قبل
الحديث عن دلالة التناص في بعده الأدبی، يجدر بنا الکشف عن المرجعية
اللغوية له، علماً أنّ مفهوم التناص لغوياً لايسعفنا في التعرّف إلی المعنی
الإصطلاحي بشکل حاسم «فعلی الرغم من قدم المادة، لم يکن لها مرجع يتصل
بالبيئة الأدبية . (عبدالمطلب، 1995 : 137).
التناص
لفظ يعود إلی جذره اللغوی (نصص)، وقد أورد أصحاب المعاجم اللغوية مجموعة
من المعانی تفسر هذا الجذر، فقد جاء في لسان العرب أن النص : «رفعک الشئ .
نص الحديث ينصه نصا : رفعه وکل ما أظهر فعد نصّا ً ... ونص المتاع نصا :
جعل بعضه علی بعض ... والنص : التحريک حتی يستخرج من الناقة أقصی سيرها...»
. (نقلاً عن : سليمان، 2005 م : صص 11 و12).
اذن
فالنظرة المعجمية المستوحاة من مادة «نصص» تسمح لنا بالقول إن لمفهوم
التناص جذوراً لغوية، وإن لم يرد هذا المفهوم بجذوره الإصطلاحية .
والتناص
صيغة صرفية علی وزن «تفاعل» بما تحمله هذه الصيغة الإشتقاقية من معانی
المشارکة والتداخل بما يعنی تداخل نص في نص آخر سابق عليه، ليسمى لدينا
نصان : نص سابق، ونص لاحق، بينهما علاقة خاصة قد تبدأ بالمس الرفيق وتنتهی
بالتمازج الکلي حتی يبدو الفصل بينهما أمراً في غاية الصعوبة .(جابر 2007 م
: ص 1080 وص 1081).
فالتناص
عبارة عن «حدوث علاقة تفاعلية بين نص سابق ونص حاضر ؛ لإنتاج نص لاحق».(
مرتاض،1991 م : ص 75). وهو بهذا المفهوم أمر قائم ومشروع لامناص منه، حيث
لا يمکن قصور نص بريء ينشئه مبدعه من درجة الصفر، إذ أنه «لا فکاک للإنسان
من شروطه الزمانية والمکانية ومحتوياتهما. (مفتاح، 1977 م : 123)
و
التناص کمصطلح نقدی واسع يندرج فيه کل ما يتعلق باستدعاء النصوص السابقة
في النص اللاحق، وتعود ولادة هذه المصطلح الی منتصف الستينات من القرن
العشرين في کتابات ميخائيل باختين الذی عنی بالتناص : الوقوف علی حقيقة
التفاعل الواقع في النصوص في استعادتها أو محاکاتها لنصوص أو لأجزاء من
نصوص سابقة . (بنيس، 1990 م : صص 185-183).
و
تبلور موضوع التناص علی يد جوليا کريستفيا التی نظرت الی النص الشعری
بوصفه نتاجاً لنصوص سابقة، يعقد معها النص الجديد علاقة تبادل حواريّ، أو
هو کما عرفته بدقة : «لوحة فسيفسائية من الاقتباسات، وکل نص هو تشرب وتحويل
لنصوص أخری». والغذامی، 1985 م : ص 131)؛ الأمر الذی يجعل من النص بوابة
مشرعة علی ما أنتجته الحضارة الإنسانية .
أما
الناقد الفرنسی جيرا جنيت فقد طوّر هذا المصطلح وعمقه ووسعّ آفاقه، وعرّفه
« بعلاقة حضور متزامن بين نصين أو أکثر أو هو الحضور الفعلی لنص داخل نص
آخر»، وأدرجه في تصنيف للعلاقات النصية المفارقة التی أجملها في أصناف خمسة
هي: الاستشهاد والسرقة، والنص الموازی، والوصف النصی، والنصية الواسعة،
والنصية الجامعة، وهو يری أن التناص کل ما يضع النص في علاقة صريحة أو
مخفية مع نصوص أخری » (بنسيس، 1990 م : ص 186) .
و
علی الرغم من أن التناص يبدو مصطلحاً جديداً، فإنه في الواقع مفهوم قديم،
ذلک أن من يتمعّن في معجم النقد العربی القديم يعثر علی غير مصطلح نقدی
يشير إلی عملية التداخل بين النص والنصوص الأخری مثل مصطلحات : الاقتباس
والتضمين، والسرقة والأخذ وغيرها . فقد عرّف النقاد العرب علی سبيل المثال
الإقتباس بقولهم : « ان يضمن الکلام شيئاً من القرآن والحديث، ولاينبّه
عليه للعلم به» . ( الحلبی، 1980 م : 323) . وعرّف آخرون التضمين بقولهم :«
أن يضمن الشاعر شعره والناشر نثره کلاماً آخر لغيره قصداً للإستعانة علی
تأکيد المعنی المقصود . (ابن الأثير، 1995 م : 203). ومن الجليّ أن مصطلحي
الإقتباس والتضمين وفق التعريف السالف يتفاربان مع مفهوم التناص في صورته
الحديثة التی ظهرت في الدراسات النقدية المعاصرة. ومن جهة أخری سعی عدد غير
قليل من النقاد المعاصرين إلی وضع التناص في تصنيفات متنوعة : لتحديد
أبعاده، والإحاطة بطرائقه، فصنّفه بعضهم حسب توظيفه في النصوص صنفين :
أحدهما التناص الظاهر ويدخل ضمنه الاقتباس والتضمين، ويسمی ايضاً الاقتباس
الواعي أو الشعوري ؛ لأن المؤلف يکون واعياً به .
و
الآخر هو التناص اللاشعوري، أو التناص الخفاء، وفيه المؤلف غير واعٍ بحضور
النص أو النصوص الأخری في نصه الذی يکتبه، ويقوم هذا التناص في
استراتيجيته علی الإمتصاص والتذويب والتحويل والتفاعل النصی . (نجم، 2001 م
: ص 7).
إن
من شأن التناص أن يسعی إلی تخصيب النصوص وتلقيحها بثقافات ورموز وإشارات
تنشلها من حومة السطحية والغنائية، لتبدو قادرة علی التحليق بقارئها الی
آفاق من العمق والجدة وذکاء التأويل .
التناص مع القرآن الکريم :
يعدّ
النص القرآني مصدراً ثراً من مصادر الإلهام الشعری الذي يفيء إليها
الشعراء، يستلهمونه، ويقتبسون منه، إن علی مستوی الدلالة والرؤية أو علی
مستوی التشکيل والصياغة .
و
يبدو أن التناص مع آيات القرآن الکريم قد أخذ مجالاً واسعاً في شعر يحيی
السماوی . ولعل اهتمام الشعراء وکلفهم باستدعاء النصوص القرآنية والتناص
معه « لما يمثله القرآن الکريم من ثراء وعطاء متجددين للفکر والشعور، فضلاً
عن تعلق ثقافة الشعراء المعاصرين به تأثراً وفهماً واقتباساً». ( جربوع،
2004 م : 134) .
إضافة
الی ما يعالجه من قضايا تتطابق وطبيعة الصراع المحتدم علی ارض العراق بين
قوی الحق والجهاد، وقوی الباطل والإحتلال . ذلک أن استحضار الخطاب الديني
في الخطاب الشعری المعاصر، يعنی إعطاء مصداقية وتميّز لدلالات النصوص
الشعرية، انطلاقاً من مصداقية الخطاب القرآني، وقداسته وإعجازه .
و
إذا کان الشاعر يقتبس من القرآن بعض الفاظه وتراکيبه، أو يغترف من نبع
معاني القرآن جملة، أو يضمّن شعره أثراً من روح القرآن ووحيه، فإن ذلک کلّه
أو بعضَه، يظهر بجلاء حيناً وبشيء من الخفاء الفنی أحياناً . من خلال
أشکال متناصية واضحة مع القرآن کاشفاً في هذا أو ذاک أبعاداً دلالية متنوعة
. ولابدّ للقارئ بالطبع من أن يمّر عبر السياق القرآنی للوصول إلی الدلالة
النصية، لا أن يبقی متعلقاً بالنص القرآني دون أن يفطن الی أنه مرآة تنعکس
عليها أشعة الدلالة النصية للإشارة إلی الواقع .
إن
الإستعانة بالنص القرآني في البناء الشعري، لا يعني عند هؤلاء اکثر من
توکيد الدلالة الشعرية للوصول إلی المعنی المرکّز، وهو ما يقابله الاستشهاد
في النثر، لکنه في الشعر أکثر ترکيزاً وکثافة، وفيه تصرف، ولو طفيف، بالنص
القرآني ليتساوق والنص الشعري . (جابر، 2007 م : 1087).
التناص مع القرآن في شعر يحيی السماوی
في
إطار سعي الشاعر يحيی السماوی للتعبير عن مواقفه ورؤاه تعبيراً فنيّاً
موفقاً اهتدی الی استخدام مجموعة من وسائل التعبير الفنية الحديثة،
وتوظيفها في البناء الفني لقصائده من لغة شعرية موحية، وصور فنية مدهشة،
وتناص، وإيقاعات نغمية ثرة، ومفارقات تصويرية، واستلهام معطيات التراث
وعناصره ؛ ذلک أن « القصيدة العربية الحديثة لم تعد عملاً بسيط التکوين ...
بل هي نسيج محکم تشکله وتغذيه جملة من العناصر، لعل أهمّها ذاکرة الشاعر
وما تجيش به من خزين معرفي ووجدانی» ( العلاق، 1997م : 131).
و
تقنية التناص واحدة من أکثر الوسائل الفنية التی حفلت بها اشعار السماوي،
إذ شغلت حضوراً واسعاً في نتاجاته الشعرية، بما تمتلکه من إمکانات فاعلة في
توسيع فضاءات المعنی في النص الشعری الی الحد الذی يجعله مفتوحاً علی
التأويل، فضلاً عن دوره في « تعزيز تجربة الشاعر وتوثيق دلالة محددة أو
نفيها أو توکيد موقف وترسيخ معنی، وبالإجمال إنتاج دلالة مؤازرة للنص في
حالتي قبوله ورفضه بالتضمين الصريح أو بالتلميح » (عيد، 1997 م : 23).
