم
تكن في الأصل نظرية في نقد الشعر، لذا كان لها حيز مختلف في مجالات البحث
النقدي والبلاغي في تاريخ الفكر العربي، وأخذ الدارسون في الزمن الحديث
يربطون بين الأفكار التي انتهى إليها الجرجاني في كتابه "دلائل الإعجاز"
ومباحث الدارسين الغربيين الذي تكلموا على الدلالة والسياق. ومن الواضح أن
مفهوم النظم الذي تكلم عليه الجرجاني متصل بسبب أو بآخر بمسألة المنظوم
التي أثارها الجاحظ في قوله السابق، وفي الوقت ذاته ثمة اختلاف بين
المفهومين إذ يمكن تبيان ذلك بما يأتي:
أ. النظم عند الجاحظ والجرجاني هو الالتئام، بمعنى أن يجتمع الكلام في
صورة تركيبة مترابطة، يتحكم النحو في بنيتها عند عبد القاهر، ويستحكم الوزن
في صورتها عند الجاحظ.
ب. النظم عند الجاحظ كلام مقيد بوزن، والنظم عند الجرجاني كلام مقيد
بالنحو، وعليه فإن النظم المقيد بالوزن مقيد بالنحو أيضاً، غير أن النظم
المقيد بالنحو لا يشترط التقيد بالوزن، إذن النظم في النهاية نظم ولكن أصول
صناعته تفرض عليه قيوداً إضافية مثل أن يكون الشعر نظماً أي كلاماً مركباً
متجانساً خاضعاً لمقتضيات النحو الذي يتحكم في دلالته، ثم يكون موزوناً أي
جارياً على أوزان مخصوصة.
ت. النظم عند الجاحظ متصل بالشعر دون غيره من ضروب الكلام، والنظم عند عبد القاهر متصل بكل ضروب الكلام.
ث. نظرية عبد القاهر الجرجاني في النظم يحسن عدها نظرية لغوية تضاهي
النظريات اللغوية الحديثة لما انطوت عليه من أفكار لا ترتبط بفن من فنون
القول، في حين كلام الجاحظ على النظم يتعلق بالفن الشعري العربي بطوابعه
الخاصة.
ج. هنالك خلاف واضح في التصور، فالنظم عند الجاحظ يهدف إلى تمييز خصائص
القول الشعري فحسب، أما النظم عند الجرجاني فيتناول مجالات التعبير اللغوي
عامة.
لقد بدا مفهوم النظم الشعري من الجهة النقدية أشد بروزاً عند قدامة بن
جعفر في كتابه (نقد الشعر) الذي وضح حداً للشعر، اعتمد فيه على عنصرين من
العناصر التي حددها الجاحظ للمنظوم وهي الوزن واللفظ ليضيف إليها عنصرين
اثنين وهما المعنى والقافية ليغدو الشعر عنده كلاماً موزوناً مقفى دالاً
على معنى، والحق أن مجرد تفكير ناقد كقدامة بوضع حد للشعر يعني أنه أراد أن
يضع أساساً للشعرية للعربية.
2. لا شك أن مفهوم الشعرية بحسب الفهم العربي الحديث يكتنفه بعض الغموض،
أو أن النقاد لم يخلصوا فيه إلى تحديد ينقله من حيز التصور الواسع بعوالقه
الفكرية والثقافية إلى حيز التطبيق والممارسة أي المصطلح، مما أسهم بالفعل
في خلق إشكالية تثير كثيراً من الخلافات على مستوى النظرية والتطبيق على
حد سواء، فمن هذه الجهة لم يكن التحديد المنهجي الذي اقترحه أدونيس في
كتابه "الشعرية العربية" المتمثل بالمجاز ودلالاته الغامضة([6]) منضبطاً
بحيث يمكن من التبصر بحقيقة الشعرية في نص من النصوص، فالمجاز مهما تعددت
دلالاته يحيل على علاقات داخلية في النص، وهو من ثمة وسيلة للتعبير الشعري
والنثري في آن واحد، بمعنى أن قيمته لا تتحدد بأشكال المجازات فيما هو خارج
السياق النصي المدروس، إذ المجاز في الشعر أداة، كما هو في النثر أداة
أيضاً، والسؤال المهم كيف يتحول المجاز في الشعر إلى سمة شعرية؟
إن غموض الدلالات المجازية ليس خاصة من خواص الشعر بل يمكن أن تكون
المجازات في النثر غامضة أيضاً، فما معنى أن يكون المجاز علامة شعرية
فارقة؟
أراد كمال أبو ديب فيما بعد أن يتابع جهود أدونيس في استكمال التوصيف
النقدي لمشكلة الشعرية، فخالفه في طريقة تشخيص المشكلة ووافقه في النتيجة،
فكلاهما أراد حصر السمة الشعرية في حدود النص أو ما هو داخلي فيه، إذ رأى
أدونيس أن الشعرية يمكن أن تتمثل في النص من خلال ما يحيل عليه المجاز من
دلالات غامضة، في حين رأى أبو ديب أن تلك السمة تنبعث من خلال العلاقات
الناجمة عن عناصر الشعر، لهذا أشار إلى عدم جدوى تحديد الشعرية على أساس
الظاهرة المفردة كالوزن أو القافية أو الإيقاع أو الصور([7]). ومن الواضح
أن الفارق في التوصيف عند هذين الباحثين لم يلغ الالتقاء عند نتيجة واحدة
مثل أن يتفقا حول حصر الشعرية داخل النص الشعري.
