سيميائية البنية المكانية في رواية ( كراف الخطايا ) ـــ د.صالح ولعة ـــ الجزائر
ــ قراءة في الرواية :
هي حصيلة فكرية وجرد إيديولوجي لمرحلة من مراحل سيرورة المجتمع الجزائري،
وقراءة لتجربة اجتماعية، نافذة إلى أغوار وبواطن العقلية الجزائرية والسفر
في عالمها النفسي والفكري، وهي أيضا قراءة لمنظومة الأفكار الدينية
والسياسية لهذا المجتمع، باعتبارها البنى العلوية التي تؤطر الفعل الحضاري،
هي استبطان لفكرة الدين داخل نفسية الفرد الجزائري، وعلاقته الوجدانية
بالخالق، وتصور لمفهوم الوجدانية، وبهذا تقوم الشخصية الأساسية في الرواية
ــ منصور ــ بتعرية الاتجاه الديني الذي لم يؤد دوره المنوط به في تحرير
الإنسان من العشوائية وحمله إلى طليعة الحضارة والرقي .
يقوم الكاتب عبد الله عيسى لحيلح بعملية تشريحية لمجموع الشخصيات، ووضع كل
شخصية داخل المؤسسة أو الاتجاه الإيديولوجي الذي تحمله، وبذلك فإن النقد
الموجه للشخصية هو في حقيقته نقد لتلك الهيئة، فنجده يستعمل "الإمام" لكشف
الأخطاء الفادحة للحركة الدينية، ويستعمل مدير سوق الفلاح ورئيس البلدية
لتعرية التسيّب والنفاق، ويستعمل "عمي صالح القهواجي" و" عمي سعيد الزبال "
و"ابن الهجالة" ... للكشف عن سلبيات الطبقة التحتية وما تعانيه من جهل
ونفاق وانحطاط أخلاقي، كما يستعمل " فرقة الدرك " ليبرز النمط السياسي
الخطير، الذي انتهجته الدولة في معالجة الأزمة، وكذا إبراز العلاقة
السياسية المتفككة بين النظام والشعب . وهو بهذا يورط الجميع في الأزمة .
ــ لماذا سيميائية البنية المكانية ؟ :
إن الذي دفعنا إلى الاقتراب من هذا الإجراء النقدي هو ما »حققته السيميائية
من قفزة نوعية في دراسة الأشكال السردية بخاصة، والعمليات اللسانية وغير
اللسانية بعامة، مبسطة نفوذها العلمي على حقول تحليلية مبنية أساساً على
المنظور الافتراضي الاستنباطي « (1) .
إن الامتزاج الإجرائي بين مقولات الدرس
السيميائي والنتائج النظرية للبنية المكانية في المتخيل السردي ستفضي بنا
إلى أسئلة جوهرية عن التمفصلات التطبيقية لهذا الامتزاج، وطرح إشكالية
تحاور السيمياء، من حيث هي علم لدراسة العلامات داخل نظام بعينه، والفضاء
الأدبي، من حيث هو بنيات كبرى وعناصر مورفولوجية ضخمة، داخل النسق اللساني
للبناء السردي .
تنطلق القراءة السيميائية للبنية المكانية من الكشف عن القوانين المادية
والنفسية التي تحكم مجموعة علاماتها، وتمفصلاتها داخل التركيب المكاني،
الذي يؤسس للفضاء المكاني ككل . وينطلق التعامل مع علامات (الفضاء الروائي )
من العلامة اللسانية، على اعتبار أن الفضاء الروائي، مثل المكونات الأخرى
للسرد، لا يوجد إلا من خلال اللغة، فهو فضاء لفظي بامتياز، لذلك فإن
التحليل الواعي للبنية المكانية، ينطلق عادة من الوحدات اللسانية وبعد
تنزيل الوحدات البنائية للمكاني (العلامات المكانية)، انطلاقاً من التحليل
اللساني، تتم دراسة نظام هذه العلامات، ونسق انتظامها داخل المتخيل السردي،
في علاقاتها الوظيفية والبنائية مع عناصره المختلفة، ثم بين هذه الوحدات المكانية بعضها ببعض .
ــ سيمياء الفضاء النصي:
في دراسة لحميد لحمداني من فضاء الحكي بين
النظرية والتطبيق (2)، لخص مفهوم الفضاء النصي في كونه الطريقة التي تشغل
بها الكتابة باعتبارها أحرفاً طباعية ورقية، بدءاً من تشكيل الغلاف ووضع
العبارات الافتتاحية، وتغيرات الكتابة المطبعية، والفهارس، ومروراً
بالهوامش، والرسوم، والأشكال، دون الانتهاء بقضايا أخرى، كالصفحة ضمن
الصفحة. وبناء على هذا التحديد، وبالعودة إلى رواية " كراف الخطايا "، يبدو
أنها تشكلت ومعمار فضائها بخلفية إسهامه هو الآخر في تكريس البنية
الميكروسيميائية العامة للرواية، وبارتباطها مع قيمتها المركزية . وهكذا،
بدءاً من دفة الغلاف الأولى، ندخل أجواء الرواية، حيث تطالعنا مؤشرات أولى
نحو الدلالة من خلال صورة الغلاف الزيتية، ومن خلال الشكل المطبعي للعنوان،
ومن خلال حجمه، والأشكال الهندسية للحروف .
نشير أولاً إلى أن لوحة الغلاف من تصميم الكاتب نفسه، وقد تضمنت ألواناً
مختلفة: الأحمر، والأصفر، والأبيض والبرتقالي، وكل لون يحيل القارئ على
دلالة ما . وقد تساعده في ذلك، دلالة النص، وترمز الصورة المصاحبة للغلاف
إلى فرس بدون فارس، يكاد يسقط أرضاً أرجله متفرعة في اتجاهات كثيرة، تنفجر
من عنقه شلالات من الدماء، وكأنه وسط معركة طاحنة لا تبقي ولا تذر . لذا،
هيمن اللون الأحمر الذي يدل على الموت والدمار الشامل، وهي دلالة تتأكد
تدريجياً عند ولوج عالم الرواية، التي توحي بثورة الإنسان ــ الكاتب ــ
وتمرده على هذا الوشاح الأسود، الذي يلف الإنسان والوطن، وهذه الدماء التي
تسيل كمياه الأنهيار، فيأتي الكاتب ليدق ناقوس الخطر فيها، إلى نتائج
الخطايا والمعاصي التي غرق فيها المجتمع . ولا يبتعد اللون الأصفر في
دلالته كثيراً عن دلالة اللون الأحمر، إذ يدل على حالة الكآبة والغم
والحزن، وهذا ما نجده ممثلاً في وعي البطل وضميره اليقظ. كما يشير اللون
الأصفر، في إحدى دلالته المركزية، عند الكثير من الروائيين، إلى "السجون"،
التي أصبحت كالعلامات الفارقة على جبين الإنسان، وهي دلالة على وضع غير
عادي في المجتمع، ولا يعني السجن، بالضرورة، الجدران الأربعة، إنما الأمرّ
من ذلك هو السجن النفسي ــ الذي يحمله معه الإنسان أينما تحرك ــ الذي تفوق
آثاره آلاف المرات السجن المادي.
وإذ يصور منصور ــ الشخصية البطل في الرواية ــ حالة الحزن والتمزق والنفاق
وتدني الأخلاق، فإن الفلسفة التي كونها منصور لنفسه، هي المسافة التي
رفعته من مستوى الوعي الجماعي لأهل القرية الغارقين في الرذيلة والنفاق .
وهنا، تبرز قيمة الشخصية، كما يقول جورج لوكاتش، و »تنشأ بالجوهر عبر درجة
وعيها وقدرتها على رفع الشخصي العرضي في مصيرها بوعي أيضاً على مستوى ملموس
للعمومية « (3) .
ومع انغماس أهل القرية في المعاصي والخطايا، بدأ منصور يتجه نحو الحكمة في
كشف ومعالجة خطايا الناس، وهو موقف حكيم، بالرغم من أنه بدا، في نظر أهل
القرية، مرادفاً للجنون، إلا أن الحكيم في مجتمع النفاق والرذيلة يسير إلى
عالم الضياع، ويصبح وحيداً مكروهاً وغير مطاع، ويسيطر عليه شعور الإحباط
المتولد من سوء فهم الآخرين للأمور، والركض باتجاه الخط العكسي للحقيقة
الكلية، ومع ذلك لا يتراجع عن إسداء رأيه . وبالإضافة إلى اللونين الأحمر
والأصفر، يوجد اللون الأبيض، الذي قد يدل على إشعاع النور المتبقي في ذلك
الدمار، وبالتالي يرمز إلى الطفولة والبراءة والطهارة وانتصار الحياة: كما
قد يدل اللون الأبيض على دلالة عكسية تماماً، فيشير إلى الاستسلام، خصوصاً
وأن منصور يفشل، في نهاية المطاف، في تغيير المجتمع، بالرغم من أنه نجح في
إسقاط الأقنعة، التي يتوارى خلفها أهل القرية، ويخرج الأطفال في نهاية
الرواية،
» لكن ما يؤسف له بحق هو أن هؤلاء الأطفال ظلوا يبيعون ويشترون بتسعيرة آبائهم وإخوانهم الكبار ... « (4) .
ولا غرابة في أن المهزوم في الحرب يحمل الراية البيضاء الدالة على الهزيمة .
لقد اعتقد منصور أنه انتصر بكشف أقنعة الزيف التي يرتديها أهل القرية،
لكنه بمجرد أن غادر القرية عاد الأطفال إلى صنيع آبائهم وإخوانهم الكبار .
فهل يحتاج أهل القرية دوماً إلى منصور آخر في كل زمان حتى يعودوا إلى رشدهم
؟ وبما أن النص الروائي – تحديداً ــ هو مركز لاستقطاب أشلاء النصوص
الأخرى القديمة والمعاصرة له، وبما أن التناص قدر النصوص، فإن القارئ لهذا
النص الروائي قد يستحضر ــ وإن لم يشر النص إلى ذلك صراحة ــ سيدنا موسى،
لما ترك بني إسرائيل مع أخيه هارون وصعد إلى الجبل، ولما عاد وجد قومه قد
عادوا إلى عبادة العجل .
وقبل أن نقف عند سيميائية العنوان " كراف الخطايا " نشير إلى أنه – العنوان
– كتب بالخط الأندلسي، وباللون الأسود العريض، وما يحمله كل ذلك من دلالة
ترتبط وتؤكد دلالة بنية الرواية . فاللون السود تختلف دلالته من قوم إلى
قوم، ولكن دلالة هذا اللون في النص الروائي توحي بالقتامة والتخلف
والانحطاط . ومن جهة أخرى، يشير الخط الأندلس إلى عصر ذهبي لهذه الأمة،
عندما كانت ترفع راية العلم والأخلاق، وتنشد الخير للإنسانية جمعاء . لكن
هذه الأمة لم تحافظ على دينها وأخلاقها، فانغمست في الرذيلة والخطيئة، فهوى
سلطانها وتلاشت ليعم الظلام ؛ ظلام الجهل والخطيئة، وكأن الكاتب يريد أن
يستحضر ذلك النموذج المثالي، وهو يكتب عن وطنه الذي لم يتعلم من تاريخه
شيئاً، وبقي يكرر الأخطاء نفسها .
ــ سيمياء العنوان:
يقوم العنوان بدور الوسيط بين القارئ
والنص، وهو ظاهرة فنية جمالية ولافتة إشهارية مثيرة للوجدان، وقد أفرد له
النقاد علماً يسمي " النترولوجيا ". وإذ يحتل العنوان الصدارة في الفضاء
النصي للعمل الأدبي، فإنه يتمتع بأولوية التلقي، ولهذا عدّ من أهم عناصر
النص الموازي (le paratexte) .
فما هي دلالات العنوان " كراف الخطايا" ؟
تشير لفظة " كراف " إلى المعاني التالية: كرّف الشيء: شمّه، وكرّف الحمار
إذا شمّ بول الأتان، ثم رفع رأسه وقلب شفتيه . وإلى جانب هذا المعنى، يشير
ابن خالويه إلى معنى آخر، وهو أن الكرّاف الذي يسترق النظر إلى النساء .
وجاءت كلمة "كرّاف" على صيغة فعّال، وهي علامة على شدة القيام بالفعل .
وإذا عدنا إلى رواية "كرّاف الخطايا"، فإن التعريف المعجمي لا ينأى كثيراً
عن مدلولها في السياق السردي »لما اقترب من السياج العتيق المنتوف من عدة
أماكن، شمّ رائحة الروث والبول، فاحتار أي إحساس يمتلك الحمار، فيرفع
جحفلته إذا شم شيئاً من هذا« (5) .
حمّل منصور نفسه مسؤولية اقتفاء الخطايا وعبء تتبع معاصي الناس ومفاسدهم،
إلا أن السؤال هو أن فعل "كرّف" من أفعال الحيوانات، فما علاقته بمجتمع أهل
القرية وبمنصور؟
تكشف لنا القراءة السيميائية للرواية أن الكاتب لم يوظفه عبثاً، فقد صوّر
المجتمع الإنساني الذي تحكمه الغرائز الحيوانية وشرائع الغاب في مظهره
الحقيقي، وهنا تكمن ذروة المأساة فأفصح البطل عن حالته النفسية المتأزمة،
لذا كان للحيوانات دور كبير في تصعيد الصراع إلى ذروته، وأصبح المجتمع في
نظر منصور غابة حيوانية، إذ يقول: »سأكشف لكل واحد منهم إلى أية فصيلة
حيوانية هو ينتمي « (6) .
وإذا تأملنا في الجملة "كراف الخطايا " لوجدنا أنها جملة اسمية، ولا يخفى
على دارس الأدب أن الجملة الاسمية تدل على الركود، والجمود، والثبات،
وانعدام الحركية والفاعلية والتأثير، وإذا ربطنا صيغة الجملة بمضمون
الرواية نجدها ــ الرواية ــ تصوّر مجتمعاً ميكانيكياً نمطياً جعلت منه
الرتابة مجتمعاً خاملاً راكداً، عبثياً، لا تهزه الأزمات، ولا يقوى على
الجهر بالصدق والفضيلة، فطبعه التردي والضياع، في عصر لا مكان للجمود
والانهيار فيه. لذا كان منصور يمثل الوعي الممكن، أو شكلاً من أشكال التطور
العقلي والتأملي خارج حياة القرية، وفي صميمها في الوقت نفسه، وهذا يعني
أن منصوراً حالة متميزة، فاقت مفاهيم أهل القرية وسلوكهم وثقافتهم،
والفلسفة التي كونها منصور لنفسه هي المسافة التي رفعته عن مستوى أهل
القرية، دون أن يلغي من حياته توحّده معهم .
