[center]
دلالة المكان فـي ديـوان
«طيور الجنة.. قصائد للشهداء» للشاعر هارون هاشم رشيد
قليلة هي ــ حتى وقت
قريب في نقدنا العربي ــ الدراسات التي اتخذت من المكان أداة للتناول
والمعالجة، ووسيلة للاتكاء على الأعمال الأدبية من خلال تلك التيمة سواء ما
تعلق منها بالشعر أو بالرواية، وإن كان حظ المكان من التناول في الرواية
أوفر من حظه في الشعر.
ولعل الاهتمام بدراسة
المكان ــ على مستوى الدراسات الأدبية الحديثة ــ إنما يعود الفضل فيه
لظهور كتاب «جماليات المكان» لغاستون باشلار في ثمانينيات القرن الماضي،
وفيه أصّل الكاتب لمفاهيم ورؤى جديدة لدراسة المكان وأنماطه ودلالته، وهي
دراسة ظاهراتية اهتمت بأسس المكان المادية من البيت إلى الكون الفسيح(1):
«انظر جماليات المكان»: غاستون باشلار، ترجمة: غالب هلسا دار الجاحظ /بغداد
1980)، وإن فاتها التركيز على دلالات النص الأدبي وبناه التحتية العميقة
ومراميه المجازية بغية الكشف عن غموضه، وبيان وقعه على المتلقي.
أهمية دراسة المكان الشعري:
للمكان أهمية كبيرة داخل بنية النص الشعري، فهو «الجغرافية الخلاقة في العمل الفني»(2).
(الرواية والمكان ص17ــ 18 الموسوع الصغير رقم 195 ياسين النصير ط: دار الشئون الثقافية العامة /بغداد).
والمكان في الشعر ليس مجرد أبعاد هندسية أو جغرافية أو
حدود مرسومة في الواقع أو على الورق، وإنما هو شبكة من العلاقات المجردة
المتداخلة التي تجمع بين الحسي الملموس والذهني المجرد، ومن ثم فإن «إضفاء
صفات مكانية على الأفكار المجردة يساعد على تجسيدها، وتستخدم التعبيرات
المكانية بالتبادل مع المجرد مما يقربه من الأفهام»(3).
(بناء الرواية ـ دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ، د. سيزا قاسم، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1984 ص75).
ومما ينبغي التنبيه إليه عند دراسة
المكان أنه يجب أن يتم تناوله ومعالجته من خلال تفاعله مع العناصر الأخرى،
من لغة وزمان وخيال وصورة شعرية وبنية قصصية.. وغيرها من العناصر التي تلعب
ــ متآزرة ــ دوراً تكاملياً في تضاعيف النص الشعري، «فالمرء بقدر ما ينظم
الفضاء ينظمه الفضاء، اختراق متبادل، تفاعل يُدْخِلُه المرء عبر سيرورة
تجربته في الوجود، وعبر اطراد تشكل تصوراته وخبراته، وتشييد معرفته»(4)
(شعرية الفضاء، المتخيل والهوية في الرواية العربية، حسن نجمي، المركز
الثقافي العربي/ الدار البيضاء ط5 /2000ص32).
يقتحم المكان إذن كل حياتنا، معيشة
وكتابة، واقعاً وحلماً، لذلك لا تأتي أهمية المكان في الشعر ــ في رأيي ــ
من كونه أحد العناصر الفنية فقط، أو باعتباره حيزا تتحرك فيه الشخوص فحسب
وإنما تنبع تلك الأهمية من تحول المكان المحدود المؤطر إلى فضاء واسع ممتد،
يحتوي كل العناصر داخل بنية العمل الشعري، إذ يمنح المكان في الشعر حيزا
ونطاقا لفعل الشخوص، ويحمل رؤية البطل، ويتقاسم معه البطولة بل ويكون
أحيانا هو البطل بلا منازع، ناهيك عن أن المكان قد يكون هو هدف العمل
الشعري وأساسه الذي بني عليه وأنشئ لأجله...
المكان بين الشاعر وشعره:
يحتل المكان في ديوان «طيور الجنة» أهمية كبرى، فهو يحمل
أشواق الشاعر في العودة والرجوع، حيث يمثل المكان للشاعر نفسه–على المستوى
الواقعي المعاش – قيمة كبيرة، وأهمية فائقة؛ فشاعرنا فلسطيني من غزة هاشم،
وقد عاش مرارة الحرمان من وطنه فشغل المكان/ الوطن/ العودة مساحة كبيرة من
إبداعاته كما وكيفا، لذا فإحساسه بفقد المكان إحساس عميق بل متجذر في
الأعماق، نابع من صدق إحساسه وحرارة مشاعره، فهو مكانه الأم، وموطن
ذكرياته، وهو يمتاز عن غيره من الأماكن كونه مقدّساً. إن المكان يستولي ــ
إذا كان بتلك الكيفية والحضور ــ على اهتمامات الإنسان، والإنسان الشاعر
على وجه الخصوص، وذلك «إذا كان المكان هو وطن الألفة والانتماء الذي يمثل
حالة الارتباط المبدئي المشيمي برحم الأرض «الأم»، ويرتبط بهناءة الطفولة
وصبابات الصبا، ويزداد هذا الحس شحذا إذا ما تعرض المكان للفقد أو الضياع،
وأكثر ما يشحذ هذا الحس هو الكتابة عن الوطن في المنفى»(5) (الشعر ومتغيرات
المرحلة: جماليات المكان:اعتدال عثمان بغداد / دار الشؤون الثقافية العامة
1986ص51 كما الحال مع شاعرنا الذي أجبر على ترك وطنه فكان ممن أطلق عليهم
«شعراء النكبة» أو «شعراء المخيم» الذين تؤرقهم قضية العودة ليل نهار، لذا
يعد من أكثر الشعراء الفلسطينيين استعمالا لمفردات
العودة/العائد/العائدون.. في كل دواوينه التي تجاوزت العشرين بداية من
ديوانه «مع الغرباء»1954 الذي رصد فيه معاناة فقدان الوطن، مرورا بـ «غزة
في خط النار»1957 و«حتى يعود شعبنا»1965 و«سفينة الغضب»1968 ووصولاً لـ
«طيور الجنة» 1998. الذي فاز بجائزة شاعر مكة «محمد حسن فقي» بالمشاركة مع
الشاعر المصري محمد التهامي عن ديوانه «نفثات»، ولعل أبرز ما يميز ديوان
«طيور الجنة» وحدة موضوعه حيث تنصب قصائده على بطولات شهداء القضية
الفلسطينية، فخلعت تجربة الشاعر في هذا الديوان ثوب الذاتية الضيق مرتدية
ثوب الإنسانية الفضفاض، ومن أهم ما يميز الديوان أيضاً بروز دور المكان
فيه، وجماليات ذلك المكان سواء من خلال المكان الأليف، أو حتى من خلال
المكان المعادي، مما دفعني للوقف عنده بالمعالجة والدرس، ورغم أن الديوان
يعتبر «بكائية عربية» فإن الشاعر استطاع من خلال صياغته الفنية أن يخلق
توازناً يجمع بين هدوء الفن وفوران العاطفة، فامتزجت ألفاظه وصوره في تجربة
إنسانية خالدة، جسدت بطولات هذا الشعب ومآسيه على نحو يشعر القارئ فيه بأن
هذا الديوان قد نفث الشاعر قصائده في أيامنا هذه، حيث حرب غزة الأخيرة،
وكأن الشاعر قد أزاح سجف الغيب ليرى ويحكي ما نراه الآن على شاشات التلفاز،
وعلى صفحات الجرائد من مآسي هذا الشعب الأعزل، وما أشبه الليلة بالبارحة،
وتلك هي قيمة الشعر الذي يحمل رسالة، ويعنون لهدف، ويطمح لغاية، وذلك سر
خلود الشعر وخلود صاحبه!!
