[center]
العدد الثالث عشر- مرجعية القرآن الشاملة للتأسيس الحضاري > الأفهوم القرآني ونظريات تشكل الخطاب_ السيد محمد مصطفوي
الأفهوم القرآني ونظريات تشكُّل الخطاب
السيد محمد مصطفوي
توطئة
ما هو الأساس في فهم القرآن الكريم وآياته؟ هل القرآن له اعتباراته الخاصة في تكوين الأفهوم أم يتبع النظام اللغوي العام؟ أم يتجاوز النظام اللغوي ويستعين من الأنظومات الأخرى ذات الصلة أيضاً؟ ما هي الاعتبارات التي يمكن الاعتماد عليها لتضييق أو توسعة دائرة الخطاب من منطلق قرآني؟ هل هناك حقائق شرعية-قرآنية على مستوى الألفاظ ومعانيها؟ هل يمكن الاستناد إلى نظريات الخطاب في تكوين الأفهوم القرآني؟ هذه وغيرها من الأسئلة الفرعية سنحاول الإجابة عليها في هذا البحث.
ولكن ينبغي قبل كل شيء أن نشير إلى أن المهتمين بالتفسير وفهم النصّ يميّزون بين معنى النّص وأفهومه. ويعتبر هؤلاء أن المعنى يتصل بالاعتبارات الدلالية التركيبية للنّص بخلاف الأفهوم؛ حيث إنّه يرتبط بالموقف الذي تتم فيه قراءة النّص، ويعبّرون عن ذلك بـ"الوظيفة الاتصالية" التي تستحضر الهدف المقصود وسياق الحدث وإطاره، ولا يُقتَصَر فيها على النّص فقط بل يُعتَمَد على تراكم معقّد من معنى النّص وعوامل تكوين الموقف وفهمه.
وبتعبير آخر، إن الأفهوم يتكوَّن من خلال جدلية "النَّص" و "المتلقِّي" ولهما هيمنة أساسية على عملية الفهم لا شكلية. ولم يخرج النَّص القرآني على كلام العرب وإنما مَنَح متلقيه حرّية في اكتشاف دلالاته المتجددة، وأول خطاب وجّه إلى المتلقي هو خطاب الاعتبار المسمّى بـ"النّصبة" وهو واحد من الدلالات الخمس التي ذكرها "الجاحظ":
"فهي الحال الناطقة بغير اللفظ والمشيرة بغير اليد، وذلك ظاهر في خلق السماوات والأرض، وفي كل صامت وناطق وجامد ونائم، ومقيم وظاعن، وزائد وناقص، فالدلالة التي في الموات الجامد، كالدلالة التي في الحيوان الناطق. فالصامت ناطق من جهة الدلالة والعجماء معرّبة من جهة البرهان، ولذلك قال الأول: سل الأرض، فقل: من شق أنهارك، وغرس أشجارك وجني ثمارك؟ فإن لم تجبك حواراً، أجابتك اعتباراً"([1]).
لقد أصبحت أشياء الكون واسطة لإيصال رسالة إلى المتلقي ليتمعّن في جوهر الأشياء الماثلة أمامه وحقيقة وجودها وموجدها، فإن باعثها هو الله سبحانه. فأساس خطاب الاعتبار إذن إعمال العقل، وتحريك الفكر. فالنصبة "أداة تواصل تحمل رسالة صامتة أو خطاب بالحال...ومصدر الرسالة، وباثها هو الله خالق العالم، ومتلقيها هو الإنسان الذي يتأمل الكون من حوله فيستخلص منه وجوه الحكمة الإلهية"([2]).
1- الأفهوم: تعريفه ومراحل تكوينه
1-1- المقصود بالأفهوم
انطلاقاً مما سبق ذكره من التمييز بين معنى النص وأفهومه وأن المعنى يرجع إلى المعرفة التبيينيَّة التي تعتمد على قواعد اللغة، ويعنى بالمستويات اللغوية الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية، من خلال ظواهر كل مستوى، بخلاف الأفهوم؛ إذ يرجع إلى المعرفة التفسيرية ويعتمد على قواعد التفسير والتأويل ويرتبط بالاتصال اللغوي، وأطرافه وشروطه، وقواعده وآثاره، وأشكال التفاعل، ومستويات الاستخدام، وتضمينات الدلالة وصور التلقي، والسياق وخلفية القارئ وكفاياته، والوسائل والأدوات المستخدمة في عمليات الوصف والتحليل والتفسير، ومدى القدرة على إبراز إمكانات النصوص وطاقاته اللامحدودة في المعرفة التفسيرية.
كما أن الأفهوم يتأثر بالتضمينات النظرية والمجال المعرفي الذي تتم فيه عملية التثوير والاكتناز. ويتصل بدائرة المصطلح ومداه المعرفي، وقبلياته وبعدياته، والشحنة المعرفية المرافقة له، وخصائصه الحضارية، وهيمنته المقولية وغيرها.
وعليه، نستطيع القول: إن "الأفهوم" داخل كل لغة يعيد "تنظيم الفيض المتواصل من التجارب المحسوسة وتأويلاتها المختلفة. إنّه في الواقع عملية تأطير لأفكار ترتب العالم على نحو يتلاءم مع مقولات الذهن والوجدان المتجسدين في اللسان... هنا تلعب الألفاظ والأسماء دورها في تصنيف الأشياء وترتيب الكائنات"([3]).
من هنا، وبالاستناد إلى اللسانية والاستعارة منها نستطيع أن نميّز بين مستويين للّغة:
مستوى العبارة ومستوى المضمون، ويشمل مستوى العبارة مجالين من اللسانية هما: جوهر العبارة (الفونيطيقا)، وصورة العبارة (الفونولوجيا)، كما أن مستوى المضمون يشمل مجالين آخرين هما: صورة المضمون (علم المبنى)، وجوهر المضمون (علم المعنى)، ومع أهمية مستوى العبارة في تكوين الأفهوم، إلاّ أن محور التركيز فيه على المضمون الذي يتَّصل بعلمي المبنى والمعنى.
وتأسيساً على ما سبق، فإن أي بحث أفهومي لم يتطرق إلى تاريخ الأفهوم وظروفه والنظام المعرفي الذي ينتمي إليه يبقى قاصراً عن الإحاطة الكاملة به. إن التعرّف على مكونات الأفهوم ومؤسساته جزء لا يتجزأ من المعرفة المعمقة بالأفهوم.
1-2- مراحل تكوُّن الأفهوم
نستطيع أن نميّز بالنظرة التاريخية والمقارنة إلى الأفهوم مراحل ثلاث أساسية، هي: مرحلة الولادة، مرحلة النماء والتطوير، ومرحلة الاستعمال والتوظيف، وفي ما يلي شرح موجز لهذه المراحل:
1-2-1- مرحلة الولادة:
لكل أفهوم مرحلة ولادة، وهي تارة تتم عبر الاشتقاق، وأخرى عبر التركيب، وثالثة بالتطويع، ورابعة بالنقل، وخامسة بالتوريد وهكذا. على أن الولادة في جميع هذه الصور تارة طبيعية وأخرى قسرية. ونعني بالولادة الطبيعية تلك الولادة التي تتحقق في شروطها التاريخية والثقافية ومن خلال أنظومة مرجعية تتشكل إحداثياتها الأساسية من محددات هذه المرجعية ومكوناتها، وفي رأسها الموروث الثقافي، والبيئة الاجتماعية، والنظرة إلى الذات والآخر، بل النظرة إلى الكون والإنسان والمستقبل. كل ذلك بالرجوع إلى المناهج والقواعد، والرؤى والأساليب المعتمدة في اللغة المرجعية وثقافتها.
كما نعني بالولادة القسرية كل ولادة تتم بالانصياع لأنساق ومناهج وأساليب لا صلة لها بالثقافة والأنظومة المرجعية وتتحقق في ظروف الإقصاء، والاستبعاد، والتعسُّف.
وعليه، فكل تركيب، أو اشتقاق، أو توريد، أو نقل أو تطويع يتم في الظروف الطبيعية هي أصيلة ومتسقة مع متطلبات المرجعية اللغوية وثقافتها وظروفها التاريخية.
كما أن كل تركيب، أو اشتقاق، أو توريد، أو نقل أو تطويع يتم في ظروف الإكراه والهيمنة وبالاستناد إلى مرجعيات أخرى، وفي ظل مركزية ثقافة الآخر هي غير طبيعية، دخيلة وتعسفية.
ولكن ليس كل استعارة أو توريد دخيل وقسري، بل يتصل ذلك بمدى الخضوع والإخضاع، فإن أدت الاستعارة والتوريد إلى الخضوع لشروط وقبليات وبعديات الثقافة المستعارة والمستورد منها فهي دخيلة. في حين أن الاستعارة والتوريد إن خضعا لإشراطات قبلية وبعدية من الأنظومة المرجعية المعتمدة، فإنها أصيلة وطبيعية؛ ولذلك نجد في القرآن الكريم تطويعاً واستعاراتٍ كثيرةً من لغات وثقافات أخرى ولكن ضمن شروط المرجعية اللغوية (اللغة العربية)، والمرجعية الأفهومية (القرآنية).
1-2-2- مرحلة التطوّر:
إن "الأفهوم" هو الوجود الحقيقي والعملي للوعي بالأشياء والآخرين، فبالإضافة إلى دوره الوظيفي الاسمي والإشاري والنفسي والعاطفي و... في دائرة الكلام اللغوي، فإنه يقوم بتنظيم معارف الإنسان عن العالم الموضوعي وتصنيفها وبثها في الوعي الإنساني.
ويخضع "الأفهوم" لاعتبارات الشكل (الصورة)، الدلالة (الرسالة)، والتضمين:
أولاً: الأفهوم والعبارة:
يخضع الأفهوم في مرحلة العبارة لاعتبارات الشكل، انطلاقاً من التكوين الصوتي؛ حيث إنَّ اللغة العربية تنتمي إلى النظام الثلاثي (الأنماط الرئيسة) بخلاف اللاتينية التي تنتمي إلى الخماسي، والإيطالية إلى السباعي، والإنكليزية إلى التساعي([4]).
مروراً بالاشتقاق الصرفي؛ حيث إن له مفاعيله على مستوى الدلالة، ولعلّ من اشتقاق التوهم في العربية ما ذكره الفراء عن امرأة من غنيّ قالت: "رثأت زوجي بأبيات"، فهمزت تريد: "رثيته"، فقال الفراء: "وهذا من المرأة على التوهّم؛ لأنّها رأتهم يقولون: "رثأت اللبن، فظنّت أن المرثية منها"([5]). ومن ذلك قول الزمخشري: "من بدع التفاسير قول من قال: إن الإمام في قوله –تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾([6]) جمع "أم" وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم دون آبائهم. وهذا غلط أوجبه جهله بالتعريف، فإنَّ "أماً" لا يجمع على إمام"([7]).
ووصولاً إلى التركيب النحوي المبني على قواعد صارمة ضمن مبدأ "طواعية التركيب" التي أوجدت العلاقة المتينة بين الوظيفة والموقع النحوي للكلمة فسهَّل على ناظم الكلام في العربية تقديم كلمة أو تأخيرها إن أمن اللبس، كما هو الحال في نائب الفاعل، والمبتدأ والخبر، والحال وعاملها المتصرِّف، والمستثنى والمستثنى منه، والصفة والموصوف وغيرها.
ثانياً: الأفهوم والدلالة:
يخضع الأفهوم في مرحلة الدلالة لاعتبارات قبلية ومقارنة وذلك ضمن المستويات التالية:
أ- المستوى التاريخي:
انطلاقاً من أنه لا وجود لأفهوم آحادي المكوّن، وأن لكل أفهوم مكوناته الأساسية والطارئة من خلال تاريخية الأفهوم وحركيته، التي تؤدي إلى تعرّض الأفهوم لعمليات التحريف والتلبيس، يتطلب ذلك منا أن نرى الأفهوم في إطاره التاريخي في أبعاده الثقافية، السياسية والاجتماعية، ونرصد حركته في الزمان والمكان. ومن الأمثلة على ذلك رصد السيد محمد باقر الصدر لمفهوم "الاجتهاد" في الثقافة الإمامية([8]). ورصد مجيد عبد الرحمن لمفهوم "الفقر"([9]) انطلاقاً من تقويض الدلالة الآنية للمفهوم واستعادة دلالة الفقر الاختياري المرتبط بالزهد والروحانية وبالرجوع إلى الأنظومة المرجعية وحديث الرسول(ص): "الفقر فخري"([10]). ورصد محمد عبد الله درّاز لمفهوم "الدين"([11])، بدراسة الخلفية التاريخية للأفهوم في مختلف التجارب الحضارية، وبيان وجوه تصريف اللفظ واختلافات اشتقاقه الذي يؤدي إلى اختلاف الصورة.