ــ عناصر من الفضاء الجغرافي في كراف الخطايا:
الفضاء كمعادل للمكان يتولد في محتوى الحكاية الروائية، وليس من امتداد
الكتابة على الورق. إنه الفضاء الجغرافي، وهو فضاء متخيل، يكون بإمكان
القارئ وفقه أن يوهم نفسه أنه قادر على أن يتجول فيه . وإذا كان هذا الفضاء
يدرس سابقاً في استقلال تام عن المضمون، عند جزء هام من النقاد، فإنه يعد
بالإمكان فصله عن المضمون، وعن معطيات أخرى، ترتبط بثقافة جماعة أو عصر ما،
أو ما تسميه جوليا كريستيفا "إيديولوجيم العصر" على أننا في اهتمامنا
بفضاء الرواية "كراف الخطايا"، لن نفصل في مكونات ورموز الفضاء الجغرافي
بها، بل سنقتصر على إشارات خفيفة.
تشكل القرية ومختلف الأمكنة التي تضمها (المسجد، المقهى، دار البلدية، دار
البريد، شوارع، حارات...) الفضاء الجغرافي الذي تجري فيه الأحداث الروائية،
كما تشكل منطقة انطلاق نحو فضاءات أخرى، تشير إليها الرواية ( المدينة،
البحر، الجزائر ...)، ولكن إذا كانت القرية هي الفضاء الجغرافي العام الذي
تجري فيه غالبية أحداث الرواية، فإنه هو نفسه ينقسم إلى فضاءات أصغر تحمل
دلالات معينة وفق السياق النصي، ويمكن أن نطلق عليها مصطلح وحدات فضائية
صغرى، تتفاعل وتتعالق وظيفياً وعضوياً مع العناصر الحكائية للسرد كالشخصيات
والزمن ...
يشير الفضاء الروائي إلى القرية، وهو فضاء وظيفي فعلي، تسري فوقه الوقائع
والأحداث، وتتصارع فيه الشخصيات، وفق مجموعة من البرامج السردية . وقد
استغل الكاتب ــ هنا ــ فضاء القرية، ليتخذ منه رمزاً وقناعاً يخفي
المباشرة، ويسمح للمبدع أن يمرر، من خلاله آراءه ومواقفه فنياً ودلالياً،
وعليه، فالقرية هنا هيكل نموذجي للمجتمع الجزائري، فضاء مغلق تسوده
الرتابة، والملل، والفوضى، والفراغ، وهي مرآة عاكسة لحالة أهلها .
تشير الرواية إلى مجموعة الأماكن، منها الإدارية ( دار البلدية، دار
البريد...) وأماكن تضم هيئات سياسية (المكاتب السياسية)، بالإضافة إلى
الأماكن ذات الصبغة الخدماتية (سوق الفلاح، السوق الأسبوعي )، بالإضافة إلى
أماكن ذات دلالات مذهبية، وأخرى اجتماعية .
يوحي فضاء المسجد، مثلا، إلى الأمام وأتباعه والشيوخ وجماعة السلفية، أما
فضاءات المقهى والشوارع والدكاكين والحارات، فتشير إلى الطبقة التحتية
للمجتمع. ولعل أهم مكان يشغل حيزاً سردياً واسعاً، هو فضاء الغرفة، الذي
يحتلّ مكانة محورية ذات دلالة هامة . كما حضرت أماكن أخرى في السرد ( بلاد
القبائل، بلاد الشاوية )، وارتبطت بذهنية الشخوص، كرموز ترتبط بدلالات أكبر
من فضاء القرية، بل وتكسبها بعدها الأشمل
( الجزائر ) .
تتفاعل هذه الأمكنة من خلال تفاعل الشخصيات التي تمثلها هذه الأماكن،
وبالتالي فالتفاعل يعكس الرؤية السردية للكاتب، وبذلك فالتدفق الدلالي يتم
عبر هذه القواقع (Coquilles) الثلاث
( المكان، والفضاء المحدود القرية، والفضاء المتسع الوطن ) .
فالمكان الأول هو المكان الفرعي، ينبني في علاقة وظيفية مع الأماكن الأخرى
للفضاء الروائي للقرية، فيشكل التصور الذهني الأول لعالم الرواية الفكري .
ثم إن هذا الفضاء الجغرافي ينفتح بدوره بعملية ذهنية تأويلية، ليؤطر لعالم
أشمل، غير موجود عضوياً في الرواية لكنه حاضر ذهنيا ودلالياً، من خلال
إشعاعات الفضاء الجغرافي للقرية ودلالاته، وهو فضاء الدولة .
ــ المكان والشخصية:
تؤدي الشخصية الروائية مجموعة من الوظائف داخل السرد، فهي مجموعة من
الاستراتيجيات الدلالية المتوافقة مع المعمار البنائي للرواية . ويقدم لنا
المكان يد المساعدة على التعرف على الشخصية، ذلك أن القراءة الدلالية
للمكان توضع لنا ملامح الشخصيات، لذلك يمكن اعتبار المكان بناءً، يتم
تشكيله اعتماداً على ملامح ومميزات الشخصيات وطبائعها، وهذا ما يساعد على
تجاوز المكان الهندسي إلى المكان الشعري، الذي يحمل دلالات متنوعة، تنسجم
مع البناء العام للرواية . فالتأثير المتبادل بين الشخصية والمكان يصور لنا عن الحالة الشعورية التي تعيشها الشخصية، بل قد تسهم في التحولات التي تطرأ عليها .
وإذا عدنا إلى رواية "كراف الخطايا"، نجد كل شخصية تقبع في عالمها الخاص
الذي يتوافق ووظائفها، تؤدي فيه مجموعة الأداءات السردية، حيث تتوزع هذه
الشخصيات إيديولوجياً على فضاء القرية، ويحدد مسار انتقالها واختراقها
للمكان وفق هذا التوزيع الإيديولوجيا . وعليه، يمكن أن نقيس محدودية
الأمكنة، بالنسبة إلى شخصيات محددة، بينما تتحرك شخصيات أخرى بحرية أكبر،
وهذا لتحقيق التداخل، والتقاطع، والتقارب بين هذه الإيديولوجيات .
ووفق هذا المنهج، تترابط الأماكن والشخصيات داخل الرواية، فهي مجموعة من
القواقع الإيديولوجية، وطبقا لمقارنة أ. موير وأ. رومر Romer) et (Moyer
للمكان بالبصلة، الإنسان في المركز والمكان / الأمكنة طبقات البصلة الأقرب /
الأبعد الأقل / الأكثر شفافية والإنسان يعيش في مجموعة من القواقع يتميز
كل منها بصفات خاصة بالنسبة إلى علاقة بها .
يشير وجود "منصور" داخل الغرفة إلى مجموعة من المواصفات الاجتماعية
والفكرية لهذه الشخصية . كما أن غياب شخصيات أخرى داخل البيت، والفوضى التي
تميزه دائماً والأثاث المكتبي المتوفر بشكل بارز، يوحي بمجموعها
بالمواصفات هي أن منصور أعزب يمتلك ثقافة واسعة، متحرر من كل التزام .
وعندما تخترق هذه الشخصية مكاناً آخر غير مكانها الأصلي، يتم ذلك عبر
الشخصية الحاملة لتصور مكان ما، ومكان آخر . فقدوم الأم من المدينة إلى بيت
ابنها، هو اختراق ثنائي يؤدي وظائف مختلفة .
فهو يؤدي، أولاً، دور تقريب البيئات الإيديولوجية الأخرى (المسجد، المقهى)،
وجمعها محيط البيت، عن طريق استدراج الشخصيات المقترنة بها، كما أن هذا
الاختراق يسمح بتحليل شخصية منصور ونفسيتها، من خلال تعامله مع الأم، وما
يثيره وسلوكه من أداءات، باعتبارها عاملا جديدا داخل فضاء القرية .
فالمسجد فضاء مقدس يفترض على من يعترف به (الإمام) أن يكون حاملا
لإيديولوجية دينية، تنسجم وطبيعة المكان . وعند خروج هذه الشخصية من العالم
الأصلي المطابق لها كما يفترض، واختراقها للأماكن الأخرى تمكن من تحديد
مدى التزامها أو انحرافها عن تلك الصورة النموذجية، من خلال تقاربها مع
شخصيات الأماكن الأخرى، باعتبارها إيديولوجيات مخالفة . وهكذا، نقيس مدى
انحراف أو التزام الإمام، وعمي صالح القهواجي عند التقائهما في فضاء المقهى
. فاتفاقهما أو اختلافهما يكشف لنا مجموعة من القيم، تحدد إيديولوجية كل
منهما، وبهذا الشكل، يتمّ فضح النفاق والزيف، وتسقط أقنعة الورع والتدين
الكاذب لدى الجماعة الدينية، بمجرد مغادرتها المسجد، وخروجها إلى أماكن
متعفنة باللذة والشهوة (المقهى الشوارع، الأسواق) . وهذا ما حدث لإمام
المسجد وصاحب المقهى وشخصيات أخرى، عندما استدرجها منصور إلى بيته، تحت جنح
الظلام، ولما في البيت من حوافز اللذة المجسدة في وجود المرأة المزعوم
داخل بيت منصور .
ــ المكان والدلالة :
ينشأ الفضاء الروائي من خلال وجهات نظر متعددة، لأنه يعايش على عدة
مستويات: يعيشه الروائي أولاً، والراوي ثانياً بوصفه كائناً تخييلياً، ومن
اللغة التي يستعملها، فلكل لغة مواصفات خاصة لتحديد المكان . ثم تعيشه
الشخصيات الأخرى التي يحتويها المكان، وفي المقام الأخير يعيشه القارئ الذي
يقدم بدوره وجهة نظر غاية في الدقة، ويسهم بدور كبير وتشكيل وتحديد
دلالته، ذلك أن الكتابة الأدبية هي دعوة موجهة من الكاتب إلى حرية القارئ،
ليكون له عوناً على إخراج نصه من العدم إلى الوجود . وهكذا، يمكننا النظر
إلى المكان داخل النص بوصفه شبكة من العلاقات والرؤى ووجهات النظر، التي
تتعالق مع بعضها لتشكل الفضاء الروائي الذي تجري فيه الأحداث .
وعلى الرغم من أن مبدأ التقاطب بين
الأمكنة، الذي اعتمده غاستون باشلار . (G.Bachelard)، وسار يوري لوتمان.
(Y.Lotman) على طريقه، أداة إجرائية خصبة أثبتت قدرتها في مقاربة بعض
النصوص الحكائية، إلا أن هذه التقسيمات لا تحمل في ذاتها قيماً ثابتة، ذلك
أن القراءة النقدية الجادة للفضاء والروائي لن تنهض إلا من منطلق نظري،
يمنح الفضاء طابعه الشمولي. ويصعب أن يتيح مجرى التقاطب الإمساك بجوهر
الثقافة الأدبية في النص المحكي، لأن هذا المحكي يأتي في كونه خياراً
أنثروبولوجياً، وليس أداة للتحليل الأدبي بالأساس . فليست التقاطبات، في حد
ذاتها، إلا ترتيباً للأشياء المادية التي يبقى جوهرها أعمق من مجرد تركيب
وتقابل . ففضاء الكون المفتوح ــ مثلاً ــ يصبح بالنسبة إلى المنفي مكاناً
مغلقاً وسجناً وتعذيباً .
ــ منصور والمكان:
لا تقاس أهمية الشخصية الروائية بحضورها المكثف داخل مساحة السرد، وإنما
بفعاليتها، وتأثيرها على مجريات الأحداث، ولا تتحدد قيمتها بالمساحة التي
تمثلها، إنما بالدور الذي تقوم به وما يرمز إليه هذا الدور، وأيضاً بالأثر
الذي يتركه في ضمير القارئ، مما يدفعه إلى التساؤل والمقارنة، ثم تحديد
موقفه من هذه الشخصية.
ينكشف لنا جلّ الشخصيات الموظفة في الرواية ــ باستثناء شخصية منصور ــ
بوصفها شخصيات ذات تأثير ضعيف في مجرى الأحداث، تدور حول فكرة واحدة، وهي
معروفة عند القارئ بسلوكها الذي لا يتغير، وهي شخصيات نمطية مسطحة، ذات
صفات ثابتة، يصورها المبدع بلا تاريخ ولا أعماق، خاضعة للأحداث، وهي على
مشاكلة المكان الذي تقيم به . من هنا، نكتشف أن العلاقة بين
هذه الشخصية والمكان علاقة مفلسة وجدانياً وعاطفياً، مما يحيل الشخصية
نفسها إلى أحد عناصر المكان، بعد أن كانا عنصرين متقابلين، يكونان ثنائية
وظيفية لأداء أدوار دلالية . لذلك، تكتفي الشخصية والمكان في هذا الوضع
الجديد بإثبات عقد اجتماعي، يحيل على مجموعة القواقع الإيديولوجية، التي
تشكل الفضاء الدلالي للرواية .
تبقى شخصية منصور هي الشخصية التي لا تغني عنها شخصية أخرى، أيا كانت
المساحة التي تشغلها، أو الوقت الذي يستغرقه وجودها . ومنصور هو الشخصية
التي تتصرف بطريقة لا يستطيعها غيره، أو يعبر عن موقف ما، كل ذلك في اللحظة
الحاسمة والضرورية، ذلك أن كل وصف لا يشتمل على نظرة شخصيات العمل الأدبي
إلى العالم، لا يمكن أن يكون تاماً. فالنظرة إلى العالم هي الشكل الأرقى
للوعي، وحين يهمل الكاتب النظرة إلى العالم، فإنه يطمس العنصر الأهم من
الشخص القائم في ذهنه » إن النظرة إلى العالم هي تجربة شخصية عميقة يعيشها
الفرد، وهي أرقى تعبير يميز ماهيته الداخلية، وهي تعكس، بذات الوقت، مسائل
العصر عكساً بليغاً « (7) وهكذا تنشأ شخصية منصور عبر درجة وعيها لمصيرها
وقدرتها على رفع العنصر الشخصي العرضي في مصيرها، بوعي إلى مستوى معين
يترجم رؤية الجماعة .