اعتمدت
تقنية التناص عند السماوي علی محاولة التماهي والتفاعل وتشارب النصوص، بل
محاولة تذويب الحدود الفاصلة بينهما، حيث أنّ هذه النصوص موظفة ومذابة في
النص الشعري عنده بإعتباره عملاً فنيّاً يجسّد لحظة فردية خاصة، وهي في أوج
توترها وغناها، وهذه اللحظة تتصل علی الرغم من تفرّدها بتيار من اللحظات
الفردية الأخری . ( الحسنی، انصاف : الرؤيا والابداع في شعر يحيی السماوي "
رسالة ماجستير "، الرابط علی شبکة المعلومات العالمية : ( www.alnoor.se/article.asP?id=66811 )
إنّ
ظهور التناص في شعر السماوي يدلّ علی ثقافة شمولية عامة، وظّفها الشاعر
واستلهمها في تطلعاته ومقاصده وأفکاره الشعرية وکان للقرآن نصيب وافر في
شعره فالقرآن معين لاينضب قد ألهم الشعراء والکتّاب والمتطلّعين الی الحرية
والخلاص عبر العصور.
تتوزع
ظواهر التناص مع القرآن عند السماوي علی عدّة نقاط وتشمل عدّة محاور ؛ لکل
منها دوره، وأهميته في إنتاج الدلالة وتوجيهها وفق زاوية، أو رؤية معينة،
وقد تأخذ هذه الظواهر أشکالاً مختلفة، بحيث تتضافر، وتتفاعل المحاور في
النص مع هذه الظواهر، فتعطي التناص قيمة دلالية خاصة، تنّم علی ادراک
السماوي وإستشرافه لموروثه الديني وفي مقدمته القرآن الکريم.
و
المتفحص لمواقع التناص القرآنی في شعر هذا الشاعر المبدع يجده تناصاً
متنوعاً، وأشکالاً متعددة، تارة يکون لفظياً وتارة يکون معنوياً وأخری يکون
إيحائياً . أما موضوعاته فتقتصر علی أمر مهم لايوازيه في نظر الشاعر أمر
أهّم منه، فهو سبب مأساته ومأساة شعبه . يقف الشاعر بکلّ شجاعة ليفضح هذا
الواقع المرير وقلبه وقلمه ينزفان ألماً، إنّه يتأوّه، يطلق صيحات الألم
والحزن، فالخيانة بلغت رقماً قياسياً فاق کل القياسات فقد تآمر الحاکم ضد
شعبه وأمته، ثمّ جاء الإحتلال فزاد في الطين بلّة .
إستطاع
العرب في صدر الإسلام أن يسودوا الدينا، وتصبح لهم الغلبة علی مساحة واسعة
لايستهان بها من الأرض. أما عرب اليوم، فالوضع التردي لهم وهوانهم
وتخاذلهم لايخفی علی أحد. والسماوي يکشف هذا الرأي بصيغة مکثفة ومعبرة
بأقوی مايکون التعبير،حين يأتی بآيات القرآن الکريم، تلک التی کانت أحد
أسباب ازدهار الإسلام وسيادة رجاله، حين وعوا معنی الآيات وجوهرها، وعملوا
بها، فکانت لهم الغلبة. أما حين أفرغ المسلمون الآيات من جوهرها ومضمونها،
کان حالهم ما نراهم عليه اليوم، وما نری العراق – تحديداً – عليه. فأورد
الشاعر الآيات بصيغة الحاضر، بإسلوب الحاضر، الحاضر الشعري (الشعر الحر)
والحاضر المعاش (واقع العرب) في قصيدة« نقوش علی جذع نخلة» وهذه القصيدة
تحمل عنوان المجموعة :
إذن
أعدّوا لعدوکم – عدو الله – مايرهبهُ
من قوّة اللسانْ
و مااستطعتم من خيول الخطب العصماء
و البيانْ
ذودوا عن التراب والمال
و عن عرض المحصنات بالأشعارْ
حتی يفرَّ القاتل المحتل من بستاننا
و تستعاد الدارْ . (السماوی، نقوش علی جذع، نخلة، 2006 م صص 103 و104)
فإذا
کانت الآية الکريمة تقول :« وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل
ترهبون به عدو الله وعدّوکم» (الانفال /16)، في دعوة لإعداد القوة اللازمة
لتخويف العدو وردعه، فإن الواقع الموضوعي يقود إلى حقيقة أن صانعي ومنفّذي
القرار، من القادة العرب، قد أفرغوا الآيات من معناها وأبقوا علی مبناها،
فأصبحت القوة هي قوة اللسان والکلام . وکأنّها إشارة الی مأساة العرب عامة،
لا في الحروب فقط، حيث أفرغ العرب الدين من معناه، وأبقوا علی مبناه،
فأصبح الدين قائماً علی العبادات – الطقوس – فقط دون الجوهر ودون الروح .
فکأنّی بالسماوي يشخّص مرض العرب الحديث، وفي ذات الوقت يرشدهم للصواب
وللطريق، بالتمسّک بأصل الآيات، بالقوة وبرباط الخيل.
و
في المقطع التالي يعيد الشاعر الی أذهاننا المواجهة بين فيلة أبرهة الغازي
وطيور الأبابيل التی رمته بحجارة من سجّيل فجعلته کعصفٍ مأکول :
أفيالکم الفولاذية
لن تتحّمل «سجّيل أبابيلنا» . (السماوی، شاهدة قبر من رخام الکلمات، 2010 م : ص 131)
وهنا
استلهام واضح في إشارته الی أصحاب الفيل، فأصحاب الفيل هم أنفسهم في کل
زمان، والمعنی يتناص مع الآيات في سورة الفيل :« ألم تَرَ کيفَ فعل ربُّک
بأصحاب الفيل ألَمَ يجعل کيدهم فی تضليل، وأرسلَ عليهم طيراً أبابيل،
ترميهم بحجارة من سجّيل» . ( الفيل / 4-1) . فأصحاب الفيل هم عنوان للظلم
الخارجي الذی يجتاح العالم الاسلامی علی مرّ العصور، وإذا کان أبرهة الحبشة
هو عنوان الظلم في ذلک الزمان فأمريکا هي أبرهة العصر، جاءت علی متن
افيالها الفولاذية (الدبابات).
و
في قصيدة « کلمات متقاطعة» يلتقط صفات معروفة ومتداولة جاءت في النص
القرآني ليصوغ منها صورة، ودائماً يتقابل فيها توظيفان يحملان درجة من
الروح التحرشيّة التی تشعل المقارنة بين الحالتين :
نحن الصعاليک
سيماؤنا في وجوهنا
من أثر تحديقنا بالأفق
أما الأباطرة
فسيماؤهم في «مؤخراتهم»
من أثر التشبّث بالکرسی
متسبّبين في اصابة الوطن بالبواسير
هم يلوّثون الجدران بتصاويرهم
و نحن
نطرّز الوطن بالفراشات» . (المصدر السابق: صص 158 و159).
فالقارئ
سيستوعب ومنذ القراءة الأولی هذا التناص الشفاف ظاهرياً، حيث ينتقل مباشرة
الی نص الآية الکريمة : « سيماؤهم في وجوههم من أثر السجود» (الفتح / 29).
في
هذا المقطع – وهي من السمات الأسلوبية البارزة للمنجز الشعري للسماوي –
هناک « إغلاق» معنوی للصورة التی بدأ بها، حيث قام الشاعر بتوسيع السيماء
الأولی الناجمة عن التحديق في الأفق، وذلک من خلال السمة المتواشجة الأخيرة
التی تأتی بضمير المتکلمين حيث تتوسع مديات الأفق بفعل ايحاءات زرع فضاء
الوطن بالفراشات. (سرمک حسن، 2010 : 177).
و
في القصيدة نفسها يستعير صورة أو تعبيراً قرآنياً يقلب دلالاتهما الأصلية
ليصف السلوک المخزي لأدلاء الإحتلال، فهم بدلاً من أن يتمسکوا بحبل الله
صاروا يعتصمون بحبل المحتلين الغزاة، وبدلاً من يتعففوا ويزهدوا صاروا
يولغون في دماء شعبهم ويفترسون ثرواته :
معتصمون بحبل الأجنبي
متعاونون علی « المنّ والسلوی»
عاقدون العزمَ
علی عقد الصفقات السرية
أهذا وطن ؟
أم سوق نخاسة ؟ (السماوی، شاهدة قبر من رخام الکلمات، 2010: ص 159).
و عند قراءتنا للجملة الأولی، مباشرة يقفزُ إلی الأذهان قوله تعالی : « واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا». آل عمران/103.
رغم
ان الشاعر يعالج محنة راهنة مدمّرة تعصف بوجود شعبه، إلاّ أنه يمتح من
مخزونات مختلفة لتوفير الشکل الملائم للتعبير الفني . من هذه المخزونات ما
استقرّ في وجدانه من موروث قرآني شديد الغنی، موروث حاضر أبداً ويبقی علی
الشاعر أن يحّدد الکيفية التی يوظّفه من خلالها. (سرمک حسن، 2010 م :
ص173).
في قصيدة« إحباط» يستثمر الشاعر موضوعة اختلاط الخيط الأبيض بالأسود اللذين أضاع دخان المحنة قدرته علی الفصل بينهما :
کيف لي أن أميّز :
بين الخيط الأبيض والأسود
اذا کان الدخان
يمتدّ من نافذة الصباح
حتی ستارة الليل » . (السماوی،شاهدة قبر من رخام الکلمات،2010 م:ص 80)
و هنا تناص مع الآية الکريمة : « کلوا واشربوا حتی يتبّين لکم الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود من الفجر» . البقرة / 187.
و
تتمثّل مقدرة الشاعر في مضاعفة المقابلة اللونية بين لوني الخيطين
المجرّدين هنا : الأبيض والأسود من خلال مقابلة زمانية بين اللونين ولکن
علی مستوی اختلاط الحقائق ....حقائق نافذة الصباح البيضاء بإرباکات ستارة
الليل السوداء. إنها إشارة عابرة غير أنها تستحضر فضاء قرآنياً بأکمله، وهو
ما يغني النص ويوسّع حدوده، ويمنح القارئ فرصته في التنقّل من فضاء النص
الشعري إلی فضاء النص القرآني .