ب- المستوى السياقي:
السياق عبارة عن الفضاء الذي يحيط بالكلام وما يكتنف الجمل والعبارات من قرائن ومحددات وعلامات تساهم في بلورة المراد. وبعبارة أخرى، السياق عبارة عن: "كل ما يكتنف اللفظ الذي نريد فهمه، من دوال أخرى، سواء كانت لفظية كالكلمات التي تشكّل مع اللفظ الذي نريد فهمه كلاماً واحداً مترابطاً، أو حالية كالظروف والملابسات التي تحيط بالكلام وتكون ذات دلالة في الموضوع"([12]).
حيث نستطيع من خلال معرفة السياق والمنطق الداخلي الذي يحكم النّص أن نحدِّد المعنى المراد من الكلام، وبناء الأفهوم المتسّق مع النّص. ورد عن "ابن جرير الطبري"، في قوله –تعالى-: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء، بِيَدِكَ الْخَيْرُ، إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾([13]). أن المراد من "الملك" هو الملك والثراء الأخروي في الجنّة([14]). واعترض عليه "الشريف الرضي" مستنداً إلى "السياق" الذي يحكم النّص، قائلاً إن "الملك" الذي يهبه الله –تعالى- وينزعه من عباده هو في الدنيا دون الآخرة([15]).
كما استند الطباطبائي([16]) إلى "السياق" لنفي ما اتفق عليه المفسّرون بمدنية الآية الرابعة والعشرين من سورة المعارج: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ﴾، مذكّراً المفسرين بما يلزم من القول بمدنية هذه الآية مدنية الآيات العشرة التالية لها والمتحدة معها في السياق؛ إذ لا يمكن القول بالفصل بين المتعلَّق والمتعلِّق والمستثنى والمستثنى منه في مجموعة من الآيات المتصلة بعضها ببعض.
إلا أن السياق لا يقتصر على المعطى اللفظي بل يعنى بالمعطى الحالي كما يأتي أيضاً.
جـ- المستوى النفسي- الاجتماعي:
يتصل الأفهوم بالأعراف والتقاليد والقيم التي تسود في المجتمع، وكما أشرنا في ما سبق أن الأفهوم هو تركيب صورة الحياة وتنظيم الفيض المتواصل من التجارب المحسوسة، وتأويلاتها المختلفة التي تعتمد على معرفة البنية النفسية والاجتماعية التي تكوِّن الأفهوم. وعليه، يصعب تكوين الأفهوم التاريخي –وهو المطلوب في النّص الديني- بمعزل عن معرفة الأعراف، التقاليد والقيم السائدة في عصر النص، ومن دون إعادة ترميم البنية الاجتماعية والنفسية لعصر النّص.
كما يهدف البحث الاجتماعي-النفسي الوصول إلى الخيوط التي تتحكّم بتصور الجماعة البشرية في مرحلة تاريخية وتشكِّل أنموذج العمل التاريخي لجماعة بشرية حسب مصطلح عالم الاجتماع الفرنسي "آلان تورين" في كتابه: "إنتاج المجتمع". ما يسمح بتعيين النموذج المثالي الذي يفسّر السلوك الاجتماعي وخلفيات الخطاب الذي يتكوّن في مجتمع ما، ويحدّد العوامل الشعورية وغير الشعورية، والجذور الاجتماعية، ومكوّنات العقل الباطن الذي يتحكّم بالميول والرغبات ويفسّر الإعراض والإقبال لدى الجماعات.
وممن اهتم بالبعد الاجتماعي والنفسي لتكوين الأفهوم وفهم النّص من الفقهاء والمفسرين السيد محمد باقر الصدر، يقول في مقال له تحت عنوان: "الفهم الاجتماعي للنّص"([17]): "والسؤال الذي يجب أن نطرحه بهذا الصدد هو هذا: هل يصل الشخص الذي يحاول فهم النّص إلى المعنى النهائي له بكل حدوده، إذا أحصى الدلالات اللفظية من وضعية وسياقية، واستوعب المعطى اللغوي للنّص؟
والجواب بالإيجاب والنفي معاً، فالجواب بالإيجاب إذا افترضنا أن هذا الشخص الذي يحاول فهم النّص الشرعي إنسان لغوي فحسب، أي انسان تلقّن اللغة وحياً وإلهاماً، فهو يعرف اللغة ودلالات الألفاظ الوضعية، والسياقية وليست له خبرة سوى الخبرة اللغوية، ينتهي عمله في فهم النّص عند جمع الدلالات الوضعية والسياقية، وتحديد الظهور اللفظي على أساسها. والجواب بالنفي إذا كان الشخص الذي يحاول فهم النّص قد عاش الحياة الاجتماعية مع سائر العقلاء من أفراد نوعه في مختلف المجالات الحياتية، فإنَّ الأفراد الذين يعيشون حياة اجتماعية من هذا القبيل تتكون لديهم خبرة مشتركة، وذهنية موحدة، إلى جانب ما يتميّز به كل فرد من خبرات، واتجاهات، وتلك الخبرة المشتركة والذهنية الموحدة تشكّل أساساً لمرتكزات عامة وذوق مشترك في مجالات عديدة بما فيه المجال التشريعي والتقنيني... ويأتي دور الفهم الاجتماعي للنّص حيث ينتهي دور الفهم اللفظي واللغوي له. فإن الفقيه في الدرجة الأولى يحدِّد المعطى اللغوي واللفظي للنّص، ثم بعد أن يعرف معنى اللفظ يسلّط عليه الارتكاز الاجتماعي ويدرس المعنى بالذهنية الاجتماعية المشتركة (مناسبات الحكم والموضوع)، فيظهر له من النّص أشياء جديدة، لم تكن تبدو على مستوى الدرجة الأولى في حدود الفهم اللغوي للفظه...
أما المبِّرر للاعتماد على الارتكاز الاجتماعي في فهم النّص فهو نفس مبدأ حجية الظهور...".
كما اعتمد "مالك بن نبي" في تحديده لأفهوم "الثقافة" على المعطى النفسي وتضمن التحديد -حسب بن نبي- على عملية إدراك الشيء وتسميته باسم معين: "فإذا سمّيتَ شيئاً فمعنى ذلك أنك تستخرج منه فكرة معيّنة؛ أي أنك تؤدي أول عمل من أعمال المعرفة بالنسبة لذلك الشيء، وهو العمل الذي يعتبر حضوره المجرَّد في ذلك الامتداد الهائل الذي يحوط الأنا إلى وجود تدركه الأنا". وعليه، فإن تكوين الأفهوم حسب مالك بن نبي يمّر بخطوات أربع:
أ- إدراك الشيء. ب- تسمية الشيء. جـ- تكوين الفكرة عنه. د. بناء الأفهوم.
ويبدو أن الأفهوم العرفي الذي يُرَكَّز عليه كثيراً في النّص الديني يعتمد على المعطيات النفسية، والمسافة منفرجة بين المعنى اللغوي والمعنى العرفي المبني على المعطيات الاجتماعية والنفسية.
د- الاعتبار الأنظومي:
يهدف هذا الاعتبار إلى بيان أن ثمة أفهومات أخرى مرتبطة بالأفهوم وذات صلة بتكوينه، وتحديد إطاره، وتوضيح سياقاته، وفك شباكاته، وبيان تقاطعاته. وأن الأفهوم داخل اللغة وثقافتها ليس مفردة منبتة الصلة بسياقها المعرفي وبأنظومة الأفهوم التي تتساند أو تتناقض معه. وهناك ثلاثة أنواع من العلاقة الأنظومية: أ- العلاقة المعرفية؛ ب- العلاقة الوظيفية؛ جـ- العلاقة النَسَبِيَّة.
ومن الأمثلة على الارتباط المعرفي-الأنظومي: ما عرض له العالم الياباني والباحث في مجال المعارف القرآنية: "توشيهيكو إيزوتسو"([18])، حيث اعتمد في صياغة الارتباط على مصطلحات: المفتاح، المركز، والميدان المعرفي. ورأى أن مصطلحات المفاتيح في القرآن لها مجاميع كثيرة وتلك المجاميع هي "الميادين المعرفية للقرآن"، ولكل ميدان معرفي "مركز" يستقطب من حوله الكلمات الأساسية (مصطلحات المفاتيح) التابعة لذاك الميدان.
وحسب "إيزتسو"، تؤلف –مثلاً- مصطلحات: الإيمان، والله، والتصديق، والإسلام، والشكر، والتكذيب، والعصيان، والكفر وغيرها "مساحة معرفية" حسب الاستخدام القرآني؛ بحيث يكون مصطلح "الإيمان" هو مركز الساحة وبؤرتها. وهذه المصطلحات تتبادل الأدوار في ميادين معرفية أخرى، بأن يصبح المركزي عادياً والعادي مركزياً وهكذا.
ومن الأمثلة على الارتباط الوظيفي الشجرة المفاهيمية التي قدَّمها "أوتو أولريخ"([19]) لمفهوم التقنية. وربط بينها وبين مفاهيم: "العلم" و "الصناعة" و "التنمية" وظيفياً.
ومن الأمثلة على الارتباط النسبي: العلاقة القائمة بين "الثورة" و "التقدّم" حسب "خوسية ماريا سبرت"؛ حيث اعتبر أن الثورة ابنة التقدم.
ثالثاً: الأفهوم والتضمين:
ومما يؤثّر في "الأفهوم" ويدخل في تكوينه وتطويره، "التضمين". وللتضمين دلالات متباينة بحسب موارد الاستعمال، ففي البلاغة يأتي في باب "التضمين والقياس"، وفي العروض يأتي في باب "عيوب القوافي"، وفي النحو في باب "حروف الجر" و "المتعدي واللازم"([20]).
والتضمين عند النحاة وجلّهم من مدرسة البصرة يعني: "إشراب لفظ معنى لفظ آخر". والتضمين بهذا المعنى يعتبر أحد أبرز الأساليب التي خرجت عليها كثير من الاستعمالات في القرآن الكريم، وفي كلام العرب([21]). إلاّ وأنّنا نقصد من "التضمين" أفهوماً أوسع يتعدّى معطيات لغوية بحتة ليشمل قيوداً، وإشراطات، والتزامات، واستعارات تدخل دائرة الأفهوم سواء كان مصدرها اللغة أوالعلوم والمعارف المرتبطة بها الأعم من إنسانيات وطبيعيات واجتماعيات؛ حيث إن الأفهوم لا يسلم من قيود منطقية، وفلسفية، ولغويات تاريخية، ولغويات اجتماعية، وعلم نفس اللغة، والألسنيات وغيرها. كما أن الأفهوم في دائرة النّص الديني لا يخلو من قيود كلامية، ولغويات أصولية، وفقه اللغة، وهندسة النظم الدينية، وفلسفة اللغة، وفلسفة الدين. وسوف نشير إلى نماذج من التضمينات في دائرة الأفهوم.
أ- تضمينات منطقية:
بدأ الاهتمام بقواعد المنطق واعتباراته في مجال تكوين "الأفهوم" عند علماء المسلمين منذ عهد بعيد. ومِّمن كرّس هذا الاهتمام من الفقهاء والكلاميين هو "الغزالي"؛ إذ عبّر عن المنطق وقواعده بـ "القسطاس المستقيم"([22])، حيث يقول: "لا أدّعى أني أزن بها (بقوانين المنطق) المعارف الدينية فقط، بل أزن بها العلوم الحسابية والهندسية والطبيعية والفقهية والكلامية. وكل علم حقيقي غير وضعي، فإنّي أميّز حقّه عن باطله بهذه الموازين وكيف لا وهو القسطاس المستقيم"([23]).
ويعتبر عدم بروز "نقاط انكسار" داخل المفاهيم في الأنظومة المفاهيمية من الأمور التي يتم رعايتها انطلاقاً من الاعتبارات المنطقية.
ومن المفاهيم التي أدعي بشأنها بروز نقاط انكسار أفهومي بالنظر إلى المعنى الشائع له هو "أفهوم الإعجاز"؛ إذ المعنى المشهور له عند المفسرين هو ما يعبَّر عنه "الشريف الجرجاني" بقوله: "الإعجاز هو أن يرتقي الكلام في بلاغته إلى أن يَخْرُجَ عن طوق البشر، ويعجزهم عن معارضته"([24]). ومن هنا، اعتبر أن الإعجاز القرآني يتجسّد في بعده البلاغي المتَّصل بالتذوق اللغوي.
وممن خالف هذا الأفهوم للإعجاز هو "مالك بن نبي"؛ حيث انطلق من الاعتبارين التاليين([25]):
1- استمرارية الإعجاز القرآني: بمعنى أن يكون إعجاز القرآن صفة ملازمة له عبر العصور والأجيال.
2- أن يكون الإعجاز في مستوى إدراك الجميع، لكونه حجة للناس جميعاً؛ إذ لا قيمة له، ولا فائدة منه، إذا كان فوق إدراك المخاطبين.