وتأتي أهمية المكان في الديوان ــ
أيضاً ــ من خلال تحميله دلالات نفسية وأيديولوجية، ومن خلال إدراك الشاعر
له وإحساسه به، وإعطائه عناية فنية خاصة تمثلت في توظيفه لكل الوسائل
والتقنيات الفنية لصنع فضاء شعري شامل ومتميز في آن واحد بدءا من تسمية
المكان ووصفه لأجزائه ومشتملاته وأشيائه، ومروراً باختلاف منظور الإنسان
إليه، وتنوع مواقفه حياله متخطيا ذلك إلى الإحساس بامتداده، وتعدد أبعاده،
وتنوع دلالاته..
ولا شك أن إحساس الشاعر بالمكان وإمساكه به وسيطرته
عليه وتناوله له في هذا الديوان كان مكثفاً عميقاً، فلم يكن مكانا مسطحاً
غائماً، وإنما كان حاضراً ظاهراً، ذا تواجد فعلي بارز، ولا يحتاج القارئ
الحصيف إلى كبير عناء حتى يمسك بتلك الأمكنة ويحس بتواجدها ودورها الفاعل،
فمنذ البداية نجد العنوان والإهداء ــ وهما أول ما تقع عليهما عين القارئ
ــ يشيان بالمكان ويوحيان به بل وينصان عليه أيضاً، «ودراسة العناوين دراسة
سيميائية أوشكت أن تشيع في نقدنا الراهن، وكثر الحديث عن وظائف العنوان،
وعن علاقته بالنص، ونُظر إليه بوصفه نصاً موازياً ذا نظام دلالي رامز،
وبوصفه جزءاً من استراتيجية النص، وسوى ذلك»(6) (الشعر والناقد من التشكيل
إلى الرؤيا وهب رومية – عالم المعرفة – المجلس الوطني للثقافة والفنون
والآداب – الكويت ص114) فالعنوان «طيور الجنة»، والجنة مكان أليف محبب إلى
النفس، يحمل آمالا وأشواقاً كما يحمل كثيراً من الأبعاد النفسية والدينية،
وهي مرفأ الأمن في استراحة المسلم مع نفسه، وهي ــ(الجنة/ المكان) ــ ملجأه
الذي يفر إليه ــ ولو بخياله ــ إذا لاح من أمكنة الدنيا العداء، وهي
ملاذه إذا ادلهمت الحياة أمام ناظريه، وهي الغاية لكل محتسب، والأمل في
الخلاص من كل نصب...
والطيور مكون من مكونات الصورة المكانية، ومظهر من
مظاهر جمالياتها، وتكتسب وداعتها وجمالها هنا من إضافتها للجنة «طيور
الجنة» كما تزدان الجنة أيضاً بتلك الطيور.. هذا عدا «التناص» الذي يتماس
مع كثير من نصوص القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة التي تجمع بين
الشهيد والجنة من ناحية، وبين الشهيد والطيور من ناحية أخرى، باعتبار الجنة
سكن الشهداء ومأواهم، وباعتبار أن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تحلق
بها في الجنة، فتتماهى الجنة مع الطير والشهيد، وتتلاقى مكانيًا وزمانياً
من خلال ذلك العنوان الذي يجمع بين الواقعي والخيالي في إطار واحد، وفي آن
واحد أيضاً.
وإذا كانت هذه هي حال المكان مع العنوان ظهوراً
وتكشّفـاً فإنها لا تقل عنها مع الإهداء الذي يتلاقى فيه المكان و الزمان
مع الأحداث والشخوص؛ فالزمان نصف قرن منذ النكبة 1948 إلى العام الذي طبع
فيه الديوان 1998. والمكان: فلسطين بما تجسده من مقدّس ضائع، وبما تحمله من
معاناة شعب، وبما تكشف عنه من واقع أليم ينبثق من ضعف عربي مهين، وبما
تحمله ــ كذلك ــ للأمة من أمل في توحيد الصفوف ولمّ الشمل، والاجتماع على
كلمة سواء. والأحداث: أحداث متوالية لا يجف مدادها يوما حتى يسيل أياما
ولياليِ ما دام جرح المكان/ فلسطين ينزف...
المكان وأدوار البطولة
يظهر المكان من خلال البنية القصصية لقصيدة «المدينة
والبطل» ويطاول بسموق قامته ما عداه فيأبى إلا أن يكون البطل أو ــ على أقل
تقدير ـ شريكا رئيسا في البطولة، فتتوارى كثيراً بطولة الشهيد زياد
الحسيني قائد قوات التحرير الشعبية خلف بطولة المكان الذي يرتفع صوته منذ
البداية معلنا عن ذاته، فتتصدر المدينة/ المكان وتتقدم على بطولة الشهيد
منذ العنوان «المدينة.. والبطل». هكذا يبدأ العنوان فإذا اقتحمت عالم
القصيدة طالعك المكان شاخصا فما تكاد تقرأ أول بيتين من مطلعها حتى تجد
المكان حالّا في البطل أو تجد البطل منبثقا من رحم المكان/ المدينة/ غزة
فنهوض البطل وانطلاقه كان من المكان/غزة:
من «جرح غزة» من ليا
ليها المعكرة بالســــــــــواد
تلك المدينة التي تخطت بطولتها بطولة شهدائها، فهي مصنع الأبطال، وواهبة الشهداء الصمود:
ومدينة تهب الرجـــا
ل إلى الفداء بلا عِـدادْ
أعطتك كل الحب كلْـ
لَ الشوق أعطتك العنادْ
فكأن صمود الشهيد نابع من رحم صمودها، فأضحى صموده عنوانا على صمودها وتجسيدا وتخليدا له:
فصمدت في وجه الطغا
ة ترود معركة البلادْ
وبمجرد أن حمي وطيس المعركة ذابت
الشخوص في المدينة/ المكان، وحلّت روح المكان في قلوب الشهداء، فغدت
المدينة/ المكان بأشيائها وعناصرها وكل مشتملاتها أبطالا في المعركة، فما
أن «تتوالى الضربات ويشتد الطراد» حتى يحضر المكان حضوراً له أثره الفاعل،
حيث تعلو بغزة/ المكان ثورة تشمل كل تفاصيلها حتى حبّات رملها، وتتحول إلى