و
في المقطع التالي يستفيد الشاعر فيه من وقفة «بلقيس» أمام النبی «سليمان»
عليه السلام وشکلها في العرش الممرّد ورفعها ثيابها وانکشاف ساقيها :
إعبري ...
لاترفعي الثوب إلی رکبتيک ...
ليس ماءً ما ترين ...
إنه بريقُ ساقيک
علی إسفلت الرصيف ...
الرصيف المخضّبِ بآهاتي ! (السماوی، مسجة من خزر الکلمات، 2008 م : 71)
ففی المقطع ثمة إشارة تناصية کامنة مع الآية الکريمة : « فلّما رأتهُ حسبتهُ لُجّةً وکشفَت عن ساقَيهَا» . (النمل / 44).
و
من أمثلة التناص مع القرآن استيحاء الآية الکريمة : « وهزی اليک بجذع
النخلة تساقط عليک رطباً جنياً» (مريم /25)، اذا يقول في اولی قصائد ديوانه
« هذه خيمتی فأين الوطن» :
رأيتُ نخلة علی قارعة الدربِ
هززتُها
فانهمر الدمعُ علی هدبي
و عندما هزرتُ جذع الأرض يا ربي
تساقط العراق في قلبي. ( السماوی، 1997 م :ص 9)
يحاول
الشاعر بکل ما توافر لديه من امکانات فنيّة أن يوظّفَ الآية القرآنية
توظيفاً فنياً وفق رؤيته الشعرية . فهو يتکئ علی الإشعاعات التی تنبعث من
لفظة (هززتُ)، التي تدلّ علی الحاجة الی معجزة سماوّية لتغيير الوضع الحالي
للعراق، أما لفظة «نخلة» فهي تکتنز بإيحاءات خصبة رحبة، فالنخلة المغروسة
في ثری العراق هي رمز للإنتفاضة . والشاعر حين يهزّ النخلة لايريد منها
رطباً جنياً، بل يهفو إلی استقرار الأمان في بلده وعندما لم يتحقق حلمه
انهمرت الدموع علی هدبه وتساقط العراق في قلبه . والآية الکريمة أخذت في
نفس الشاعر مساراً نفسيّاً خاصاً، وتحددت أمامه ببعد شعوري يرتبط بأزمته
الراهنة .
هذا
تنويع جديد علی نفس الموقف، يؤکد أن العلمية ليست مطلقاً عملية اقتباس
لنصٍ من التراث، وانما هي عملية تفجير لطاقات کامنة فی هذا النص، يستکشفها
شاعر بعد آخر، کلّ حسب موقفه الشعوري الراهن . ولعلّ هذا يوضح لنا ان قراءة
الشعراء المعاصرين للقرآن الکريم وتفاعلهم معه، في الوقف الذی تؤکد فيه
ارتباطهم الصميم بالتراث، توضح لنا کذلک نوعية هذه العلاقة وتميّزها عن
النظرة التقليدية إلی النص القرآني وطريقة تفهمه والتفاعل معه . انّها
قراءةٌ أقلّ ما يقال فيها انها أکثر عمقاً وتدبّراً وأصالةً . ولعلها
القراءة السليمة التی تجعل نصوص القرآن حيّة نابضة في الضمائر علی الدوام،
لامجرّد أصوات وکلمات مقيدة الدلالة . (اسماعيل، 1981 : 32).
و من نماذج استدعاء النص القرآنی والتناص مع معانيه ما جاء في الأبيات التالية من ديوانه « لماذا تأخرتِ دهراً ؟» :
يا ناسجاً کفني بمعزل غدره
و مُشمّتاً بی حاسداً وعَذولا
صَعّرتَ قلبکَ لا الخدودَ وصعّرَتْ
عيناکَ جفناً ناعساً مکحولا(السماوی، لماذا تأخرت دهراً، 2010 : 75)
في
البيت الثاني تضمين من قوله تعالی : « ولا تصعّر خدک للناس ...» (لقمان /
18) . تتجلی في هذه الأبيات فاعلية الامتصاص الشعری للترکيب القرآني، وظّفه
الشاعر بصياغة جديدة، ممّا أکسبها نوعاً من الخصوصية والتمّيز، فالتناص
هنا لم يعتمد التضمين المباشر، وانمّا جاء بشکل يثير في نفس المتلقي قدرة
ايحائية خاصة، تمکّنه أن يستجلي انزياحات النصّ الشعری ومدی تأثره بالنص
القرآني، الذی يوسّع فضاء قصيدته.
و في ما يلي يحيلنا الشاعر الی قصة زکريا (ع) التی وردت في سورة مريم :
أعرفُ أنّ تنّورک
لن يجود علی صحنی بالرغيف ...
فلا تبخلي علی جرحي
بالرماد ...
وطِّنيني واحتک ...
فقد بلغتُ من الغربةِ
عتّيا ! (السماوی، شاهدة قبر من رخام الکلمات، 2010 م: 111)
الجملة
الأخيرة تناص مع قوله تعالی: «وقد بلغت من الکبر عتّيا» (مريم /. وظّف
الشاعر نص الآية بتحوير طفيف فقد أبدل لفظة «الکبر» بلفظة «الغربة»،
فالشاعر حاول أن يحوّر في النص القرآني فأدخله في سياق جديد يتماهی ورؤيته
التی يريد الإفضاء بها، وقد أعطی للآية دلالة أخری نفهمها من انزياحات
السياق الشعري في القصيدة، إذ أخذت القصة بعداً دلالياً جديداً مع الاحتفاظ
بالشحنة المعنوية الدينية للنص الغائب في سياقه الجديد (النص الحاضر).
ويبدو في الوهلة الأولی انّه مجرّد اقتباس ولکن بما أن الشاعر جعل الآية
تتحدث عن نفسه متقمّصاً دور زکريا (ع) فقد اعطاها بعداً آخر بما يتناسب مع
السياق.
و
المشهد يصوّر لنا معاناة الشاعر في الغربة فقد أقبل يخاطب وطنه کی يفسح له
مجالاً للعودة والتوطّن فيه ولايطمع السماوی برخاء العيش في العراق بل
انّه قانع بالقليل اليسير وهو شفاء جرح الغربة بالرماد فقد أرهقته هذه
الغربة وقضی ردحاً من الدهر مشرّداً بين البلاد حتی جاوز الستين من عمره
ولعلّه أراد ان يلمحَ إلی هذه القضية فإنّه قد بلغ فعلاً من الکبر عتيا في
الغربة واستدعاء الشاعر لهذه الآية الکريمة بما تحمله من دلالات مأساوية،
تستحضر «الکبر» في ذهن المتلقی بصورة لاشعورية.
إنّ
ايحاءات هذا التناص القرآنی ودلالته الموضوعية واللغوية والأسلوبية قد
أدّت بدقة وانسجام أغراضها، ووظائفها الفکرية والجمالية في السياق الشعري
الذي تداخلت فيه، وتناصّت معه، وکانت جزءاً لايتجزأ من السياق العام
للقصيدة .
و
حول البيت التالي يعلّقُ الشاعر في الهوامش قائلاً بأنه: «اشارة إلی صديق
استودعته بيتي وبستاني ومکتبتي فخان الأمانة، والأنکی أن ابنه سرق مخطوطة
ديواني وراح يقرأ قصائدي في السماوة قبل افتضاح أمره». (السماوی، لماذا
تأخرت د هراً، 50:2010).
قدَّ الحبيبُ القلبَ من دُبرٍ والأصدقاءُ الزّورُ من قُبُلِ
(المصدر السابق: 43)
وفي
البيت تناص مع الآيات القرآنية التالية: «إن کان قميصُهُ قُدَّ من قُبل
فصدقت وهو من الکاذبين، وإن کان قميصُهُ قُدّ من دُبُرٍ فکذبَت وهو من
الصادقين» يوسف/ 26 و27.
نقرأ
وراء هذا التناص مقدرة السماوي الفنيّة علی إدخال النصّ القرآني الی سياقه
الخاص، وتحميله دلالات وايحاءات جديدة ً، تتفق وتجربته الشعرية، لهذا نجد
قوله قائما ً علی التمثّل الإيحائي للآية القرآنية المستدعاة، التي تمثّل
موقفاً للخيانة والخباثة. وهنا يتلاقی النّصان القرآني والشعري في وحدة
الرؤية والدلالة معاً، اللتين تعبّران عن موقف الخيانة والخباثة.
ويواصل الشاعر توظيفه للنصوص القرآنية،کقوله تعالی: «تلک اذا قسمة ضيزی». النجم/22. فقد استدعاء هذه الآية في البيت التالي:
هي «قسمة ضيزی» لها مطری
وبيادری ... وأنا العواصفُ لي
( المصدر السابق، ص46 )
استحضر
السماوي الصيغة القرآنية کما هي دون تغيير، ومن هنا نلاحظ کثافة الإستدعاء
وغاياته ووظائفه، وهذا يدلّ علی رهافة احساس الشاعر، إذ جعل من النص
القرآني مرجعاً أساسياً لنصوصه، مما دفعه لمزيد من التمثّل والتأثير
بمعانيه في تراکيبه ومفرداته وصوره، وبهذا أغنی الشاعر قصائده بمعين لاينضب
من الصور والأخيلة التی استقاها، وأضفی عليها لوناً جديداً من مشاعره
وأحاسيسه ووجدانه بما يتناسب وطبيعة الرؤية التی يمثّلها أو يطرحها في
قصائده.
إن
مايلاحظ في مثل هذا التوظيف عدم الامتداد أو الإسترسال في وصف المشهد، حتی
لايتمکّن القارئ من الاستغراق في عوالم النص السابق، إنها مجرد الماحة
عابرة سرعان ما تردّنا إلی واقع النص، وکأن الشاعر يخشی علی نصه من الضياع
في تلافيف النص السابق. والمقطع التالي شاهد آخر لهذه الإلماحات السريعة:
يا کُلَّ مَن جاؤوا الی «وليمةِ» العراقْ
من ساسةٍ ... ومن مرابينَ ...