وعليه، اعتبر "مالك بن نبي" أن الإعجاز بالمعنى الشائع، يخالف الاعتبارين لاسيما الاعتبار الثاني؛ إذ نشاهد اليوم تطوراً كبيراً على صعيد الأذواق والاتجاهات. فالمسلم اليوم فَقَدَ فطرة العربي الجاهلي، وإمكانات عالِم اللغة في العصر العباسي (الجاحظ وغيره)، فلا يستطيع أن يتذوّق الجانب البلاغي في القرآن الكرم، فينبغي أن يكون الإعجاز القرآني بالنسبة إليه أمراً آخر غير الجانب البلاغي([26]).
ويقترح "مالك بن نبي" تعديل أفهوم الإعجاز وتوسيعه ليشمل كل حجّة يقدّمها القرآن ويعجز عنها البشر، لا سيما في الأبعاد النفسية والعلمية. مبرراً ذلك بقوله: "والحق أنه لا يوجد مسلم- وخاصّةً في البلاد غير العربية- يمكنه أن يقارن موضوعياً بين آية قرآنية، وفقرة موزونة، أو مقفّاة من أدب العصر الجاهلي، فمنذ وقت طويل، لم نعد نملك في أذواقنا عبقرية اللغة العربية... ومنذ وقت طويل أيضاً تكتفي عقائدنا في هذا الباب بالتقليد الذي لا يتّفق وعقول المتعلِّقين بالموضوعية، فمشكلة التفسير توضع إذن في ضوء جديد"([27]).
ب- تضمينات كلامية (عَقَدية):
إن أولى التنظيرات في مجال "الخطاب الديني" في الوسط الإسلامي برزت من خلال المباحث الكلامية ونتج من ذلك بروز الاتجاهات الثلاثة التالية:
1- الإتجاه الأشعري القائل بالتفريق بين "الكلام" و "الخطاب" وجعل الثاني دالاً والأوّل مدلولاً: يقول "الشهرستاني": "الكلام معنى قائم بالنفس الإنسانية، وبذات المتكلِّم، وليس بحروف ولا أصوات، وإنّما هو القول الذي يجده العاقل من نفسه ويجليه في خلده... والعبارة والإشارة والكتابة دلالة بقرائنها، تدل على أن لها مدلولاً خاصاً متميزاً"([28]). ويعبّر عن هذه الحقيقة الشاعر بقوله:
إنَّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
2- الإتجاه المعتزلي القائل بأن المعنى الحقيقي للكلام هو الخطاب والعبارة. وقد يستخدم الخطاب مجازاً بالأفهوم المدلولي. وينقد "القاضي عبد الجبار المعتزلي" الأشاعرة الذين يزعمون أنّ الكلام معنى قائم بالنفس، قائلاً: "فأما من زعم في الكلام أنه خارج عن الحروف المسموعة، وأنه معنى في النفس فقد أبعد؛ لأنه إمّا أن يثبت هذا المعنى بالضرورة، فقد كان يجب أن نعرفه، أو بدلالة فيجب أن تذكر، وعلى أنه كان يجب أن لا يمتنع وصف أحد ما بالسكوت والخرس مع كونه متكلِّماً؛ لأنَّ المعنى الذي في النفس لا يصح أن يمتنع من الخرس في اللسان أو من السكوت فيه، وقد عرفنا خلافه، وليست تسمية أحدنا بذلك وهو ساكت على طريقة اللغة، بل هي على جهة الصياغة كما يقال: خيّاط ونجاّر وإن كانا غير فاعلين في الوقت، فلا يقدح في ما نقوله"([29]).
3- اتجاه بعض علماء الأصول من بينهم "الغزالي" القائل بأنَّ "الكلام" مشترك لفظي يطلق تارةً على المعنى النفسي (المدلول) وأخرى على الخطاب (الدال)، يقول الغزالي: "الكلام اسم مشترك قد يطلق على الألفاظ الدالة على ما في النفس تقول: سمعت كلام فلان وفصاحته، وقد يطلق على مدلول العبارات، وهي المعاني التي في النفس"([30]). ويمكن أن يؤيد هذا الرأي بما ورد في القرآن الكريم من قوله –تعالى-: ﴿وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ﴾([31])، وقوله –تعالى-: ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ﴾([32]).
وسواء اخترنا الرأي الأول أم الثاني أم الثالث، أم اخترنا رأياً آخر سواها، فإن في القرآن الكريم نماذج من التضمين الكلامي لجهة بناء الأفهوم. ومن الأمثلة على التضمينات الكلامية (العقدية) لتكوين الأفهوم ما يلي:
- أفهوم "الغواية" في قوله –تعالى-: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾([33]).
فإن العديد من المفسرين ينكرون المعنى الظاهر تنزيهاً للنبي آدم(ع). ويؤولون هذا بقول العرب "قد غوى الفصيل، إذ أكثر من اللبن حتى يبشم"([34]). ولكن يرى "ابن قتيبة" "أن هذا قول مستهجن، فيه مماحكة وشطط في إخراج الألفاظ عن دلالاتها، والصواب أن يقال: "عصى وغوى"، لا أن يقال: "آدم عاصٍ وغاوٍ"؛ لأن ذلك لم يكن عن اعتقاد متقدِّم ولا نيّة صحيحة"([35]).
- أفهوم "الضلالة" في قوله –تعالى-: ﴿يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء﴾([36]).
حيث جنح أهل القدر في دلالة هذه الآية الشريفة إلى أنّ المتعيّن منها أنه على جهة التسمية، والحكم عليهم بالضلالة، ولهم –لأهل القدر- بالهداية، وقد قال فريق منهم: يضلهم: ينسبهم إلى الضلالة، ويهديهم، يبيّن لهم ويرشدهم([37]).
- أفهوم "الوجه" في قوله –تعالى-: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾([38]). وقوله –تعالى-: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ﴾([39])، وقوله –تعالى-: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾([40])، وقوله –تعالى-: ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾([41]). وقد أوّل المفسرون لفظة "الوجه" رفعاً للتشبيه والتنزيه ومن هؤلاء "ابن قتيبة" في "تأويل مشكل القرآن"([42]) حيث اعتبر اللفظة زائدة في هذه الآيات([43]).
ج- تضمينات أصولية (فقه الخطاب)
إن تكوين الأفهوم الشرعي (نسبة إلى الشرع الإسلامي) يتصل بمثّلث: الحاكم، والمحكوم به، والحكم. وهذه المباحث تشكل مواضيع أساسية لعلوم ثلاثة في الشريعة الإسلامية وهي: علم الكلام، وأصول الفقه، والفقه، فإنَّ مبحث "الحاكم" مبحث كلامي أصيل. وأما مبحث "المحكوم به" فهو بحث في "فعل المكلف" الذي تتوجه إليه الأحكام الفقهية ويدور عليه علم الفقه. وأما مبحث "الحكم" فهو محور البحث الأصولي في مجال الأحكام الشرعية.
وتلتقي هذه المجالات الثلاث في علم "أصول الفقه": علم منهج البحث في الشريعة الإسلامية؛ حيث يتم البحث عن المواضيع الثلاثة معاً في هذا العلم، ويؤسَّس عليها فقه الخطاب الديني الإسلامي. وعلم أصول الفقه بدوره، تأثر، حسب الصدر ([44])، بعناصر ثلاثة:
1- علم الكلام: حيث لعب دوراً أساساً في تموين الفكر الأصولي وإمداده، بخاصةً في العصر الأول والثاني؛ لأنَّ الدراسات الكلامية كانت منتشرة وذات نفوذ كبير على الذهنية العامة لعلماء المسلمين، حين بدأ علم الأصول ليشتق طريقه إلى الظهور فكان من الطبيعي أن يعتمد عليه ويستلهم منه"([45]).
ويوجد عدد من القواعد الكلامية التي دخلت مجال علم الأصول وشكلت بنية الفكر الأصولي هي: قاعدة الحسن والقبح العقليين، وقاعدة تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد الواقعية، وقاعدة قبح العقاب بلا بيان.
2- الفلسفة: حيث أصبحت مصدراً لإلهام الفكر الأصولي في نطاق واسع منذ العصر الثالث، ومن الأمثلة على ذلك مسألة تعلق الأوامر بالطبائع أو الأفراد، ومسألة اجتماع الأمر والنهي وغيرها([46]).
3- عنصر الزمان: حيث إن "علم الأصول يُمْنَى نتيجة لعامل الزمن وازدياد البعد عن عصر النصوص بألوان من المشاكل، فينمو بدراستها والتفكير في وضع الحلول المناسبة لها..."([47]).
وترتبت على عامل الزمن مسائل عدة: منها: بروز اتجاه جديد في مستهل العصر الثالث ادعى انسداد باب العلم([48]). منها: الاختلاف في أن الظهور الحجة هو الذاتي أو الموضوعي([49])، ومنها: "الاختلاف في أن الحجة من الظهور هو زمن صدور الخطاب أو وصوله"([50]).
4- العامل النفسي: ولعب العامل النفسي دوراً كبيراً في الحفاظ على القناعات المكرَّسة لدى الفقهاء نتيجة ظروف سادت واقعهم الاجتماعي؛ حيث إن "علماء الأصول عندما واجهوا الفقه الموجود بأيديهم، وكانت لديهم تلك القناعة الوجدانية والحالة النفسية وهي التحفظ على أطر ومسلمات ذلك الفقه، صاروا بصدد إيجاد قواعد أصولية يمكن أن تشكِّل الغطاء الاستدلالي لتلك المسلمات الفقهية. فنشأت عندنا قواعد حجّية الشهرة والإجماع المنقول وانجبار الخبر الضعيف بعمل الأصحاب ووهن الخبر الصحيح بإعراضهم، بل تعمَّقوا أكثر من هذا في مقام المحافظة على المسلّمات الفقهية فعمّموا قاعدة انجبار السند بعمل الفقهاء لتشمل انجبار الدلالة بفهمهم..."([51]). والأهم من ذلك أن الحالة النفسية حالت دون الممانعة من التعاطي الإيجابي مع تلك القواعد على الصعيد الفقهي والعملي مع عدم مقبوليتها على الصعيد النظري وفي علم الأصول: "ولكن هؤلاء الذين هدموا هذه القواعد في علم الأصول كالشيخ [الأنصاري] و من تبعه لم يهدموها في الفقه، بل بقي علم الفقه محافظاً عليها وإن كانت لا دليل على حجيتها في الأصول. والسبب في ذلك يرجع إلى تلك الحالة النفسية التي كانت تمنع الفقيه عن أن يسقط تلك المسلمات وسقط دليلها العلمي في الأبحاث الأصولية"([52]).
العوامل الأربعة السابقة مضافةً إلى عوامل أخرى كاللغة وآدابها ساهمت بشكل فعّال في تكوين "الخطاب الشرعي" من منظور أصولي. ويشير إلى دور "القبليات" وأهميتها في تكوين "الأفهوم الأصولي" وفقه الخطاب "القاضي عبد الجبار" بقوله: "إنّ جميع القرآن إنّما يمكن أن يستدل به ويعلم صحته ووجه دلالته، متى علم من حال فاعله أنّه حكيم لا يكذب في أخباره، ولا يفعل الخطاب على وجه يقبح عليه، ومحال أن يكلم من يجحد ذلك في فرع من فروعه"([53]). ومثله "ابن العربي المعافري" حينما يقول: "لا يجوز أن يكون السمع طريقاً إلى معرفة الباري –تعالى- ولا شيء من صفاته لأنّ السمع منه، فلا يعلم السمع إلاّ به، ولا يعلم هو إلاّ بالسمع فيتعارض ذلك ويتناقض"([54]). وللخروج من هذه الإشكالية توسلوا بقضايا قبلية مسلّمة ترتكز عليها أصول الاستدلال والاستنباط. وبتعدد القبليات وتضميناتها تتعدد أساليب تكوين الأفهوم وبناء الخطاب القرآني.
1-2-3- مرحلة التوظيف:
تعتبر مرحلة "التوظيف" من أهم مراحل سيرة الأفهوم، باعتبار أنّها مرحلة استثمار وتفجير طاقاته العملية. وتظهر فاعلية الأفهوم وقدراته التأثيرية من خلال هذه المرحلة.
وفي كثير من الأحيان التوق إلى الماضي والبحث عن التاريخ اللغوي والمعرفي، والديني، والثقافي للأفهوم، والاستعانة بالمؤثرات النفسية، يتم لمهمّات توظيفية-ضبطية، وتحت ضغط الحاجة إلى استخدام أوسع وتشغيل أكثر.
كما أن نقاط التمفصل في الأفهوم تظهر في مرحلة التوظيف؛ حيث الحاجة إلى مزيد من الشحنات التأثيرية للأفهوم بهدف تعبوي للجمهور المخاطب.
وكمثال على ما نقول، يمكن أن نتصور نماذج من المفاهيم على مستوى المثل الأعلى كيف يتم "تمفصل الأفهوم" من خلال إجرائين توظيفيين: التعميم الأفقي الخاطئ، والتعميم الزمني الخاطئ. فمثلاً قد "ينتزع الإنسان من تصوره المستقبلي مثلاً، ويعتبر أن هذا المثل يضمّ كل قيم الإنسان التي يجاهد من أجلها، ويناضل في سبيلها. بينما هذا المثل على الرغم من صحته، لا يمثل إلاّ جزءاً من هذه القيم. فهذا التعميم تعميم أفقي خاطئ"([55]) للأفهوم.