مدينة «محظورة» فتستحيل موتا وعنادا، فهي إما معرقِلة لخطى الغزاة وإما
معيدةُ لها، وما تلك العرقلة أو الإعادة إلا «بيد البطولة» بطولة المكان
قبل الأشخاص، ليُمسح العار، وتًَُخط أساطير النضال:
وعلت بغزة ثورة توالت الضّـــ
ربات، واشتدّ الطِّـــــرادْ
في كلّ حبــة رملــةٍ
نارٌ، ووهجٌ، واتِّقـــادْ
محظورةٌ هذي المديــــ
ـنة فهي مـوت، واعتـدادْ
أنّى تدور خطى الغــــزا
ةِ بها، تعرقـلُ، أو تُعــادْ
بيدِِِ البطولةِ تمســـحُ الـ
عارَ المشينَ والاضطهـادْ
خطّتْ أساطيرَ النِّضـــا
ل دماً أقاصيصاً..تِــــلادْ
ويحتل المكان/غزة بعدا فكريا عقائديا
من خلال ترسيخ عقيدة الجهاد، كما يحتل بعدا تاريخيا من خلال نضال تلك
المدينة الباسلة عبر أجيال متعاقبة، مما جعلها تزهو بتاريخ أبنائها، أو
يزهو أبناؤها ويفخرون بانتمائهم لها:
ردت لأمتنا الجها
د المر، فكرا واعتقاد
وزهت بتاريخ الرجو
لة لا اقتباس لا اجتهاد
منها من النبض الجري
من التمرس والسداد
ويظل المكان محتلا الصدارة، متمسكا
بدور البطولة في قصيدة «جرحان»، وهو وإن امتزج بالزمان من خلال (تاريخ
قانا) فإنه يظل صاحب اليد الطولى، فهذا التاريخ استمد قيمته من إضافته لـ
«قانا» وهو مكان امتزج فيه التاريخي بالآني من خلال تلك المجزرة الوحشية
التي شهدتها قانا تاريخاً ونشهدها الآن واقعاً ملموساً، مَشاهداً حية،
وانفتح فيها الداخل على الخارج، فاستبيح المحرم، وفقد «الممنوع» امتناعه،
ولم تعد لـ «البيوت» حرمة «فانتهكت بالنار..» و«التهم خميلها» وأتى الأعداء
على الأخضر واليابس فيها، فلا «نخيل» نجا ولا «زيتون» رُحم أو عُصم.. وخص
الشاعر هذين النوعين من الأشجار «النخل والزيتون» لأنها رموز تطرح بظلالها
وثمارها أمكنة أليفة، كما تؤكد على التجذر في المكان والتمسك به، فهي من
الأشجار المعمرة الضاربة بجذورها في الأرض، فكأنه يقول: إن ثبات أهلها من
ثباتها..وهذه الأشجار كما حملت أبعادا مكانية حملت بل طرحت أزمنة متعاقبة،
فهما – النخيل والزيتون ــ تحملان عمرا وتاريخا كما تحملان «المقدّس» أيضاً
((والتين والزيتون وطور سينين))، ((والنخل باسقات لها طلع نضيد))...
لتلتقي كل تلك الأمشاج مصورة بشاعة الجرم في «قانا/ المكان»، ويمتد الشاعر
بالمكان ليتخطى قانا فيصبح كل الجنوب رافدا للشهداء وليس قانا وحدها...
أنماط المكان في ديوان «طيور الجنة»:
تعددت أنماط المكان عند الدارسين، ولم يكن هناك نمط
معين أوثر بالدراسة والتناول دون غيره، وإنما يرجع ذلك لطبيعة النص
وإيحاءاته الثرة، وإحالاته المتعددة، ولا يقف الأديب بعيداً عن المكان،
وإنما تشكل بيئته جزءاً كبيراً من تشكيله لأمكنته، ومن ثم حمل المكان
دلالات مختلفة، واحتوى أنماطا متباينة، تحكمها في اختلافها وتباينها طبيعة
النص الأدبي ونظرة الشاعر إلى المكان، وأثر ذلك وانعكاسه على نتاجه الشعري،
ومن ثم ظهرت أنماط المكان من خلال ذلك النتاج، وبإيحاءات منه، فاختلفت تلك
الأنماط تبعا لما يشعه النص من إيحاءات، وما يحمل من إحالات، وقد ظهر
المكان في ديوان «طيور الجنة» من خلال أنماط عدة لعل أهمها:
أولاً: المكان الأليف:
هو كل مكان عاش في الإنسان وشعر فيه
بالحماية والدفء، وأحس تجاهه بالألفة وشدّه الشوق إليه كلما بعد عنه، ومن
ثم يشكّل هذا المكان مادة للذكريات.. غير أن إلف المكان أو عداءه إنما
تحكمه الحالات النفسية الخاصة التي يمر بها الإنسان بصفة عامة والشاعر بصفة
خاصة.. ومن الأمكنة الأليفة، نجد:
الأمكنة الطبيعية، صامتة وحية:
ونجد منها تلك القلاع التي تعتبر أمكنة حربية، وقد
تجلى دور هذه القلاع من خلال قلعتي شقيف وبرقوق، أما قلعة شقيف فقد برز
دورها من خلال تلك المعركة الضارية التي شهدتها في حزيران/يونيه 1982 بين
جنود الاحتلال مزودين بالعدة والعتاد، يحميهم غطاء جوي كثيف من الطيران
المحلق فوقهم، وبين المقاومين الذين صمدوا فظفر منهم ثلاثة وثلاثون
بالشهادة...
تطل هذه القلعة/ المكان برأسها من بداية القصيدة بل من
أول كلمة في أول بيت «عند تل...» بما تحويه «عند» من ظرفية مكانية، فهي
ظرف غير متصرف قد يترك الظرفية إلى شبهها كما يقول النحاة ..
عند تل على الزمان منيف
طأطئ الرأس خاشعاً «لشقيفِ»
يمتزج الزمان بالمكان هنا، فالمكان
«عند تل منيف» والزمان يمنح الخلود للمكان، فعند مرورك بذلك التل المنيف
الحاضر في الزمان والمكان عليك أن تخفض رأسك إجلالا لذلك المكان الذي
يتنازع البطولة مع (البشر/ المقاومين والشهداء) ثم يسحب المكان بساط الحضور
والتواجد والفاعلية من تحت أقدام الزمان والشخوص فينفي الشاعر أن يكون
هناك مكان للبطولات في ذلك الزمان الذي يناديه (يا زمانا) بالمد المجسد
للوم والعتاب.