وباحثينَ عن أسواقْ
للسُلَعِ التی بها تُستَعبَدُ الأعناقْ
لِتَتّقوا الله بها ...
فليس من مکارمِ الأخلاقْ
أکلُ «نطيحةٍ» علی مائدةِ النفاقْ )السماوی، نقوش علی جذع نخلة، 2006: 110)
والنطيحة،
الميت من نطح وفيها اشارة الی قوله تعالی: «حرمت عليکم الميتة والدم ولحم
الخنزير وما أهلّ لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة».
المائدة/3.
فالشعر
يدقّ ناقوس الخطر ويحذر من الوضع الراهن للعراق في ظلّ تقاعس الساسة
وتشرذم الحالة السياسية وتبعاتها، مما انعکس علی الحالة الاقتصادية للبلاد،
فالذين جاؤوا العراق أخذوا يمتصون خيرات الشعب ويبدّدون ثرواته ويتعاملون
مع أموال الأمة بخباثة ونفاق. وقد وُفّق الشاعر في ترسيم هذه الحالة أيما
توفيق في الابيات التالية:
وطني اليتيم فلا كفيلَ له أبـةً يكون عليه أو أمّـا
سبعٌ مضين وليس من أملٍ يُكسي عظام جياعِه لحمـا
(السماوي: يا دولة الفرهود، الرابط عبر الشبكة العنكبوتية:
http://alnoor.se/article.asp?id=88566 )
نلاحظ
في هذا البيت تناصّا ً مع الاية القرآنية التاليةخلقنا النطفة علقة
فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم انشأناه
خلقا آخر فتبارك الله احسن الخالقين)المومنون/14. والآيه تدلّ علی إعجاز
إلهي في خلق الانسان فقد استخدمها الشاعر بصورة فنية وأضفی عليها دلالة
جديدة تخدم فكرته وقضيته.
فليس
لشاعرنا أمل بأن تشبع جياع العراق وتكسی عظامها لحما في ظل هذه الظروف
القاسية التي يندي لها الجبين اللهمّ إلآ اذا كانت هناك معجزة من جانب الله
سبحانه وتعالی فهو احسن الخالقين. واستدعاء الشاعر لهذه الآية يستحضر في
ذهن المتلقي كل مستلزمات هذه الآية بما فيها من اعجاز الهي في خلق الانسان.
هكذا جاء توظيف النص القرآني لدلالة جديدة تخدم قضيته وتحقق نوعًا من
العمق والتركيز لفكرته التي اعتنقها والتي تتمحور حول الأمل والرجاء
وانتظار معجزة تخلص الشعب وتحرره من يد هؤلاء الأوغاد الذين جاءوا علی متن
دبابات الإحتلال الحاقدين علي الشعب العراقي والطامعين بثرواته وخيراته .
و في البيت التالي تناص مع الآية الکريمة: «يا ايتّها النفض المطمئنة ارجعی الی ربک راضية مرضية». الفجر/ 27 و28 :
مرضيّة ... لن تشکيکِ لربِّها
نفسي إذا أغمضتِ لي عينّيـا
(السماوی، البکاء علی کتف الوطن، 2008م : 120)
إن
تداخل المفردة القرآنية «مرضّية» في نسيج النص الشعری، ليس مجرد تداعٍ
ذهنيّ منفصم عن سياق النص، بل توظيف موفق رحب الدلالة. فقد عمد الشاعر الی
استخدام تقنية الفضاء النصي التی تعد حيلة من الحيل الأسلوبية التی يتکئ
إليها الشاعر الحديث «ليبرز حالة نفسية خاصة به، أما القارئ فإن دوره کامن
في البحث عن تخريجات وتأويلات لمثل هذه المحذوفات التی يراها أمامه».
(ربابعة، 1998: 50). إذ أورد المفردة القرآنية «مرضّية»، وترک بعدها فضاء
نصّياً، ليشرک القارئ في التجربة، ويستدرجه؛ ليکمل بنفسه بقيّة مضمون الآية
القرآنية المتناصة.
وقد
يعمد الشاعر الی استدعاء بعض الآيات القرآنية علی سبيل التنصيص، وهو نقل
النص القرآني حرفياً الی النص الشعري، فيأتي استعماله في حيز دلالته
وايحاءاته القرآنية نفسها، ويکون الهدف في الغالب مدّ المعنی أو استکمال
ابعاد الصورة، أو تدعيم خطابه الشعري بشاهد قرآني، وهو بذلک يدخل في باب
الاستشهاد القرآني أکثر من دخوله في مجال التفاعل مع النص القرآني، ومن
أمثلة هذا التنصيص قول الشاعر في ديوان «نقوش علی بذع نخلة»:
لکنما «الأغرابَ» باغتوه في المحرابْ
يقرأ في الکتابْ:
«وفضّل الله المجاهدين...» النساء/95.
(السماوی، نقوش علی جذع نخلة، 133:2006).
ولاشک
أن اقتباس هذه الآية، واستخدامها في اطار دلالتها القرآنية في النص الشعري
من شأنه أن يجعل المتلقي يستحضر صورة المجاهدين- ومنزلتهم العظيمة
عندالله- کاملة في السياق القرآني . وبهذا الاسلوب حاول الشاعر أن يمتصَّ
النص القرآني ويدخله في نسيجه الشعري .
النتيجة
يعدّ
التناص من أبرز التقنيات الفنية التي عنی بها شعراء الأدب العربي الحديث،
فأقبلوا علی توظيف هذه التقنية بوصفها ضرباً من تقاطع النصوص الذي يمنح
النص ثراء وغنی، وتحمل في طياتها دلالات وايحاءات جديدة قد يعجز التعبير
المباشر عن تأديتها. والتناص القرآني يتجلی بوضوح في شعر يحيی السماوي مما
يدل علی عبقريته الفذة وإلتزامه الديني. فقد تضمن شعره حشداً کبيراً من
المفردات ذات البعد الديني ومصطلحات استخدمها القرآن الکريم. وهذا يدلّ
فيما يدل عليه أن الشاعر ذو ثقافة دينية واسعة. فقد قام بإمتصاص دلالات
المفردات المتناصة وذلک لإعطاء الخطاب الشعري قيمة فنية ذات تأثير عميق في
نفس المتلقي بعد أن يمنحها رؤيته الخاصة.
.........................
مصادر البحث:
1- القرآن الکريم
2- ابن الأثير، ضياء الدين (1959): المثل السائر في ادب الکاتب والشاعر، تحقيق احمد الحوفی، ج3، القاهره، دار النهضة العربية.
3- اسماعيل، عزالدين(1981): الشعر العربی المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، ط 3، بيروت، دار العودة ودار الثقافة.
4- بدوی، محمد جاهين(2010)، العشق والاغتراب في شعر يحيي السماوي (قليلک لا کثيرهنّ نموذجاً)، ط1، دمشق، دار الينابيع.
5- بنيس، محمد (1990): الشعر العربی الحديث، بنياته وابدالاته، الجزء الثالث، الشعر المعاصر، ط1، المغرب، دار توبفال.
6- جابر، ناصر (2007): «التناص القرآنی في الشعر العماني الحديث»، مجلة جامعة النجاح للأبحاث، المجلد12،العدد 4.
7- جربوع، عزه(2004): «التناص مع القرآن الکريم في الشعر العربي المعاصر»، مجلة فکر وابداع، العدد13 .
8- الحسنی، انصاف:« الرويا والابداع في شعر يحيی السماوی»، الرابط علی الشبکة العنکبوتية:
www. Alnoor .se/article. Asp? I=66811) )
9- الحلبي، شهاب الدين محمود (1980): حسن التوسل إلی صناعة الترسل، تحقيق اکرم عثمان يوسف، بغداد، وزارة الثقافة والإعلام.
10- سرمک حسن، حسين(2010): اشکاليات الحداثة في شعر الرفض والرثاء (يحيی السماوی نموذجاً)، ط1، دمشق، دار الينابيع.
11- ربابعة، موسی (1998):« المتوقع واللامتوقع، دراسة في جماليات التلقي»عمان، مجلة ابحاث اليرموک، المجلد15،العدد 2 .
12- السماوی، يحيي (1997):هذه خيمتی فأين الوطن، ط 1، استراليا.
13------------- (2006):نقوش علی جذع نخلة، استراليا.
14------------ (2008):البکاء علی کتف الوطن، دمشق، دار التکوين.
15------------ (2008):مسبحة من خرز الکلمات، دمشق، دار التکوين.
16------------ (2010):شاهدة قبر من رخام الکلمات، تقديم حسين سرمک حسن،ط2، دمشق، دار التکوين.
17---------- (2010):لماذا تأخرتِ دهراً، ط1، دمشق، دار الينابيع.
18----------: يا دولة الفرهود، الرابط علی شبكة المعلومات العالمية:
http://alnoor.se/article.asp?id=88566 ) )
19-
سليمان، عبدالمنعم محمدفارس (2005): مظاهر التناص الديني في شعر احمد مطر،
فلسطين،جامعة النجاح، رسالة جامعية باشراف يحيی عبد الرووف جبر.
20- عبدالمطلب، محمد(1995):قضايا الحداثة عند عبدالقاهر الجرجانی،ط1، مصر، الشرکة المصرية العالمية للنشر.
21- العلاق، علی جعفر(1997):الشعر والتلقي،ط1، عمان، دار الشروق.
22- عيد، رجاء(1997): القول الشعری، منظورات معاصرة،ط1، الأسکندرية منشأة دار المعارف.
23- الغذامی، عبدالله (1985): الخطيئة والتفکير،ط1، جدة، النادي الرياضی.
24- القرنی، فاطمة (2008):الشعر العراقی في المنفی (السماوی نموذجاً)،ط1، الرياض، موسسة اليمامة الصحيفة.
25- مرتاض، عبدالملک(1991):«فکرة السرقات الأدبية ونظرية التناص»، جدة، مجلة علاقات النادی الأدبی الثقافی، ج1 .
26- مفتاح، محمد (1997):تحليل الخطاب الشعری، استراتيجية التناص،ط1، بيروت، دار العودة.
27- نجم، مفيد(2001):«التناص بين الاقتباس والتضمين والوعی واللاشعور»، جريدة الخليج، ملحق بيان الثقافة، عدد55.