"وكمثال على ذلك نأخذ الإنسان الأوروبي الحديث في بدايات عصر النهضة، حيث جعل "الحرية" [الأفهوم] مثلاً أعلى؛ لأنّه رأى أن الإنسان الغربي كان محطّماً ومقيداً، ...، أراد الإنسان الأوروبي الرائد لعصر النهضة أن يحرّر هذا الإنسان من هذه القيود...، وهذا شيء صحيح، إلاّ أن الشيء الخاطئ في ذلك. هو التعميم الأفقي"([56]).
والتعميم الخاطئ هنا هو عمل إجرائي الهدف منه التعبئة والتأثير والتشغيل. وأما الإجراء التوظيفي الآخر على صعيد الأفهوم فهو التعميم الزمني الخاطئ فهو ومثاله: حينما اجتمع في التاريخ مجموعة فشكلوا القبلية، واجتمعت القبائل فشكلت عشيرة، واجتمعت العشائر فشكّلت أمة، إن هذه الخطوات العملية كلها صحيحة ولكن لا يجوز أن تتحول إلى مثل أعلى (المطلق): "لا يجوز أن تكون العشيرة هي المطلق الذي يحارب من أجله الإنسان"([57]).
والقرآن الكريم سعياً منه لتقويض بناء أمثال تلك المفاهيم المصطنعة وفضح تلبيسها يصرِّح قائلاً: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾([58]).
2- نظريات تشكّل الخطاب
انطلاقاً من الاعتبار القائل بعدم وجود "خطاب بريء"([59]) وبالأولى عدم وجود "فهم بريء للخطاب" نظراً للقبليات وما تلعبه "الوسائط"([60])، من دورٍ خطير في تشكُّل الخطاب واستنطاقه، نرى ضرورة دراسة الوسائط في قراءة النص. وتعتبر دراسة نظريات تكوّن الخطاب المدخل المناسب لفهم الوسائط ودورها في قراءة النَّص.
2-1- تعريف الخطاب:
لقد ورد استخدام "الخطاب" في فهم النَّص وتفسيره لدى علماء أصول الفقه للتعبير عمّا يكشف عن الحكم الشرعي. كما ورد التعبير المرادف له عند المناطقة بـ"الدال"([61]). وللخطاب جذور لغوية من حيث المعنى المقصود به عند الأصوليين وذلك انطلاقاً من الاستخدام القرآني كما في قولـه –تعالى-: ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾([62])، قاصداً النبي داوود. وقولـه –تعالى-: ﴿فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾([63])، وقوله –تعالى- مخاطباً النبي نوح: ﴿وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ﴾([64]).
من هنا، يعرّف "سيف الدين الآمدي" "الخطاب" بقوله: "هو اللفظ المتواضع عليه، المقصود به إفهام من هو متهيء لفهمه"([65]). وعليه يرى "الغزالي": بأن "ما لا يفهمه المخاطب لا يكون خطاباً معه"([66]). وبهدف التمييز بين الخطاب الشرعي والحكم الشرعي يؤكد "الصدر" قائلاً: "الخطابات الشرعية في الكتاب والسنة مبرزة للحكم وكاشفة عنه، وليست هي الحكم الشرعي نفسه"([67]).
في حين أنَّ المصطلح الشائع لدى علماء الألسنية للتعبير عن الخطاب –بالمفهوم الأصولي- هو تعبير "حامل العلامة"([68])، المتَّصل بالمستوى الدلالي للتسويم([69]).
2-2- أركان الخطاب:
يتألف الخطاب –عادة- من أركان أربعة: المخاطِب (المتكلّم)؛ والمخاطَب (المتلقّي)؛ أدوات الخطاب ووسائله؛ ومضمون الخطاب. يقول "الشاطبي" شارحاً لوازم فهم كلام العرب: "إنّما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جهة نفس الخطاب، أو المخاطَب، أو المخاطِب أو الجميع؛ إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين وبحسب مخاطبين وبحسب غير ذلك"([70]).
وقد استخدم الأصوليون تبعاً للمتكلمين للتعبير عن الأركان الأربعة، وذلك انطلاقاً من دورهم الوظيفي في تحديد وصياغة الموقف الشرعي للمكلّف تجاه الموضوعات، استخدموا المصطلحات التالية:
أ- الحاكم بدل المخاطِب.
ب- المحكوم عليه بدل المخاطَب.
ج- المحكوم به([71]) بدل أداة الخطاب.
د- الحكم بدل مضمون الخطاب.
وحسب علماء الألسنية –أيضاً- فإن الاتصال يحتِّم وجود: متكلّم، ومستمع، وشيء يريد المتكلم إيصاله إلى المستمع، كما يستتبع وجود علامات ألسنية عبرها يتم الاتصال([72]).
وبتعبير آخر، فإن التسويم (عملية الدلالة) يكون أخذاً بالاعتبار بالتوسط: فالوسيط هو حامل العلامة، والأخذ بالاعتبار هو التعبير، والقائم بالعملية هو المعبِّر، وما يؤخذ بالاعتبار هو المدلول([73]).
ثم إنَّ الأصوليين ينظرون إلى الخطاب من ثلاث زوايا:
1- زاوية الوضع.
2- زاوية الاستعمال.
3- زاوية الحمل.
وانطلاقاً من نظرتهم إلى الخطاب لجهة الوضع يطرحون مباحث: العام والخاص، والمشترك ، ومباحث الحروف وغيرها([74]).
ويطرحون لجهة الاستعمال مباحث: الحقيقة والمجاز، والصريح والكناية ومباحث متصّلة بجهات صدور الخطاب([75]).
ويتناولون من زاوية الحمل أنواع الدلالة: الدال بالعبارة، والدال بالإشارة، والدال بالنّص، والدال بالاقتضاء، ومباحث المفاهيم وغيرها([76]).
غير أن الأصوليين ذوي الاتجاه الكلامي ينظرون إلى الخطاب من ناحية الحمل فقط باعتبار أنّ "الوضع أمر راجع إلى الواضع... والاستعمال من صفات المتكلم... (وهو الشارع)، والحمل من صفات السامع"([77]). وعليه، فإن الاعتبارين الأولين خارجان عن دائرة إحاطة الأصولي، حسب المتكلمين، وما يحيط أو يستطيع أن يحيط به هو الأمر الأخير فقط.
2-3- نظريات الخطاب:
نظراً لأنَّ المعنى في كل خطاب يخضع لشبكة العلاقات المختلفة بما فيها العلاقة القائمة بين الكلمات ضمن بنية النظام اللغوي الذي يتحقق التخاطب فيه؛ وعلاقة الخطاب مع أركانه، لابد من إخضاع عملية الفهم لنظريات تكوّن الخطاب. وبما أنّ تعدُّد الاتجاهات في مجالي التفسير وأصول الفقه داخل العلوم الإسلامية، وتعدَّد الاتجاهات في الألسنيات من فلسفية، ونفسية وتاريخية وغيرها، أدت إلى تكوّن نظريات مختلفة ولا يسع البحث الدخول في تفاصيلها. من هنا، نكتفي ببيان ثلاث نظريات رئيسية في مجال تشكُّل الخطاب وهي: نظرية المحتوى الدلالي، نظرية المدلول السياقي، والنظرية التكاملية، وفي ما يلي عرض موجز لهذه النظريات:
أ- نظرية المحتوى الدلالي:
نظرية المحتوى الدلالي القار للمعنى، أو بالإيجاز "نظرية المحتوى الدلالي"، تقوم على فكرة "المعنى" بالذات، وتدعو إلى محورية "الكلمة" في صناعة المعنى داخل الجملة. ولا تعترف هذه النظرية بوحدات للخطاب خارج دائرة الكلمات وقواعد اللغة (المستوى المعجمي، والمستوى النحوي، أو علم المبنى).
وحسب هذه النظرية فإن الخطاب يتكوّن من خلال المفاهيم (الكلمات) وضمن دائرة قواعد اللغة، وفي فضاء مغلق؛ حيث إنَّ المرجع في بيان دلالة الكلمات هو المعنى المعجمي، الذي يفترض معنىً جاهزاً وقاراً للكلمات منذ البداية. كما أن مهمّة علم المبنى هو السعي للحفاظ على العلاقات الوظيفية داخل الجملة.
تعتمد نظرية المحتوى الدلالي على الظهور الذاتي –الشخصي الذي يكون مرجعه الذهن الشخصي والانسباق إليه. ولعلّ من يعتبر من الأصوليين أن "القرائن الملابسة للخطاب كأشياء منفكّة عنه،... ويجعلون ما تدل عليه الصيغة في أصلها الوضعي على الإطلاق هو الأصل"([78])، واعتبار القرائن شيئاً أجنبياً، يميل إلى نظرية المعنى بالذات.
ولا تعترف هذه النظرية بالسياق ولا شبكة التداعيات والعلاقات المركبة بين وحدات الخطاب، داخل الجملة وخارجها. الدلالة حسب هذه النظرية بسيطة، أصيلة، حصرية، كاملة، نهائية، ومطلقة، تعتمد على المعنى الأساس القارّ والناجز.
إنّ أغلب المفسرين بالمأثور وأصحاب النزعة الأخبارية الذين ينطلقون من دعوى "وقف الفهم على من خوطب به"([79]) يعتمدون بشكل أو آخر على مفاد هذه النظرية.
كما أن بعض الأصوليين([80]) الذين يقصرون الخطاب بالمشافهين الحاضرين دون الغائبين ينطلقون من اعتبارات تلتقي مع نظرية المحتوى الدلالي.
ويصعب استعادة لحظات التلقي الأصلية للخطاب وفق هذه النظرية كونها خالية عن عنصر الزمان وإشراطاته، ما يضيِّع على المفسِّر القائل بهذه النظرية فرصة القراءة والتفسير المتزامنين للنَّص.
كما يصعب-انطلاقاً من هذه النظرية- القراءة الكلية للقرآن الكريم وباقي النصوص الدينية لعدم الاعتراف من قبل هؤلاء بالمستويات المتعددة للخطاب وبوسائل الوعي الكلي. مضافاً إلى أنَّ نظرية المعنى بالذات لا تستطيع أن تزوّدنا بنظريات قادرة على ارتباط المفاهيم القرآنية بعضها ببعض داخل السورة وفي كل القرآن.
ثم إنَّ الحجّة من الظهور عند الأصوليين هو خصوص "الظهور في عصر صدور الكلام لا في عصر السماع المغاير له"([81])؛ "وذلك لأنَّ أصالة الظهور ليست تعبدية بل هي أصل عقلائي مبني على تحكيم ظاهر حال المتكلم في الكشف عن مرامه، ومن الواضح أن ظاهر حاله الجري وفق أساليب العرف واللغة المعاصرة لزمان صدور النصّ لا التي تنشأ في المستقبل"([82])، ولا التي تنشأ من خلال دلالة الكلمات وفق نظرية المعنى بالذات؛ لأنَّ المعتمد في الظهور هو الظهور الموضوعي، وهو الظهور النوعي الذي يشترك في فهمه جميع أهل العرف اللغوي وبعبارة أخرى، الظهور الموضوعي هو "الدلالة التصديقية النهائية التي تتعين للكلام بلحاظ مجموع النظم والقوانين الموجودة لدى العرف لاقتناص المراد"([83])، بخلاف الظهور الشخصي المعتمد على معطيات ذهنية.
ونظراً لتركيز "نظرية المعنى بالذات" على الدور المفصلي للكلمات وتهميش العوامل الأخرى، فإن هذه النظرية غير قادرة على تفعيل عملية الدلالة والاستظهار خارج دائرة المعنى المعجمي والعلاقة النحوية السائدة بين الكلمات ولا تستطيع إعادة العناصر المؤثرة الأخرى في تكوين الخطاب خارج دائرة الألفاظ.
ب- نظرية المدلول السياقي:
سبق أن تحدثنا عن مفهوم السياق([84])، وقلنا إنه عبارة عن كل ما يكتنف اللفظ من دوال أخرى، الأعم من أن تكون لفظية أو حالية. ونظرية المدلول السياقي تسعى للتخلّص من الجمود الذي يعاني منه المعنى الأساس حسب نظرية المعنى بالذات. كما أنها لا تقتصر على المعطى اللغوي المحض كما هو الحال مع نظرية المحتوى الدلالي (المعنى بالذات)، بل تستعين بالقرائن الحالية، والمعطيات الاستعمالية الأخرى، بهدف الوصول إلى المعنى التداولي للجملة. فمثلاً، حينما يبادر أحد الأفراد الموجودين في غرفة مزوَّدة بجهاز التكييف مخاطباً صاحب البيت بقوله: "الجو حار". فإن للجملة معنيان: المعنى اللغوي وهو الإخبار بشعور القائل بحرارة الجو، والمعنى الآخر هو المعنى السياقي المعتمد على القرائن الحالية، وهو يتجاوز المعنى اللغوي (الأخبار) إلى (الطلب) من صاحب البيت بفتح جهاز التكييف.