يتحكم في آلية العمل البنيوي لشخصية منصور عنصران أساسيان: العنصر الوظيفي والعنصر الدلالي .
أما العنصر الوظيفي، فيتسم بقانون حرية اختراق الأمكنة . فشخصية منصور لا
تخضع لقانون " الحدّ "، الذي يقره لوتمان، وهو قانون يقسم النص إلى شقين،
يفصل بينهما حد، وتنتمي كل شخصية من الشخصيات إلى شق منها . وفي حالة النظر
إلى البنية المكانية، ويكتسب الحد ــ بوصفه عنصراً مكانياً ــ أهمية
كبيرة، فيقسّم الحد المكان النصي إلى شقين متغايرين لا يمكن أن يتداخلا،
ذلك أن الحد يتميز بخاصية أساسية، هي استحالة اختراقه . وتمثل الطريقة التي
يفصل بها الحد بين شقي النص خاصية من خصائص النص الجوهرية، فقد يكون هذا الفصل فصلاً بين الأهل والأغراب، أو الأحياء والأموات، أو الفقراء والأغنياء، لكن الأهم من ذلك كله هو أن لا بد للحد الذي يفصل بين شقي المكان أن يكون حصيناً، وأن تختلف البنية الداخلية لكل من الشقين ( .
تنطبق خاصية الحد على شخصيات الرواية، إذ يستحيل على الإمام أو عمي صالح
القهواجي أو غيرهما اختراق غرفة منصور، بينما لا يخضع منصور لهذا القانون،
فيخترق هذه الشرعية، ويخترق الأمكنة تحت غطاء الجنون وظروفه الاجتماعية،
ويمارس أدواره الوظائفية التي رسمها له الروائي، فيدخل إلى المسجد تارة في
حالة، سكر وأخرى بوعي كامل، ويلج المقهى ويخالط الناس في كل الأمكنة .
ــ العنصر الدلالي:
يتعالق هذا العنصر مع العنصر الوظيفي، ذلك أن حرية اختراق منصور لفضاءات
القرية له أدواره الدلالية، فاختراق المكان الجديد يكون محفّزاً على تفجير
دلالات المكان، فكل الخصائص السيكولوجية والاجتماعية التي تميز شخصية
منصور، حتى تلك التي تصل حد التناقض ( يصلي أحياناً ينقطع لمدة طويلة،
يتناول الخمرة، يدخل المسجد، يسرق، يتصدق، يكذب، ينافق) تجعل دلالات
الأمكنة المخترقة تنشطر في سلسلة متتالية من الثنائيات الضدية، فكل مكان
يخترق من قبل منصور، يحمل بداخله ثنائية ضدية مركزية تتوالد وتتضاعف عنها
ثنائيات ضدية جزئية .
أ ــ فضاء الإقامة المغلق (البيت): يلعب البيت دوراً مهماً، وهو ظاهرة
بارزة في تشكيل عالم الرواية، لذلك ركز الأدباء كثيراً على إنتاج هذا
البيت، الذي يعد ركن الإنسان الأول في العالم، على حد تعبير باشلار (9)،
فيضفي عليه الكاتب بعضاً من إنسانيته بما يخلق فيه من حركة بين
ساكنيه، وتفاعلهم بما حولهم من ظواهر مادية ( الأثاث ). ويملك البيت
تاريخه الاجتماعي، من خلال علاقته مع الناس والبيئة والتاريخ والفكر ...
ويملك تاريخه الخاص من خلال ما توالى عليه من سكنه، فحمل هويتهم وحملوا
هويته، ثم امتلاكه لتاريخ سري خاص، من خلال استنساخه شعبياً من قبل أسر
عديدة، وظهر كما لو كان أحد ملامح الهوية الشعبية (10) .
واعتماداً على مبدأ التقاطب بين الأمكنة،
فإن البيت في رواية " كراف الخطايا " لن يؤدي الأدوار الدلالية بصورة
بسيطة، ذلك أن دوره الدلالي هو جوهر العمل الروائي بكامله. وبالرغم من غياب
الحضور الإنساني داخله، إذا استثنينا شخصية منصور، بالإضافة إلى تقلصه إلى
غرفة واحدة، فإن ذلك لا يحول دون الأداء الدلالي، وأن يكون مصدر إخصاب
وتفصيل للعناصر الدلالية .
إن تقليص الفضاء البيتي إلى فضاء الغرفة أمر مقصود، يتم بموجبه توجيه
الممارسات التي تمتاز بطابع الانغلاق والتكتم والانعزال عن العالم، وفي هذا
المعنى يؤكد باشلار على أنه كلما صغّرت العالم بمهارة أكبر، امتلكته بشكل
أكثر مهارة (11) .
تؤدي شخصية منصور أدواراً إعلامية داخل المجتمع الروائي، فقد استغلت ظروفها
الاجتماعية (التظاهر بالجنون) لممارسة دور الناقد للمرحلة التاريخية
للمجتمع الجزائري، ولن يكون ذلك ممكناً لشخصية منصور إلا بانتقالها من
فضائها الخاص (الغرفة) إلى فضاءات أخرى المسجد، المقهى، الشوارع، الأسواق
... مع هذا الاختراق يتحول فضاء الغرفة مخبراً يحلل فيه منصور مجموعة
العناصر والقضايا التي يرصدها من العالم الخارجي. وفي فضاء القرية تجري
العمليات السردية واللسانية العميقة التي تتلاقح وتتناسل فيها الصور
والمشاهد الاجتماعية والتداعيات الباطنية والتجليات الدرامية للفضاء
الدلالي لعالم الانتقال الخارجي المقابل . وبالإضافة للدور المخبري المسند
لفضاء الغرفة الذي يختصر فضاء العالم، نجد دوراً آخر هو الحوار الذي يقيمه
مع صورة الأب المعلقة على جدران الغرفة، والذي يتخذ ــ في أحيان كثيرة ــ
شكل محاكمة الماضي وإدانته، وتحميله مسؤولية فوضى الحاضر ومآسيه . ومع
الحوار تسقط وتتلاشى تلك الصورة الذهبية المقدسة للماضي، ومع كل تلك
التداعيات والحوارات المتكررة (مع صورة الأب) على طول المساحة السردية،
يتفتح السرد باستمرار على الزمن الماضي، الذي صنع هزيمة الحاضر، فيلتقي
الماضي والحاضر، ليعلنا هزيمة حلم مجتمع بأكمله . إن استحضار الماضي ومعه
الحاضر إلى غرفة منصور لم يكن اعتباطياً، بقدر ما كان شكلاً من أشكال
الرؤية العميقة الواعية لهذه الشخصية الروائية، التي حمّلها الكاتب دور كشف
أسباب هزيمة الحاضر، بالعودة إلى الماضي، إلى الجذور التي صنعت العطب في
حياتنا الحاضرة. يستغل الكاتب، إذن، الانغلاق المكاني لانفتاح أوسع وأكبر
على الزمن، ذلك أن » الأمكنة في الواقع كالحجارة في المقلع، لا تشكل بناء
جمالياً، إلا عندما يقطعها المبدع وينقشها بالحلم والرؤيا يكحلها بالأزمنة «
(12)
وهكذا، يتخذ البيت موقعاً وسطاً بين
الفضاءات الانتقالية للقرية، وتمثل هذه الأماكن دور الروافد الدلالية
الفرعية، التي تصب في مجمع دلالي مركزي يتمثل في فضاء الغرفة .
ب ــ فضاء الانتقال المفتوح: تشير الرواية إلى مجموعة من الأمكنة المفتوحة،
تشكل فضاءات انتقال: منها المسجد، وهو الفضاء المفتوح باتجاه الأعلى، فيه
يتوحد الإنسان مع خالقه، وبالتالي يفترض أنه مكان مقدس . كما نجد فضاء
السوق، وهو مركز لالتقاء الخطابات الاجتماعية والسياسية، والشيء نفس
بالنسبة إلى فضاء المقهى، حيث تشرّح الظواهر الاجتماعية والسياسية،
والممارسات المشبوهة، والعطالة، وفضاء المقبرة المنفتح على عالم الآخرة ...
الخ . وتؤدي كل هذه الفضاءات وظائف وأدوار دلالية بصورة مكثفة ويتولى كل
فضاء تمرير خطابات متراكمة، فينتج عن ذلك انحراف هذه الفضاءات عن وظيفتها
الدلالية، ليخلق استراتيجية استبدالية تُضاف إلى الدلالة الأصل.
ــ ثنائية الانغلاق والانفتاح:
إن التقاطب الدلالي انغلاق / انفتاح يجعل الفضاء الروائي لرواية "كراف
الخطايا" يواصل انشطاره التقليدي فضاء الغرفة / فضاء القرية . فالمكان
المغلق فضاء ضيق ومحدد بأطر تمنع اختراقه وانفتاحه، بينما المكان المنفتح
فضاء متسع وممتد جغرافياً . إلا أن المسألة ليست دوماً بهذه البساطة، فقد
يتحول الفضاء المغلق قضاءً مفتوحاً فيستحضر أمكنة أخرى، عبر اختراقه لها
بواسطة الخيال، وقد يتحول الفضاء المفتوح فضاءً مغلقاً، رغم اتساعه وهذا
حسب ما تضفيه الشخصية على المكان من مشاعر وأحاسيس .
فالغرفة، بالرغم من كونها فضاءً مغلقاً، فهي تنفتح على عالم القرية،
والقرية نفسها تنغلق على ذاتها، وهكذا تشكل لدينا مجتمعان مختلفان انطلاقاً
من ثنائية انغلاق/ انفتاح.
المجتمع الأول: هو مجتمع الغرفة المنغلق / المنفتح، وهو المجتمع المثالي
الذي يسعى منصور إلى تشكيله، بديلاً عن مجتمع القرية الذي تحكمه الغرائز
الحيوانية، وهنا قد يستحضر القارئ جمهورية أفلاطون المثالية، التي أبدعها
بديلاً لأمبراطورية أثينا المنهارة بسبب الحروب وغياب الديمقراطية وانتشار
الرذيلة . وعلى هذه الأساس، فإن العالم الاجتماعي المعلن داخل فضاء الغرفة،
المهندس والمنتج من قبل شخصية منصور، يستمد شرعية اتساعه المذهل من آليات
التحويل الدلالي هذه . فالبيت يتخذ معادلاً دلالياً خطيراً حين يعمل على
امتصاص دلالات الحياة الاجتماعية لفضاءات الانتقال، ليقوم بمعالجتها ونقدها
وتقييمها، ثم تضخيمها لتصبح أنموذجاً شمولياً، قد يرتبط بالفضاء الدلالي
الشامل للوطن . ويتضح ذلك على الشريط اللغوي حين يعلن منصور غرفته كوكباً
خاصاً، فيقول للأستاذ حمدان »تفضل وشرفني بالدخول إلى كوكبي « (13) . وهذا
ما يوحي بانفتاح عالم الغرفة التام وامتداده إلى خلق عالم محايد لعالم
الناس المادي الواقعي، وتمتد كذلك إلى المضامين السياسية والإيديولوجية،
وإقصاء الدولة برمتها، حين يعلن غرفته دولة مستقلة »كنت صغيراً قالت لي أمي
لا ترفع صوتك فوق صوت والديك، فنشأت عاقاً، وفي المدرسة قالوا لي: لا ترفع
صوتك فوق صوت المعلم، فطلعت جاهلاً، وفي المسجد علموني أن لا أرفع صوتي
فوق صوت الإمام، لأن ذلك لغو، فتعلمت النجوى والنفاق، وها أنت تقول لي لا
ترفع صوتك فوق صوت الدولة، فأعلنت غرفتي دولتي، ورفعت في سماها رايتي ورفعت
فيها صورتي ليرتد لي صداي، غير محرف ولا مزيف ولا مشوب « (14) . نستنتج أن
منصور يستقدم من المجتمع بمجموع الأخطاء الاجتماعية، لينقدها وليعلن تمرده
لصالح نموذجه المعياري داخل فضاء الغرفة .
وأما إذا عدنا إلى الشق الثاني من التقاطب المكاني، وهو فضاء الانتقال
المفتوح الذي يشير إلى المجتمع الواقعي، المختلف عن الفضاء المثالي المشكل
داخل غرفة منصور، فإن انحرافه يعود بالأساس ــ حسب منصور ــ إلى تخليه عن
الأخلاق والقيم، وسيطرة الجهل واستبعاد العلم الصحيح، ثم إلى نزوع هذا
المجتمع نحو الشهوات والأهواء، وإغراقه في النفاق، والكذب، والنميمة،
ويتجلى ذلك، من خلال حضور شخصية منصور داخل الفضاء بين
المتقابلين، وعلى هذا الأساس، تحدد درجات انفتاح هذا الفضاء أو انغلاقه .
»ومتى كان عاقلاً حتى يجن ؟ ... هل من علامة صحة العقل أن يغلق على نفسه
باب داره ما يزيد عن الشهر ؟ ماذا كان يفعل ؟ ماذا كان يأكل ؟ كيف استطاع
ذلك ؟ ... بل كيف استطاع الكلام ؟ « (15) .
تتحدد زاوية الانغلاق هنا من طرف أحد أفراد المجتمع الروائي، إلا أنها نظرة
سطحية في تبرير الانغلاق، لا تغوص إلى الأعماق المهندسة لخارطة انغلاق
المكان وانفتاحه . إن حالة اللاتوافق بين
شخصية منصور ومجتمع أهل القرية هو الذي قذف به إلى عالم البيت، إما المجتمع
فهو يسير على نحو سليم في رأي أهل القرية، إنه يعد بالنسبة إليهم مجتمع
ألفة وإغراء، عكس منصور الذي ينظر إلى المجتمع نظرة عداء ونفور، لأن مجموعة
القيم الخاطئة تجعل منه سجناً رهيباً محاطاً بأسوار وقضبان، فيتحول العالم
الخارجي المفتوح إلى مكان ضيق، بل إلى سجن لا يطاق يقول منصور: » ... وكم
تصير الحياة سجناً رهيباً حين تجد نفسك مضطراً في كل لحظة أن تمشي وفق ما
يريده الآخرون، وأن تقول ما يرضيهم ولا يسخطهم، وأن تظهر بالمظهر الذي
يعجبهم ولا يؤذيهم ... حينها تكون عيون الآخرين زنزانة باردة، ويكون رضاهم
قيوداً من حديد، حتى لو كان ذلك بالتراضي«(16)
فهذا الانغلاق الخارجي المحدد انطلاقاً من شخصية منصور، هو الذي دفعه إلى
الهروب والسعي إلى خلق مجتمع هروبي، عبر مجموعة من الممارسات ( التظاهر
بالجنون شرب، الخمرة، السرقة، بالإضافة إلى بعض الممارسات الكتابية
كالقراءة الكتابة ... ). وكل هذا يؤكد التشتت الحضاري والفكري، الذي تعانيه
هذه الشخصية، جعلته يدخل في علاقة صدامية مع عالمه النفسي، الذي يحمل
قائمة المعايير المثالية، كما دخل في حالة من الصراع والتمزق الحضاري
لمجتمعه المادي الواقعي، وهذا ما يبرر حالة الانطواء والانعكاف داخل فضاء
الغرفة .