ولا شك أن إحساس الشاعر بالمكان
وإمساكه به وسيطرته عليه وتناوله له في هذا الديوان كان مكثفاً عميقاً، فلم
يكن مكانا مسطحاً غائماً، وإنما كان حاضراً ظاهراً، ذا تواجد فعلي بارز،
ولا يحتاج القارئ الحصيف إلى كبير عناء حتى يمسك بتلك الأمكنة ويحس
بتواجدها ودورها الفاعل
ويكتسب المكان هنا بعداً تاريخياً
جديداً من خلال ذكره «لجذور الزيتون» الذي أراده الشاعر ثابتاً راسخاً،
يضرب بقوة في العمق الزماني والمكاني، فشبه الجنود الثابتين أمام الاحتلال
بجذور الزيتون التي تضرب بجذورها في الأرض ثباتاً ورسوخاً، ولم يكتف الشاعر
بهذا الوصف والتشبيه فأضاف إليه جملة «وتعتلي بالقطوف» ليكون ثبات
المقاوين ذا معنى، فهو ثبات وصمود مثمر، فأقدامهم ثابتة كما جذور الزيتون،
وقطوفهم الشهادة أو النصر والمحافظة على القضية حية... ص51
انظـــر الواقفين صفــا لصـــف
كالبنـــاء المشيــد المرصوف
كجذور الزيتون تضرب في الأر
ض ثباتا، وتَعتلي بالقطـــوف
وقلعة شقيف هنا رمز أو صورة للمكان
الأليف.. ذلك المكان الذي يثير الإحساس بالحماية والأمن والاحتواء والألفة،
حيث يشكل المكان هنا الحماية الحقيقية، فالمقاومون تولد لديهم الإحساس
بالقوة والمنعة من وجودهم في هذه القلعة المنيعة، ومن ثم تصدوا للخطر
المتمثل في الصواريخ والطائرات، فأصبحوا أقوى من «زاحفات أذاهم» على حد
تعبير الشاعر، ويتسع المكان الأليف ليشمل فلسطين بكل شبر من ثراها، ولو كان
ثرى مدمرا أو منسوفا.. يصور الشاعر ذلك فيقول: ص52
نحن في القلعة المنيعة أقــوى
من صواريخ غزوهمْ والزحوفِ
نحن أقوى من طائرات توالى
فوقنا، بالرفـــــوف إثر الرفوفِ
نحن أقوى من زاحفات أذاهمْ
وهي تنساب نحونا بالألـــــوفِ
من فلسطين نحن من كل شبر
من ثراها المدمَّر المنســــــوفِ
وتتعدد الأماكن وتتوالى مجسدة صور
النضال في فلسطين؛ في رباها، في السهول والبر والبحر والشارع والرصيف...
وكأن المكان كلّ المكان بكل تفاصيله وجزئياته هو صورة لذلك النضال
والصمود..
إذا كان المكان ــ متمثلاً في قصيدة «قلعة شقيف» ــ
قد ظهر أحياناً وتوارى أحياناً أخرى فإنه هنا ــ في قصيدة «الجدار الحزين..
أو قلعة برقوق» ــ قد سيطر على الجو العام للقصيدة كلها، وأصبح عنوانا
للنضال ورمزا للصمود، واكتسب بعداً إنسانياً من بداية القصيدة بل من
عنوانها: «الجدار الحزين..» وهذا الجدار هو جدار قلعة برقوق الذي وقف
شاهداً ــ مع الشاعر ــ على مجزرة من مجازر الاحتلال الصهيوني بمدينة خان
يونس في الثالث من نوفمبر 1956.. أو قل: هو جدار الصمود الممتد في الزمان
والمكان معا..
يلتقي المكان الآني هنا بالمكان /الذكرى حيث يعود
الشاعر إلى قلعة برقوق في خان يونس بعد سبعة وعشرين عاماً من الغياب، فيجد
المكان غير ذلك المكان الذي عرفه، والمدينة غير المدينة التي ألفها بكل
خباياها ومكوناتها المكانية، فيسأل سؤال الحائر المندهش: أقلعة برقوق هذه؟
وهو سؤال يحمل نفي أن تكون هذه القلعة هي قلعته التي عرفها، وألف النظر
إليها، وتختلط المشاعر، وتتزاحم الخواطر، ويلف مشهد الدهشة الممزوجة بال
بالإبعاد حسرة أرجاء المكان، فيذوب الشاعر فيه وكأنه قد فقد الإحساس
باتجاهات المكان وأبعاده فيقول مصوراً ذلك: ص105.
وقفت «بخان يونس»
هذي المدينة، ذات الرنين
أحدّق.. خلفي أمامي،
وذات الشمال، وذات اليمين
وفي المقطع الثاني من القصيدة يعمد
الشاعر إلى خلق «معادل موضوعي» يتماس مع «قلعة برقوق»، فيسائلها ــ
والمساءلة غير مجرد السؤال ففيها مشاركة وتبادل ومجاذبة لأطراف الحديث ــ
قائلاً: ص106
أسائلها، وأنا واقف.. شاخص
أمام الجدار الحزينْ:
أقلعة برقوق هلْ تذكرينْ؟
هنا عند هذا الجدار،
الأسير الطعينْ..
هنا يوم جاءوا بأبنائكِ
الغرّ والطيبين..
لقد أضاف الشاعر للمكان في هذا المقطع أبعادا متعددة،
حيث المعادل الموضوعي، وإضافة البعد الإنساني من خلال ذلك السؤال الذي
يحاول من خلاله الشاعر استجداء الذكرى والتذكر من تلك القلعة: أقلعة برقوق
هل تذكرين؟ وكأن القلعة/المكان ترفض الجواب وتتأبى عليه، ربما لغضب
المكان/القلعة من تركه لها، وربما من إهمال غيره إياها.. فيعود للتأكيد على
معرفته بالمكان، وذكرياته معه، فيعيد على مسامع القلعة ما يريد تأكيده
قائلاً: (هنا) وهو ظرف يرسخ الإحساس بالمكان، ويؤطّر الإدراك لأبعاده، خاصة
على الأحداث والزمان والأشخاص أيضا.. يقول الشاعر:
تساقط أبناؤك الأبرياءُ
أمام الرّصاص الكريه اللعينْ
صَرَختِ، وضاع الصّدى في المدى،
وما زلتِ من يومها تصرخينْ
لقد فتح الشاعر داخل المكان على
خارجه، وأغلقه على مفتوحه، وضيقه على واسعه، فانتقل من الحديث عن مكان محدد
صامت (القلعة) فأخرج الشاعر تلك القلعة /المكان عن صمتها ومحدودية أبعادها
من خلال صرخة المكان، تلك الصرخة التي لم يشأ الشاعر أن تظل مكتومة داخل
المكان، وإنما جعله يطلقها بل ويكرر إطلاقها باستمرار «وما زلتِ من يومها
تصرخينْ»، ولو ضاع صدى الصوت والصراخ في ذلك المدى الواسع الفسيح... تُرى
هل هي صرخة المكان؟ أم هي أصداء صراخ ساكنيه؟ أم هي صرخة تجمع بين المكان
وساكنيه معا؟.. وما جدوى ذلك الصراخ إذا كان صداه ضائعا في المدى؟ هل يريد
الشاعر استمرار المكان في الصراخ ليظل صوته مذكّرا كل متكاسل عن نصرته
متخاذل عن إنقاذه وتلبية صرخته؟ أم هل هي صرخة تظهر للأعداء أننا ما زلنا
أحياء وصراخنا هو دليل نبض الحياة فينا؟ أم هي صرخة تؤطر للبقاء في
المكان/الأرض مهما ارتكب المحتل من جرائم؟!