والمثال الآخر([85]) قوله –تعالى- ﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾([86]). فإننا لا نفهم المراد الحقيقي إلاّ من خلال السياق. فالمعنى اللغوي لا يفيد أكثر من أن شخصاً ما ينسب فعلاً ما إلى شخص ما هو أكبر المحيطين به. في حين أن المعنى السياقي –نظراً إلى أن المتكلم هو النبي إبراهيم وأنه يشير إلى قصة كسر الأصنام والمراد من "كبيرهم" أكبر الأصنام- هو: "التشكيك في ألوهية تلك الأصنام".
ومن هنا، فإن المعنى السياقي يتّصل بالمستوى الثاني من المستويات الثلاثة السيميائية وهو مستوى العلاقة القائمة بين العلامة والمعبِّر (المتكلم)، ويشكل المستوى التداولي للعلاقة، ويسمى العلم الذي يبحث في هذا المستوى "علم التداول"([87]) كما أشرنا سابقاً.
ويعبّر الأصوليون عن المستوى السياقي بـ "المراد الاستعمالي" أيضاً. يشير "الشاطبي" إلى الموضوع بقولـه: لابد من "نظرين: أحدهما باعتبار ما تدل عليه الصيغة في أصل وضعها على الإطلاق... والثاني، بحسب المقاصد الاستعمالية التي تقتضي العوائد بالقصد إليها وإن كان أصل الوضع على خلاف ذلك"([88]).
وكما أشرنا، فإن أنحاء الاستعمال كالحقيقة والمجاز، والصريح والكناية وغيرها ترجع إلى مستوى الاستعمال حسب الأصوليين.
وانطلاقاً من حقيقة أن اللسان العربي مثله مثل باقي اللغات يتم فهمه بحسب ما تقضي به العوائد الاستعمالية، فإن "كل خبر يقتضي من هذه الجهة –جهة الخبر- أموراً خادمة لذلك الإخبار بحسب المخبر والمخبر عنه، والمخبر به، ونفس الإخبار في الحال والمساق ونوع الأسلوب من الإيضاح والخفاء، والإيجاز والإطناب وغير ذلك"([89]).
وهذا ما يطرح –بقوة- أهمية البعد التاريخي (بقسميه الحدثي واللغوي) في الفهم السياقي للنّص، إذ لا يمكن استعادة مفاعيل لحظات التلقي الأصلية للخطاب من دون الوعي التاريخي.
وقد تنبّه الأصوليون لإشكالية الظهور الحاصل للكلام في عصر صدور الكلام دون عصر السماع، وحاولوا التغلّب على الإشكالية من خلال تأسيس أصل لغوي عبّروا عنه تارةً بـ"أصالة عدم النقل" و "الاستصحاب القهقرائي"([90])، وأخرى بـ "أصالة الثبات في الظهورات"([91])، كما حاولوا التخلّص من إشكالية حكومة قانون التغيّر والتطور في المجال اللغوي كونه ظاهرة اجتماعية، وأنّ الثبات في الظهورات إيحاء خادع وغير مطابق للواقع، بقولهم: "إن هذا الإيحاء، وإن كان خادعاً ولكنّه –على أي حال- إيحاء عام استقر بموجبه البناء العقلائي على إلغاء احتمال التغيير في الظهور باعتبار أنّ التغيير حالة استثنائية نادرة تُنفى بالأصل..."([92]).
على أن هذه الطريقة من المعالجة، وإن كانت متسقة بحسب علم أصول الفقه، إلاّ أنّها لا تنفي التغيير ولا اعتباره حالة استثنائية نادرة، بعد القب
العدد الثالث عشر- مرجعية القرآن الشاملة للتأسيس الحضاري > الأفهوم القرآني ونظريات تشكل الخطاب_ السيد محمد مصطفوي
الأفهوم القرآني ونظريات تشكُّل الخطاب
السيد محمد مصطفوي
توطئة
ما هو الأساس في فهم القرآن الكريم وآياته؟ هل القرآن له اعتباراته الخاصة في تكوين الأفهوم أم يتبع النظام اللغوي العام؟ أم يتجاوز النظام اللغوي ويستعين من الأنظومات الأخرى ذات الصلة أيضاً؟ ما هي الاعتبارات التي يمكن الاعتماد عليها لتضييق أو توسعة دائرة الخطاب من منطلق قرآني؟ هل هناك حقائق شرعية-قرآنية على مستوى الألفاظ ومعانيها؟ هل يمكن الاستناد إلى نظريات الخطاب في تكوين الأفهوم القرآني؟ هذه وغيرها من الأسئلة الفرعية سنحاول الإجابة عليها في هذا البحث.
ولكن ينبغي قبل كل شيء أن نشير إلى أن المهتمين بالتفسير وفهم النصّ يميّزون بين معنى النّص وأفهومه. ويعتبر هؤلاء أن المعنى يتصل بالاعتبارات الدلالية التركيبية للنّص بخلاف الأفهوم؛ حيث إنّه يرتبط بالموقف الذي تتم فيه قراءة النّص، ويعبّرون عن ذلك بـ"الوظيفة الاتصالية" التي تستحضر الهدف المقصود وسياق الحدث وإطاره، ولا يُقتَصَر فيها على النّص فقط بل يُعتَمَد على تراكم معقّد من معنى النّص وعوامل تكوين الموقف وفهمه.
وبتعبير آخر، إن الأفهوم يتكوَّن من خلال جدلية "النَّص" و "المتلقِّي" ولهما هيمنة أساسية على عملية الفهم لا شكلية. ولم يخرج النَّص القرآني على كلام العرب وإنما مَنَح متلقيه حرّية في اكتشاف دلالاته المتجددة، وأول خطاب وجّه إلى المتلقي هو خطاب الاعتبار المسمّى بـ"النّصبة" وهو واحد من الدلالات الخمس التي ذكرها "الجاحظ":
"فهي الحال الناطقة بغير اللفظ والمشيرة بغير اليد، وذلك ظاهر في خلق السماوات والأرض، وفي كل صامت وناطق وجامد ونائم، ومقيم وظاعن، وزائد وناقص، فالدلالة التي في الموات الجامد، كالدلالة التي في الحيوان الناطق. فالصامت ناطق من جهة الدلالة والعجماء معرّبة من جهة البرهان، ولذلك قال الأول: سل الأرض، فقل: من شق أنهارك، وغرس أشجارك وجني ثمارك؟ فإن لم تجبك حواراً، أجابتك اعتباراً"([1]).
لقد أصبحت أشياء الكون واسطة لإيصال رسالة إلى المتلقي ليتمعّن في جوهر الأشياء الماثلة أمامه وحقيقة وجودها وموجدها، فإن باعثها هو الله سبحانه. فأساس خطاب الاعتبار إذن إعمال العقل، وتحريك الفكر. فالنصبة "أداة تواصل تحمل رسالة صامتة أو خطاب بالحال...ومصدر الرسالة، وباثها هو الله خالق العالم، ومتلقيها هو الإنسان الذي يتأمل الكون من حوله فيستخلص منه وجوه الحكمة الإلهية"([2]).
1- الأفهوم: تعريفه ومراحل تكوينه
1-1- المقصود بالأفهوم
انطلاقاً مما سبق ذكره من التمييز بين معنى النص وأفهومه وأن المعنى يرجع إلى المعرفة التبيينيَّة التي تعتمد على قواعد اللغة، ويعنى بالمستويات اللغوية الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية، من خلال ظواهر كل مستوى، بخلاف الأفهوم؛ إذ يرجع إلى المعرفة التفسيرية ويعتمد على قواعد التفسير والتأويل ويرتبط بالاتصال اللغوي، وأطرافه وشروطه، وقواعده وآثاره، وأشكال التفاعل، ومستويات الاستخدام، وتضمينات الدلالة وصور التلقي، والسياق وخلفية القارئ وكفاياته، والوسائل والأدوات المستخدمة في عمليات الوصف والتحليل والتفسير، ومدى القدرة على إبراز إمكانات النصوص وطاقاته اللامحدودة في المعرفة التفسيرية.
كما أن الأفهوم يتأثر بالتضمينات النظرية والمجال المعرفي الذي تتم فيه عملية التثوير والاكتناز. ويتصل بدائرة المصطلح ومداه المعرفي، وقبلياته وبعدياته، والشحنة المعرفية المرافقة له، وخصائصه الحضارية، وهيمنته المقولية وغيرها.
وعليه، نستطيع القول: إن "الأفهوم" داخل كل لغة يعيد "تنظيم الفيض المتواصل من التجارب المحسوسة وتأويلاتها المختلفة. إنّه في الواقع عملية تأطير لأفكار ترتب العالم على نحو يتلاءم مع مقولات الذهن والوجدان المتجسدين في اللسان... هنا تلعب الألفاظ والأسماء دورها في تصنيف الأشياء وترتيب الكائنات"([3]).
من هنا، وبالاستناد إلى اللسانية والاستعارة منها نستطيع أن نميّز بين مستويين للّغة:
مستوى العبارة ومستوى المضمون، ويشمل مستوى العبارة مجالين من اللسانية هما: جوهر العبارة (الفونيطيقا)، وصورة العبارة (الفونولوجيا)، كما أن مستوى المضمون يشمل مجالين آخرين هما: صورة المضمون (علم المبنى)، وجوهر المضمون (علم المعنى)، ومع أهمية مستوى العبارة في تكوين الأفهوم، إلاّ أن محور التركيز فيه على المضمون الذي يتَّصل بعلمي المبنى والمعنى.
وتأسيساً على ما سبق، فإن أي بحث أفهومي لم يتطرق إلى تاريخ الأفهوم وظروفه والنظام المعرفي الذي ينتمي إليه يبقى قاصراً عن الإحاطة الكاملة به. إن التعرّف على مكونات الأفهوم ومؤسساته جزء لا يتجزأ من المعرفة المعمقة بالأفهوم.
1-2- مراحل تكوُّن الأفهوم
نستطيع أن نميّز بالنظرة التاريخية والمقارنة إلى الأفهوم مراحل ثلاث أساسية، هي: مرحلة الولادة، مرحلة النماء والتطوير، ومرحلة الاستعمال والتوظيف، وفي ما يلي شرح موجز لهذه المراحل:
1-2-1- مرحلة الولادة:
لكل أفهوم مرحلة ولادة، وهي تارة تتم عبر الاشتقاق، وأخرى عبر التركيب، وثالثة بالتطويع، ورابعة بالنقل، وخامسة بالتوريد وهكذا. على أن الولادة في جميع هذه الصور تارة طبيعية وأخرى قسرية. ونعني بالولادة الطبيعية تلك الولادة التي تتحقق في شروطها التاريخية والثقافية ومن خلال أنظومة مرجعية تتشكل إحداثياتها الأساسية من محددات هذه المرجعية ومكوناتها، وفي رأسها الموروث الثقافي، والبيئة الاجتماعية، والنظرة إلى الذات والآخر، بل النظرة إلى الكون والإنسان والمستقبل. كل ذلك بالرجوع إلى المناهج والقواعد، والرؤى والأساليب المعتمدة في اللغة المرجعية وثقافتها.
كما نعني بالولادة القسرية كل ولادة تتم بالانصياع لأنساق ومناهج وأساليب لا صلة لها بالثقافة والأنظومة المرجعية وتتحقق في ظروف الإقصاء، والاستبعاد، والتعسُّف.
وعليه، فكل تركيب، أو اشتقاق، أو توريد، أو نقل أو تطويع يتم في الظروف الطبيعية هي أصيلة ومتسقة مع متطلبات المرجعية اللغوية وثقافتها وظروفها التاريخية.
كما أن كل تركيب، أو اشتقاق، أو توريد، أو نقل أو تطويع يتم في ظروف الإكراه والهيمنة وبالاستناد إلى مرجعيات أخرى، وفي ظل مركزية ثقافة الآخر هي غير طبيعية، دخيلة وتعسفية.
ولكن ليس كل استعارة أو توريد دخيل وقسري، بل يتصل ذلك بمدى الخضوع والإخضاع، فإن أدت الاستعارة والتوريد إلى الخضوع لشروط وقبليات وبعديات الثقافة المستعارة والمستورد منها فهي دخيلة. في حين أن الاستعارة والتوريد إن خضعا لإشراطات قبلية وبعدية من الأنظومة المرجعية المعتمدة، فإنها أصيلة وطبيعية؛ ولذلك نجد في القرآن الكريم تطويعاً واستعاراتٍ كثيرةً من لغات وثقافات أخرى ولكن ضمن شروط المرجعية اللغوية (اللغة العربية)، والمرجعية الأفهومية (القرآنية).