الحديث عن دلالة التناص في بعده الأدبی، يجدر بنا الکشف عن المرجعية
اللغوية له، علماً أنّ مفهوم التناص لغوياً لايسعفنا في التعرّف إلی المعنی
الإصطلاحي بشکل حاسم «فعلی الرغم من قدم المادة، لم يکن لها مرجع يتصل
بالبيئة الأدبية . (عبدالمطلب، 1995 : 137).
التناص
لفظ يعود إلی جذره اللغوی (نصص)، وقد أورد أصحاب المعاجم اللغوية مجموعة
من المعانی تفسر هذا الجذر، فقد جاء في لسان العرب أن النص : «رفعک الشئ .
نص الحديث ينصه نصا : رفعه وکل ما أظهر فعد نصّا ً ... ونص المتاع نصا :
جعل بعضه علی بعض ... والنص : التحريک حتی يستخرج من الناقة أقصی سيرها...»
. (نقلاً عن : سليمان، 2005 م : صص 11 و12).
اذن
فالنظرة المعجمية المستوحاة من مادة «نصص» تسمح لنا بالقول إن لمفهوم
التناص جذوراً لغوية، وإن لم يرد هذا المفهوم بجذوره الإصطلاحية .
والتناص
صيغة صرفية علی وزن «تفاعل» بما تحمله هذه الصيغة الإشتقاقية من معانی
المشارکة والتداخل بما يعنی تداخل نص في نص آخر سابق عليه، ليسمى لدينا
نصان : نص سابق، ونص لاحق، بينهما علاقة خاصة قد تبدأ بالمس الرفيق وتنتهی
بالتمازج الکلي حتی يبدو الفصل بينهما أمراً في غاية الصعوبة .(جابر 2007 م
: ص 1080 وص 1081).
فالتناص
عبارة عن «حدوث علاقة تفاعلية بين نص سابق ونص حاضر ؛ لإنتاج نص لاحق».(
مرتاض،1991 م : ص 75). وهو بهذا المفهوم أمر قائم ومشروع لامناص منه، حيث
لا يمکن قصور نص بريء ينشئه مبدعه من درجة الصفر، إذ أنه «لا فکاک للإنسان
من شروطه الزمانية والمکانية ومحتوياتهما. (مفتاح، 1977 م : 123)
و
التناص کمصطلح نقدی واسع يندرج فيه کل ما يتعلق باستدعاء النصوص السابقة
في النص اللاحق، وتعود ولادة هذه المصطلح الی منتصف الستينات من القرن
العشرين في کتابات ميخائيل باختين الذی عنی بالتناص : الوقوف علی حقيقة
التفاعل الواقع في النصوص في استعادتها أو محاکاتها لنصوص أو لأجزاء من
نصوص سابقة . (بنيس، 1990 م : صص 185-183).
و
تبلور موضوع التناص علی يد جوليا کريستفيا التی نظرت الی النص الشعری
بوصفه نتاجاً لنصوص سابقة، يعقد معها النص الجديد علاقة تبادل حواريّ، أو
هو کما عرفته بدقة : «لوحة فسيفسائية من الاقتباسات، وکل نص هو تشرب وتحويل
لنصوص أخری». والغذامی، 1985 م : ص 131)؛ الأمر الذی يجعل من النص بوابة
مشرعة علی ما أنتجته الحضارة الإنسانية .
أما
الناقد الفرنسی جيرا جنيت فقد طوّر هذا المصطلح وعمقه ووسعّ آفاقه، وعرّفه
« بعلاقة حضور متزامن بين نصين أو أکثر أو هو الحضور الفعلی لنص داخل نص
آخر»، وأدرجه في تصنيف للعلاقات النصية المفارقة التی أجملها في أصناف خمسة
هي: الاستشهاد والسرقة، والنص الموازی، والوصف النصی، والنصية الواسعة،
والنصية الجامعة، وهو يری أن التناص کل ما يضع النص في علاقة صريحة أو
مخفية مع نصوص أخری » (بنسيس، 1990 م : ص 186) .
و
علی الرغم من أن التناص يبدو مصطلحاً جديداً، فإنه في الواقع مفهوم قديم،
ذلک أن من يتمعّن في معجم النقد العربی القديم يعثر علی غير مصطلح نقدی
يشير إلی عملية التداخل بين النص والنصوص الأخری مثل مصطلحات : الاقتباس
والتضمين، والسرقة والأخذ وغيرها . فقد عرّف النقاد العرب علی سبيل المثال
الإقتباس بقولهم : « ان يضمن الکلام شيئاً من القرآن والحديث، ولاينبّه
عليه للعلم به» . ( الحلبی، 1980 م : 323) . وعرّف آخرون التضمين بقولهم :«
أن يضمن الشاعر شعره والناشر نثره کلاماً آخر لغيره قصداً للإستعانة علی
تأکيد المعنی المقصود . (ابن الأثير، 1995 م : 203). ومن الجليّ أن مصطلحي
الإقتباس والتضمين وفق التعريف السالف يتفاربان مع مفهوم التناص في صورته
الحديثة التی ظهرت في الدراسات النقدية المعاصرة. ومن جهة أخری سعی عدد غير
قليل من النقاد المعاصرين إلی وضع التناص في تصنيفات متنوعة : لتحديد
أبعاده، والإحاطة بطرائقه، فصنّفه بعضهم حسب توظيفه في النصوص صنفين :
أحدهما التناص الظاهر ويدخل ضمنه الاقتباس والتضمين، ويسمی ايضاً الاقتباس
الواعي أو الشعوري ؛ لأن المؤلف يکون واعياً به .
و
الآخر هو التناص اللاشعوري، أو التناص الخفاء، وفيه المؤلف غير واعٍ بحضور
النص أو النصوص الأخری في نصه الذی يکتبه، ويقوم هذا التناص في
استراتيجيته علی الإمتصاص والتذويب والتحويل والتفاعل النصی . (نجم، 2001 م
: ص 7).
إن
من شأن التناص أن يسعی إلی تخصيب النصوص وتلقيحها بثقافات ورموز وإشارات
تنشلها من حومة السطحية والغنائية، لتبدو قادرة علی التحليق بقارئها الی
آفاق من العمق والجدة وذکاء التأويل .
التناص مع القرآن الکريم :
يعدّ
النص القرآني مصدراً ثراً من مصادر الإلهام الشعری الذي يفيء إليها
الشعراء، يستلهمونه، ويقتبسون منه، إن علی مستوی الدلالة والرؤية أو علی
مستوی التشکيل والصياغة .
و
يبدو أن التناص مع آيات القرآن الکريم قد أخذ مجالاً واسعاً في شعر يحيی
السماوی . ولعل اهتمام الشعراء وکلفهم باستدعاء النصوص القرآنية والتناص
معه « لما يمثله القرآن الکريم من ثراء وعطاء متجددين للفکر والشعور، فضلاً
عن تعلق ثقافة الشعراء المعاصرين به تأثراً وفهماً واقتباساً». ( جربوع،
2004 م : 134) .
إضافة
الی ما يعالجه من قضايا تتطابق وطبيعة الصراع المحتدم علی ارض العراق بين
قوی الحق والجهاد، وقوی الباطل والإحتلال . ذلک أن استحضار الخطاب الديني
في الخطاب الشعری المعاصر، يعنی إعطاء مصداقية وتميّز لدلالات النصوص
الشعرية، انطلاقاً من مصداقية الخطاب القرآني، وقداسته وإعجازه .
و
إذا کان الشاعر يقتبس من القرآن بعض الفاظه وتراکيبه، أو يغترف من نبع
معاني القرآن جملة، أو يضمّن شعره أثراً من روح القرآن ووحيه، فإن ذلک کلّه
أو بعضَه، يظهر بجلاء حيناً وبشيء من الخفاء الفنی أحياناً . من خلال
أشکال متناصية واضحة مع القرآن کاشفاً في هذا أو ذاک أبعاداً دلالية متنوعة
. ولابدّ للقارئ بالطبع من أن يمّر عبر السياق القرآنی للوصول إلی الدلالة
النصية، لا أن يبقی متعلقاً بالنص القرآني دون أن يفطن الی أنه مرآة تنعکس
عليها أشعة الدلالة النصية للإشارة إلی الواقع .
إن
الإستعانة بالنص القرآني في البناء الشعري، لا يعني عند هؤلاء اکثر من
توکيد الدلالة الشعرية للوصول إلی المعنی المرکّز، وهو ما يقابله الاستشهاد
في النثر، لکنه في الشعر أکثر ترکيزاً وکثافة، وفيه تصرف، ولو طفيف، بالنص
القرآني ليتساوق والنص الشعري . (جابر، 2007 م : 1087).
التناص مع القرآن في شعر يحيی السماوی
في
إطار سعي الشاعر يحيی السماوی للتعبير عن مواقفه ورؤاه تعبيراً فنيّاً
موفقاً اهتدی الی استخدام مجموعة من وسائل التعبير الفنية الحديثة،
وتوظيفها في البناء الفني لقصائده من لغة شعرية موحية، وصور فنية مدهشة،
وتناص، وإيقاعات نغمية ثرة، ومفارقات تصويرية، واستلهام معطيات التراث
وعناصره ؛ ذلک أن « القصيدة العربية الحديثة لم تعد عملاً بسيط التکوين ...
بل هي نسيج محکم تشکله وتغذيه جملة من العناصر، لعل أهمّها ذاکرة الشاعر
وما تجيش به من خزين معرفي ووجدانی» ( العلاق، 1997م : 131).
و
تقنية التناص واحدة من أکثر الوسائل الفنية التی حفلت بها اشعار السماوي،
إذ شغلت حضوراً واسعاً في نتاجاته الشعرية، بما تمتلکه من إمکانات فاعلة في
توسيع فضاءات المعنی في النص الشعری الی الحد الذی يجعله مفتوحاً علی
التأويل، فضلاً عن دوره في « تعزيز تجربة الشاعر وتوثيق دلالة محددة أو
نفيها أو توکيد موقف وترسيخ معنی، وبالإجمال إنتاج دلالة مؤازرة للنص في
حالتي قبوله ورفضه بالتضمين الصريح أو بالتلميح » (عيد، 1997 م : 23).