ــ علاقة المكان والزمان بالوصف المتزمن أو الصورة السردية :
يتشكل النص الروائي في مجمله من مقاطع سردية وأخرى وصفية، بالإضافة إلى
الحوار بمختلف أنواعه واللغة ... غير أن الثنائية الغالبة والأساسية في
النص الروائي هي بين السرد والوصف . فإذا كان السرد من أهم العناصر الزمنية، فإن الوصف يهتم بالمكان، فبينما يتسم على السرد بالحركة والنمو والتطور، مع تطور الحدث وعلاقته بالزمن، يميل الوصف إلى الثبات ويركز على وصف المكان، الوصف
لحظة استراحة داخل المساحة السردية . وإذا كان الروائي في القرن التاسع
عشر يركز، قبل أن يبدأ بسرد الأحداث، على وصف المكان وتحديده زمنياً، ووصف
الشخصيات . فقد تحول الوصف اليوم إلى عنصر
فاعل في الحدث، وعلى هذا الأساس تمثل المقاطع الوصفية والنص الروائي وقفة
زمنية، لذلك نجد نوعاً من التوتر يسود النص بين
وقع مستوى النص الذي يدفع بالأحداث إلى الأمام على خط الزمن، وبين جذب
المقطع الوصفي الذي يشد النص نحو الاستقصاء والسكون، ومن هنا يمكن أن نتنبأ
باتجاهين: أحدهما يخضع لدفع الزمن، فيزمّن المقاطع الوصفية، وهذا هو الوصف الخلاق الذي يسهم في نمو وتطور الحدث، أما الاتجاه الأخر فيستسلم للاستقصاء، فيسكن الزمن ويشل حركة الحدث .
فالنوع الأول يربط وصف الأشياء بالفعل، فتغلب الحركة على الوصف، ويسمى هذا
النوع بالصورة السردية، بينما يسمى النوع الثاني ــ الذي يصف ساكناً ــ
بالصورة الوصفية .
ومع أن الفرق هنا بين
الصورتين واضح، فإن التمييز على المستوى العملي ليس بسيطاً، وإذا كان
ممكناً الحصول على نصوص وصفية خالصة، فإنه من العسير أن نجد سرداً خالصاً .
كما أننا نجد في بعض الأحيان ما يسمى بالتزمين المفتعل، لأنه لا يترجم
حركة حقيقية، فيتوقف الزمن الروائي في حين يستمر الزمن النصي إلى الأمام،
فيلجأ الروائي إلى بعض الصيغ مثل ( ثم .. وبعد ذلك ...) . وإذا عدنا إلى
رواية "كراف الخطايا"، نجد أن المقاطع الوصفية قليلة، بينما تكثر الصورة
السردية، فتؤدي دوراً هاماً في نسيج الرواية، ذلك أن تراكم هذا الوصف
السردي تركّز على تصوير الأشياء في حركتها مع الزمن . وعلى هذا الأساس،
فإن الصورة الكلية للمكان تتشكل في الذهن تدريجياً، فكلما حدث فعل ما ذكرت
مجموعة من عناصر المكان المرتبطة به، بالإضافة إلى الإفصاح عن هوية المكان
المؤطر للحدث . فالمقهى، مثلاً، تتضح صورته تدريجيا، كلما تقدم السرد ليشكل
النهاية الصورة الكاملة .
»في صباح ذلك اليوم المنعش الموحل، وعندما كان عمي صالح القهواجي يهم بفتح
باب مقهاه، بعد صلاة الصبح مباشرة، فاجأه صوت في ركن معتم اعتاد أن يصنع
فيه الصناديق الفارغة والمكنسة والكراسي المكررة وأشياء أخرى غير ذات قيمة
(...) ظل منصرفاً إلى الملاعق والفناجين (..) يغسلها من قهوة البارحة، ربت
على كتفه ثم يساعده على رفع باب المقهى المعدني، وبعد أن أخذ مكانه خلف
طاولة خلف المحسب (..)، أخذ مكانه المعتاد خلف المحسب لأنه لا يريد أن
يختلط بالغوغاء والدهماء وسط القاعة (..)، فبنى هذا المقهى وفوقه هذه الدار
المزخرفة (...)، وألقى نظرة متلصصة على وجهه في المرآة الحائطية ... «
(17).
فالمتمعن لهذا المقطع الوصفي، يلحظ عملية إحصاء لعناصر عدة تشكل صورة
المكان بواسطة عناصره الفرعية، الواردة متفرقة على المخيلة ( محسب خلفه
طاولات، ومغسلة تراكمت عليها الملاعق والفناجين، ومرآة حائطية، وموضع هذا
المقهى التي انبنى تحت دار مزخرفة ...) .
وعلى طول مساحة السرد الطويل نسبياً، لا نصادف وصفاً واقعاً داخل الحدث أو
خارجه إلا قليلاً، ويرجع ذلك إلى التصور الذهني للبناء الروائي، والغايات
الإبلاغية والدلالية المرجوة من النص، وفق مجموعة الكفاءات والمؤهلات
الفنية والمذهبية للكاتب . ولعل هذا ما يفسر هذا الهوس المبالغ من القيم
الإيديولوجية، مما أثر ــ في رأيي ــ سلباً، على البناء الفني العام
للرواية، فجاء أقرب إلى التقريرية، وغاب عنها البعد الجمالي، باعتباره
عنصراً رئيساً في كل عمل إبداعي . فعندما يريد الروائي تقديم قراءة نفسية
لشخصية منصور، فإنه يزاحم بين التقرير
المباشر لمجموعة صفاته السيكولوجية وبين المكاشفة الوصفية لهذه الخصائص،
وفق ما تعكسه مجموعة القرائن المكانية، والشحنات الرمزية، التي ينضح بها
المكان الموصوف المقترن بالشخصية .
المصابيح: يستغل الكاتب المكان الموصوف استغلالاً دلالياً بطريقة مؤقتة
وفورية بالقدر الذي يخدم الفكرة أو المقطع السردي الذي يتموقع فيه، ثم
سرعان ما يقطع تمفصله السردي عن بقية عناصر العالم الحكائي. فعندما يصف لنا
أمكنة المصابيح الأربعة المتبقية في القرية، بعدما أصاب غيرها التلف، يقدم
مقاطع وصفية متتابعة، مشكلة صورة كلية، تشير إلى أربعة أفكار منفصلة، وإن
كانت تجتمع وتصب في القراءة النقدية للمجتمع .
اختار الروائي العدد "أربعة" لما له من مرجعية دينية عند المسلمين، إذ يحيل
العدد أربعة على الخلفاء الراشدين الأربعة، وعلى الأئمة الأربعة، والمذاهب
الأربعة، التي كان لها عظيم الأثر في إنارة فكر المؤمن . وقد استعان
الروائي بهذه المرجعية الدينية، رافعا صوته لمنع الانهيار، ذلك أن السكوت
يعدّ تواطؤاً، لذا كان لكل مصباح علامة دالة في النص . فيستعرض الكاتب
أشكالاً مختلفة من المجتمع، أولئك الذين اتخذوا من الليل غطاءً لتحقيق
ملذاتهم بعيداً عن الأنظار، لا خوفاً من المجتمع والسلطة، وإنما هي فلسفتهم
في الحياة، وطقوسهم المتميزة التي يمارسونها في منأى عن عيون المنحطين
والمنافقين والمرائين، فصور منصور تلك الأعمدة التي كانت تنير درب أولئك
الأشخاص الذين لم يجدوا حرجاً في ممارسة حرياتهم تحت بؤرة النور التي
اخترقت الظلام الدامس . إن الأعمدة محطات لنماذج مستقاة من صميم المجتمع،
في حين كان الليل مساحة لتلك الأنفاس، التي تلهث في قناعة تبعث بلهيبها
الحزن في كل الاتجاهات، متخفية في ستار الظلام الدامس، الذي كتم شبق
الغرائز وحجب نور الحقيقة .
»فالمصباح الأول يتدلى من عمود ليس بعيداً عن بيته، وقد كان محجوزاً كل
ليلة بعد العاشرة لشاب لطيف من شباب الحي ... يظل يوقع على أوتار قيثارته
ألحاناً شعبية قديمة كان يتحلق حوله مجموعة من الشباب، فيأخذون في الغناء
... كان ذلك خاصة في ليالي الصيف .. أما الآن، فإن ذلك العمود هجره أهله
منذ أن قتل ذلك الشاب « (18) .
كان ذلك المصباح سراجاً ورمزاً للخصوبة والعطاء والاستمرارية والحياة،
عازفاً على أنغام قيثارته ألحانا شعبية، فتبعث العذوبة والراحة النفسية،
وتثير الشعور بالحرية والجمال، إلا أن هذا النور اغتالته أيد خفية، قد تكون
سلفية القرية الذين اعتبروه فاجراً بالعزف على مزمار إبليس، فاغتالوا
البراءة والفن بحجة الدفاع عن الدين .
»وأما العمود الثاني، فهو الذي ينتصب قرب دار البريد، وهو محجوز لليلة ما
بعد منتصف الليل لمجموعة من السكارى، وهم كذلك طيبون وظرفاء، ويشهد الله
أنه ما خالطهم وما نادمهم، لأن الخمرة لديه فلسفة، لديهم عبث وفوضى، وهي
عنده شهود وحضور وعندهم تلاش وغياب « (19).
يشير هذا المصباح إلى فئة أخرى من المجتمع، إنهم السكارى الذين أرهقتهم
هموم الحياة، فاتجهوا إلى الخمرة، التي جعلتهم ينسلخون عن حالهم الواضعي،
ويتيهون في غياهب اللذات والمجون .
»وأما المصباح الثالث فيتدلّى من عمود يقع قرب الحي القصديري المظلم من
سنين، كان لا يرى تحت ضوئه إلا طالب نجيب يراجع دروسه، وقد نجح في امتحان
شهادة البكالوريا، والتحق بمعهد اللغة العربية، ومن غريب الأمر أنه لم
يخلقه ومكانه سوى حمار بلا أهل، يخاف أن يقضي الليل في ظلام المروج « (20)
.
يشير هذا المصباح القريب من الحي القصديري إلى أزمة المثقف الجزائري،
وصراعه المرير، مع حال العوز والفقر الذي يحيط به . إنه صورة المثقف الذي
أرهقته الخيبة والهزيمة . وبعد انصراف الطالب النجيب خلفه حمار بلا أهل،
الذي يشير إلى المجتمع وقد فقد الوعي بعد أن أصبح الحمير يتربعون على عرش
الثقافة والقيادة في الوطن .
» وأما المصباح الرابع الذي يتدلى من العمود الرابع، وقد تجد بعض الحرج
وأنت تسمع إلى حديثي بشأنه . إنه يقع قرب كوخ امرأة سيئة السمعة، كان يتحلق
حوله بعض الزناة وطلاب الشهوة في ساعات النصف الثاني من الليل، وكانت
تعطيهم الإشارة بشمعة تشتعل وتنطفئ « (21) .
إنه يرمز إلى حالة الفسق والانحلال الذي آل إليه المجتمع الجزائري، فغابت
قيم الطهارة والعفة، وفقدت المرأة كرامتها وأصبح امتهان الرذيلة من بديهيات
الأمور. وإذا كانت هذه المرأة قد جاهرت بخطيئتها، فإن غيرها يرتدين قناع
العفة، ويمارسن أرذل السلوك ويختزنّ كل شرور العالم وأحقاده .
إن المتأمل لهذه المقاطع الوصفية يلحظ تشققها وضعف ارتباطها بالوحدة
الحكائية، التي تشدها، بالرغم من تعالقها الدلالي العامة للرواية .
وقد تجاوز الروائي الكثير من الجزئيات والعناصر المتشعبة، التي يتركب منها الشيء الموصوف، لذلك استخدم هذا الوصف المكاني بطريقة براغماتية، لخدمة أهداف بلاغية شمولية دونما زخرف .
ونقدم هذا المقطع الوصفي في محاولة استجلاء تشكلاته المورفولوجية وعلاقاته الدلالية حتى نقف على طبيعة الوصف والرواية باعتباره تقنية من تقنيات المكان :
»وقد تدخل يوماً ما غرفة نومه في دار أبيه القديمة، فإنك ترى ما يدهشك (..)
وأول ما يشد نظرك هذه الرفوف المتراصّة من الكتب السميكة والمجلدات
الضخام، وما يليها من كتب ذات تغليف عادي، وما يلي هذه في كتب أصغر من كتب
جيب، أغلبها روايات وقصص ودواوين شعرية ــ وهو له مساهمات في القصة والشعر
على كل حال ــ ويثير نظرك قصاصات الأوراق المتناثرة فوق طاولة النوم
وتحتها، هذه الفوضى الشاملة التي توزعت على أرضية الغرفة، من علب مصبرات
فارغة، إلى ألبسة قذرة، إلى جرائد كساها الغبار، إلى لعبة شطرنج تناثرت
حولها البيادق والقلاع، إلى سجادة صلاة لم تنطبع عليها جبهته منذ أسابيع،
إلى علب سجائر من مختلف الأنواع « (22) .