إن الإصرار على العلائقية بين ما سماه أبو ديب ظواهر فنية في الشعر في
قوله: البنية الكلية هي وحدها القادرة على امتلاك طبيعة مميزة بإزاء بنية
أخرى مغايرة لها. وانطلاقاً من هذا المبدأ الجوهري لا يمكن أن توصف الشعرية
إلا من حيث يمكن أن تتكون أو تتبلور، أي في بنية كلية.
فالشعرية إذن خصيصة علائقية، أي أنها تجسد في النص لشبكة من العلاقات
التي تنمو بين مكونات أولية سمتها الأساسية أن كلا منها يمكن أن يقع في
سياق آخر دون أن يكون شعرياً لكنه في السياق الذي تنشأ فيه هذه العلاقات
وفي حركته المتواجشة مع مكونات أخرى لها السمة الأساسية ذاتها يتحول إلى
فاعلية خلق للشعرية ومؤشر على وجودها"([8])، لا يؤدي إلى ناتج معرفي، فلو
استثنينا التوصيف البنيوي الذي تحيل عليه عبارته السابقة لا نجد ما يدل على
الإجراء النقدي الذي بوسعه تحديد شعرية الشعر، إذ العلائقية التي تكلم
عليها بلا معيار، فكيف يمكن تحديدها، ومن الذي يحدد العلاقات بين العناصر
إن كانت دراسة العناصر المكونة للشعر كالوزن والقافية والصورة مجالاً
لدراسة الشعرية من الناحية النقدية؟
إن حصر مجالات الشعرية في العناصر الشعرية مجتمعة أو منفردة، بحسب
علاقاتها البنيوية التي تفترضها سياقات الشعر أو بمعزل عن تلك العلاقات لا
يؤدي من حيث الإجراء النقدي إلى بيان واضح لمعالم الشعرية، لأننا في هذه
الحال نؤسس دراسة داخلية أو ربما موضعية لشعرية الشعر، وهذا خطأ في
التقدير، كما أظن، لأن الشعرية تتجلى بصورة أساسية بقياس درجة الانزياح بين
ما هو شعري وما هو غير شعري. بعبارة أخرى بيان ما يتصف به الشعر وما يتميز
به عن سائر ضروب الكلام، وللوصول إلى هذه النتيجة توجه الدراسة نحو
العلاقة بين ما هو داخلي في الشعر وما هو خارجي عنه، على مستوى المكون
الفني، وعلى مستوى السياق الذي يرتد إليه ذلك الشعر، ثم تشمل الدراسة
العلائقية الشعر والنثر، وربما اتسعت الدائرة في دراسة العلاقات لتشمل ضروب
الفن عامة، وقد تشمل ضروباً من معارف أخرى تتصل بالطبيعة والإنسان والكون.
أما صلاح فضل فقد نحا بالشعرية من خلال النماذج التي قدمها لكل من أحمد
شوقي ونزار قباني وغيرهما، نحواً آخر حين ركز على المحتوى مستشفاً منه ما
ينصر الشعرية في النصوص، وقد صرح بذلك في أثناء معالجته نموذج الأنثى في
شعر قباني حيث قال: "المرأة التي ينفذ نزار إلى ضميرها المكنون ويحرك بها
الوجود والتاريخ هي القصيدة الشعرية، وهي الإبداع الفني وهي ملتقى البحور
والأزمان...."([9])، وهذا الكلام في الواقع أشبه بعلم الخبايا، يستدعي
فيما يستدعيه طرائق المتصوفة في الكشف عن الأسرار المكنونة في الموجودات،
وهو من ثم يحيل على استحالة البحث عن وسائل حقيقية لكشف الشعرية في النصوص،
فما معنى أن يتحول الكشف عن قرارة الضمير المكنون إلى أداة بحثية تريد
تحديد السمة الشعرية تحديداً علمياً يوافق لغة النقد المعاصر اليوم؟
في الواقع أن كلام النقاد العرب على الشعرية لم يكن ببعيد عن النزاعات
الفكرية المتمخضة عن السجال الأدبي الذي بدأه النقاد الغربيون، منذ ظهور
كتاب جان كوهن (بنية اللغة الشعرية) في العقد السادس من القرن العشرين،
وكانت ملاحظات تودوروف ذات شأن يذكر في هذا الباب، حين اتهم كوهن بأنه ينظر
إلى الشعر" من وجهة نظر شيء آخر لا في ذاته، وأنه يميل إلى أن يأخذ الشعر
بما يختلف فيه عن النثر لا من حيث هو ظاهرة متكاملة"([10]).