اعتمدت
تقنية التناص عند السماوي علی محاولة التماهي والتفاعل وتشارب النصوص، بل
محاولة تذويب الحدود الفاصلة بينهما، حيث أنّ هذه النصوص موظفة ومذابة في
النص الشعري عنده بإعتباره عملاً فنيّاً يجسّد لحظة فردية خاصة، وهي في أوج
توترها وغناها، وهذه اللحظة تتصل علی الرغم من تفرّدها بتيار من اللحظات
الفردية الأخری . ( الحسنی، انصاف : الرؤيا والابداع في شعر يحيی السماوي "
رسالة ماجستير "، الرابط علی شبکة المعلومات العالمية : ( www.alnoor.se/article.asP?id=66811 )
إنّ
ظهور التناص في شعر السماوي يدلّ علی ثقافة شمولية عامة، وظّفها الشاعر
واستلهمها في تطلعاته ومقاصده وأفکاره الشعرية وکان للقرآن نصيب وافر في
شعره فالقرآن معين لاينضب قد ألهم الشعراء والکتّاب والمتطلّعين الی الحرية
والخلاص عبر العصور.
تتوزع
ظواهر التناص مع القرآن عند السماوي علی عدّة نقاط وتشمل عدّة محاور ؛ لکل
منها دوره، وأهميته في إنتاج الدلالة وتوجيهها وفق زاوية، أو رؤية معينة،
وقد تأخذ هذه الظواهر أشکالاً مختلفة، بحيث تتضافر، وتتفاعل المحاور في
النص مع هذه الظواهر، فتعطي التناص قيمة دلالية خاصة، تنّم علی ادراک
السماوي وإستشرافه لموروثه الديني وفي مقدمته القرآن الکريم.
و
المتفحص لمواقع التناص القرآنی في شعر هذا الشاعر المبدع يجده تناصاً
متنوعاً، وأشکالاً متعددة، تارة يکون لفظياً وتارة يکون معنوياً وأخری يکون
إيحائياً . أما موضوعاته فتقتصر علی أمر مهم لايوازيه في نظر الشاعر أمر
أهّم منه، فهو سبب مأساته ومأساة شعبه . يقف الشاعر بکلّ شجاعة ليفضح هذا
الواقع المرير وقلبه وقلمه ينزفان ألماً، إنّه يتأوّه، يطلق صيحات الألم
والحزن، فالخيانة بلغت رقماً قياسياً فاق کل القياسات فقد تآمر الحاکم ضد
شعبه وأمته، ثمّ جاء الإحتلال فزاد في الطين بلّة .
إستطاع
العرب في صدر الإسلام أن يسودوا الدينا، وتصبح لهم الغلبة علی مساحة واسعة
لايستهان بها من الأرض. أما عرب اليوم، فالوضع التردي لهم وهوانهم
وتخاذلهم لايخفی علی أحد. والسماوي يکشف هذا الرأي بصيغة مکثفة ومعبرة
بأقوی مايکون التعبير،حين يأتی بآيات القرآن الکريم، تلک التی کانت أحد
أسباب ازدهار الإسلام وسيادة رجاله، حين وعوا معنی الآيات وجوهرها، وعملوا
بها، فکانت لهم الغلبة. أما حين أفرغ المسلمون الآيات من جوهرها ومضمونها،
کان حالهم ما نراهم عليه اليوم، وما نری العراق – تحديداً – عليه. فأورد
الشاعر الآيات بصيغة الحاضر، بإسلوب الحاضر، الحاضر الشعري (الشعر الحر)
والحاضر المعاش (واقع العرب) في قصيدة« نقوش علی جذع نخلة» وهذه القصيدة
تحمل عنوان المجموعة :
إذن
أعدّوا لعدوکم – عدو الله – مايرهبهُ
من قوّة اللسانْ
و مااستطعتم من خيول الخطب العصماء
و البيانْ
ذودوا عن التراب والمال
و عن عرض المحصنات بالأشعارْ
حتی يفرَّ القاتل المحتل من بستاننا
و تستعاد الدارْ . (السماوی، نقوش علی جذع، نخلة، 2006 م صص 103 و104)
فإذا
کانت الآية الکريمة تقول :« وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل
ترهبون به عدو الله وعدّوکم» (الانفال /16)، في دعوة لإعداد القوة اللازمة
لتخويف العدو وردعه، فإن الواقع الموضوعي يقود إلى حقيقة أن صانعي ومنفّذي
القرار، من القادة العرب، قد أفرغوا الآيات من معناها وأبقوا علی مبناها،
فأصبحت القوة هي قوة اللسان والکلام . وکأنّها إشارة الی مأساة العرب عامة،
لا في الحروب فقط، حيث أفرغ العرب الدين من معناه، وأبقوا علی مبناه،
فأصبح الدين قائماً علی العبادات – الطقوس – فقط دون الجوهر ودون الروح .
فکأنّی بالسماوي يشخّص مرض العرب الحديث، وفي ذات الوقت يرشدهم للصواب
وللطريق، بالتمسّک بأصل الآيات، بالقوة وبرباط الخيل.
و
في المقطع التالي يعيد الشاعر الی أذهاننا المواجهة بين فيلة أبرهة الغازي
وطيور الأبابيل التی رمته بحجارة من سجّيل فجعلته کعصفٍ مأکول :
أفيالکم الفولاذية
لن تتحّمل «سجّيل أبابيلنا» . (السماوی، شاهدة قبر من رخام الکلمات، 2010 م : ص 131)
وهنا
استلهام واضح في إشارته الی أصحاب الفيل، فأصحاب الفيل هم أنفسهم في کل
زمان، والمعنی يتناص مع الآيات في سورة الفيل :« ألم تَرَ کيفَ فعل ربُّک
بأصحاب الفيل ألَمَ يجعل کيدهم فی تضليل، وأرسلَ عليهم طيراً أبابيل،
ترميهم بحجارة من سجّيل» . ( الفيل / 4-1) . فأصحاب الفيل هم عنوان للظلم
الخارجي الذی يجتاح العالم الاسلامی علی مرّ العصور، وإذا کان أبرهة الحبشة
هو عنوان الظلم في ذلک الزمان فأمريکا هي أبرهة العصر، جاءت علی متن
افيالها الفولاذية (الدبابات).
و
في قصيدة « کلمات متقاطعة» يلتقط صفات معروفة ومتداولة جاءت في النص
القرآني ليصوغ منها صورة، ودائماً يتقابل فيها توظيفان يحملان درجة من
الروح التحرشيّة التی تشعل المقارنة بين الحالتين :
نحن الصعاليک
سيماؤنا في وجوهنا
من أثر تحديقنا بالأفق
أما الأباطرة
فسيماؤهم في «مؤخراتهم»
من أثر التشبّث بالکرسی
متسبّبين في اصابة الوطن بالبواسير
هم يلوّثون الجدران بتصاويرهم
و نحن
نطرّز الوطن بالفراشات» . (المصدر السابق: صص 158 و159).
فالقارئ
سيستوعب ومنذ القراءة الأولی هذا التناص الشفاف ظاهرياً، حيث ينتقل مباشرة
الی نص الآية الکريمة : « سيماؤهم في وجوههم من أثر السجود» (الفتح / 29).
في
هذا المقطع – وهي من السمات الأسلوبية البارزة للمنجز الشعري للسماوي –
هناک « إغلاق» معنوی للصورة التی بدأ بها، حيث قام الشاعر بتوسيع السيماء
الأولی الناجمة عن التحديق في الأفق، وذلک من خلال السمة المتواشجة الأخيرة
التی تأتی بضمير المتکلمين حيث تتوسع مديات الأفق بفعل ايحاءات زرع فضاء
الوطن بالفراشات. (سرمک حسن، 2010 : 177).
و
في القصيدة نفسها يستعير صورة أو تعبيراً قرآنياً يقلب دلالاتهما الأصلية
ليصف السلوک المخزي لأدلاء الإحتلال، فهم بدلاً من أن يتمسکوا بحبل الله
صاروا يعتصمون بحبل المحتلين الغزاة، وبدلاً من يتعففوا ويزهدوا صاروا
يولغون في دماء شعبهم ويفترسون ثرواته :
معتصمون بحبل الأجنبي
متعاونون علی « المنّ والسلوی»
عاقدون العزمَ
علی عقد الصفقات السرية
أهذا وطن ؟
أم سوق نخاسة ؟ (السماوی، شاهدة قبر من رخام الکلمات، 2010: ص 159).
و عند قراءتنا للجملة الأولی، مباشرة يقفزُ إلی الأذهان قوله تعالی : « واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا». آل عمران/103.
رغم
ان الشاعر يعالج محنة راهنة مدمّرة تعصف بوجود شعبه، إلاّ أنه يمتح من
مخزونات مختلفة لتوفير الشکل الملائم للتعبير الفني . من هذه المخزونات ما
استقرّ في وجدانه من موروث قرآني شديد الغنی، موروث حاضر أبداً ويبقی علی
الشاعر أن يحّدد الکيفية التی يوظّفه من خلالها. (سرمک حسن، 2010 م :
ص173).
في قصيدة« إحباط» يستثمر الشاعر موضوعة اختلاط الخيط الأبيض بالأسود اللذين أضاع دخان المحنة قدرته علی الفصل بينهما :
کيف لي أن أميّز :
بين الخيط الأبيض والأسود
اذا کان الدخان
يمتدّ من نافذة الصباح
حتی ستارة الليل » . (السماوی،شاهدة قبر من رخام الکلمات،2010 م:ص 80)
و هنا تناص مع الآية الکريمة : « کلوا واشربوا حتی يتبّين لکم الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود من الفجر» . البقرة / 187.
و
تتمثّل مقدرة الشاعر في مضاعفة المقابلة اللونية بين لوني الخيطين
المجرّدين هنا : الأبيض والأسود من خلال مقابلة زمانية بين اللونين ولکن
علی مستوی اختلاط الحقائق ....حقائق نافذة الصباح البيضاء بإرباکات ستارة
الليل السوداء. إنها إشارة عابرة غير أنها تستحضر فضاء قرآنياً بأکمله، وهو
ما يغني النص ويوسّع حدوده، ويمنح القارئ فرصته في التنقّل من فضاء النص
الشعري إلی فضاء النص القرآني .