يميل الكاتب هنا إلى عدم الإسراف في تقدم خصائص المكان التفصيلية، ويكتفي
بمظاهره الأساسية المحددة لملامحه العامة فحسب، ويؤثر هذا الاتجاه حتى على
الشخصيات الروائية، ذلك أن الغياب الكامل لتفاصيل الديكور يجعلنا لا نعرف
الأبطال إلا من خلال أعمالهم الأساسية، وحركتهم الداخلية وتفكيرهم. فهذا
المقطع الوصفي ليس وصفاً خلاقاً ذلك أن الحدث الرئيسي الذي يعالجه الكاتب
هنا، هو تواجد منصور في الغرفة وحيداً وحالة من الفوضى، ثم تأتي تفاصيل ال
ــ قراءة في الرواية :
هي حصيلة فكرية وجرد إيديولوجي لمرحلة من مراحل سيرورة المجتمع الجزائري،
وقراءة لتجربة اجتماعية، نافذة إلى أغوار وبواطن العقلية الجزائرية والسفر
في عالمها النفسي والفكري، وهي أيضا قراءة لمنظومة الأفكار الدينية
والسياسية لهذا المجتمع، باعتبارها البنى العلوية التي تؤطر الفعل الحضاري،
هي استبطان لفكرة الدين داخل نفسية الفرد الجزائري، وعلاقته الوجدانية
بالخالق، وتصور لمفهوم الوجدانية، وبهذا تقوم الشخصية الأساسية في الرواية
ــ منصور ــ بتعرية الاتجاه الديني الذي لم يؤد دوره المنوط به في تحرير
الإنسان من العشوائية وحمله إلى طليعة الحضارة والرقي .
يقوم الكاتب عبد الله عيسى لحيلح بعملية تشريحية لمجموع الشخصيات، ووضع كل
شخصية داخل المؤسسة أو الاتجاه الإيديولوجي الذي تحمله، وبذلك فإن النقد
الموجه للشخصية هو في حقيقته نقد لتلك الهيئة، فنجده يستعمل "الإمام" لكشف
الأخطاء الفادحة للحركة الدينية، ويستعمل مدير سوق الفلاح ورئيس البلدية
لتعرية التسيّب والنفاق، ويستعمل "عمي صالح القهواجي" و" عمي سعيد الزبال "
و"ابن الهجالة" ... للكشف عن سلبيات الطبقة التحتية وما تعانيه من جهل
ونفاق وانحطاط أخلاقي، كما يستعمل " فرقة الدرك " ليبرز النمط السياسي
الخطير، الذي انتهجته الدولة في معالجة الأزمة، وكذا إبراز العلاقة
السياسية المتفككة بين النظام والشعب . وهو بهذا يورط الجميع في الأزمة .
ــ لماذا سيميائية البنية المكانية ؟ :
إن الذي دفعنا إلى الاقتراب من هذا الإجراء النقدي هو ما »حققته السيميائية
من قفزة نوعية في دراسة الأشكال السردية بخاصة، والعمليات اللسانية وغير
اللسانية بعامة، مبسطة نفوذها العلمي على حقول تحليلية مبنية أساساً على
المنظور الافتراضي الاستنباطي « (1) .
إن الامتزاج الإجرائي بين مقولات الدرس
السيميائي والنتائج النظرية للبنية المكانية في المتخيل السردي ستفضي بنا
إلى أسئلة جوهرية عن التمفصلات التطبيقية لهذا الامتزاج، وطرح إشكالية
تحاور السيمياء، من حيث هي علم لدراسة العلامات داخل نظام بعينه، والفضاء
الأدبي، من حيث هو بنيات كبرى وعناصر مورفولوجية ضخمة، داخل النسق اللساني
للبناء السردي .
تنطلق القراءة السيميائية للبنية المكانية من الكشف عن القوانين المادية
والنفسية التي تحكم مجموعة علاماتها، وتمفصلاتها داخل التركيب المكاني،
الذي يؤسس للفضاء المكاني ككل . وينطلق التعامل مع علامات (الفضاء الروائي )
من العلامة اللسانية، على اعتبار أن الفضاء الروائي، مثل المكونات الأخرى
للسرد، لا يوجد إلا من خلال اللغة، فهو فضاء لفظي بامتياز، لذلك فإن
التحليل الواعي للبنية المكانية، ينطلق عادة من الوحدات اللسانية وبعد
تنزيل الوحدات البنائية للمكاني (العلامات المكانية)، انطلاقاً من التحليل
اللساني، تتم دراسة نظام هذه العلامات، ونسق انتظامها داخل المتخيل السردي،
في علاقاتها الوظيفية والبنائية مع عناصره المختلفة، ثم بين هذه الوحدات المكانية بعضها ببعض .
ــ سيمياء الفضاء النصي:
في دراسة لحميد لحمداني من فضاء الحكي بين
النظرية والتطبيق (2)، لخص مفهوم الفضاء النصي في كونه الطريقة التي تشغل
بها الكتابة باعتبارها أحرفاً طباعية ورقية، بدءاً من تشكيل الغلاف ووضع
العبارات الافتتاحية، وتغيرات الكتابة المطبعية، والفهارس، ومروراً
بالهوامش، والرسوم، والأشكال، دون الانتهاء بقضايا أخرى، كالصفحة ضمن
الصفحة. وبناء على هذا التحديد، وبالعودة إلى رواية " كراف الخطايا "، يبدو
أنها تشكلت ومعمار فضائها بخلفية إسهامه هو الآخر في تكريس البنية
الميكروسيميائية العامة للرواية، وبارتباطها مع قيمتها المركزية . وهكذا،
بدءاً من دفة الغلاف الأولى، ندخل أجواء الرواية، حيث تطالعنا مؤشرات أولى
نحو الدلالة من خلال صورة الغلاف الزيتية، ومن خلال الشكل المطبعي للعنوان،
ومن خلال حجمه، والأشكال الهندسية للحروف .
نشير أولاً إلى أن لوحة الغلاف من تصميم الكاتب نفسه، وقد تضمنت ألواناً
مختلفة: الأحمر، والأصفر، والأبيض والبرتقالي، وكل لون يحيل القارئ على
دلالة ما . وقد تساعده في ذلك، دلالة النص، وترمز الصورة المصاحبة للغلاف
إلى فرس بدون فارس، يكاد يسقط أرضاً أرجله متفرعة في اتجاهات كثيرة، تنفجر
من عنقه شلالات من الدماء، وكأنه وسط معركة طاحنة لا تبقي ولا تذر . لذا،
هيمن اللون الأحمر الذي يدل على الموت والدمار الشامل، وهي دلالة تتأكد
تدريجياً عند ولوج عالم الرواية، التي توحي بثورة الإنسان ــ الكاتب ــ
وتمرده على هذا الوشاح الأسود، الذي يلف الإنسان والوطن، وهذه الدماء التي
تسيل كمياه الأنهيار، فيأتي الكاتب ليدق ناقوس الخطر فيها، إلى نتائج
الخطايا والمعاصي التي غرق فيها المجتمع . ولا يبتعد اللون الأصفر في
دلالته كثيراً عن دلالة اللون الأحمر، إذ يدل على حالة الكآبة والغم
والحزن، وهذا ما نجده ممثلاً في وعي البطل وضميره اليقظ. كما يشير اللون
الأصفر، في إحدى دلالته المركزية، عند الكثير من الروائيين، إلى "السجون"،
التي أصبحت كالعلامات الفارقة على جبين الإنسان، وهي دلالة على وضع غير
عادي في المجتمع، ولا يعني السجن، بالضرورة، الجدران الأربعة، إنما الأمرّ
من ذلك هو السجن النفسي ــ الذي يحمله معه الإنسان أينما تحرك ــ الذي تفوق
آثاره آلاف المرات السجن المادي.
وإذ يصور منصور ــ الشخصية البطل في الرواية ــ حالة الحزن والتمزق والنفاق
وتدني الأخلاق، فإن الفلسفة التي كونها منصور لنفسه، هي المسافة التي
رفعته من مستوى الوعي الجماعي لأهل القرية الغارقين في الرذيلة والنفاق .
وهنا، تبرز قيمة الشخصية، كما يقول جورج لوكاتش، و »تنشأ بالجوهر عبر درجة
وعيها وقدرتها على رفع الشخصي العرضي في مصيرها بوعي أيضاً على مستوى ملموس
للعمومية « (3) .
ومع انغماس أهل القرية في المعاصي والخطايا، بدأ منصور يتجه نحو الحكمة في
كشف ومعالجة خطايا الناس، وهو موقف حكيم، بالرغم من أنه بدا، في نظر أهل
القرية، مرادفاً للجنون، إلا أن الحكيم في مجتمع النفاق والرذيلة يسير إلى
عالم الضياع، ويصبح وحيداً مكروهاً وغير مطاع، ويسيطر عليه شعور الإحباط
المتولد من سوء فهم الآخرين للأمور، والركض باتجاه الخط العكسي للحقيقة
الكلية، ومع ذلك لا يتراجع عن إسداء رأيه . وبالإضافة إلى اللونين الأحمر
والأصفر، يوجد اللون الأبيض، الذي قد يدل على إشعاع النور المتبقي في ذلك
الدمار، وبالتالي يرمز إلى الطفولة والبراءة والطهارة وانتصار الحياة: كما
قد يدل اللون الأبيض على دلالة عكسية تماماً، فيشير إلى الاستسلام، خصوصاً
وأن منصور يفشل، في نهاية المطاف، في تغيير المجتمع، بالرغم من أنه نجح في
إسقاط الأقنعة، التي يتوارى خلفها أهل القرية، ويخرج الأطفال في نهاية
الرواية،
» لكن ما يؤسف له بحق هو أن هؤلاء الأطفال ظلوا يبيعون ويشترون بتسعيرة آبائهم وإخوانهم الكبار ... « (4) .
ولا غرابة في أن المهزوم في الحرب يحمل الراية البيضاء الدالة على الهزيمة .
لقد اعتقد منصور أنه انتصر بكشف أقنعة الزيف التي يرتديها أهل القرية،
لكنه بمجرد أن غادر القرية عاد الأطفال إلى صنيع آبائهم وإخوانهم الكبار .
فهل يحتاج أهل القرية دوماً إلى منصور آخر في كل زمان حتى يعودوا إلى رشدهم
؟ وبما أن النص الروائي – تحديداً ــ هو مركز لاستقطاب أشلاء النصوص
الأخرى القديمة والمعاصرة له، وبما أن التناص قدر النصوص، فإن القارئ لهذا
النص الروائي قد يستحضر ــ وإن لم يشر النص إلى ذلك صراحة ــ سيدنا موسى،
لما ترك بني إسرائيل مع أخيه هارون وصعد إلى الجبل، ولما عاد وجد قومه قد
عادوا إلى عبادة العجل .
وقبل أن نقف عند سيميائية العنوان " كراف الخطايا " نشير إلى أنه – العنوان
– كتب بالخط الأندلسي، وباللون الأسود العريض، وما يحمله كل ذلك من دلالة
ترتبط وتؤكد دلالة بنية الرواية . فاللون السود تختلف دلالته من قوم إلى
قوم، ولكن دلالة هذا اللون في النص الروائي توحي بالقتامة والتخلف
والانحطاط . ومن جهة أخرى، يشير الخط الأندلس إلى عصر ذهبي لهذه الأمة،
عندما كانت ترفع راية العلم والأخلاق، وتنشد الخير للإنسانية جمعاء . لكن
هذه الأمة لم تحافظ على دينها وأخلاقها، فانغمست في الرذيلة والخطيئة، فهوى
سلطانها وتلاشت ليعم الظلام ؛ ظلام الجهل والخطيئة، وكأن الكاتب يريد أن
يستحضر ذلك النموذج المثالي، وهو يكتب عن وطنه الذي لم يتعلم من تاريخه
شيئاً، وبقي يكرر الأخطاء نفسها .
ــ سيمياء العنوان:
يقوم العنوان بدور الوسيط بين القارئ
والنص، وهو ظاهرة فنية جمالية ولافتة إشهارية مثيرة للوجدان، وقد أفرد له
النقاد علماً يسمي " النترولوجيا ". وإذ يحتل العنوان الصدارة في الفضاء
النصي للعمل الأدبي، فإنه يتمتع بأولوية التلقي، ولهذا عدّ من أهم عناصر
النص الموازي (le paratexte) .
فما هي دلالات العنوان " كراف الخطايا" ؟
تشير لفظة " كراف " إلى المعاني التالية: كرّف الشيء: شمّه، وكرّف الحمار
إذا شمّ بول الأتان، ثم رفع رأسه وقلب شفتيه . وإلى جانب هذا المعنى، يشير
ابن خالويه إلى معنى آخر، وهو أن الكرّاف الذي يسترق النظر إلى النساء .
وجاءت كلمة "كرّاف" على صيغة فعّال، وهي علامة على شدة القيام بالفعل .
وإذا عدنا إلى رواية "كرّاف الخطايا"، فإن التعريف المعجمي لا ينأى كثيراً
عن مدلولها في السياق السردي »لما اقترب من السياج العتيق المنتوف من عدة
أماكن، شمّ رائحة الروث والبول، فاحتار أي إحساس يمتلك الحمار، فيرفع
جحفلته إذا شم شيئاً من هذا« (5) .
حمّل منصور نفسه مسؤولية اقتفاء الخطايا وعبء تتبع معاصي الناس ومفاسدهم،
إلا أن السؤال هو أن فعل "كرّف" من أفعال الحيوانات، فما علاقته بمجتمع أهل
القرية وبمنصور؟
تكشف لنا القراءة السيميائية للرواية أن الكاتب لم يوظفه عبثاً، فقد صوّر
المجتمع الإنساني الذي تحكمه الغرائز الحيوانية وشرائع الغاب في مظهره
الحقيقي، وهنا تكمن ذروة المأساة فأفصح البطل عن حالته النفسية المتأزمة،
لذا كان للحيوانات دور كبير في تصعيد الصراع إلى ذروته، وأصبح المجتمع في
نظر منصور غابة حيوانية، إذ يقول: »سأكشف لكل واحد منهم إلى أية فصيلة
حيوانية هو ينتمي « (6) .
وإذا تأملنا في الجملة "كراف الخطايا " لوجدنا أنها جملة اسمية، ولا يخفى
على دارس الأدب أن الجملة الاسمية تدل على الركود، والجمود، والثبات،
وانعدام الحركية والفاعلية والتأثير، وإذا ربطنا صيغة الجملة بمضمون
الرواية نجدها ــ الرواية ــ تصوّر مجتمعاً ميكانيكياً نمطياً جعلت منه
الرتابة مجتمعاً خاملاً راكداً، عبثياً، لا تهزه الأزمات، ولا يقوى على
الجهر بالصدق والفضيلة، فطبعه التردي والضياع، في عصر لا مكان للجمود
والانهيار فيه. لذا كان منصور يمثل الوعي الممكن، أو شكلاً من أشكال التطور
العقلي والتأملي خارج حياة القرية، وفي صميمها في الوقت نفسه، وهذا يعني
أن منصوراً حالة متميزة، فاقت مفاهيم أهل القرية وسلوكهم وثقافتهم،
والفلسفة التي كونها منصور لنفسه هي المسافة التي رفعته عن مستوى أهل
القرية، دون أن يلغي من حياته توحّده معهم .