ويوحي تودروف بهذا الاعتراض إلى أن تحديد الشعرية في الشعر لا يكتفي
بالحديث عن الفوارق بين الشعر والنثر لأنهما يشتركان في الخاصة الأدبية،
وإنما قد يطول ذلك التحديد مجالات أخرى كالخصائص العامة للأدب ونظام اللغة.
وقد ذهب ريفاتير إلى أبعد من ذلك حين اتهم كوهن بأنه يسعى إلى تحطيم النص
بتركيزه الشديد على الإنشائية([11]).
والحق أن كتاب جان كوهن مع ما يثيره من خلافات في التوصيف النقدي
للشعرية، يمتاز بفضيلة التحديد والضبط، أعني تحديد مجالات الشعرية في النص
في باب استخدام اللغة استخداماً شعرياً وفق معطيات النظام الشعري وتقييداته
الفنية بالنظر إلى مسألة الانزياح أو التوافق مع المعيار.
وقد لاقت هذه المسألة استحسان نفر من الباحثين العرب، كما دفعت باحثاً
كأحمد درويش إلى ترجمة الكتاب بسبب ارتباطه ببعض القضايا الماثلة في النقد
العربي كحديث عبد القاهر مثلاً عن معنى المعنى([12]).
ولعله من الطريف أن مشروعية الدافع لدى درويش لم تكن بمستوى جودة
الأداة، أقصد جودة الترجمة من جهة عدم التدقيق في استعمال المصطلح، وهذا
فيما يبدو قد دفع باحثين آخرين هما محمد الولي ومحمد العمري إلى إعادة
ترجمة الكتاب في أقل من عام على ظهور ترجمة درويش، إلا أن هذه المحاولة لم
تحظ باعتراف باحث كعبد النبي ذاكر الذي كتب مقالاً يعدد فيه مثالب
الترجمتين حيث يقول: "إذا كان بالإمكان ترميم ترجمة الولي والعمري من جهة
عدم التدقيق في ترجمة المصطلحات إلى درجة التلاعب إلا أن الأمر يستعصي في
ترجمة درويش التي تحتاج إلى إعادة نظر"([13]).
إن الاعتراضات التي أبداها الأستاذ ذاكر على عمل المترجمين لكتاب كوهن
في مجال المصطلح تؤثر في الحقيقة سلباً في الحصيلة المعرفية لدى قارئ
الكتاب، كما تؤثر في دقة تمثل قضاياه النقدية التي لا يمكن أن تنساق إلا من
خلال المصطلح، فنحن عملياً سندخل في تيه مع الترجمة العربية للكتاب، كما
ندخل في خطأ التقديرات إن سلمت لنا نسخة من ملاحظات تودروف وريفاتير بشأن
قيمة كتاب كوهن، والمسألة برمتها تؤدي إلى خلل حادث في الفهم النقدي
لإجراءات المنهج الغربي عامة، وفي هذه الحال لا ينتفع الجهد النقدي الذي
يريد أن يلتقي مع الجهد الغربي في هذا الباب إلا من جهة المقاربة، ومن هذه
الجهة أرى أن أحمد درويش كان محقاً في حصر دوافع ترجمته كتاب كوهن في
التقارب الحاصل بينه وبين طروحات النقد العربي، وبمعنى آخر إن كتاب كوهن
وإن لم تسلم لنا نحن قراء العربية نسخة مترجمة ترجمة دقيقة منه، إلا أنه
يلفت النظر بقوة إلى مقدرات النقد العربي، ومن ثم لابد من إتاحة الفرصة
للتساؤل حول ما إذا كان التفكير بالشعرية بعيداً أو قريباً من متناول
نقادنا القدامى؟ وإذا كان عند العرب بذور شعرية وهذا افتراض، وعند الغربيين
اليوم تصور كامل للشعرية وهذا محقق، ونحن نريد تطوير النقد العربي في ضوء
تلك النظرية وهذا ممكن، فهل يضير البحث إطلاق مزيد من الأسئلة حول بذور
التفكير الشعري عند النقاد القدامى؟
إن الغاية من ذلك الحوار كما أشرت إجراء نوع من المقاربة إن أثمر، ليس
من باب الحماسة أو الثقة الزائدة بمقدرات النقد العربي القديم إطلاقاً،
وإنما من باب الحوار الذي يمكن أن يفضي إلى فهم الذات قبل أن تأخذ من الآخر
ما هو أصيل ومكنون لديها. أقول إذا كانت لدينا أفكار سابقة في علم الشعر
أو الشعرية، فمن اليسير فهم الشعرية الغربية وتمثلها على النحو الذي يمكننا
من الاستفادة منها وهذه دعوة لفهم الذات قبل كل شيء ومن ثم متابعة ما
حصلته في موضوع الشعرية عندئذ يمكن الالتقاء مع النظرية الشعرية الغربية أو
مجانبتها.