توقفت أذكر أسماءهم،
أكاد أراهم أماميَ في دمهمْ غارقينْ
يدٌ في الجدار،
وأخرى على الأرض
مغروسة في تراب، وطين..
ويرتد الشاعر هنا مرة أخرى للذكرى،
ولكنها ذكرى تحمل إلى مخيلته ووجدانه وفكره أسماء من قضوا نحبهم، فهم
ماثلون أمامه بأسمائهم.. بدمائهم التي غرقوا فيها، «وأيديهم متمسكة
بالمكان»، يد في الجدار، وأخرى على الأرض، مغروسة في تراب «وطين» وكأن
المكان سيظل حاضراً ثابتاً، وليس حضوره وثباته نابعا من ذات المكان فقط بل
من تلك اليد التي تمسك به.. تثبّته.. تتشبث به..وبوجودها فيه..
ومن ذلك الجدار الحزين إلى «الوقوف الحزين» ص61.. هناك
أمام أبشع جريمة في حق بشر.. أمام التجرد من كل معاني الإنسانية..هناك
أمام المكان /مخيمي صبرا وشاتيلا، حيث يتصدران المشهد:
«أصبرا، شتيلا» ما أقول وأنظم
ومُرٌّ حديثي، والقصائد علقمُ؟!
هنا تلتقي صورتان للمكان، والمكان واحد، فصبرا وشاتيلا تجسدان صورة للمكان الأليف، حيث خيم فيه وأقام به الأحبة:
«أصبرا، شتيلا» أيُّ دار عـزيزةٍ
وأيُّ أحباء، أقاموا، وخيّمـوا
همو عسكروا في الانتظار لعودة
إلى وطنٍ، يزهو بهمْ ويُكرَّمُ
كما تجسد صبر وشاتيلا ــ في ذات
الوقت ــ صورة للمكان المُعادي، وذلك بما تحمل من ذكريات أليمة في نفس
الشاعر، فيستحيل معها الحديث مُرّا، وتصبح القصائد علقما:
«أصبرا، شتيلا» ما أقول وأنظم
ومُرٌّ حديثي، والقصائد علقمُ
البحر وجدائل الزيتون باعتبارها أماكن طبيعية أليفة:
رغم أن قصيدة «الشهيد المجهول» تتحدث عن الشهيد
فترثيه، وتعدّد مآثره، فإن الشاعر لم يستطع عزل لوحته الفنية عن تجاوب
عناصر الطبيعة فيها، فحنت تلك العناصر ــ متعاونة ــ على الشهيد المجهول في
مشهد فني رائع، وظف فيه الشاعر تلك التيمة المكانية ــ من خلال تآزر
الصامت مع المتحرك ــ في رسم مشهد عام، وصورة إنسانية كلية، سمعية وبصرية
في آن واحد، فتطالعنا صورة الشهيد ــ في مقدمة المشهد ــ وهو محمول على
الأعناق، مكفنا وعطرا بدمائه الزكية.. وفي جنبات المشهد تظهر الشمس في صورة
فتاة تسحب ذيلها في خفر خلف الشهيد، فتشع وتسطع، وتقتبس ضوءها من دفق
ضيائه، فكأنه مصدر ضوئها، وسر سطوعها، وسبب إشعاعها.. وتحت ظلال هذا المشهد
العلوي تظهر أغصان الزيتون وجدائله فتشارك في إضفاء جو الرحمة والحنو
والدلال على خلفية أخرى من خلفيات تلك الصورة الممتدة التي تشعرك بأنك في
عرس حقيقي تشارك الطبيعةُ/المكانُ الشهيدَ، فإذا بالحمائم أسراباً تهدل،
وتعزف أجمل الألحان من فوق الشهيد المحمول على الأعناق، وقد كانت قبلُ
هائمة بأحزان ذلك الشهيد وشجوه وعنائه حال حياته.. ليلتقي الصامت بالمتحرك
من عناصر الطبيعة ويشترك في رسم اللوحة..
وحتى تكتمل تلك اللوحة جمالاً وحسنا، وتزداد رونقا
وبهاء وصفاء، تظهر صورة البحر «يرغي موجه» مضفيا على اللوحة لمسة جمال،
ومُظْهِرَاً الحزن على فقد الشهيد المجهول، ليكتمل للوحة جمالها فيلتقي
الماء متمثلا في البحر، بالخضرة متمثلة في «جدائل الزيتون» بالوجه الحسن،
وهل هناك وجه أجمل وأنقى وأطهر من «وجه شهيد»؟!!
إنه عرس حقيقي صنعته الطبيعة للشهيد المجهول، وكأن لسان
حالها تعويضه عن عدم الاستدلال عليه من البشر، فاستدلت هي عليه، وفرحت به،
وشاركت في زفافه واعتنت به عناية تفوق عناية الناس به.. إنه عرس الشهيد،
وحضوره، لا غيابه.. يقول الشاعر مصوراً ذلك كله:
حملوا الشهيد مكفنا بلوائـــــــــه
ومعطرا، ومطيبا، بدمــــائــــهِ
الشمس تسحب ذيلها من خلفـــه
وتُشعّ، ساطعة، بدفق ضيائــــهِ
وجدائل الزيتون تُرخـــي دلّها
تحنو عليـــه، تلُفُّــــه بردائــــهِ
وحمائمٌ أسرابُ تَهْدل فوقـــــه
كانت تهيم بشجوه، وعنائــــــــهِ
والبحـــــــر يرغــي مـــوجُـــهُ، فكأنه
من بعض غضبته، وبعض رُغائهِ
ويتماهى المكان مع الشهيد فتحل
القرية والمدينة بل والوطن كله في الشهيد، أو يحل هو فيها ويتوحد معها،
ففلسطين أمه الأولى، وهو نبتها وعبيرها، و«شذاها المنتشر» على حد تعبير
الشاعر:
من أين..؟ أي مدينة أو قريــة
حملت به وتعطّرت بروائه
تتزاحم الأكتاف، وهي تَشيله
مزهوّة، بشموخـــه، وإبائــه
وطنٌ، يَخِفُّ إليه، يوم وداعه
ويضمّه بالشوق في أحنائـه
هو فيه ساكنةٌ فلسطينُ التـي
حملت به وازّينت ببهـائـــه
هي أمه الأولى التي كم شفّها
شوق إليه، وحرقة للقائـــه
هو نبتها، وعبيرها، وأريجها
والرائعُ المنشورُ من أشذائه
البيت /المكان:
يعد البيت من أهم الأمكنة الأليفة في حياة الإنسان –إن
لم يكن أهمها ــ وفي حياة الإنسان الشاعر على وجه الخصوص، فالبيت هو أول
نقطة انطلاق في رحلة التواصل بين الأنا والآخر، فيه ذكريات ماضيه، وعلى
جدرانه ترهات طفولته، وأهازيج صباه، فيه حاضره المعيش، وحلمه المتخيّل،
ومستقبله المأمول.