ــ عناصر من الفضاء الجغرافي في كراف الخطايا:
الفضاء كمعادل للمكان يتولد في محتوى الحكاية الروائية، وليس من امتداد
الكتابة على الورق. إنه الفضاء الجغرافي، وهو فضاء متخيل، يكون بإمكان
القارئ وفقه أن يوهم نفسه أنه قادر على أن يتجول فيه . وإذا كان هذا الفضاء
يدرس سابقاً في استقلال تام عن المضمون، عند جزء هام من النقاد، فإنه يعد
بالإمكان فصله عن المضمون، وعن معطيات أخرى، ترتبط بثقافة جماعة أو عصر ما،
أو ما تسميه جوليا كريستيفا "إيديولوجيم العصر" على أننا في اهتمامنا
بفضاء الرواية "كراف الخطايا"، لن نفصل في مكونات ورموز الفضاء الجغرافي
بها، بل سنقتصر على إشارات خفيفة.
تشكل القرية ومختلف الأمكنة التي تضمها (المسجد، المقهى، دار البلدية، دار
البريد، شوارع، حارات...) الفضاء الجغرافي الذي تجري فيه الأحداث الروائية،
كما تشكل منطقة انطلاق نحو فضاءات أخرى، تشير إليها الرواية ( المدينة،
البحر، الجزائر ...)، ولكن إذا كانت القرية هي الفضاء الجغرافي العام الذي
تجري فيه غالبية أحداث الرواية، فإنه هو نفسه ينقسم إلى فضاءات أصغر تحمل
دلالات معينة وفق السياق النصي، ويمكن أن نطلق عليها مصطلح وحدات فضائية
صغرى، تتفاعل وتتعالق وظيفياً وعضوياً مع العناصر الحكائية للسرد كالشخصيات
والزمن ...
يشير الفضاء الروائي إلى القرية، وهو فضاء وظيفي فعلي، تسري فوقه الوقائع
والأحداث، وتتصارع فيه الشخصيات، وفق مجموعة من البرامج السردية . وقد
استغل الكاتب ــ هنا ــ فضاء القرية، ليتخذ منه رمزاً وقناعاً يخفي
المباشرة، ويسمح للمبدع أن يمرر، من خلاله آراءه ومواقفه فنياً ودلالياً،
وعليه، فالقرية هنا هيكل نموذجي للمجتمع الجزائري، فضاء مغلق تسوده
الرتابة، والملل، والفوضى، والفراغ، وهي مرآة عاكسة لحالة أهلها .
تشير الرواية إلى مجموعة الأماكن، منها الإدارية ( دار البلدية، دار
البريد...) وأماكن تضم هيئات سياسية (المكاتب السياسية)، بالإضافة إلى
الأماكن ذات الصبغة الخدماتية (سوق الفلاح، السوق الأسبوعي )، بالإضافة إلى
أماكن ذات دلالات مذهبية، وأخرى اجتماعية .
يوحي فضاء المسجد، مثلا، إلى الأمام وأتباعه والشيوخ وجماعة السلفية، أما
فضاءات المقهى والشوارع والدكاكين والحارات، فتشير إلى الطبقة التحتية
للمجتمع. ولعل أهم مكان يشغل حيزاً سردياً واسعاً، هو فضاء الغرفة، الذي
يحتلّ مكانة محورية ذات دلالة هامة . كما حضرت أماكن أخرى في السرد ( بلاد
القبائل، بلاد الشاوية )، وارتبطت بذهنية الشخوص، كرموز ترتبط بدلالات أكبر
من فضاء القرية، بل وتكسبها بعدها الأشمل
( الجزائر ) .
تتفاعل هذه الأمكنة من خلال تفاعل الشخصيات التي تمثلها هذه الأماكن،
وبالتالي فالتفاعل يعكس الرؤية السردية للكاتب، وبذلك فالتدفق الدلالي يتم
عبر هذه القواقع (Coquilles) الثلاث
( المكان، والفضاء المحدود القرية، والفضاء المتسع الوطن ) .
فالمكان الأول هو المكان الفرعي، ينبني في علاقة وظيفية مع الأماكن الأخرى
للفضاء الروائي للقرية، فيشكل التصور الذهني الأول لعالم الرواية الفكري .
ثم إن هذا الفضاء الجغرافي ينفتح بدوره بعملية ذهنية تأويلية، ليؤطر لعالم
أشمل، غير موجود عضوياً في الرواية لكنه حاضر ذهنيا ودلالياً، من خلال
إشعاعات الفضاء الجغرافي للقرية ودلالاته، وهو فضاء الدولة .
ــ المكان والشخصية:
تؤدي الشخصية الروائية مجموعة من الوظائف داخل السرد، فهي مجموعة من
الاستراتيجيات الدلالية المتوافقة مع المعمار البنائي للرواية . ويقدم لنا
المكان يد المساعدة على التعرف على الشخصية، ذلك أن القراءة الدلالية
للمكان توضع لنا ملامح الشخصيات، لذلك يمكن اعتبار المكان بناءً، يتم
تشكيله اعتماداً على ملامح ومميزات الشخصيات وطبائعها، وهذا ما يساعد على
تجاوز المكان الهندسي إلى المكان الشعري، الذي يحمل دلالات متنوعة، تنسجم
مع البناء العام للرواية . فالتأثير المتبادل بين الشخصية والمكان يصور لنا عن الحالة الشعورية التي تعيشها الشخصية، بل قد تسهم في التحولات التي تطرأ عليها .
وإذا عدنا إلى رواية "كراف الخطايا"، نجد كل شخصية تقبع في عالمها الخاص
الذي يتوافق ووظائفها، تؤدي فيه مجموعة الأداءات السردية، حيث تتوزع هذه
الشخصيات إيديولوجياً على فضاء القرية، ويحدد مسار انتقالها واختراقها
للمكان وفق هذا التوزيع الإيديولوجيا . وعليه، يمكن أن نقيس محدودية
الأمكنة، بالنسبة إلى شخصيات محددة، بينما تتحرك شخصيات أخرى بحرية أكبر،
وهذا لتحقيق التداخل، والتقاطع، والتقارب بين هذه الإيديولوجيات .
ووفق هذا المنهج، تترابط الأماكن والشخصيات داخل الرواية، فهي مجموعة من
القواقع الإيديولوجية، وطبقا لمقارنة أ. موير وأ. رومر Romer) et (Moyer
للمكان بالبصلة، الإنسان في المركز والمكان / الأمكنة طبقات البصلة الأقرب /
الأبعد الأقل / الأكثر شفافية والإنسان يعيش في مجموعة من القواقع يتميز
كل منها بصفات خاصة بالنسبة إلى علاقة بها .
يشير وجود "منصور" داخل الغرفة إلى مجموعة من المواصفات الاجتماعية
والفكرية لهذه الشخصية . كما أن غياب شخصيات أخرى داخل البيت، والفوضى التي
تميزه دائماً والأثاث المكتبي المتوفر بشكل بارز، يوحي بمجموعها
بالمواصفات هي أن منصور أعزب يمتلك ثقافة واسعة، متحرر من كل التزام .
وعندما تخترق هذه الشخصية مكاناً آخر غير مكانها الأصلي، يتم ذلك عبر
الشخصية الحاملة لتصور مكان ما، ومكان آخر . فقدوم الأم من المدينة إلى بيت
ابنها، هو اختراق ثنائي يؤدي وظائف مختلفة .
فهو يؤدي، أولاً، دور تقريب البيئات الإيديولوجية الأخرى (المسجد، المقهى)،
وجمعها محيط البيت، عن طريق استدراج الشخصيات المقترنة بها، كما أن هذا
الاختراق يسمح بتحليل شخصية منصور ونفسيتها، من خلال تعامله مع الأم، وما
يثيره وسلوكه من أداءات، باعتبارها عاملا جديدا داخل فضاء القرية .
فالمسجد فضاء مقدس يفترض على من يعترف به (الإمام) أن يكون حاملا
لإيديولوجية دينية، تنسجم وطبيعة المكان . وعند خروج هذه الشخصية من العالم
الأصلي المطابق لها كما يفترض، واختراقها للأماكن الأخرى تمكن من تحديد
مدى التزامها أو انحرافها عن تلك الصورة النموذجية، من خلال تقاربها مع
شخصيات الأماكن الأخرى، باعتبارها إيديولوجيات مخالفة . وهكذا، نقيس مدى
انحراف أو التزام الإمام، وعمي صالح القهواجي عند التقائهما في فضاء المقهى
. فاتفاقهما أو اختلافهما يكشف لنا مجموعة من القيم، تحدد إيديولوجية كل
منهما، وبهذا الشكل، يتمّ فضح النفاق والزيف، وتسقط أقنعة الورع والتدين
الكاذب لدى الجماعة الدينية، بمجرد مغادرتها المسجد، وخروجها إلى أماكن
متعفنة باللذة والشهوة (المقهى الشوارع، الأسواق) . وهذا ما حدث لإمام
المسجد وصاحب المقهى وشخصيات أخرى، عندما استدرجها منصور إلى بيته، تحت جنح
الظلام، ولما في البيت من حوافز اللذة المجسدة في وجود المرأة المزعوم
داخل بيت منصور .
ــ المكان والدلالة :
ينشأ الفضاء الروائي من خلال وجهات نظر متعددة، لأنه يعايش على عدة
مستويات: يعيشه الروائي أولاً، والراوي ثانياً بوصفه كائناً تخييلياً، ومن
اللغة التي يستعملها، فلكل لغة مواصفات خاصة لتحديد المكان . ثم تعيشه
الشخصيات الأخرى التي يحتويها المكان، وفي المقام الأخير يعيشه القارئ الذي
يقدم بدوره وجهة نظر غاية في الدقة، ويسهم بدور كبير وتشكيل وتحديد
دلالته، ذلك أن الكتابة الأدبية هي دعوة موجهة من الكاتب إلى حرية القارئ،
ليكون له عوناً على إخراج نصه من العدم إلى الوجود . وهكذا، يمكننا النظر
إلى المكان داخل النص بوصفه شبكة من العلاقات والرؤى ووجهات النظر، التي
تتعالق مع بعضها لتشكل الفضاء الروائي الذي تجري فيه الأحداث .
وعلى الرغم من أن مبدأ التقاطب بين
الأمكنة، الذي اعتمده غاستون باشلار . (G.Bachelard)، وسار يوري لوتمان.
(Y.Lotman) على طريقه، أداة إجرائية خصبة أثبتت قدرتها في مقاربة بعض
النصوص الحكائية، إلا أن هذه التقسيمات لا تحمل في ذاتها قيماً ثابتة، ذلك
أن القراءة النقدية الجادة للفضاء والروائي لن تنهض إلا من منطلق نظري،
يمنح الفضاء طابعه الشمولي. ويصعب أن يتيح مجرى التقاطب الإمساك بجوهر
الثقافة الأدبية في النص المحكي، لأن هذا المحكي يأتي في كونه خياراً
أنثروبولوجياً، وليس أداة للتحليل الأدبي بالأساس . فليست التقاطبات، في حد
ذاتها، إلا ترتيباً للأشياء المادية التي يبقى جوهرها أعمق من مجرد تركيب
وتقابل . ففضاء الكون المفتوح ــ مثلاً ــ يصبح بالنسبة إلى المنفي مكاناً
مغلقاً وسجناً وتعذيباً .
ــ منصور والمكان:
لا تقاس أهمية الشخصية الروائية بحضورها المكثف داخل مساحة السرد، وإنما
بفعاليتها، وتأثيرها على مجريات الأحداث، ولا تتحدد قيمتها بالمساحة التي
تمثلها، إنما بالدور الذي تقوم به وما يرمز إليه هذا الدور، وأيضاً بالأثر
الذي يتركه في ضمير القارئ، مما يدفعه إلى التساؤل والمقارنة، ثم تحديد
موقفه من هذه الشخصية.
ينكشف لنا جلّ الشخصيات الموظفة في الرواية ــ باستثناء شخصية منصور ــ
بوصفها شخصيات ذات تأثير ضعيف في مجرى الأحداث، تدور حول فكرة واحدة، وهي
معروفة عند القارئ بسلوكها الذي لا يتغير، وهي شخصيات نمطية مسطحة، ذات
صفات ثابتة، يصورها المبدع بلا تاريخ ولا أعماق، خاضعة للأحداث، وهي على
مشاكلة المكان الذي تقيم به . من هنا، نكتشف أن العلاقة بين
هذه الشخصية والمكان علاقة مفلسة وجدانياً وعاطفياً، مما يحيل الشخصية
نفسها إلى أحد عناصر المكان، بعد أن كانا عنصرين متقابلين، يكونان ثنائية
وظيفية لأداء أدوار دلالية . لذلك، تكتفي الشخصية والمكان في هذا الوضع
الجديد بإثبات عقد اجتماعي، يحيل على مجموعة القواقع الإيديولوجية، التي
تشكل الفضاء الدلالي للرواية .
تبقى شخصية منصور هي الشخصية التي لا تغني عنها شخصية أخرى، أيا كانت
المساحة التي تشغلها، أو الوقت الذي يستغرقه وجودها . ومنصور هو الشخصية
التي تتصرف بطريقة لا يستطيعها غيره، أو يعبر عن موقف ما، كل ذلك في اللحظة
الحاسمة والضرورية، ذلك أن كل وصف لا يشتمل على نظرة شخصيات العمل الأدبي
إلى العالم، لا يمكن أن يكون تاماً. فالنظرة إلى العالم هي الشكل الأرقى
للوعي، وحين يهمل الكاتب النظرة إلى العالم، فإنه يطمس العنصر الأهم من
الشخص القائم في ذهنه » إن النظرة إلى العالم هي تجربة شخصية عميقة يعيشها
الفرد، وهي أرقى تعبير يميز ماهيته الداخلية، وهي تعكس، بذات الوقت، مسائل
العصر عكساً بليغاً « (7) وهكذا تنشأ شخصية منصور عبر درجة وعيها لمصيرها
وقدرتها على رفع العنصر الشخصي العرضي في مصيرها، بوعي إلى مستوى معين
يترجم رؤية الجماعة .
يتحكم في آلية العمل البنيوي لشخصية منصور عنصران أساسيان: العنصر الوظيفي والعنصر الدلالي .