1-2-2- مرحلة التطوّر:
إن "الأفهوم" هو الوجود الحقيقي والعملي للوعي بالأشياء والآخرين، فبالإضافة إلى دوره الوظيفي الاسمي والإشاري والنفسي والعاطفي و... في دائرة الكلام اللغوي، فإنه يقوم بتنظيم معارف الإنسان عن العالم الموضوعي وتصنيفها وبثها في الوعي الإنساني.
ويخضع "الأفهوم" لاعتبارات الشكل (الصورة)، الدلالة (الرسالة)، والتضمين:
أولاً: الأفهوم والعبارة:
يخضع الأفهوم في مرحلة العبارة لاعتبارات الشكل، انطلاقاً من التكوين الصوتي؛ حيث إنَّ اللغة العربية تنتمي إلى النظام الثلاثي (الأنماط الرئيسة) بخلاف اللاتينية التي تنتمي إلى الخماسي، والإيطالية إلى السباعي، والإنكليزية إلى التساعي([4]).
مروراً بالاشتقاق الصرفي؛ حيث إن له مفاعيله على مستوى الدلالة، ولعلّ من اشتقاق التوهم في العربية ما ذكره الفراء عن امرأة من غنيّ قالت: "رثأت زوجي بأبيات"، فهمزت تريد: "رثيته"، فقال الفراء: "وهذا من المرأة على التوهّم؛ لأنّها رأتهم يقولون: "رثأت اللبن، فظنّت أن المرثية منها"([5]). ومن ذلك قول الزمخشري: "من بدع التفاسير قول من قال: إن الإمام في قوله –تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾([6]) جمع "أم" وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم دون آبائهم. وهذا غلط أوجبه جهله بالتعريف، فإنَّ "أماً" لا يجمع على إمام"([7]).
ووصولاً إلى التركيب النحوي المبني على قواعد صارمة ضمن مبدأ "طواعية التركيب" التي أوجدت العلاقة المتينة بين الوظيفة والموقع النحوي للكلمة فسهَّل على ناظم الكلام في العربية تقديم كلمة أو تأخيرها إن أمن اللبس، كما هو الحال في نائب الفاعل، والمبتدأ والخبر، والحال وعاملها المتصرِّف، والمستثنى والمستثنى منه، والصفة والموصوف وغيرها.
ثانياً: الأفهوم والدلالة:
يخضع الأفهوم في مرحلة الدلالة لاعتبارات قبلية ومقارنة وذلك ضمن المستويات التالية:
أ- المستوى التاريخي:
انطلاقاً من أنه لا وجود لأفهوم آحادي المكوّن، وأن لكل أفهوم مكوناته الأساسية والطارئة من خلال تاريخية الأفهوم وحركيته، التي تؤدي إلى تعرّض الأفهوم لعمليات التحريف والتلبيس، يتطلب ذلك منا أن نرى الأفهوم في إطاره التاريخي في أبعاده الثقافية، السياسية والاجتماعية، ونرصد حركته في الزمان والمكان. ومن الأمثلة على ذلك رصد السيد محمد باقر الصدر لمفهوم "الاجتهاد" في الثقافة الإمامية([8]). ورصد مجيد عبد الرحمن لمفهوم "الفقر"([9]) انطلاقاً من تقويض الدلالة الآنية للمفهوم واستعادة دلالة الفقر الاختياري المرتبط بالزهد والروحانية وبالرجوع إلى الأنظومة المرجعية وحديث الرسول(ص): "الفقر فخري"([10]). ورصد محمد عبد الله درّاز لمفهوم "الدين"([11])، بدراسة الخلفية التاريخية للأفهوم في مختلف التجارب الحضارية، وبيان وجوه تصريف اللفظ واختلافات اشتقاقه الذي يؤدي إلى اختلاف الصورة.
ب- المستوى السياقي:
السياق عبارة عن الفضاء الذي يحيط بالكلام وما يكتنف الجمل والعبارات من قرائن ومحددات وعلامات تساهم في بلورة المراد. وبعبارة أخرى، السياق عبارة عن: "كل ما يكتنف اللفظ الذي نريد فهمه، من دوال أخرى، سواء كانت لفظية كالكلمات التي تشكّل مع اللفظ الذي نريد فهمه كلاماً واحداً مترابطاً، أو حالية كالظروف والملابسات التي تحيط بالكلام وتكون ذات دلالة في الموضوع"([12]).
حيث نستطيع من خلال معرفة السياق والمنطق الداخلي الذي يحكم النّص أن نحدِّد المعنى المراد من الكلام، وبناء الأفهوم المتسّق مع النّص. ورد عن "ابن جرير الطبري"، في قوله –تعالى-: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء، بِيَدِكَ الْخَيْرُ، إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾([13]). أن المراد من "الملك" هو الملك والثراء الأخروي في الجنّة([14]). واعترض عليه "الشريف الرضي" مستنداً إلى "السياق" الذي يحكم النّص، قائلاً إن "الملك" الذي يهبه الله –تعالى- وينزعه من عباده هو في الدنيا دون الآخرة([15]).
كما استند الطباطبائي([16]) إلى "السياق" لنفي ما اتفق عليه المفسّرون بمدنية الآية الرابعة والعشرين من سورة المعارج: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ﴾، مذكّراً المفسرين بما يلزم من القول بمدنية هذه الآية مدنية الآيات العشرة التالية لها والمتحدة معها في السياق؛ إذ لا يمكن القول بالفصل بين المتعلَّق والمتعلِّق والمستثنى والمستثنى منه في مجموعة من الآيات المتصلة بعضها ببعض.
إلا أن السياق لا يقتصر على المعطى اللفظي بل يعنى بالمعطى الحالي كما يأتي أيضاً.
جـ- المستوى النفسي- الاجتماعي:
يتصل الأفهوم بالأعراف والتقاليد والقيم التي تسود في المجتمع، وكما أشرنا في ما سبق أن الأفهوم هو تركيب صورة الحياة وتنظيم الفيض المتواصل من التجارب المحسوسة، وتأويلاتها المختلفة التي تعتمد على معرفة البنية النفسية والاجتماعية التي تكوِّن الأفهوم. وعليه، يصعب تكوين الأفهوم التاريخي –وهو المطلوب في النّص الديني- بمعزل عن معرفة الأعراف، التقاليد والقيم السائدة في عصر النص، ومن دون إعادة ترميم البنية الاجتماعية والنفسية لعصر النّص.
كما يهدف البحث الاجتماعي-النفسي الوصول إلى الخيوط التي تتحكّم بتصور الجماعة البشرية في مرحلة تاريخية وتشكِّل أنموذج العمل التاريخي لجماعة بشرية حسب مصطلح عالم الاجتماع الفرنسي "آلان تورين" في كتابه: "إنتاج المجتمع". ما يسمح بتعيين النموذج المثالي الذي يفسّر السلوك الاجتماعي وخلفيات الخطاب الذي يتكوّن في مجتمع ما، ويحدّد العوامل الشعورية وغير الشعورية، والجذور الاجتماعية، ومكوّنات العقل الباطن الذي يتحكّم بالميول والرغبات ويفسّر الإعراض والإقبال لدى الجماعات.
وممن اهتم بالبعد الاجتماعي والنفسي لتكوين الأفهوم وفهم النّص من الفقهاء والمفسرين السيد محمد باقر الصدر، يقول في مقال له تحت عنوان: "الفهم الاجتماعي للنّص"([17]): "والسؤال الذي يجب أن نطرحه بهذا الصدد هو هذا: هل يصل الشخص الذي يحاول فهم النّص إلى المعنى النهائي له بكل حدوده، إذا أحصى الدلالات اللفظية من وضعية وسياقية، واستوعب المعطى اللغوي للنّص؟
والجواب بالإيجاب والنفي معاً، فالجواب بالإيجاب إذا افترضنا أن هذا الشخص الذي يحاول فهم النّص الشرعي إنسان لغوي فحسب، أي انسان تلقّن اللغة وحياً وإلهاماً، فهو يعرف اللغة ودلالات الألفاظ الوضعية، والسياقية وليست له خبرة سوى الخبرة اللغوية، ينتهي عمله في فهم النّص عند جمع الدلالات الوضعية والسياقية، وتحديد الظهور اللفظي على أساسها. والجواب بالنفي إذا كان الشخص الذي يحاول فهم النّص قد عاش الحياة الاجتماعية مع سائر العقلاء من أفراد نوعه في مختلف المجالات الحياتية، فإنَّ الأفراد الذين يعيشون حياة اجتماعية من هذا القبيل تتكون لديهم خبرة مشتركة، وذهنية موحدة، إلى جانب ما يتميّز به كل فرد من خبرات، واتجاهات، وتلك الخبرة المشتركة والذهنية الموحدة تشكّل أساساً لمرتكزات عامة وذوق مشترك في مجالات عديدة بما فيه المجال التشريعي والتقنيني... ويأتي دور الفهم الاجتماعي للنّص حيث ينتهي دور الفهم اللفظي واللغوي له. فإن الفقيه في الدرجة الأولى يحدِّد المعطى اللغوي واللفظي للنّص، ثم بعد أن يعرف معنى اللفظ يسلّط عليه الارتكاز الاجتماعي ويدرس المعنى بالذهنية الاجتماعية المشتركة (مناسبات الحكم والموضوع)، فيظهر له من النّص أشياء جديدة، لم تكن تبدو على مستوى الدرجة الأولى في حدود الفهم اللغوي للفظه...
أما المبِّرر للاعتماد على الارتكاز الاجتماعي في فهم النّص فهو نفس مبدأ حجية الظهور...".
كما اعتمد "مالك بن نبي" في تحديده لأفهوم "الثقافة" على المعطى النفسي وتضمن التحديد -حسب بن نبي- على عملية إدراك الشيء وتسميته باسم معين: "فإذا سمّيتَ شيئاً فمعنى ذلك أنك تستخرج منه فكرة معيّنة؛ أي أنك تؤدي أول عمل من أعمال المعرفة بالنسبة لذلك الشيء، وهو العمل الذي يعتبر حضوره المجرَّد في ذلك الامتداد الهائل الذي يحوط الأنا إلى وجود تدركه الأنا". وعليه، فإن تكوين الأفهوم حسب مالك بن نبي يمّر بخطوات أربع:
أ- إدراك الشيء. ب- تسمية الشيء. جـ- تكوين الفكرة عنه. د. بناء الأفهوم.
ويبدو أن الأفهوم العرفي الذي يُرَكَّز عليه كثيراً في النّص الديني يعتمد على المعطيات النفسية، والمسافة منفرجة بين المعنى اللغوي والمعنى العرفي المبني على المعطيات الاجتماعية والنفسية.
د- الاعتبار الأنظومي:
يهدف هذا الاعتبار إلى بيان أن ثمة أفهومات أخرى مرتبطة بالأفهوم وذات صلة بتكوينه، وتحديد إطاره، وتوضيح سياقاته، وفك شباكاته، وبيان تقاطعاته. وأن الأفهوم داخل اللغة وثقافتها ليس مفردة منبتة الصلة بسياقها المعرفي وبأنظومة الأفهوم التي تتساند أو تتناقض معه. وهناك ثلاثة أنواع من العلاقة الأنظومية: أ- العلاقة المعرفية؛ ب- العلاقة الوظيفية؛ جـ- العلاقة النَسَبِيَّة.
ومن الأمثلة على الارتباط المعرفي-الأنظومي: ما عرض له العالم الياباني والباحث في مجال المعارف القرآنية: "توشيهيكو إيزوتسو"([18])، حيث اعتمد في صياغة الارتباط على مصطلحات: المفتاح، المركز، والميدان المعرفي. ورأى أن مصطلحات المفاتيح في القرآن لها مجاميع كثيرة وتلك المجاميع هي "الميادين المعرفية للقرآن"، ولكل ميدان معرفي "مركز" يستقطب من حوله الكلمات الأساسية (مصطلحات المفاتيح) التابعة لذاك الميدان.
وحسب "إيزتسو"، تؤلف –مثلاً- مصطلحات: الإيمان، والله، والتصديق، والإسلام، والشكر، والتكذيب، والعصيان، والكفر وغيرها "مساحة معرفية" حسب الاستخدام القرآني؛ بحيث يكون مصطلح "الإيمان" هو مركز الساحة وبؤرتها. وهذه المصطلحات تتبادل الأدوار في ميادين معرفية أخرى، بأن يصبح المركزي عادياً والعادي مركزياً وهكذا.
ومن الأمثلة على الارتباط الوظيفي الشجرة المفاهيمية التي قدَّمها "أوتو أولريخ"([19]) لمفهوم التقنية. وربط بينها وبين مفاهيم: "العلم" و "الصناعة" و "التنمية" وظيفياً.
ومن الأمثلة على الارتباط النسبي: العلاقة القائمة بين "الثورة" و "التقدّم" حسب "خوسية ماريا سبرت"؛ حيث اعتبر أن الثورة ابنة التقدم.
ثالثاً: الأفهوم والتضمين:
ومما يؤثّر في "الأفهوم" ويدخل في تكوينه وتطويره، "التضمين". وللتضمين دلالات متباينة بحسب موارد الاستعمال، ففي البلاغة يأتي في باب "التضمين والقياس"، وفي العروض يأتي في باب "عيوب القوافي"، وفي النحو في باب "حروف الجر" و "المتعدي واللازم"([20]).