الواقع أن النقاد العرب كانوا قد تكلموا على شعرية الشعر، أعني على
العلم الذي يريد أن يجعل من الشعر موضوعاً له، فقد ورد على لسان ابن سلام
الجمحي تعبير بالغ الأهمية في هذا الباب حين ذكر" وللشعر صناعة يعرفها أهل
العلم"([14])، ومن المحتمل أن ابن سلام لم يدر نهاية ما تؤدي إليه هذه
الكلمة، لأن قرارة ما كان يعيه من هذه العبارة بيان القصد من أهل العلم
بالشعر أي النقاد، ولكن الغريب في الأمر أنه لم يقل النقاد وكذلك لم يقل
الرواة أيضاً مع أن هاتين الكلمتين جديرتان بالوفاء بمعناه إن كان يقصد
بالفعل نقاد الشعر ورواته أعني العارفين بأسرار صناعته، ويبدو أن المسألة
تتعدى عنده حيز الرواية والنقد، لأن كلمة علم أو عالم جزء من اللغة النقدية
لديه، فنراه في موضع أخر من كتابه "طبقات فحول الشعراء" يستخدم الكلمة في
سياق آخر يحيل على دلالة عصية على التحديد إن قيست بمقاييس اللغة النقدية
القديمة، حين يصف خلفاً الأحمر بقوله: "كان عالماً بالشعر"([15])، وقد فهم
من كلامه هنا أن خلفا متبصر بطرائق العرب بالخطاب الشعري ليس غير.
وأظن أن هذه العبارات التي أطلقها ابن سلام قد وقعت بالمصادفة موقعاً
يحيل على دلالة أعمق كما يفهمها النقد الحديث اليوم، فعلم الشعر أو فلان
عالم بالشعر بحسب فهمنا اليوم هو أبرز ما يتصل بحد الشعرية وتعريفها، إذ
الشعرية كما يقول جون كوهين: علم موضوعه الشعر"([16]).
والحق أنني لا أريد أن أربط بين عبارات ابن سلام وتعريف كوهين في مسألة
الشعرية، لأنني أدرك تماماً مؤدى مقولات ابن سلام، فهو من غير شك لم يقصد
ما قصد إليه كوهين، ولكن المثير في القضية التركيز على علمية الشعر التي
وإن كانت لا تجوز عند ابن سلام المعرفة بدقائق صناعته، إلا أنها تختزن في
أقوال قدامة بن جعفر دلالات تفيض عن كل تحديد.
إن حد الشعر الذي وضعه قدامة بن جعفر لم يحظ على الإطلاق باعتراف
المدافعين عن حقيقة الشعر، حين عرفه بقوله: "إنه كلام موزون مقفى دال على
معنى"([17]). وقد أثيرت مشكلات جمة بوجه هذا التعريف أظهرها أنه محا الفارق
بين الشعر والنظم، أو أنه تعريف يتناول شكل الشعر دون قضاياه المضمونية
والشعورية ووسائله التصويرية([18]). والواقع أن قدامة رجل منطق ينزع إلى
تبيان الحدود ووضع التعريفات، وتعريفه الآنِف محاولة لتحديد ماهية الشعر من
جهة التصنيف أو أساسيات العلم، فقد أراد أن يضمن تعريفه من بين عناصر
الشعر ما يقبل المعايير، فوضع بذلك أساساً للشعرية على اعتبارها نزوعاً
علمياً لدراسة الشعر، من أجل ذلك استبعد ماله صلة بالشعور والعاطفة، لأن
تلك العناصر لا تنضبط من الناحية المعيارية، أي لا يمكن أن تكون موضوعاً
للعلم أو موضوعاً للشعرية بحسب التصور النقدي الحديث لهذا المفهوم.