و
في المقطع التالي يستفيد الشاعر فيه من وقفة «بلقيس» أمام النبی «سليمان»
عليه السلام وشکلها في العرش الممرّد ورفعها ثيابها وانکشاف ساقيها :
إعبري ...
لاترفعي الثوب إلی رکبتيک ...
ليس ماءً ما ترين ...
إنه بريقُ ساقيک
علی إسفلت الرصيف ...
الرصيف المخضّبِ بآهاتي ! (السماوی، مسجة من خزر الکلمات، 2008 م : 71)
ففی المقطع ثمة إشارة تناصية کامنة مع الآية الکريمة : « فلّما رأتهُ حسبتهُ لُجّةً وکشفَت عن ساقَيهَا» . (النمل / 44).
و
من أمثلة التناص مع القرآن استيحاء الآية الکريمة : « وهزی اليک بجذع
النخلة تساقط عليک رطباً جنياً» (مريم /25)، اذا يقول في اولی قصائد ديوانه
« هذه خيمتی فأين الوطن» :
رأيتُ نخلة علی قارعة الدربِ
هززتُها
فانهمر الدمعُ علی هدبي
و عندما هزرتُ جذع الأرض يا ربي
تساقط العراق في قلبي. ( السماوی، 1997 م :ص 9)
يحاول
الشاعر بکل ما توافر لديه من امکانات فنيّة أن يوظّفَ الآية القرآنية
توظيفاً فنياً وفق رؤيته الشعرية . فهو يتکئ علی الإشعاعات التی تنبعث من
لفظة (هززتُ)، التي تدلّ علی الحاجة الی معجزة سماوّية لتغيير الوضع الحالي
للعراق، أما لفظة «نخلة» فهي تکتنز بإيحاءات خصبة رحبة، فالنخلة المغروسة
في ثری العراق هي رمز للإنتفاضة . والشاعر حين يهزّ النخلة لايريد منها
رطباً جنياً، بل يهفو إلی استقرار الأمان في بلده وعندما لم يتحقق حلمه
انهمرت الدموع علی هدبه وتساقط العراق في قلبه . والآية الکريمة أخذت في
نفس الشاعر مساراً نفسيّاً خاصاً، وتحددت أمامه ببعد شعوري يرتبط بأزمته
الراهنة .
هذا
تنويع جديد علی نفس الموقف، يؤکد أن العلمية ليست مطلقاً عملية اقتباس
لنصٍ من التراث، وانما هي عملية تفجير لطاقات کامنة فی هذا النص، يستکشفها
شاعر بعد آخر، کلّ حسب موقفه الشعوري الراهن . ولعلّ هذا يوضح لنا ان قراءة
الشعراء المعاصرين للقرآن الکريم وتفاعلهم معه، في الوقف الذی تؤکد فيه
ارتباطهم الصميم بالتراث، توضح لنا کذلک نوعية هذه العلاقة وتميّزها عن
النظرة التقليدية إلی النص القرآني وطريقة تفهمه والتفاعل معه . انّها
قراءةٌ أقلّ ما يقال فيها انها أکثر عمقاً وتدبّراً وأصالةً . ولعلها
القراءة السليمة التی تجعل نصوص القرآن حيّة نابضة في الضمائر علی الدوام،
لامجرّد أصوات وکلمات مقيدة الدلالة . (اسماعيل، 1981 : 32).
و من نماذج استدعاء النص القرآنی والتناص مع معانيه ما جاء في الأبيات التالية من ديوانه « لماذا تأخرتِ دهراً ؟» :
يا ناسجاً کفني بمعزل غدره
و مُشمّتاً بی حاسداً وعَذولا
صَعّرتَ قلبکَ لا الخدودَ وصعّرَتْ
عيناکَ جفناً ناعساً مکحولا(السماوی، لماذا تأخرت دهراً، 2010 : 75)
في
البيت الثاني تضمين من قوله تعالی : « ولا تصعّر خدک للناس ...» (لقمان /
18) . تتجلی في هذه الأبيات فاعلية الامتصاص الشعری للترکيب القرآني، وظّفه
الشاعر بصياغة جديدة، ممّا أکسبها نوعاً من الخصوصية والتمّيز، فالتناص
هنا لم يعتمد التضمين المباشر، وانمّا جاء بشکل يثير في نفس المتلقي قدرة
ايحائية خاصة، تمکّنه أن يستجلي انزياحات النصّ الشعری ومدی تأثره بالنص
القرآني، الذی يوسّع فضاء قصيدته.
و في ما يلي يحيلنا الشاعر الی قصة زکريا (ع) التی وردت في سورة مريم :
أعرفُ أنّ تنّورک
لن يجود علی صحنی بالرغيف ...
فلا تبخلي علی جرحي
بالرماد ...
وطِّنيني واحتک ...
فقد بلغتُ من الغربةِ
عتّيا ! (السماوی، شاهدة قبر من رخام الکلمات، 2010 م: 111)
الجملة
الأخيرة تناص مع قوله تعالی: «وقد بلغت من الکبر عتّيا» (مريم /. وظّف
الشاعر نص الآية بتحوير طفيف فقد أبدل لفظة «الکبر» بلفظة «الغربة»،
فالشاعر حاول أن يحوّر في النص القرآني فأدخله في سياق جديد يتماهی ورؤيته
التی يريد الإفضاء بها، وقد أعطی للآية دلالة أخری نفهمها من انزياحات
السياق الشعري في القصيدة، إذ أخذت القصة بعداً دلالياً جديداً مع الاحتفاظ
بالشحنة المعنوية الدينية للنص الغائب في سياقه الجديد (النص الحاضر).
ويبدو في الوهلة الأولی انّه مجرّد اقتباس ولکن بما أن الشاعر جعل الآية
تتحدث عن نفسه متقمّصاً دور زکريا (ع) فقد اعطاها بعداً آخر بما يتناسب مع
السياق.
و
المشهد يصوّر لنا معاناة الشاعر في الغربة فقد أقبل يخاطب وطنه کی يفسح له
مجالاً للعودة والتوطّن فيه ولايطمع السماوی برخاء العيش في العراق بل
انّه قانع بالقليل اليسير وهو شفاء جرح الغربة بالرماد فقد أرهقته هذه
الغربة وقضی ردحاً من الدهر مشرّداً بين البلاد حتی جاوز الستين من عمره
ولعلّه أراد ان يلمحَ إلی هذه القضية فإنّه قد بلغ فعلاً من الکبر عتيا في
الغربة واستدعاء الشاعر لهذه الآية الکريمة بما تحمله من دلالات مأساوية،
تستحضر «الکبر» في ذهن المتلقی بصورة لاشعورية.
إنّ
ايحاءات هذا التناص القرآنی ودلالته الموضوعية واللغوية والأسلوبية قد
أدّت بدقة وانسجام أغراضها، ووظائفها الفکرية والجمالية في السياق الشعري
الذي تداخلت فيه، وتناصّت معه، وکانت جزءاً لايتجزأ من السياق العام
للقصيدة .
و
حول البيت التالي يعلّقُ الشاعر في الهوامش قائلاً بأنه: «اشارة إلی صديق
استودعته بيتي وبستاني ومکتبتي فخان الأمانة، والأنکی أن ابنه سرق مخطوطة
ديواني وراح يقرأ قصائدي في السماوة قبل افتضاح أمره». (السماوی، لماذا
تأخرت د هراً، 50:2010).
قدَّ الحبيبُ القلبَ من دُبرٍ والأصدقاءُ الزّورُ من قُبُلِ
(المصدر السابق: 43)
وفي
البيت تناص مع الآيات القرآنية التالية: «إن کان قميصُهُ قُدَّ من قُبل
فصدقت وهو من الکاذبين، وإن کان قميصُهُ قُدّ من دُبُرٍ فکذبَت وهو من
الصادقين» يوسف/ 26 و27.
نقرأ
وراء هذا التناص مقدرة السماوي الفنيّة علی إدخال النصّ القرآني الی سياقه
الخاص، وتحميله دلالات وايحاءات جديدة ً، تتفق وتجربته الشعرية، لهذا نجد
قوله قائما ً علی التمثّل الإيحائي للآية القرآنية المستدعاة، التي تمثّل
موقفاً للخيانة والخباثة. وهنا يتلاقی النّصان القرآني والشعري في وحدة
الرؤية والدلالة معاً، اللتين تعبّران عن موقف الخيانة والخباثة.
ويواصل الشاعر توظيفه للنصوص القرآنية،کقوله تعالی: «تلک اذا قسمة ضيزی». النجم/22. فقد استدعاء هذه الآية في البيت التالي:
هي «قسمة ضيزی» لها مطری
وبيادری ... وأنا العواصفُ لي
( المصدر السابق، ص46 )
استحضر
السماوي الصيغة القرآنية کما هي دون تغيير، ومن هنا نلاحظ کثافة الإستدعاء
وغاياته ووظائفه، وهذا يدلّ علی رهافة احساس الشاعر، إذ جعل من النص
القرآني مرجعاً أساسياً لنصوصه، مما دفعه لمزيد من التمثّل والتأثير
بمعانيه في تراکيبه ومفرداته وصوره، وبهذا أغنی الشاعر قصائده بمعين لاينضب
من الصور والأخيلة التی استقاها، وأضفی عليها لوناً جديداً من مشاعره
وأحاسيسه ووجدانه بما يتناسب وطبيعة الرؤية التی يمثّلها أو يطرحها في
قصائده.
إن
مايلاحظ في مثل هذا التوظيف عدم الامتداد أو الإسترسال في وصف المشهد، حتی
لايتمکّن القارئ من الاستغراق في عوالم النص السابق، إنها مجرد الماحة
عابرة سرعان ما تردّنا إلی واقع النص، وکأن الشاعر يخشی علی نصه من الضياع
في تلافيف النص السابق. والمقطع التالي شاهد آخر لهذه الإلماحات السريعة:
يا کُلَّ مَن جاؤوا الی «وليمةِ» العراقْ
من ساسةٍ ... ومن مرابينَ ...