والتضمين عند النحاة وجلّهم من مدرسة البصرة يعني: "إشراب لفظ معنى لفظ آخر". والتضمين بهذا المعنى يعتبر أحد أبرز الأساليب التي خرجت عليها كثير من الاستعمالات في القرآن الكريم، وفي كلام العرب([21]). إلاّ وأنّنا نقصد من "التضمين" أفهوماً أوسع يتعدّى معطيات لغوية بحتة ليشمل قيوداً، وإشراطات، والتزامات، واستعارات تدخل دائرة الأفهوم سواء كان مصدرها اللغة أوالعلوم والمعارف المرتبطة بها الأعم من إنسانيات وطبيعيات واجتماعيات؛ حيث إن الأفهوم لا يسلم من قيود منطقية، وفلسفية، ولغويات تاريخية، ولغويات اجتماعية، وعلم نفس اللغة، والألسنيات وغيرها. كما أن الأفهوم في دائرة النّص الديني لا يخلو من قيود كلامية، ولغويات أصولية، وفقه اللغة، وهندسة النظم الدينية، وفلسفة اللغة، وفلسفة الدين. وسوف نشير إلى نماذج من التضمينات في دائرة الأفهوم.
أ- تضمينات منطقية:
بدأ الاهتمام بقواعد المنطق واعتباراته في مجال تكوين "الأفهوم" عند علماء المسلمين منذ عهد بعيد. ومِّمن كرّس هذا الاهتمام من الفقهاء والكلاميين هو "الغزالي"؛ إذ عبّر عن المنطق وقواعده بـ "القسطاس المستقيم"([22])، حيث يقول: "لا أدّعى أني أزن بها (بقوانين المنطق) المعارف الدينية فقط، بل أزن بها العلوم الحسابية والهندسية والطبيعية والفقهية والكلامية. وكل علم حقيقي غير وضعي، فإنّي أميّز حقّه عن باطله بهذه الموازين وكيف لا وهو القسطاس المستقيم"([23]).
ويعتبر عدم بروز "نقاط انكسار" داخل المفاهيم في الأنظومة المفاهيمية من الأمور التي يتم رعايتها انطلاقاً من الاعتبارات المنطقية.
ومن المفاهيم التي أدعي بشأنها بروز نقاط انكسار أفهومي بالنظر إلى المعنى الشائع له هو "أفهوم الإعجاز"؛ إذ المعنى المشهور له عند المفسرين هو ما يعبَّر عنه "الشريف الجرجاني" بقوله: "الإعجاز هو أن يرتقي الكلام في بلاغته إلى أن يَخْرُجَ عن طوق البشر، ويعجزهم عن معارضته"([24]). ومن هنا، اعتبر أن الإعجاز القرآني يتجسّد في بعده البلاغي المتَّصل بالتذوق اللغوي.
وممن خالف هذا الأفهوم للإعجاز هو "مالك بن نبي"؛ حيث انطلق من الاعتبارين التاليين([25]):
1- استمرارية الإعجاز القرآني: بمعنى أن يكون إعجاز القرآن صفة ملازمة له عبر العصور والأجيال.
2- أن يكون الإعجاز في مستوى إدراك الجميع، لكونه حجة للناس جميعاً؛ إذ لا قيمة له، ولا فائدة منه، إذا كان فوق إدراك المخاطبين.
وعليه، اعتبر "مالك بن نبي" أن الإعجاز بالمعنى الشائع، يخالف الاعتبارين لاسيما الاعتبار الثاني؛ إذ نشاهد اليوم تطوراً كبيراً على صعيد الأذواق والاتجاهات. فالمسلم اليوم فَقَدَ فطرة العربي الجاهلي، وإمكانات عالِم اللغة في العصر العباسي (الجاحظ وغيره)، فلا يستطيع أن يتذوّق الجانب البلاغي في القرآن الكرم، فينبغي أن يكون الإعجاز القرآني بالنسبة إليه أمراً آخر غير الجانب البلاغي([26]).
ويقترح "مالك بن نبي" تعديل أفهوم الإعجاز وتوسيعه ليشمل كل حجّة يقدّمها القرآن ويعجز عنها البشر، لا سيما في الأبعاد النفسية والعلمية. مبرراً ذلك بقوله: "والحق أنه لا يوجد مسلم- وخاصّةً في البلاد غير العربية- يمكنه أن يقارن موضوعياً بين آية قرآنية، وفقرة موزونة، أو مقفّاة من أدب العصر الجاهلي، فمنذ وقت طويل، لم نعد نملك في أذواقنا عبقرية اللغة العربية... ومنذ وقت طويل أيضاً تكتفي عقائدنا في هذا الباب بالتقليد الذي لا يتّفق وعقول المتعلِّقين بالموضوعية، فمشكلة التفسير توضع إذن في ضوء جديد"([27]).
ب- تضمينات كلامية (عَقَدية):
إن أولى التنظيرات في مجال "الخطاب الديني" في الوسط الإسلامي برزت من خلال المباحث الكلامية ونتج من ذلك بروز الاتجاهات الثلاثة التالية:
1- الإتجاه الأشعري القائل بالتفريق بين "الكلام" و "الخطاب" وجعل الثاني دالاً والأوّل مدلولاً: يقول "الشهرستاني": "الكلام معنى قائم بالنفس الإنسانية، وبذات المتكلِّم، وليس بحروف ولا أصوات، وإنّما هو القول الذي يجده العاقل من نفسه ويجليه في خلده... والعبارة والإشارة والكتابة دلالة بقرائنها، تدل على أن لها مدلولاً خاصاً متميزاً"([28]). ويعبّر عن هذه الحقيقة الشاعر بقوله:
إنَّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
2- الإتجاه المعتزلي القائل بأن المعنى الحقيقي للكلام هو الخطاب والعبارة. وقد يستخدم الخطاب مجازاً بالأفهوم المدلولي. وينقد "القاضي عبد الجبار المعتزلي" الأشاعرة الذين يزعمون أنّ الكلام معنى قائم بالنفس، قائلاً: "فأما من زعم في الكلام أنه خارج عن الحروف المسموعة، وأنه معنى في النفس فقد أبعد؛ لأنه إمّا أن يثبت هذا المعنى بالضرورة، فقد كان يجب أن نعرفه، أو بدلالة فيجب أن تذكر، وعلى أنه كان يجب أن لا يمتنع وصف أحد ما بالسكوت والخرس مع كونه متكلِّماً؛ لأنَّ المعنى الذي في النفس لا يصح أن يمتنع من الخرس في اللسان أو من السكوت فيه، وقد عرفنا خلافه، وليست تسمية أحدنا بذلك وهو ساكت على طريقة اللغة، بل هي على جهة الصياغة كما يقال: خيّاط ونجاّر وإن كانا غير فاعلين في الوقت، فلا يقدح في ما نقوله"([29]).
3- اتجاه بعض علماء الأصول من بينهم "الغزالي" القائل بأنَّ "الكلام" مشترك لفظي يطلق تارةً على المعنى النفسي (المدلول) وأخرى على الخطاب (الدال)، يقول الغزالي: "الكلام اسم مشترك قد يطلق على الألفاظ الدالة على ما في النفس تقول: سمعت كلام فلان وفصاحته، وقد يطلق على مدلول العبارات، وهي المعاني التي في النفس"([30]). ويمكن أن يؤيد هذا الرأي بما ورد في القرآن الكريم من قوله –تعالى-: ﴿وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ﴾([31])، وقوله –تعالى-: ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ﴾([32]).
وسواء اخترنا الرأي الأول أم الثاني أم الثالث، أم اخترنا رأياً آخر سواها، فإن في القرآن الكريم نماذج من التضمين الكلامي لجهة بناء الأفهوم. ومن الأمثلة على التضمينات الكلامية (العقدية) لتكوين الأفهوم ما يلي:
- أفهوم "الغواية" في قوله –تعالى-: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾([33]).
فإن العديد من المفسرين ينكرون المعنى الظاهر تنزيهاً للنبي آدم(ع). ويؤولون هذا بقول العرب "قد غوى الفصيل، إذ أكثر من اللبن حتى يبشم"([34]). ولكن يرى "ابن قتيبة" "أن هذا قول مستهجن، فيه مماحكة وشطط في إخراج الألفاظ عن دلالاتها، والصواب أن يقال: "عصى وغوى"، لا أن يقال: "آدم عاصٍ وغاوٍ"؛ لأن ذلك لم يكن عن اعتقاد متقدِّم ولا نيّة صحيحة"([35]).
- أفهوم "الضلالة" في قوله –تعالى-: ﴿يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء﴾([36]).
حيث جنح أهل القدر في دلالة هذه الآية الشريفة إلى أنّ المتعيّن منها أنه على جهة التسمية، والحكم عليهم بالضلالة، ولهم –لأهل القدر- بالهداية، وقد قال فريق منهم: يضلهم: ينسبهم إلى الضلالة، ويهديهم، يبيّن لهم ويرشدهم([37]).
- أفهوم "الوجه" في قوله –تعالى-: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾([38]). وقوله –تعالى-: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ﴾([39])، وقوله –تعالى-: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾([40])، وقوله –تعالى-: ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾([41]). وقد أوّل المفسرون لفظة "الوجه" رفعاً للتشبيه والتنزيه ومن هؤلاء "ابن قتيبة" في "تأويل مشكل القرآن"([42]) حيث اعتبر اللفظة زائدة في هذه الآيات([43]).
ج- تضمينات أصولية (فقه الخطاب)
إن تكوين الأفهوم الشرعي (نسبة إلى الشرع الإسلامي) يتصل بمثّلث: الحاكم، والمحكوم به، والحكم. وهذه المباحث تشكل مواضيع أساسية لعلوم ثلاثة في الشريعة الإسلامية وهي: علم الكلام، وأصول الفقه، والفقه، فإنَّ مبحث "الحاكم" مبحث كلامي أصيل. وأما مبحث "المحكوم به" فهو بحث في "فعل المكلف" الذي تتوجه إليه الأحكام الفقهية ويدور عليه علم الفقه. وأما مبحث "الحكم" فهو محور البحث الأصولي في مجال الأحكام الشرعية.
وتلتقي هذه المجالات الثلاث في علم "أصول الفقه": علم منهج البحث في الشريعة الإسلامية؛ حيث يتم البحث عن المواضيع الثلاثة معاً في هذا العلم، ويؤسَّس عليها فقه الخطاب الديني الإسلامي. وعلم أصول الفقه بدوره، تأثر، حسب الصدر ([44])، بعناصر ثلاثة:
1- علم الكلام: حيث لعب دوراً أساساً في تموين الفكر الأصولي وإمداده، بخاصةً في العصر الأول والثاني؛ لأنَّ الدراسات الكلامية كانت منتشرة وذات نفوذ كبير على الذهنية العامة لعلماء المسلمين، حين بدأ علم الأصول ليشتق طريقه إلى الظهور فكان من الطبيعي أن يعتمد عليه ويستلهم منه"([45]).
ويوجد عدد من القواعد الكلامية التي دخلت مجال علم الأصول وشكلت بنية الفكر الأصولي هي: قاعدة الحسن والقبح العقليين، وقاعدة تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد الواقعية، وقاعدة قبح العقاب بلا بيان.
2- الفلسفة: حيث أصبحت مصدراً لإلهام الفكر الأصولي في نطاق واسع منذ العصر الثالث، ومن الأمثلة على ذلك مسألة تعلق الأوامر بالطبائع أو الأفراد، ومسألة اجتماع الأمر والنهي وغيرها([46]).
3- عنصر الزمان: حيث إن "علم الأصول يُمْنَى نتيجة لعامل الزمن وازدياد البعد عن عصر النصوص بألوان من المشاكل، فينمو بدراستها والتفكير في وضع الحلول المناسبة لها..."([47]).
وترتبت على عامل الزمن مسائل عدة: منها: بروز اتجاه جديد في مستهل العصر الثالث ادعى انسداد باب العلم([48]). منها: الاختلاف في أن الظهور الحجة هو الذاتي أو الموضوعي([49])، ومنها: "الاختلاف في أن الحجة من الظهور هو زمن صدور الخطاب أو وصوله"([50]).