إذن قدامة بن جعفر من أوائل النقاد الذين حاولوا إثارة الخلاف حول حدود
الشعر وماهيته، مؤسساً بذلك دراسة نقدية رائدة مجالها دراسة الشعر دراسة
علمية، وكان ذلك في حدود وعيه حتمية تطور الأشكال الشعرية بين مستويين
أساسيين دلالي وصوتي، وإذا ما أعدنا النظر إلى تعريفه السابق وجدناه يحصر
مكونات الشعر الأساسية بأربعة عناصر: اللفظ والمعنى والوزن والقافية، وفيها
عنصران يتصلان بالدلالة: اللفظ والمعنى، وعنصران صوتيان: الوزن والقافية،
وينبغي ألا نفهم من الدلالات أو الأصوات هنا التوصيف اللغوي الحديث كما شفت
عنه مباحث دوسوسير أو غيره، وإنما نريد من ذلك أن اللفظ والمعنى عنصران لا
يختصان بالشعر وحده إذ هما عنصران مشتركان بين الشعر والنثر، ومشتركان بين
الأدب وضروب التعبير كافة، غير أن ما يميز اللفظ والمعنى في الشعر
شعريتهما، وهنا يكمن الخلاف بين الشعر والنثر، وما يميز لفظ الشعر ومعناه
عن لفظ النثر ومعناه هو انسجامهما مع العنصرين الصوتيين أعني الوزن
والقافية،وهذا هو أساس الشعرية في الشعر بحسب الذوق النقدي القديم الذي لا
يريد أن يعترف بشعر دون وزن وقافية، في حين يبدو انسجام اللفظ والمعنى في
النثر مع عناصر إضافية في النثر نفسه ما يحدد أدبية النثر. لقد أعاد بعض
النقاد الغربيين الجدل من جديد حول شعرية الشعر، لا سيما حين ظهر كتاب
"قضايا الشعرية" لجاكبسون، وكتاب "بنية اللغة الشعرية" لجان كوهن، "بجانب
دراسات رديفة أخرى في النقد الغربي الحديث أثرت النقاش في هذا
الموضوع([19]).
تجب الإشارة إلى أهمية المنهج الذي بدأ به كوهن كتابه المشار إليه
آنفاً، حين ألمح إلى المقاربة بين موضوع الدراسة والمنهج، فبدأ كتابه على
النحو الذي بدأ به قدامة بن جعفر، أعني بالتعريفات، فكما بدأ قدامه كتابه
"نقد الشعر" بوضع حد للشعر، بدأ كوهن بتعريف الشعرية بقوله: "الشعرية علم
موضوعه الشعر". ثم حاول أن يزيل الملابسات التي علقت بمصطلح الشعر، وهذا ما
لم يكن متاحاً لقدامة، ومن هنا نفهم اللبس الذي علق بتعريف قدامة الشعر،
في حين نجا تصنيف كوهن من كثير من الاعتراضات، لأنه نظر إلى مصطلح الشعر من
خلال مفهوم تطوري، فبين أن كلمة شعر في العصر الكلاسيكي واضحة لا لبس فيها
لارتباطها بالنظم، وهو الأمر المطابق تماماً لمفهوم الشعر عند قدامة حين
قرن العناصر الدلالية بالعناصر الصوتية، ومن الطبيعي أن يشمل كلام كوهن
الفهم الحديث لكلمة شعر وعند جمهور المثقفين خاصة، وهذا اشتراط مهم في
الدراسة لأن مفهوم الشعرية كان يراود أذهان القدماء وإن لم يكن المصطلح
بتقيداته الحالية معروفاً لديهم، بمعنى أن تأصيل المصطلح عند كوهن من
إجراءات المنهج وهذا عمل في صميم المنهج العلمي.
لقد امتد مصطلح الشعر عند كوهن بين مرحلتين بينهما فاصل تاريخي ومعرفي
هائل، فكان بين النظم وهو المفهوم الكلاسيكي للشعر والإحساس الجمالي وهو
الفهم المعاصر للشعر، وعلينا أن ندرك أمرين من هذا التحديد المنهجي: الأول:
تحديد المسافة التي سبح فيها الشعر من المستوى الخاص بالنظم أي الجهة
الصوتية بوصفها معياراً للشعر، إلى المستوى الدلالي اللا محدود، يتخطى
الاشتراطات الشكلية بصورة كلية، أي محو الفارق ليس بين الشعر والنظم كما
الشأن عند قدامة، بل بين الشعر والنثر، لأن الإحساس الجمالي لا يشترط النظم
أصلا، من أجل ذلك أمكن أن ينبجس الإحساس الجمالي من شعر منظوم ومن شعر
منثور كما يمكن أن ينبجس من نثر منظوم أو نثر مغسول من النظم، إذ المعيار
في ذلك الدلالة. والثاني: تحديد المساحة التي تصول فيها الشعرية، إذ تصور
كوهن أن مجال الشعرية لا يقتصر على الشعر وحده وإنما قد تكون في الموسيقى
والرسم كما يمكن أن تتجسد في المناظر الطبيعية كما يقول بول فاليري عن
المنظر الطبيعي: إنه شعري.
وأكثر من ذلك قد نقول عن شخص: إنه شعري. وربما اتسعت دائرة الشعرية
لتستوعب الوجود كله، يقول كوهن: "لا نعتقد أن الظاهرة الشعرية تنحصر في
حدود الأدب، كما لا نعتقد أن البحث في الكائنات الطبيعية أو شروط الحياة
باعتبارها من عوامل هذه الظاهرة بحث غير مشروع، فمن الممكن بالطبع أن نسعى
لإيجاد شعرية عامة تبحث عن الملامح المشتركة بين جميع الموضوعات الفنية
والطبيعية التي من شأنها أن تثير الانفعال الشعري"([20]).