والبيت هو المأوى، وأول عتبات
الاستقرار، وأهم محطة لتلاقي الذكريات والأحلام والأفكار، وبدون البيت
«يصبح الإنسان كائناً مفتتا»ص45 (جماليات المكان /غاستون باشلار/ترجمة:
غالب هلسا/دار الجاحظ /بغداد 1980).
وللبيت في الشعر حضور بأشكال وصور
مختلفة، وله دلالات تتسع وتضيق بحسب الأثر والتواجد والتفاعل بينه وبين
ساكنيه، فكما يرتبط البيت/المكان بالحب والمرأة والأسرة، فهو أيضاً بيت
الغربة والفراق، و البيت هو الذكرى كذلك، وكما يظهر في الرثاء يظهر أيضاً
في المدح والغزل لأنه «يعد سجلاً لمشاعر وحياة الإنسان، وعلى جدرانه تواريخ
الأيام الماضية، والأيام الباقية، ولذا فهو الرحم الاجتماعي الأكثر عرضة
لتقلبات الأيام» (دلالة المكان في قصص الأطفال ص27 ــ ياسين النصير ــ دار
ثقافة الأطفال ــ بغداد ط1ــ1985).
وإذا كان للبيت روح وحياة، فروحه
وحياته من أرواح ساكنيه وحيواتهم، وغالباً ما تنبع أهمية البيت من أدوار
ساكنيه ورسالتهم في الحياة، لذلك أعطى هارون هاشم رشيد البيت البطولة مع
الشهيد، بل نص على تفرده بتلك البطولة فخلصت قصيدة كاملة لتلك البطولة فجاء
عنوانها: «البيت الشهيد».. وأصبح البيت ــ كما الشهيد ــ هدفا للقصف
ولنيران الأعداء، ولطالما كان البيت هدفا للقصف مع تيقن الأعداء عدم تواجد
صاحبه فيه، وذلك لعلمهم بمدى الخسارة المعنوية ــ قبل المادية ــ التي
ستلحق بصاحبه عند علمه بهدم بيته، مكمن أسراره وذكرياته، ومنطلق أحلامه
وآماله، وموئل زوجه وأولاده، لذلك يسارع العدو الإسرائيلي بنسف بيت الشهيد،
حتى بعد صعود روحه لبارئها، وكأنهم يريدون طمس بطولات صاحبه، أو محو ذكراه
من مخيلة أهله وذويه، أو ــ ربما ــ لا يريدون وجود ما يذكّرهم بروح
المقاومة.. وفاتهم أن الشهيد حي في وجدان كل حر أبيّ، حاضر في ذاكرة أمة
نابضة حية ــ وإن أصابها بعض الوسن ــ لذا بدأ الشاعر قصيدته بالجمع بين
البيت والشهيد في عنوان واحد، وصورة واحدة، ومصير واحد، فكما أصبح الشهيد
كذلك أصبح بيته، وكما تناثرت أشلاؤه كذلك تناثرت أجزاء بيته.. إذن هو مصير
واحد، ومآل واحد، وكأن البيت يأبى إلا أن يكون شريكا للشهيد في شهادته كما
كان شريكا له في نضاله وكفاحه حال حياته.. يمزج الشاعر بين البطلين –البيت
والشهيد ــ في مشهد واحد فيقول: ص121
كما أنت..كذا بيتك يا «عياشُ» قد نُسفـــــــا
تطاير مثلما أنت.. تناثــــر ضــــائعا نَتَـــفــا
لأن الغدر، ما بدّل فـــي شـــيء، ولا اختلفـا
لأنك عاشق الأرض التي روّيتها شــــــــرفا
لأنك ذلك الفادي، الذي لا يعـــــــرف التّرفا
لأنك جُرْحُ هذي الأرض كمْ أعطى وكم نَزَفا
لأن الغدر هو الغدر لم يختلف تعامله
مع البشر، ومع الجماد والشجر، وكذا حاله في كل العصور يقدّم الشاعر بعض
التفسيرات لذلك القتل والاجتياح، وهي تفسيرات تستبطن نفسية المحتل، وتظهر
نمط تفكيره، كما تُظهر اختلاف الرؤى بين الشهيد وبين غيره من طلّاب الدنيا،
فالشهيد عاشق الأرض، يرويها بشرفه لأنه فدائي لا يعرف حياة المترفين، وهي
صفة كما تنسحب على الشهيد تنسحب كذلك على بيته أيضاً، فالشهيد ليس مترفا
متخما، كذلك بيته ليس فيه من مظاهر الترف والبذخ شيء مما في بيوت غيره ممن
لهم أهداف في الدنيا غير هدفه.. فالمشاركة بين الشهيد وبين البيت ما زالت
مستمرة، ومن ثم لاقى البيت ما لاقاه صاحبه من القصف والنسف، ووقف صامداً ــ
مثل صاحبه ــ في سبيل الله، يواجه ضربات الغدروالإرهاب بلا خوف ولا أسف،
فلا عجب إذن أن انصرفت صفات الحرب والقتل على البيت وأبوابه وغرفه، فحورب
البيت، وقتلت أبوابه وجدرانه وغرفه:ص121
فلا عَجَبٌ.. إذا ما جار هذا البغيُ واعْتَسَفا
وماَ عَجَبٌ.. إذا ما جُنَّ من خوفٍ وإن رَجَفَا
وإن جمّع، ما جمّع.. من جيش، وإن زَحَـفا
يحارب، يقتل الأبواب، والجدران والغر فا
ومثْلُك، في سبيل الله، بيتُك صــــامدا وقفا
ليلقى ضربةَ الإرهاب، لا خوفا، ولا أسفا
إن مثل هذه الصور الممزوجة بالصمود
والعزة والفخار، المشبعة بروح التضحية والفداء كما انبعثت من بطولة الشهيد،
فإنها ولدت من رحم البيت/ المكان، لأن البيت ــ كما يقول باشلار: «أكثر من
منظر طبيعي؛ إذ هو حالة نفسية» (باشلار ص105).
ويختتم الشاعر قصيدته باستفهام يشمل البيت كما يشمل
ساكنيه، ليظل البيت/ المكان مشاركاً لأهله، ملتحما معهم، فكما بدأت القصيدة
بالجمع بين البيت / المكان وبين صاحبه الشهيد، تختتم القصيدة أيضا بالجمع
بين البيت وبين ساكنيه من خلال ذلك الاستفهام الذي يشملهم جميعاً، كما يشمل
ما يتشدق به الاحتلال ويزعمه من قيم العدل والسلام والمساواة وغيرها من
القيم التي ينظرون إليها بعين واحدة، فهي تطبق ما دامت تخدم أغراضهم، وإلا
فهي سلاح مشهر في وجه من يخالفهم، يقول الشاعر: (ص122).
ترى ما ذنبه بيتك؟ ماذا يا ترى اقتــــرفـا؟!
وما ذنب الأب المكلوم، والأطفال والضُّعفا؟!
وأين العدل.. ما قالوا فما ساوى ولا نصفـا؟!
وأين هو السلام..تراه عنّا مـال وانصــــرفا؟!