أما العنصر الوظيفي، فيتسم بقانون حرية اختراق الأمكنة . فشخصية منصور لا
تخضع لقانون " الحدّ "، الذي يقره لوتمان، وهو قانون يقسم النص إلى شقين،
يفصل بينهما حد، وتنتمي كل شخصية من الشخصيات إلى شق منها . وفي حالة النظر
إلى البنية المكانية، ويكتسب الحد ــ بوصفه عنصراً مكانياً ــ أهمية
كبيرة، فيقسّم الحد المكان النصي إلى شقين متغايرين لا يمكن أن يتداخلا،
ذلك أن الحد يتميز بخاصية أساسية، هي استحالة اختراقه . وتمثل الطريقة التي
يفصل بها الحد بين شقي النص خاصية من خصائص النص الجوهرية، فقد يكون هذا الفصل فصلاً بين الأهل والأغراب، أو الأحياء والأموات، أو الفقراء والأغنياء، لكن الأهم من ذلك كله هو أن لا بد للحد الذي يفصل بين شقي المكان أن يكون حصيناً، وأن تختلف البنية الداخلية لكل من الشقين ( .
تنطبق خاصية الحد على شخصيات الرواية، إذ يستحيل على الإمام أو عمي صالح
القهواجي أو غيرهما اختراق غرفة منصور، بينما لا يخضع منصور لهذا القانون،
فيخترق هذه الشرعية، ويخترق الأمكنة تحت غطاء الجنون وظروفه الاجتماعية،
ويمارس أدواره الوظائفية التي رسمها له الروائي، فيدخل إلى المسجد تارة في
حالة، سكر وأخرى بوعي كامل، ويلج المقهى ويخالط الناس في كل الأمكنة .
ــ العنصر الدلالي:
يتعالق هذا العنصر مع العنصر الوظيفي، ذلك أن حرية اختراق منصور لفضاءات
القرية له أدواره الدلالية، فاختراق المكان الجديد يكون محفّزاً على تفجير
دلالات المكان، فكل الخصائص السيكولوجية والاجتماعية التي تميز شخصية
منصور، حتى تلك التي تصل حد التناقض ( يصلي أحياناً ينقطع لمدة طويلة،
يتناول الخمرة، يدخل المسجد، يسرق، يتصدق، يكذب، ينافق) تجعل دلالات
الأمكنة المخترقة تنشطر في سلسلة متتالية من الثنائيات الضدية، فكل مكان
يخترق من قبل منصور، يحمل بداخله ثنائية ضدية مركزية تتوالد وتتضاعف عنها
ثنائيات ضدية جزئية .
أ ــ فضاء الإقامة المغلق (البيت): يلعب البيت دوراً مهماً، وهو ظاهرة
بارزة في تشكيل عالم الرواية، لذلك ركز الأدباء كثيراً على إنتاج هذا
البيت، الذي يعد ركن الإنسان الأول في العالم، على حد تعبير باشلار (9)،
فيضفي عليه الكاتب بعضاً من إنسانيته بما يخلق فيه من حركة بين
ساكنيه، وتفاعلهم بما حولهم من ظواهر مادية ( الأثاث ). ويملك البيت
تاريخه الاجتماعي، من خلال علاقته مع الناس والبيئة والتاريخ والفكر ...
ويملك تاريخه الخاص من خلال ما توالى عليه من سكنه، فحمل هويتهم وحملوا
هويته، ثم امتلاكه لتاريخ سري خاص، من خلال استنساخه شعبياً من قبل أسر
عديدة، وظهر كما لو كان أحد ملامح الهوية الشعبية (10) .
واعتماداً على مبدأ التقاطب بين الأمكنة،
فإن البيت في رواية " كراف الخطايا " لن يؤدي الأدوار الدلالية بصورة
بسيطة، ذلك أن دوره الدلالي هو جوهر العمل الروائي بكامله. وبالرغم من غياب
الحضور الإنساني داخله، إذا استثنينا شخصية منصور، بالإضافة إلى تقلصه إلى
غرفة واحدة، فإن ذلك لا يحول دون الأداء الدلالي، وأن يكون مصدر إخصاب
وتفصيل للعناصر الدلالية .
إن تقليص الفضاء البيتي إلى فضاء الغرفة أمر مقصود، يتم بموجبه توجيه
الممارسات التي تمتاز بطابع الانغلاق والتكتم والانعزال عن العالم، وفي هذا
المعنى يؤكد باشلار على أنه كلما صغّرت العالم بمهارة أكبر، امتلكته بشكل
أكثر مهارة (11) .
تؤدي شخصية منصور أدواراً إعلامية داخل المجتمع الروائي، فقد استغلت ظروفها
الاجتماعية (التظاهر بالجنون) لممارسة دور الناقد للمرحلة التاريخية
للمجتمع الجزائري، ولن يكون ذلك ممكناً لشخصية منصور إلا بانتقالها من
فضائها الخاص (الغرفة) إلى فضاءات أخرى المسجد، المقهى، الشوارع، الأسواق
... مع هذا الاختراق يتحول فضاء الغرفة مخبراً يحلل فيه منصور مجموعة
العناصر والقضايا التي يرصدها من العالم الخارجي. وفي فضاء القرية تجري
العمليات السردية واللسانية العميقة التي تتلاقح وتتناسل فيها الصور
والمشاهد الاجتماعية والتداعيات الباطنية والتجليات الدرامية للفضاء
الدلالي لعالم الانتقال الخارجي المقابل . وبالإضافة للدور المخبري المسند
لفضاء الغرفة الذي يختصر فضاء العالم، نجد دوراً آخر هو الحوار الذي يقيمه
مع صورة الأب المعلقة على جدران الغرفة، والذي يتخذ ــ في أحيان كثيرة ــ
شكل محاكمة الماضي وإدانته، وتحميله مسؤولية فوضى الحاضر ومآسيه . ومع
الحوار تسقط وتتلاشى تلك الصورة الذهبية المقدسة للماضي، ومع كل تلك
التداعيات والحوارات المتكررة (مع صورة الأب) على طول المساحة السردية،
يتفتح السرد باستمرار على الزمن الماضي، الذي صنع هزيمة الحاضر، فيلتقي
الماضي والحاضر، ليعلنا هزيمة حلم مجتمع بأكمله . إن استحضار الماضي ومعه
الحاضر إلى غرفة منصور لم يكن اعتباطياً، بقدر ما كان شكلاً من أشكال
الرؤية العميقة الواعية لهذه الشخصية الروائية، التي حمّلها الكاتب دور كشف
أسباب هزيمة الحاضر، بالعودة إلى الماضي، إلى الجذور التي صنعت العطب في
حياتنا الحاضرة. يستغل الكاتب، إذن، الانغلاق المكاني لانفتاح أوسع وأكبر
على الزمن، ذلك أن » الأمكنة في الواقع كالحجارة في المقلع، لا تشكل بناء
جمالياً، إلا عندما يقطعها المبدع وينقشها بالحلم والرؤيا يكحلها بالأزمنة «
(12)
وهكذا، يتخذ البيت موقعاً وسطاً بين
الفضاءات الانتقالية للقرية، وتمثل هذه الأماكن دور الروافد الدلالية
الفرعية، التي تصب في مجمع دلالي مركزي يتمثل في فضاء الغرفة .
ب ــ فضاء الانتقال المفتوح: تشير الرواية إلى مجموعة من الأمكنة المفتوحة،
تشكل فضاءات انتقال: منها المسجد، وهو الفضاء المفتوح باتجاه الأعلى، فيه
يتوحد الإنسان مع خالقه، وبالتالي يفترض أنه مكان مقدس . كما نجد فضاء
السوق، وهو مركز لالتقاء الخطابات الاجتماعية والسياسية، والشيء نفس
بالنسبة إلى فضاء المقهى، حيث تشرّح الظواهر الاجتماعية والسياسية،
والممارسات المشبوهة، والعطالة، وفضاء المقبرة المنفتح على عالم الآخرة ...
الخ . وتؤدي كل هذه الفضاءات وظائف وأدوار دلالية بصورة مكثفة ويتولى كل
فضاء تمرير خطابات متراكمة، فينتج عن ذلك انحراف هذه الفضاءات عن وظيفتها
الدلالية، ليخلق استراتيجية استبدالية تُضاف إلى الدلالة الأصل.
ــ ثنائية الانغلاق والانفتاح:
إن التقاطب الدلالي انغلاق / انفتاح يجعل الفضاء الروائي لرواية "كراف
الخطايا" يواصل انشطاره التقليدي فضاء الغرفة / فضاء القرية . فالمكان
المغلق فضاء ضيق ومحدد بأطر تمنع اختراقه وانفتاحه، بينما المكان المنفتح
فضاء متسع وممتد جغرافياً . إلا أن المسألة ليست دوماً بهذه البساطة، فقد
يتحول الفضاء المغلق قضاءً مفتوحاً فيستحضر أمكنة أخرى، عبر اختراقه لها
بواسطة الخيال، وقد يتحول الفضاء المفتوح فضاءً مغلقاً، رغم اتساعه وهذا
حسب ما تضفيه الشخصية على المكان من مشاعر وأحاسيس .
فالغرفة، بالرغم من كونها فضاءً مغلقاً، فهي تنفتح على عالم القرية،
والقرية نفسها تنغلق على ذاتها، وهكذا تشكل لدينا مجتمعان مختلفان انطلاقاً
من ثنائية انغلاق/ انفتاح.
المجتمع الأول: هو مجتمع الغرفة المنغلق / المنفتح، وهو المجتمع المثالي
الذي يسعى منصور إلى تشكيله، بديلاً عن مجتمع القرية الذي تحكمه الغرائز
الحيوانية، وهنا قد يستحضر القارئ جمهورية أفلاطون المثالية، التي أبدعها
بديلاً لأمبراطورية أثينا المنهارة بسبب الحروب وغياب الديمقراطية وانتشار
الرذيلة . وعلى هذه الأساس، فإن العالم الاجتماعي المعلن داخل فضاء الغرفة،
المهندس والمنتج من قبل شخصية منصور، يستمد شرعية اتساعه المذهل من آليات
التحويل الدلالي هذه . فالبيت يتخذ معادلاً دلالياً خطيراً حين يعمل على
امتصاص دلالات الحياة الاجتماعية لفضاءات الانتقال، ليقوم بمعالجتها ونقدها
وتقييمها، ثم تضخيمها لتصبح أنموذجاً شمولياً، قد يرتبط بالفضاء الدلالي
الشامل للوطن . ويتضح ذلك على الشريط اللغوي حين يعلن منصور غرفته كوكباً
خاصاً، فيقول للأستاذ حمدان »تفضل وشرفني بالدخول إلى كوكبي « (13) . وهذا
ما يوحي بانفتاح عالم الغرفة التام وامتداده إلى خلق عالم محايد لعالم
الناس المادي الواقعي، وتمتد كذلك إلى المضامين السياسية والإيديولوجية،
وإقصاء الدولة برمتها، حين يعلن غرفته دولة مستقلة »كنت صغيراً قالت لي أمي
لا ترفع صوتك فوق صوت والديك، فنشأت عاقاً، وفي المدرسة قالوا لي: لا ترفع
صوتك فوق صوت المعلم، فطلعت جاهلاً، وفي المسجد علموني أن لا أرفع صوتي
فوق صوت الإمام، لأن ذلك لغو، فتعلمت النجوى والنفاق، وها أنت تقول لي لا
ترفع صوتك فوق صوت الدولة، فأعلنت غرفتي دولتي، ورفعت في سماها رايتي ورفعت
فيها صورتي ليرتد لي صداي، غير محرف ولا مزيف ولا مشوب « (14) . نستنتج أن
منصور يستقدم من المجتمع بمجموع الأخطاء الاجتماعية، لينقدها وليعلن تمرده
لصالح نموذجه المعياري داخل فضاء الغرفة .
وأما إذا عدنا إلى الشق الثاني من التقاطب المكاني، وهو فضاء الانتقال
المفتوح الذي يشير إلى المجتمع الواقعي، المختلف عن الفضاء المثالي المشكل
داخل غرفة منصور، فإن انحرافه يعود بالأساس ــ حسب منصور ــ إلى تخليه عن
الأخلاق والقيم، وسيطرة الجهل واستبعاد العلم الصحيح، ثم إلى نزوع هذا
المجتمع نحو الشهوات والأهواء، وإغراقه في النفاق، والكذب، والنميمة،
ويتجلى ذلك، من خلال حضور شخصية منصور داخل الفضاء بين
المتقابلين، وعلى هذا الأساس، تحدد درجات انفتاح هذا الفضاء أو انغلاقه .
»ومتى كان عاقلاً حتى يجن ؟ ... هل من علامة صحة العقل أن يغلق على نفسه
باب داره ما يزيد عن الشهر ؟ ماذا كان يفعل ؟ ماذا كان يأكل ؟ كيف استطاع
ذلك ؟ ... بل كيف استطاع الكلام ؟ « (15) .
تتحدد زاوية الانغلاق هنا من طرف أحد أفراد المجتمع الروائي، إلا أنها نظرة
سطحية في تبرير الانغلاق، لا تغوص إلى الأعماق المهندسة لخارطة انغلاق
المكان وانفتاحه . إن حالة اللاتوافق بين
شخصية منصور ومجتمع أهل القرية هو الذي قذف به إلى عالم البيت، إما المجتمع
فهو يسير على نحو سليم في رأي أهل القرية، إنه يعد بالنسبة إليهم مجتمع
ألفة وإغراء، عكس منصور الذي ينظر إلى المجتمع نظرة عداء ونفور، لأن مجموعة
القيم الخاطئة تجعل منه سجناً رهيباً محاطاً بأسوار وقضبان، فيتحول العالم
الخارجي المفتوح إلى مكان ضيق، بل إلى سجن لا يطاق يقول منصور: » ... وكم
تصير الحياة سجناً رهيباً حين تجد نفسك مضطراً في كل لحظة أن تمشي وفق ما
يريده الآخرون، وأن تقول ما يرضيهم ولا يسخطهم، وأن تظهر بالمظهر الذي
يعجبهم ولا يؤذيهم ... حينها تكون عيون الآخرين زنزانة باردة، ويكون رضاهم
قيوداً من حديد، حتى لو كان ذلك بالتراضي«(16)
فهذا الانغلاق الخارجي المحدد انطلاقاً من شخصية منصور، هو الذي دفعه إلى
الهروب والسعي إلى خلق مجتمع هروبي، عبر مجموعة من الممارسات ( التظاهر
بالجنون شرب، الخمرة، السرقة، بالإضافة إلى بعض الممارسات الكتابية
كالقراءة الكتابة ... ). وكل هذا يؤكد التشتت الحضاري والفكري، الذي تعانيه
هذه الشخصية، جعلته يدخل في علاقة صدامية مع عالمه النفسي، الذي يحمل
قائمة المعايير المثالية، كما دخل في حالة من الصراع والتمزق الحضاري
لمجتمعه المادي الواقعي، وهذا ما يبرر حالة الانطواء والانعكاف داخل فضاء
الغرفة .