لقد أدرك كوهن كما أدرك قدامة بن جعفر أن الشعر قبل أن يكون موضوعاً
للشعرية ينبغي أن يتبلور بصورة تعريف واضح يقبل المعيار، ومن هنا نفهم
إصرار قدامة على حصر تعريف الشعر فيما يقبل من عناصره التكوينية المعيار
كاللفظ والمعنى والوزن والقافية، وهي القضية التي توقف عندها كوهن حين قال:
إن كلمة شعر لا تسلم في الاستخدام المعاصر من اللبس ولاسيما مع وجود تعبير
عصري شائع الاستعمال اليوم وهو ما يعرف بالقصيدة النثرية، من هنا فقدت
كلمة شعر في الفهم المعاصر وضوحها التام، أي عندما تجاوز الشعر قيد النظم
الذي كان يحدد مفهومه ويميزه من النثر، ولهذا رأى أن تعبير القصيدة النثرية
يفترض إعادة تحديد مفهوم الشعر اليوم تمهيداً لدراسة شعريته دراسة علمية،
وهو الهدف نفسه الذي توخاه قدامة من تعريفه الشعر في القرن الثالث الهجري.
انطلق كوهن في تعريفه الجديد للشعر من تحليل البنية اللغوية، لافتراضه
أن اللغة تقبل التحليل من الجهتين الصوتية والدلالية، وقد لاحظ أن المستوى
الصوتي في اللغة لا يقوم إلا على النظم، ويحيل في كلامه هنا على معيارية
اللغة وقواعدها، فليست هنالك لغة بلا قواعد لذا فالمعيار في اللغة موجود
افتراضاً وحقيقة، غير أن اللغة لا تكتمل بجانبها الصوتي المعياري فحسب بل
تحتاج إلى الجانب الدلالي الذي أخضع هو الآخر إلى المعيارية بطريق فن
الكتابة أو البلاغة، وصحيح أن الجانب البلاغي اختيار بيد أنه في آخر الأمر
يشكل معياراً لا يختلف عن المعيار الصوتي إلا من حيث الالتزام أو الحرية،
بمعنى أن الجانب الصوتي في اللغة معيار إلزامي والجانب الدلالي معيار
اختياري.
لقد اقر كوهن أن معايير النظم في السابق كانت تحكم الشعرية، ولما جاءت
البلاغة أسهمت في دفع الوسائل الصوتية إلى المعيارية الخالصة، أما الشعرية
في الزمن الحديث فقد انطلقت من مستويات ثلاثة في الشعر، الأول يتمثل بقصيدة
النثر أو قصيدة الدلالة التي تتحرر من الجانب الصوتي، أو أنه غير مستغل
فيها، من أجل ذلك نهض فيها الجانب الدلالي ليحقق الجمال المطلوب. والثاني:
قصائد صوتية لا شيء يفرقها عن النثر سوى إقامة القافية والوزن، وهذا الضرب
من الشعر تتراجع فيه مردودية الشعرية. والثالث: الشعر الصوتي الدلالي أو ما
سماه بالشعر الكامل يقابل في الجدول الآتي النثر الكامل:
الجنس | الصوتية | الدلالية |
قصيدة نثرية | لا يوجد | يوجد |
نثر منظوم | يوجد | لا يوجد |
شعر كامل | يوجد | يوجد |
نثر كامل | لا يوجد | لا يوجد |
وضع كوهن النثر الكامل قبالة الشعر الكامل، ليدل على النثر الذي لا
يعتمد على اللغة المنظومة ليجري مقابلة سياقية بين: نثر/ نظم و نثر/ شعر.
وما يتوخاه من هذا الصنيع تحديد موضوع الشعرية، أي الشعر المنظوم الكامل
ببعديه الصوتي والدلالي، ومن ثم يريد تحديد الهدف من هذا الإجراء التطبيقي
بين الشعر والنثر تمهيداً لتحديد السمات الشعرية في الشعر فذكر أن: "هدف
الشعرية بعبارة بسيطة هو البحث عن الأساس الموضوعي الذي يستند إليه تصنيف
نص في هذه الخانة أو تلك، فهل توجد سمات حاضرة في كل ما صنف ضمن الشعر،
وغائبة في كل ما صنف ضمن النثر، إذا كان الجواب بالإيجاب فما هي؟ إن ذلك هو
السؤال الذي يجب أن تجيب عنه كل شعرية تسعى لأن تكون علمية"([21]).