لقد اعتبر الشاعر البيت كائنا حياً،
أو بالأحرى إنساناً يسمع ويرى، يحس ويشعر، يصمد معهم في وجه أعدائهم، حتى
إذا قضوا نحبهم قضى معهم، فارتبط بهم في حياتهم ومعاشهم، وشاركهم نفس
المصير..وبعد ذلك كله ألا يستحق البيت/ المكان أن يشارك الشهيدَ البطولة في
القصيدة كما شاركه فيها في ميدان القتال، وواقع الحياة؟!
ثانياً: المكان المعادي:
ويسمى المكان المضاد ــ أيضاً ــ لأنه نمط من المكان
مضاد للمكان الأليف، وربما كان ارتباط الذات بالمكان الأليف نتيجة لوجود
المكان المضاد الذي يهدد بزوال ذلك المكان الأليف («انظر » المكان في أعمال
السحار الروائية: دراسة فنية: رسالة ماجستير للباحث من دار العلوم جامعة
القاهرة ص136) وعدائية المكان إنما تكتسب من الظروف والملابسات التي تحيط
بالمكان، فالأليف قد يصبح معاديا إذا فقدنا فيه عوامل الراحة النفسية،
والعكس بالعكس سواء بسواء، ومن ثم فإن الأمكنة المعادية ترتبط بالحالة
النفسية للشاعر، وربما يمثل المكان المعادي هروباً من تلك الأماكن التي
فقدنا فيها الأمن والانسجام النفسي.. وقد يصبح المكان بعيداً عن دواعي
السعادة والسرور، ومن ثم «يتحول إلى رمز وقناع لحالات الشكوى والعذاب التي
تختفي وراء هذا النص أو ذاك، ويسمح لفكر المبدع أن يتسرب من خلاله إلى
الآخرين فيبثهم شكواه وعذابه» (انظر جماليات المكان ص23 مجموعة باحثين دار
قرطبة ــ الدار البيضاء ط2/1988).
ومن تلك الأمكنة المعادية: القبر؛
فهو حقيقة واقعة، ونتيجة حتمية بعد رحلة عناء للإنسان في الدنيا، ومهما
طالت هذه الرحلة فلا بد من نهايتها، ولا بد من المرور بعتبة القبر، وهو
مصدر حي للعبرة والعظة «من أراد واعظا فالموت يكفيه..»، وبمجرد أن يتطلع
الإنسان للقبر تتداعى ذكريات من رحلوا أمام عينيه، ولكنهم رغم رحيلهم قد
تركوا لنا ذكرياتهم، وسِيَراً من أعمالهم تحيا بيننا..
وفي القبر يتوحد الزمان والمكان فيصبحا شيئاً واحداً،
كما تتحول الأمكنة وتتبدل الأدوار، فيصبح السفلي منها علويا، ويلتقي فيه
المنخفض بالمرتفع، والضيق بالفسيح، والمغلق بالمفتوح... فهو مكان غير محدود
يضم كل أنماط المكان، ويحتوي كل دلالاته، وهارون هاشم رشيد في تناوله
للقبر (هنا) لم يقف به عن حدوده الضيقة الشاخصة الماثلة أمام العين
للناظرين، وإنما تعداها إلى كل قبر ضمّ شهيداً، بل واختار أكثر الأمكنة
قداسة ليجعلها قبرا للشهيد ــ «الأقصى» ــ وقد استحضر الشاعر القبر من
خلال ندائه للشهيد الراقد فيه:
أيها الراقد في الشام وفـــي «ال
ملة البيضاء» يرتاد الفضاءَ
واختار له مكانا فسيحاً واسعاً
مفتوحاً ليجعله مثوىً له «الشام ــ الرملة البيضاء ــ غزة ــ قبة الأقصى»،
بل أبى أن تكون تلك الأمكنة ــ على تعددها واتساعها ــ هي مثوى الشهيد بل
يختار له مكان مفتوحاً غاية في الاتساع، إنه الفضاء كله قبرا للشهيد..
أما روح الشهيد، الطاهر فترفرف على مكان فسيح هو «وطن»
بأكمله، ويربط الشاعر بين طهر روح الشهيد وبين قداسة المكان، فيختار لتلك
الروحِ القدسَ، بل يجعلها تحلق عاليا في الزمان والمكان وفي المقدّس، هناك
«على قبة الأقصى» ينادي البسلاء: (ص79)
روحك الطاهر في القدس على
قبة الأقصى ينادي البســلاءَ
روحك الطاهر في «غزتنـــــا»
في نواحيها يناجي الأصدقاء
يوقظ الكامــــــن من غضبتها
يشعل الثورة، يهدي البسطاء
إن اختيار المكان هنا له دلالته حيث
«قبة الصخرة» «غزتنا» ــ لاحظ أن الإضافة لـ «نا الدالة على المتكلمين تؤكد
التمسك بالمكان والاعتزاز به، وكأن روح الشهيد لا تفارق الأحياء في
الدنيا، فالشهيد معهم، وإن كان يناديهم من علٍ «على قبة الصخرة»، فمنزلته
عالية سامقة بما سطره من ملاحم البطولة في الدنيا، وبما خطه من مجد بتضحيته
بأغلى ما يملك..بروحه التي استحقت مكانة لا تضاهيها مكانة..في الجنة..
ثالثاً: المكان اليوتيبي /المتخيل/ المفتَرض:
هذا المكان هو ابن المخيلة، ومن ثم « تتشكل أجزاؤه وفق
منظور مفترض، وهو قد يستمد بعض خصائصه من الواقع إلا أنه غير محدود، وغير
واضح المعالم» (الرواية والمكان ياسين النصير/ بغداد /الموسوعة الصغيرة
ج1ط1980 ص27).
والمكان في ديوان «طيور الجنة» ليس هو المكان الواقعي
الخارجي، وإن عيّنه الشاعر أوسمّاه، لأنه مكان لفظي متخيّل، هو صنع اللغة
عن طريق الإيحاء، وإذا كان انطلاق هارون هاشم رشيد من الأماكن الواقعية
التي عايشها، وشهد الأحداث فيها، في فلسطين، فإن نقطة عودته ليست هي تلك
الأماكن الواقعية (فلسطين، غزة، يافا، اللد، الخليل، قلعة شقيف...) وإنما
استطاع أن يخلق مكانا مستقلا له خصائص تميزه عن المكان الواقعي، وتؤسس
لتفرده من خلال اللغة، وإن لم تنبتّ وشائج القربى بينهما.
وتعد قصيدة «الشاطر حسن» لهارون هاشم
رشيد صورة لهذا المكان، فللمكان فيها تفرد وخصوصية، لأنه ليس مكانا
معروفاً، كما أنه ليس محدد الأبعاد، معيّن الأطر، وإنما هو مكان صنعه
الخيال، مكان في عالم المجهول.. في غابة بِكْر لم تطأها من قبل قدم بشر..
وظّف فيه الشاعر الرمز الثقافي الدال الذي لا يكثر توظيفه في «شعر الرسالة»
أو شعر الانتفاضة بل «إن هذه الرموز الثقافية العامة تندر في شعرهم»
(الشعر والناقد من التشكيل إلى الرؤيا ص25 وهب رومية).