ــ علاقة المكان والزمان بالوصف المتزمن أو الصورة السردية :
يتشكل النص الروائي في مجمله من مقاطع سردية وأخرى وصفية، بالإضافة إلى
الحوار بمختلف أنواعه واللغة ... غير أن الثنائية الغالبة والأساسية في
النص الروائي هي بين السرد والوصف . فإذا كان السرد من أهم العناصر الزمنية، فإن الوصف يهتم بالمكان، فبينما يتسم على السرد بالحركة والنمو والتطور، مع تطور الحدث وعلاقته بالزمن، يميل الوصف إلى الثبات ويركز على وصف المكان، الوصف
لحظة استراحة داخل المساحة السردية . وإذا كان الروائي في القرن التاسع
عشر يركز، قبل أن يبدأ بسرد الأحداث، على وصف المكان وتحديده زمنياً، ووصف
الشخصيات . فقد تحول الوصف اليوم إلى عنصر
فاعل في الحدث، وعلى هذا الأساس تمثل المقاطع الوصفية والنص الروائي وقفة
زمنية، لذلك نجد نوعاً من التوتر يسود النص بين
وقع مستوى النص الذي يدفع بالأحداث إلى الأمام على خط الزمن، وبين جذب
المقطع الوصفي الذي يشد النص نحو الاستقصاء والسكون، ومن هنا يمكن أن نتنبأ
باتجاهين: أحدهما يخضع لدفع الزمن، فيزمّن المقاطع الوصفية، وهذا هو الوصف الخلاق الذي يسهم في نمو وتطور الحدث، أما الاتجاه الأخر فيستسلم للاستقصاء، فيسكن الزمن ويشل حركة الحدث .
فالنوع الأول يربط وصف الأشياء بالفعل، فتغلب الحركة على الوصف، ويسمى هذا
النوع بالصورة السردية، بينما يسمى النوع الثاني ــ الذي يصف ساكناً ــ
بالصورة الوصفية .
ومع أن الفرق هنا بين
الصورتين واضح، فإن التمييز على المستوى العملي ليس بسيطاً، وإذا كان
ممكناً الحصول على نصوص وصفية خالصة، فإنه من العسير أن نجد سرداً خالصاً .
كما أننا نجد في بعض الأحيان ما يسمى بالتزمين المفتعل، لأنه لا يترجم
حركة حقيقية، فيتوقف الزمن الروائي في حين يستمر الزمن النصي إلى الأمام،
فيلجأ الروائي إلى بعض الصيغ مثل ( ثم .. وبعد ذلك ...) . وإذا عدنا إلى
رواية "كراف الخطايا"، نجد أن المقاطع الوصفية قليلة، بينما تكثر الصورة
السردية، فتؤدي دوراً هاماً في نسيج الرواية، ذلك أن تراكم هذا الوصف
السردي تركّز على تصوير الأشياء في حركتها مع الزمن . وعلى هذا الأساس،
فإن الصورة الكلية للمكان تتشكل في الذهن تدريجياً، فكلما حدث فعل ما ذكرت
مجموعة من عناصر المكان المرتبطة به، بالإضافة إلى الإفصاح عن هوية المكان
المؤطر للحدث . فالمقهى، مثلاً، تتضح صورته تدريجيا، كلما تقدم السرد ليشكل
النهاية الصورة الكاملة .
»في صباح ذلك اليوم المنعش الموحل، وعندما كان عمي صالح القهواجي يهم بفتح
باب مقهاه، بعد صلاة الصبح مباشرة، فاجأه صوت في ركن معتم اعتاد أن يصنع
فيه الصناديق الفارغة والمكنسة والكراسي المكررة وأشياء أخرى غير ذات قيمة
(...) ظل منصرفاً إلى الملاعق والفناجين (..) يغسلها من قهوة البارحة، ربت
على كتفه ثم يساعده على رفع باب المقهى المعدني، وبعد أن أخذ مكانه خلف
طاولة خلف المحسب (..)، أخذ مكانه المعتاد خلف المحسب لأنه لا يريد أن
يختلط بالغوغاء والدهماء وسط القاعة (..)، فبنى هذا المقهى وفوقه هذه الدار
المزخرفة (...)، وألقى نظرة متلصصة على وجهه في المرآة الحائطية ... «
(17).
فالمتمعن لهذا المقطع الوصفي، يلحظ عملية إحصاء لعناصر عدة تشكل صورة
المكان بواسطة عناصره الفرعية، الواردة متفرقة على المخيلة ( محسب خلفه
طاولات، ومغسلة تراكمت عليها الملاعق والفناجين، ومرآة حائطية، وموضع هذا
المقهى التي انبنى تحت دار مزخرفة ...) .
وعلى طول مساحة السرد الطويل نسبياً، لا نصادف وصفاً واقعاً داخل الحدث أو
خارجه إلا قليلاً، ويرجع ذلك إلى التصور الذهني للبناء الروائي، والغايات
الإبلاغية والدلالية المرجوة من النص، وفق مجموعة الكفاءات والمؤهلات
الفنية والمذهبية للكاتب . ولعل هذا ما يفسر هذا الهوس المبالغ من القيم
الإيديولوجية، مما أثر ــ في رأيي ــ سلباً، على البناء الفني العام
للرواية، فجاء أقرب إلى التقريرية، وغاب عنها البعد الجمالي، باعتباره
عنصراً رئيساً في كل عمل إبداعي . فعندما يريد الروائي تقديم قراءة نفسية
لشخصية منصور، فإنه يزاحم بين التقرير
المباشر لمجموعة صفاته السيكولوجية وبين المكاشفة الوصفية لهذه الخصائص،
وفق ما تعكسه مجموعة القرائن المكانية، والشحنات الرمزية، التي ينضح بها
المكان الموصوف المقترن بالشخصية .
المصابيح: يستغل الكاتب المكان الموصوف استغلالاً دلالياً بطريقة مؤقتة
وفورية بالقدر الذي يخدم الفكرة أو المقطع السردي الذي يتموقع فيه، ثم
سرعان ما يقطع تمفصله السردي عن بقية عناصر العالم الحكائي. فعندما يصف لنا
أمكنة المصابيح الأربعة المتبقية في القرية، بعدما أصاب غيرها التلف، يقدم
مقاطع وصفية متتابعة، مشكلة صورة كلية، تشير إلى أربعة أفكار منفصلة، وإن
كانت تجتمع وتصب في القراءة النقدية للمجتمع .
اختار الروائي العدد "أربعة" لما له من مرجعية دينية عند المسلمين، إذ يحيل
العدد أربعة على الخلفاء الراشدين الأربعة، وعلى الأئمة الأربعة، والمذاهب
الأربعة، التي كان لها عظيم الأثر في إنارة فكر المؤمن . وقد استعان
الروائي بهذه المرجعية الدينية، رافعا صوته لمنع الانهيار، ذلك أن السكوت
يعدّ تواطؤاً، لذا كان لكل مصباح علامة دالة في النص . فيستعرض الكاتب
أشكالاً مختلفة من المجتمع، أولئك الذين اتخذوا من الليل غطاءً لتحقيق
ملذاتهم بعيداً عن الأنظار، لا خوفاً من المجتمع والسلطة، وإنما هي فلسفتهم
في الحياة، وطقوسهم المتميزة التي يمارسونها في منأى عن عيون المنحطين
والمنافقين والمرائين، فصور منصور تلك الأعمدة التي كانت تنير درب أولئك
الأشخاص الذين لم يجدوا حرجاً في ممارسة حرياتهم تحت بؤرة النور التي
اخترقت الظلام الدامس . إن الأعمدة محطات لنماذج مستقاة من صميم المجتمع،
في حين كان الليل مساحة لتلك الأنفاس، التي تلهث في قناعة تبعث بلهيبها
الحزن في كل الاتجاهات، متخفية في ستار الظلام الدامس، الذي كتم شبق
الغرائز وحجب نور الحقيقة .
»فالمصباح الأول يتدلى من عمود ليس بعيداً عن بيته، وقد كان محجوزاً كل
ليلة بعد العاشرة لشاب لطيف من شباب الحي ... يظل يوقع على أوتار قيثارته
ألحاناً شعبية قديمة كان يتحلق حوله مجموعة من الشباب، فيأخذون في الغناء
... كان ذلك خاصة في ليالي الصيف .. أما الآن، فإن ذلك العمود هجره أهله
منذ أن قتل ذلك الشاب « (18) .
كان ذلك المصباح سراجاً ورمزاً للخصوبة والعطاء والاستمرارية والحياة،
عازفاً على أنغام قيثارته ألحانا شعبية، فتبعث العذوبة والراحة النفسية،
وتثير الشعور بالحرية والجمال، إلا أن هذا النور اغتالته أيد خفية، قد تكون
سلفية القرية الذين اعتبروه فاجراً بالعزف على مزمار إبليس، فاغتالوا
البراءة والفن بحجة الدفاع عن الدين .
»وأما العمود الثاني، فهو الذي ينتصب قرب دار البريد، وهو محجوز لليلة ما
بعد منتصف الليل لمجموعة من السكارى، وهم كذلك طيبون وظرفاء، ويشهد الله
أنه ما خالطهم وما نادمهم، لأن الخمرة لديه فلسفة، لديهم عبث وفوضى، وهي
عنده شهود وحضور وعندهم تلاش وغياب « (19).
يشير هذا المصباح إلى فئة أخرى من المجتمع، إنهم السكارى الذين أرهقتهم
هموم الحياة، فاتجهوا إلى الخمرة، التي جعلتهم ينسلخون عن حالهم الواضعي،
ويتيهون في غياهب اللذات والمجون .
»وأما المصباح الثالث فيتدلّى من عمود يقع قرب الحي القصديري المظلم من
سنين، كان لا يرى تحت ضوئه إلا طالب نجيب يراجع دروسه، وقد نجح في امتحان
شهادة البكالوريا، والتحق بمعهد اللغة العربية، ومن غريب الأمر أنه لم
يخلقه ومكانه سوى حمار بلا أهل، يخاف أن يقضي الليل في ظلام المروج « (20)
.
يشير هذا المصباح القريب من الحي القصديري إلى أزمة المثقف الجزائري،
وصراعه المرير، مع حال العوز والفقر الذي يحيط به . إنه صورة المثقف الذي
أرهقته الخيبة والهزيمة . وبعد انصراف الطالب النجيب خلفه حمار بلا أهل،
الذي يشير إلى المجتمع وقد فقد الوعي بعد أن أصبح الحمير يتربعون على عرش
الثقافة والقيادة في الوطن .
» وأما المصباح الرابع الذي يتدلى من العمود الرابع، وقد تجد بعض الحرج
وأنت تسمع إلى حديثي بشأنه . إنه يقع قرب كوخ امرأة سيئة السمعة، كان يتحلق
حوله بعض الزناة وطلاب الشهوة في ساعات النصف الثاني من الليل، وكانت
تعطيهم الإشارة بشمعة تشتعل وتنطفئ « (21) .
إنه يرمز إلى حالة الفسق والانحلال الذي آل إليه المجتمع الجزائري، فغابت
قيم الطهارة والعفة، وفقدت المرأة كرامتها وأصبح امتهان الرذيلة من بديهيات
الأمور. وإذا كانت هذه المرأة قد جاهرت بخطيئتها، فإن غيرها يرتدين قناع
العفة، ويمارسن أرذل السلوك ويختزنّ كل شرور العالم وأحقاده .
إن المتأمل لهذه المقاطع الوصفية يلحظ تشققها وضعف ارتباطها بالوحدة
الحكائية، التي تشدها، بالرغم من تعالقها الدلالي العامة للرواية .
وقد تجاوز الروائي الكثير من الجزئيات والعناصر المتشعبة، التي يتركب منها الشيء الموصوف، لذلك استخدم هذا الوصف المكاني بطريقة براغماتية، لخدمة أهداف بلاغية شمولية دونما زخرف .
ونقدم هذا المقطع الوصفي في محاولة استجلاء تشكلاته المورفولوجية وعلاقاته الدلالية حتى نقف على طبيعة الوصف والرواية باعتباره تقنية من تقنيات المكان :
»وقد تدخل يوماً ما غرفة نومه في دار أبيه القديمة، فإنك ترى ما يدهشك (..)
وأول ما يشد نظرك هذه الرفوف المتراصّة من الكتب السميكة والمجلدات
الضخام، وما يليها من كتب ذات تغليف عادي، وما يلي هذه في كتب أصغر من كتب
جيب، أغلبها روايات وقصص ودواوين شعرية ــ وهو له مساهمات في القصة والشعر
على كل حال ــ ويثير نظرك قصاصات الأوراق المتناثرة فوق طاولة النوم
وتحتها، هذه الفوضى الشاملة التي توزعت على أرضية الغرفة، من علب مصبرات
فارغة، إلى ألبسة قذرة، إلى جرائد كساها الغبار، إلى لعبة شطرنج تناثرت
حولها البيادق والقلاع، إلى سجادة صلاة لم تنطبع عليها جبهته منذ أسابيع،
إلى علب سجائر من مختلف الأنواع « (22) .
يميل الكاتب هنا إلى عدم الإسراف في تقدم خصائص المكان التفصيلية، ويكتفي
بمظاهره الأساسية المحددة لملامحه العامة فحسب، ويؤثر هذا الاتجاه حتى على
الشخصيات الروائية، ذلك أن الغياب الكامل لتفاصيل الديكور يجعلنا لا نعرف
الأبطال إلا من خلال أعمالهم الأساسية، وحركتهم الداخلية وتفكيرهم. فهذا
المقطع الوصفي ليس وصفاً خلاقاً ذلك أن الحدث الرئيسي الذي يعالجه الكاتب
هنا، هو تواجد منصور في الغرفة وحيداً وحالة من الفوضى، ثم تأتي تفاصيل ال