4. اعترف كوهن أنه ليس بالإمكان تحديد السمات الشعرية في الشعر دون
أمرين اثنين: الأول المقارنة بين الشعر والنثر لا لبيان ما يختص به الشعر
وما يختص به النثر فحسب بل بوصف النثر معياراً، والشعر إما أن يكون موافقاً
أو مخالفاً له، وبمعنى آخر تستوجب تلك المقارنة اعتبار النثر قاعدة والشعر
انزياحاً عنها لرصد مجالات الشعرية فيه. والثاني توجيه البحث عن الشعرية
في الشعر إلى الناحية الأسلوبية بدلالته الإيجابية لا السلبية، أي حين يكون
الأسلوب منحرفاً عن القاعدة أو المعيار، وبهذا المعنى يصبح الأسلوب في
ذاته انزياجاً يحقق أغراضاً جمالية، بوصفه كما قال ليس عادياً وغير شائع.
إن كلام كوهن على الانزياح موطن الشعرية في الشعر هو ذاك الانزياح
المقبول جمالياً، غير أن ربطه الانزياح بالأسلوب أبعد عمله عن الهدف العلمي
للشعرية، لأن الأسلوب لـه طابع شخصي، ومن ثم فهو انزياح فردي عن قاعدة ما
كما قال ليو سبيتزر([22])، وهنا لم يجد مفراً من الافتراض بوجود ما هو ثابت
في لغة الشعراء يظل موجوداً بجانب الفوارق الفردية، فألمح إلى أن الشعرية
لا توجد إلا من خلال طريقة واحدة للانزياح بالقياس إلى المعيار، ومن هنا
نفهم انعطافه إلى مسألة النظم التي تعد أشبه بالقانون الذي يفرض نفسه على
كل من يريد أن يقدم شعراً مقبولاً، وكذا الجانب الدلالي اعتقد كوهن أن
هنالك قانوناً يحكم الانزياح يوازي المعيار الصوتي وإن لم يكن محكوماً
بقوانين وضعية تشبه قوانين النظم. وهذا يعني أنه يريد أن يبحث عن شعرية
الشعر ضمن اللغة وضمن الأسلوب ليدل على مقومات تأسيسية للشعر داخل اللغة
وداخل الأسلوب.
5. تحدد أسس الشعرية عند كوهن باللغة، ولكن بعد إخراجها من حيز التصور
المادي الذي وضعه فيها دوسوسير إلى حيز الشكل، وهو الفهم المطابق تماماً
لفهم قدامة بن جعفر وسائر النقاد القدامى، إذ اللغة عند هؤلاء شكل وليس
مادة، لأنهم حين أقاموا أحكامهم على قيمة الشعر أقاموه على اللغة والصياغة
والنسيج لا على المادة التي هي الموضوع أو المحتوى، فتصوروا أن الشاعر
كالصانع لا يلام على مادة صناعته، وإنما على طريقة الصياغة والنظم أي على
الأسلوب أو على اللغة بوصفها شكلاً لا بوصفها مادة، واعتبار اللغة مادة خطأ
في التقدير، لأنها طبقاً لفهم كوهن وطبقاً للفهم البنيوي عامة شكل،
واعتراف كوهن بشكلانية اللغة ومن ثم تصحيحه الخطأ الإجرائي الذي وجد عند
علماء اللغة المحدثين وعلى رأسهم دوسوسير كان من شأنه تصحيح مسار البحث في
الشعرية، ولهذا تسنى لـه أن يقول: "ووجهة النظر الشكلية هذه التي تطبقها
البنيوية على اللسان سنطبقها من جهتنا على الكلام أي على الرسالة نفسها.
فالنثر والشعر يتميزان داخل لغة معينة كنمطين مختلفين من الرسائل. وعليه
تتعارض رسالتان بدورهما سواء في المادة أو الشكل، وذلك على مستويي العبارة
والمحتوى معاً وسيكون الشكل وحده موضوع بحثنا عن هذا الفرق منفصلين بذلك عن
الشعرية التقليدية التي كانت إلى وقت قريب تجمع على البحث عنه في جانب
المادة"([23]).
ونقف هنا على إشارة مهمة في كلام كوهن تتصل بفهم الشعرية لدى من سماهم
قدماء، ويريد هؤلاء الذين كانوا يبحثون عن الشعرية في المادة، أو بمعنى آخر
أولئك الذين بحثوا عنها في محتوى الشعر.
إن الفهم النقدي الجديد عنده يتمثل بتغير زاوية النظر إلى الشعرية،
بمعنى النظر إليها والبحث عنها في اللغة حين تمسي شكلاً، والطريف هنا أن
النقد العربي القديم ولا سيما أصحاب اللفظ والشكل قد بحثوا عن قيمة الشعر
من خلال شكله لا من خلال محتواه، وما دعوة كوهن إلى دراسة الشعرية طبقاً
للشكل إلا عودة إلى أساسيات النقد العربي.