ومن تلك الرموز الثقافية التي تحمل
قسطا من إحالات التاريخ، وتم توظيفها في القصيدة نجد: «الغول ــ بساط الريح
ــ غابة الأشواك..» بل إن العنوان ذاته رمز ثقافي أسطوري «الشاطر حسن»،
والرمز له قدرة كبيرة على الإيحاء، فهو يحمل موروثا ثرا، وتاريخاً عريضاً
يُستدعى في الذاكرة بمجرد إطلاق لفظه، «فالرموز لها قدرة على الإيحاء لدى
المثقفين ثرة دافقة، فإذا أحسن الشعراء توظيفها غدت نبعا من الإيحاء لا
يعرف النضوب» (السابق ص25).
والمكان في قصيدة «الشاطر حسن» يظهر
من بدايتها، من خلال الفعل المضارع «يجيئنا» المسبوق بفعل ماض يقربنا من
حكايات السندباد «قالوا»، والمجيء لا بد أن يكون من مكان، ولكنّ الشاعر
مصرٌّ من بداية القصيدة على التعمية وإضفاء الجو الأسطوري الحالم على
المشهد كله، لذا لم يحدد المكان الذي سيأتي منه «الشاطر حسن» أو «فارس
الآمال ومنقذ الوطن» على حد تعريفه له، ولم يحدد الزمان أيضاً، وإنما اكتفى
بقوله: «ذات صباح»، فهو وإن ذكر وقت الصباح فإنه لم يعيّن صباح أي يوم..
ويوغل الشاعر في الإيهام وإضفاء الجو الأسطوري على المكان، فيجعل الشهيد أو
الشاطر حسن ممتطيا في عودته جوادا أشهبَ، منطلقاً من المكان/غابة
الأشواك.. يمد ساقيه للريح..يخطف الأبعاد. وهنا يختلط الزمان بالمكان، فقد
أصبحا غير محددي المعالم والأبعاد، فلا إحساس بالزمن، ولا إدراك لحدود
المكان.. أما الشهيد أو الشاطر حسن فإنه يخطف الأبعاد.. يختزن الزمن، يصور
الشاعر ذلك الجو فيقول:
قالوا: يجيئنا
ذات صباح،
فارس الآمال، منقذ الوطنْ..
على جواد أشهب ؛
من غابة الأشواكِ
يأتي،
جامحا، بلا رسنْ..
يمدّ ساقه للريحِ،
يخطفُ الأبعادَ
في انطلاقه،
يختزل الزمن..
قالوا: يجيئنا
وغمغموا،
وأطبقوا عيونهمْ،
واستسلموا إلى الوسَنْ..
والغولُ في أحداقهمْ
عشّشَ، في قلوبهمْ، سكنْ..
وفي المقطع الثاني يعلن الشاعر عن وصول البطل/ الشاطر حسن، ويجعل أداة
الوصول «بساط الريح» حاملاً شوقاً عارماً، فيحط بجناحيه ــ هذه المرة ــ
في أماكن محددة، ويؤكد الشاعر على تحديدها وتعيينها، وينصُّ على ذلك: «في
دروب اللد» في «الرملة» حيث عيناه وأشواقه متجهة إليها، بل إن روحه ساكنة
فيها..
ويصرح البطل بتلك العودة التي ليست ككل عودة، وإنما هي عودة تحمل الأمل،
فلم يعد البطل «بيده فارغة» ولكنه عاد ينادي مدينته قائلاً: عدت، يا
مدينتي، محزّّما، وبالرصاص مُخْتَزَنْ.. إرادتي تكسر الأسوار في مسارها،
تعانق الوطن..
وما زال الشاعر آخذا في إضفاء أسطورية المكان على المشهد كله، حيث يجعل قدومه من البعيد/ من خيام الذل، والتشريد، من مَهاجر الحزن..
لقد استحال المكان الأسطوري الخرافي الأليف الذي تتطلع
إليه النفوس لمجهوليته، استحال ذلك المكان بعد وصول الشهيد/الأمل /الشاطر
حسن إلى مدينته /وطنه مكانا معاديا.. ويصرح الشاعر بقدومه، فرحا بروعة
اللقاء، ولكن بمجرد أن تأخذه المدينة في أحضانها سعيدة ــ هي أيضاً ــ
باللقاء، وحر العناق حتى يسلم الروح:
وهْوَ
على بساط الريحِ
سابحٌ، مسافرٌ
يحاور الشّجنْ
عيناه
في دروب «اللدّ»
في «الرملة» تسرحان،
في ليلات «بيت دجنْ»
يا «لدُّ»
ها أنا بالدينميت
عدتُ، يا مدينتي،
محزّما،
وبالرَّصاص مُختزنْ..
إرادتي
تكَسِّر الأسوارَ
في مسارها،
تعانق الوطنْ..
أتيتُ،
قادما من البعيد،
من خيام الذل، والتشريدِ:
من مهاجر الحَزَنْ
أتيتُ،
يا لروعة اللقاء، يا لَحرقة العِناق..
يا حبيبتي،
دمي الثمنْ..
أتيت يا مدينتي،
وشدّها إليه لهفة ً،
وبعدها سكنْ..
ونامَ،
في مطار اللدّ،
هانئَ الضميرِ
وادعا،
مُمَزَق البَدَنْ..
كنجمة،
حطّ على ترابهِ
الحبيبِ
عاريا،
حتى من الكفن..
ها هو ذا الشاطر حسن قد عاد من تلك
الأماكن الغريبة، والأرض الحالمة تاركا الإيغال في المجهول، ناقصاً يديه من
تلك الأماكن التي تستهوي كثيرين بعالمها الأسطوري، لكي يصل إلى مدينته
ليسلم الروح فيها، فكأن كل تلك الأماكن الأسطورية لم تغن الشاعر عن وطنه،
لأن اهتماماته ليست كاهتمامات غيره، وغايته غير غاياتهم، وهو لم يأت وطنه
ليتمتع بطيب هوائه، أو عبق ذكرياته، وإنما جاء مُسْلِمَاً روحه «في مطار
اللد» وكأن الشاعر أراد أن يقول: إنني أريد أن أعود إلى وطني، وتكتحل عيناي
برؤياه، ولو كان ثمن ذلك حياتي... هل كان هارون هاشم رشيد يتحدث عن الشاطر
حسن؟ أم عن الشهيد «علي طه» قائد عملية مطار اللد أيار/مايو 1972؟ أم أنها
أمنيته هو، وقد صرّح بها على لسان غيره، وإن كان لسانه هو الناطق بها؟!
المكان وعلاقته بالأشياء:
إن تشكيل الأشياء للمكان إنما يعكس ما يثيره من انفعال
سلبي أو إيجابي للكائن فيه؛ فعادة ما يرتبط المكان على مستوى الرمز ببعض
المشاعر والأحاسيس، بل ببعض القيم السلبية أو الإيجابية، فهنا أماكن محببة،
هي بمثابة المرفأ والملاذ، وهنا