وباحثينَ عن أسواقْ
للسُلَعِ التی بها تُستَعبَدُ الأعناقْ
لِتَتّقوا الله بها ...
فليس من مکارمِ الأخلاقْ
أکلُ «نطيحةٍ» علی مائدةِ النفاقْ )السماوی، نقوش علی جذع نخلة، 2006: 110)
والنطيحة،
الميت من نطح وفيها اشارة الی قوله تعالی: «حرمت عليکم الميتة والدم ولحم
الخنزير وما أهلّ لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة».
المائدة/3.
فالشعر
يدقّ ناقوس الخطر ويحذر من الوضع الراهن للعراق في ظلّ تقاعس الساسة
وتشرذم الحالة السياسية وتبعاتها، مما انعکس علی الحالة الاقتصادية للبلاد،
فالذين جاؤوا العراق أخذوا يمتصون خيرات الشعب ويبدّدون ثرواته ويتعاملون
مع أموال الأمة بخباثة ونفاق. وقد وُفّق الشاعر في ترسيم هذه الحالة أيما
توفيق في الابيات التالية:
وطني اليتيم فلا كفيلَ له أبـةً يكون عليه أو أمّـا
سبعٌ مضين وليس من أملٍ يُكسي عظام جياعِه لحمـا
(السماوي: يا دولة الفرهود، الرابط عبر الشبكة العنكبوتية:
http://alnoor.se/article.asp?id=88566 )
نلاحظ
في هذا البيت تناصّا ً مع الاية القرآنية التاليةخلقنا النطفة علقة
فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم انشأناه
خلقا آخر فتبارك الله احسن الخالقين)المومنون/14. والآيه تدلّ علی إعجاز
إلهي في خلق الانسان فقد استخدمها الشاعر بصورة فنية وأضفی عليها دلالة
جديدة تخدم فكرته وقضيته.
فليس
لشاعرنا أمل بأن تشبع جياع العراق وتكسی عظامها لحما في ظل هذه الظروف
القاسية التي يندي لها الجبين اللهمّ إلآ اذا كانت هناك معجزة من جانب الله
سبحانه وتعالی فهو احسن الخالقين. واستدعاء الشاعر لهذه الآية يستحضر في
ذهن المتلقي كل مستلزمات هذه الآية بما فيها من اعجاز الهي في خلق الانسان.
هكذا جاء توظيف النص القرآني لدلالة جديدة تخدم قضيته وتحقق نوعًا من
العمق والتركيز لفكرته التي اعتنقها والتي تتمحور حول الأمل والرجاء
وانتظار معجزة تخلص الشعب وتحرره من يد هؤلاء الأوغاد الذين جاءوا علی متن
دبابات الإحتلال الحاقدين علي الشعب العراقي والطامعين بثرواته وخيراته .
و في البيت التالي تناص مع الآية الکريمة: «يا ايتّها النفض المطمئنة ارجعی الی ربک راضية مرضية». الفجر/ 27 و28 :
مرضيّة ... لن تشکيکِ لربِّها
نفسي إذا أغمضتِ لي عينّيـا
(السماوی، البکاء علی کتف الوطن، 2008م : 120)
إن
تداخل المفردة القرآنية «مرضّية» في نسيج النص الشعری، ليس مجرد تداعٍ
ذهنيّ منفصم عن سياق النص، بل توظيف موفق رحب الدلالة. فقد عمد الشاعر الی
استخدام تقنية الفضاء النصي التی تعد حيلة من الحيل الأسلوبية التی يتکئ
إليها الشاعر الحديث «ليبرز حالة نفسية خاصة به، أما القارئ فإن دوره کامن
في البحث عن تخريجات وتأويلات لمثل هذه المحذوفات التی يراها أمامه».
(ربابعة، 1998: 50). إذ أورد المفردة القرآنية «مرضّية»، وترک بعدها فضاء
نصّياً، ليشرک القارئ في التجربة، ويستدرجه؛ ليکمل بنفسه بقيّة مضمون الآية
القرآنية المتناصة.
وقد
يعمد الشاعر الی استدعاء بعض الآيات القرآنية علی سبيل التنصيص، وهو نقل
النص القرآني حرفياً الی النص الشعري، فيأتي استعماله في حيز دلالته
وايحاءاته القرآنية نفسها، ويکون الهدف في الغالب مدّ المعنی أو استکمال
ابعاد الصورة، أو تدعيم خطابه الشعري بشاهد قرآني، وهو بذلک يدخل في باب
الاستشهاد القرآني أکثر من دخوله في مجال التفاعل مع النص القرآني، ومن
أمثلة هذا التنصيص قول الشاعر في ديوان «نقوش علی بذع نخلة»:
لکنما «الأغرابَ» باغتوه في المحرابْ
يقرأ في الکتابْ:
«وفضّل الله المجاهدين...» النساء/95.
(السماوی، نقوش علی جذع نخلة، 133:2006).
ولاشک
أن اقتباس هذه الآية، واستخدامها في اطار دلالتها القرآنية في النص الشعري
من شأنه أن يجعل المتلقي يستحضر صورة المجاهدين- ومنزلتهم العظيمة
عندالله- کاملة في السياق القرآني . وبهذا الاسلوب حاول الشاعر أن يمتصَّ
النص القرآني ويدخله في نسيجه الشعري .
النتيجة
يعدّ
التناص من أبرز التقنيات الفنية التي عنی بها شعراء الأدب العربي الحديث،
فأقبلوا علی توظيف هذه التقنية بوصفها ضرباً من تقاطع النصوص الذي يمنح
النص ثراء وغنی، وتحمل في طياتها دلالات وايحاءات جديدة قد يعجز التعبير
المباشر عن تأديتها. والتناص القرآني يتجلی بوضوح في شعر يحيی السماوي مما
يدل علی عبقريته الفذة وإلتزامه الديني. فقد تضمن شعره حشداً کبيراً من
المفردات ذات البعد الديني ومصطلحات استخدمها القرآن الکريم. وهذا يدلّ
فيما يدل عليه أن الشاعر ذو ثقافة دينية واسعة. فقد قام بإمتصاص دلالات
المفردات المتناصة وذلک لإعطاء الخطاب الشعري قيمة فنية ذات تأثير عميق في
نفس المتلقي بعد أن يمنحها رؤيته الخاصة.
.........................
مصادر البحث:
1- القرآن الکريم
2- ابن الأثير، ضياء الدين (1959): المثل السائر في ادب الکاتب والشاعر، تحقيق احمد الحوفی، ج3، القاهره، دار النهضة العربية.
3- اسماعيل، عزالدين(1981): الشعر العربی المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، ط 3، بيروت، دار العودة ودار الثقافة.
4- بدوی، محمد جاهين(2010)، العشق والاغتراب في شعر يحيي السماوي (قليلک لا کثيرهنّ نموذجاً)، ط1، دمشق، دار الينابيع.
5- بنيس، محمد (1990): الشعر العربی الحديث، بنياته وابدالاته، الجزء الثالث، الشعر المعاصر، ط1، المغرب، دار توبفال.
6- جابر، ناصر (2007): «التناص القرآنی في الشعر العماني الحديث»، مجلة جامعة النجاح للأبحاث، المجلد12،العدد 4.
7- جربوع، عزه(2004): «التناص مع القرآن الکريم في الشعر العربي المعاصر»، مجلة فکر وابداع، العدد13 .
8- الحسنی، انصاف:« الرويا والابداع في شعر يحيی السماوی»، الرابط علی الشبکة العنکبوتية:
www. Alnoor .se/article. Asp? I=66811) )
9- الحلبي، شهاب الدين محمود (1980): حسن التوسل إلی صناعة الترسل، تحقيق اکرم عثمان يوسف، بغداد، وزارة الثقافة والإعلام.
10- سرمک حسن، حسين(2010): اشکاليات الحداثة في شعر الرفض والرثاء (يحيی السماوی نموذجاً)، ط1، دمشق، دار الينابيع.
11- ربابعة، موسی (1998):« المتوقع واللامتوقع، دراسة في جماليات التلقي»عمان، مجلة ابحاث اليرموک، المجلد15،العدد 2 .
12- السماوی، يحيي (1997):هذه خيمتی فأين الوطن، ط 1، استراليا.
13------------- (2006):نقوش علی جذع نخلة، استراليا.
14------------ (2008):البکاء علی کتف الوطن، دمشق، دار التکوين.
15------------ (2008):مسبحة من خرز الکلمات، دمشق، دار التکوين.
16------------ (2010):شاهدة قبر من رخام الکلمات، تقديم حسين سرمک حسن،ط2، دمشق، دار التکوين.
17---------- (2010):لماذا تأخرتِ دهراً، ط1، دمشق، دار الينابيع.
18----------: يا دولة الفرهود، الرابط علی شبكة المعلومات العالمية:
http://alnoor.se/article.asp?id=88566 ) )
19-
سليمان، عبدالمنعم محمدفارس (2005): مظاهر التناص الديني في شعر احمد مطر،
فلسطين،جامعة النجاح، رسالة جامعية باشراف يحيی عبد الرووف جبر.
20- عبدالمطلب، محمد(1995):قضايا الحداثة عند عبدالقاهر الجرجانی،ط1، مصر، الشرکة المصرية العالمية للنشر.
21- العلاق، علی جعفر(1997):الشعر والتلقي،ط1، عمان، دار الشروق.
22- عيد، رجاء(1997): القول الشعری، منظورات معاصرة،ط1، الأسکندرية منشأة دار المعارف.
23- الغذامی، عبدالله (1985): الخطيئة والتفکير،ط1، جدة، النادي الرياضی.
24- القرنی، فاطمة (2008):الشعر العراقی في المنفی (السماوی نموذجاً)،ط1، الرياض، موسسة اليمامة الصحيفة.
25- مرتاض، عبدالملک(1991):«فکرة السرقات الأدبية ونظرية التناص»، جدة، مجلة علاقات النادی الأدبی الثقافی، ج1 .
26- مفتاح، محمد (1997):تحليل الخطاب الشعری، استراتيجية التناص،ط1، بيروت، دار العودة.
27- نجم، مفيد(2001):«التناص بين الاقتباس والتضمين والوعی واللاشعور»، جريدة الخليج، ملحق بيان الثقافة، عدد55.