وما يشد من أزر تلك الفكرة عند كوهن تعلقه بمفهوم النظم في الشعر
الفرنسي المعتمد على الوزن والقافية أي على المقطع والفونيم، وهما مصدر
القدرة الصوتية التي ينجم عنها جمال صوتي ووضوح إيقاعي كالجرس والتناغم ومن
ثم يحدث إمتاع مبعثه النظم أساساً.
إن النظم عند كوهن معيار صوتي يحمل دلالة، فالقافية في الشعر تقوم على
فونيمات أي على وحدات غير دالة، ولكنها طبقاً لمفهوم جاكبسون يمكن أن تكون
نحوية ومنافية للنحو في آن واحد، فإذا كانت القافية المنافية للنحو لا تعبأ
بالعلاقة بين الصوت والبنية النحوية، فقد تتدخل مثلها مثل جميع الأشكال
اللانحوية في نطاق الأمراض العقلية، وعليه كما يقول فإن القافية تحدد في
علاقتها بالمدلول سواء أكانت موجبة أم سالبة، فهي في جميع الأحوال علاقة
داخلية ومكونة لهذا المقوم ويجب أن تدرس داخل هذه العلاقة([24]).
وهذا الكلام يحيل على فكرة الائتلاف التي تحدث عنها النقد العربي القديم
بطريق قدامة بن جعفر، حين أشار إلى علاقات التوافق والانتظام بين العناصر
المكونة للشعر كائتلاف القافية مع اللفظ أو ائتلاف الوزن مع اللفظ واللفظ
مع المعنى، مما ينقلنا إلى جوهر الشعرية التي تفترض تجسيد علاقة داخلية بين
عناصر النظم، ومن ثم أضحت الشعرية لا تتناول اللغة المنظومة من حيث هي
مادة، بل من حيث هي شكل تركيبي ينجم عنه نظام متعالق.
التعالق الصوتي ضمن فكرة النظم عند قدامة بن جعفر في أثناء كلامه على
الائتلاف، لم يكن بحال من الأحوال بمعزل عن الدلالة، لأنه في واقع الأمر
طالب الشعراء بالابتعاد عن التعمل، أو تفريغ الشكل الشعري أو اللغة الشعرية
من محتواها، كاللجوء إلى الحشو بغية إقامة الوزن أو تكلف القافية لبناء
الشعر دون أن تكون هنالك علاقات ناظمة تفترض إيجاد فكرة الائتلاف بين جملة
العناصر التي تسهم في تكوين الشعر.
صحيح أن قدامة لم يتكلم على علاقة عناصر النظم بالمحتوى، إذ هو بالفعل
كان منصرفاً تماماً إلى إيجاد معايير عقلية تحكم الصناعة الشعرية، غير أن
تلك العلاقة فيما يبدو كانت حاضرة في ذهنه كحضورها في المعيار الذي تحدث
عنه، أو حضور النموذج الذي حدده بكلامه على اللغة المنظومة أي الشعر، وكلام
كوهن على تلك العلاقة اليوم يؤكد ذلك، أي أن فكرة الائتلاف عند قدامة
تنطوي على علاقات متعددة وإن لم تحدد، فحين أقر بأن الشعر لفظ ومعنى وقافية
ووزن يعني أن الشعر لغة منظومة، وبمجرد القول إن الشعر لغة يعني أنها تحيل
على محتوى، والمحتوى كما أشير سابقاً مادة لم تدخل عند قدامة في الحكم على
جودة الشعر أو رداءته، إلا أنه موجود في ذاته ومستقل عن أي بديل آخر.
إن فصل قدامة المحتوى ن عناصر التكوين الشعري أمر تقتضيه عملية التواصل
اللغوي كما يؤكد كوهن، ذلك التواصل الذي يفترض عمليتين متقابلتين: الترميز
وفك المرموز أي فصل المحتوى عن العبارة الخاصة به، والانتقال من الكلمة إلى
الشيء، وهنا ندرك كما أدرك قدامة بن جعفر صعوبة تصور الفكرة في ذاتها خارج
الكلمات الدالة. يقول كوهن: "أكد لنا علماء النفس أنه لا يوجد فكر بدون
لغة، وأن اللغة ليست لباساً للفكر، ولكنها الجسد نفسه، ويبدو ذلك حقاً فيما
يخص الفكرة المجردة، فوجودها مرهون بتسميتها. غير أن الترابط لا يعني
التطابق. وكون الفكر لا يستغني عن العبارة لا يبرهن على ارتباطه بعبارة
معينة، فيمكن دائماً أن نربط الفكر المجرد بعبارات مختلفة. ثم إن قابلية
الترجمة دليل على أن المحتوى يحتفظ بتميزه عن العبارة([25]).
6. إن إصرار قدامة بن جعفر على فصل الشكل الشعري عن محتواه يؤدي إلى فهم
أعمق لأصول شعرية الشعر؛ أو إلى تحديد الشعرية على