4- العامل النفسي: ولعب العامل النفسي دوراً كبيراً في الحفاظ على القناعات المكرَّسة لدى الفقهاء نتيجة ظروف سادت واقعهم الاجتماعي؛ حيث إن "علماء الأصول عندما واجهوا الفقه الموجود بأيديهم، وكانت لديهم تلك القناعة الوجدانية والحالة النفسية وهي التحفظ على أطر ومسلمات ذلك الفقه، صاروا بصدد إيجاد قواعد أصولية يمكن أن تشكِّل الغطاء الاستدلالي لتلك المسلمات الفقهية. فنشأت عندنا قواعد حجّية الشهرة والإجماع المنقول وانجبار الخبر الضعيف بعمل الأصحاب ووهن الخبر الصحيح بإعراضهم، بل تعمَّقوا أكثر من هذا في مقام المحافظة على المسلّمات الفقهية فعمّموا قاعدة انجبار السند بعمل الفقهاء لتشمل انجبار الدلالة بفهمهم..."([51]). والأهم من ذلك أن الحالة النفسية حالت دون الممانعة من التعاطي الإيجابي مع تلك القواعد على الصعيد الفقهي والعملي مع عدم مقبوليتها على الصعيد النظري وفي علم الأصول: "ولكن هؤلاء الذين هدموا هذه القواعد في علم الأصول كالشيخ [الأنصاري] و من تبعه لم يهدموها في الفقه، بل بقي علم الفقه محافظاً عليها وإن كانت لا دليل على حجيتها في الأصول. والسبب في ذلك يرجع إلى تلك الحالة النفسية التي كانت تمنع الفقيه عن أن يسقط تلك المسلمات وسقط دليلها العلمي في الأبحاث الأصولية"([52]).
العوامل الأربعة السابقة مضافةً إلى عوامل أخرى كاللغة وآدابها ساهمت بشكل فعّال في تكوين "الخطاب الشرعي" من منظور أصولي. ويشير إلى دور "القبليات" وأهميتها في تكوين "الأفهوم الأصولي" وفقه الخطاب "القاضي عبد الجبار" بقوله: "إنّ جميع القرآن إنّما يمكن أن يستدل به ويعلم صحته ووجه دلالته، متى علم من حال فاعله أنّه حكيم لا يكذب في أخباره، ولا يفعل الخطاب على وجه يقبح عليه، ومحال أن يكلم من يجحد ذلك في فرع من فروعه"([53]). ومثله "ابن العربي المعافري" حينما يقول: "لا يجوز أن يكون السمع طريقاً إلى معرفة الباري –تعالى- ولا شيء من صفاته لأنّ السمع منه، فلا يعلم السمع إلاّ به، ولا يعلم هو إلاّ بالسمع فيتعارض ذلك ويتناقض"([54]). وللخروج من هذه الإشكالية توسلوا بقضايا قبلية مسلّمة ترتكز عليها أصول الاستدلال والاستنباط. وبتعدد القبليات وتضميناتها تتعدد أساليب تكوين الأفهوم وبناء الخطاب القرآني.
1-2-3- مرحلة التوظيف:
تعتبر مرحلة "التوظيف" من أهم مراحل سيرة الأفهوم، باعتبار أنّها مرحلة استثمار وتفجير طاقاته العملية. وتظهر فاعلية الأفهوم وقدراته التأثيرية من خلال هذه المرحلة.
وفي كثير من الأحيان التوق إلى الماضي والبحث عن التاريخ اللغوي والمعرفي، والديني، والثقافي للأفهوم، والاستعانة بالمؤثرات النفسية، يتم لمهمّات توظيفية-ضبطية، وتحت ضغط الحاجة إلى استخدام أوسع وتشغيل أكثر.
كما أن نقاط التمفصل في الأفهوم تظهر في مرحلة التوظيف؛ حيث الحاجة إلى مزيد من الشحنات التأثيرية للأفهوم بهدف تعبوي للجمهور المخاطب.
وكمثال على ما نقول، يمكن أن نتصور نماذج من المفاهيم على مستوى المثل الأعلى كيف يتم "تمفصل الأفهوم" من خلال إجرائين توظيفيين: التعميم الأفقي الخاطئ، والتعميم الزمني الخاطئ. فمثلاً قد "ينتزع الإنسان من تصوره المستقبلي مثلاً، ويعتبر أن هذا المثل يضمّ كل قيم الإنسان التي يجاهد من أجلها، ويناضل في سبيلها. بينما هذا المثل على الرغم من صحته، لا يمثل إلاّ جزءاً من هذه القيم. فهذا التعميم تعميم أفقي خاطئ"([55]) للأفهوم.
"وكمثال على ذلك نأخذ الإنسان الأوروبي الحديث في بدايات عصر النهضة، حيث جعل "الحرية" [الأفهوم] مثلاً أعلى؛ لأنّه رأى أن الإنسان الغربي كان محطّماً ومقيداً، ...، أراد الإنسان الأوروبي الرائد لعصر النهضة أن يحرّر هذا الإنسان من هذه القيود...، وهذا شيء صحيح، إلاّ أن الشيء الخاطئ في ذلك. هو التعميم الأفقي"([56]).
والتعميم الخاطئ هنا هو عمل إجرائي الهدف منه التعبئة والتأثير والتشغيل. وأما الإجراء التوظيفي الآخر على صعيد الأفهوم فهو التعميم الزمني الخاطئ فهو ومثاله: حينما اجتمع في التاريخ مجموعة فشكلوا القبلية، واجتمعت القبائل فشكلت عشيرة، واجتمعت العشائر فشكّلت أمة، إن هذه الخطوات العملية كلها صحيحة ولكن لا يجوز أن تتحول إلى مثل أعلى (المطلق): "لا يجوز أن تكون العشيرة هي المطلق الذي يحارب من أجله الإنسان"([57]).
والقرآن الكريم سعياً منه لتقويض بناء أمثال تلك المفاهيم المصطنعة وفضح تلبيسها يصرِّح قائلاً: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾([58]).
2- نظريات تشكّل الخطاب
انطلاقاً من الاعتبار القائل بعدم وجود "خطاب بريء"([59]) وبالأولى عدم وجود "فهم بريء للخطاب" نظراً للقبليات وما تلعبه "الوسائط"([60])، من دورٍ خطير في تشكُّل الخطاب واستنطاقه، نرى ضرورة دراسة الوسائط في قراءة النص. وتعتبر دراسة نظريات تكوّن الخطاب المدخل المناسب لفهم الوسائط ودورها في قراءة النَّص.
2-1- تعريف الخطاب:
لقد ورد استخدام "الخطاب" في فهم النَّص وتفسيره لدى علماء أصول الفقه للتعبير عمّا يكشف عن الحكم الشرعي. كما ورد التعبير المرادف له عند المناطقة بـ"الدال"([61]). وللخطاب جذور لغوية من حيث المعنى المقصود به عند الأصوليين وذلك انطلاقاً من الاستخدام القرآني كما في قولـه –تعالى-: ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾([62])، قاصداً النبي داوود. وقولـه –تعالى-: ﴿فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾([63])، وقوله –تعالى- مخاطباً النبي نوح: ﴿وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ﴾([64]).
من هنا، يعرّف "سيف الدين الآمدي" "الخطاب" بقوله: "هو اللفظ المتواضع عليه، المقصود به إفهام من هو متهيء لفهمه"([65]). وعليه يرى "الغزالي": بأن "ما لا يفهمه المخاطب لا يكون خطاباً معه"([66]). وبهدف التمييز بين الخطاب الشرعي والحكم الشرعي يؤكد "الصدر" قائلاً: "الخطابات الشرعية في الكتاب والسنة مبرزة للحكم وكاشفة عنه، وليست هي الحكم الشرعي نفسه"([67]).
في حين أنَّ المصطلح الشائع لدى علماء الألسنية للتعبير عن الخطاب –بالمفهوم الأصولي- هو تعبير "حامل العلامة"([68])، المتَّصل بالمستوى الدلالي للتسويم([69]).
2-2- أركان الخطاب:
يتألف الخطاب –عادة- من أركان أربعة: المخاطِب (المتكلّم)؛ والمخاطَب (المتلقّي)؛ أدوات الخطاب ووسائله؛ ومضمون الخطاب. يقول "الشاطبي" شارحاً لوازم فهم كلام العرب: "إنّما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جهة نفس الخطاب، أو المخاطَب، أو المخاطِب أو الجميع؛ إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين وبحسب مخاطبين وبحسب غير ذلك"([70]).
وقد استخدم الأصوليون تبعاً للمتكلمين للتعبير عن الأركان الأربعة، وذلك انطلاقاً من دورهم الوظيفي في تحديد وصياغة الموقف الشرعي للمكلّف تجاه الموضوعات، استخدموا المصطلحات التالية:
أ- الحاكم بدل المخاطِب.
ب- المحكوم عليه بدل المخاطَب.
ج- المحكوم به([71]) بدل أداة الخطاب.
د- الحكم بدل مضمون الخطاب.
وحسب علماء الألسنية –أيضاً- فإن الاتصال يحتِّم وجود: متكلّم، ومستمع، وشيء يريد المتكلم إيصاله إلى المستمع، كما يستتبع وجود علامات ألسنية عبرها يتم الاتصال([72]).
وبتعبير آخر، فإن التسويم (عملية الدلالة) يكون أخذاً بالاعتبار بالتوسط: فالوسيط هو حامل العلامة، والأخذ بالاعتبار هو التعبير، والقائم بالعملية هو المعبِّر، وما يؤخذ بالاعتبار هو المدلول([73]).
ثم إنَّ الأصوليين ينظرون إلى الخطاب من ثلاث زوايا:
1- زاوية الوضع.
2- زاوية الاستعمال.
3- زاوية الحمل.
وانطلاقاً من نظرتهم إلى الخطاب لجهة الوضع يطرحون مباحث: العام والخاص، والمشترك ، ومباحث الحروف وغيرها([74]).
ويطرحون لجهة الاستعمال مباحث: الحقيقة والمجاز، والصريح والكناية ومباحث متصّلة بجهات صدور الخطاب([75]).
ويتناولون من زاوية الحمل أنواع الدلالة: الدال بالعبارة، والدال بالإشارة، والدال بالنّص، والدال بالاقتضاء، ومباحث المفاهيم وغيرها([76]).
غير أن الأصوليين ذوي الاتجاه الكلامي ينظرون إلى الخطاب من ناحية الحمل فقط باعتبار أنّ "الوضع أمر راجع إلى الواضع... والاستعمال من صفات المتكلم... (وهو الشارع)، والحمل من صفات السامع"([77]). وعليه، فإن الاعتبارين الأولين خارجان عن دائرة إحاطة الأصولي، حسب المتكلمين، وما يحيط أو يستطيع أن يحيط به هو الأمر الأخير فقط.
2-3- نظريات الخطاب:
نظراً لأنَّ المعنى في كل خطاب يخضع لشبكة العلاقات المختلفة بما فيها العلاقة القائمة بين الكلمات ضمن بنية النظام اللغوي الذي يتحقق التخاطب فيه؛ وعلاقة الخطاب مع أركانه، لابد من إخضاع عملية الفهم لنظريات تكوّن الخطاب. وبما أنّ تعدُّد الاتجاهات في مجالي التفسير وأصول الفقه داخل العلوم الإسلامية، وتعدَّد الاتجاهات في الألسنيات من فلسفية، ونفسية وتاريخية وغيرها، أدت إلى تكوّن نظريات مختلفة ولا يسع البحث الدخول في تفاصيلها. من هنا، نكتفي ببيان ثلاث نظريات رئيسية في مجال تشكُّل الخطاب وهي: نظرية المحتوى الدلالي، نظرية المدلول السياقي، والنظرية التكاملية، وفي ما يلي عرض موجز لهذه النظريات:
أ- نظرية المحتوى الدلالي:
نظرية المحتوى الدلالي القار للمعنى، أو بالإيجاز "نظرية المحتوى الدلالي"، تقوم على فكرة "المعنى" بالذات، وتدعو إلى محورية "الكلمة" في صناعة المعنى داخل الجملة. ولا تعترف هذه النظرية بوحدات للخطاب خارج دائرة الكلمات وقواعد اللغة (المستوى المعجمي، والمستوى النحوي، أو علم المبنى).
وحسب هذه النظرية فإن الخطاب يتكوّن من خلال المفاهيم (الكلمات) وضمن دائرة قواعد اللغة، وفي فضاء مغلق؛ حيث إنَّ المرجع في بيان دلالة الكلمات هو المعنى المعجمي، الذي يفترض معنىً جاهزاً وقاراً للكلمات منذ البداية. كما أن مهمّة علم المبنى هو السعي للحفاظ على العلاقات الوظيفية داخل الجملة.
تعتمد نظرية المحتوى الدلالي على الظهور الذاتي –الشخصي الذي يكون مرجعه الذهن الشخصي والانسباق إليه. ولعلّ من يعتبر من الأصوليين أن "القرائن الملابسة للخطاب كأشياء منفكّة عنه،... ويجعلون ما تدل عليه الصيغة في أصلها الوضعي على الإطلاق هو الأصل"([78])، واعتبار القرائن شيئاً أجنبياً، يميل إلى نظرية المعنى بالذات.
ولا تعترف هذه النظرية بالسياق ولا شبكة التداعيات والعلاقات المركبة بين وحدات الخطاب، داخل الجملة وخارجها. الدلالة حسب هذه النظرية بسيطة، أصيلة، حصرية، كاملة، نهائية، ومطلقة، تعتمد على المعنى الأساس القارّ والناجز.
إنّ أغلب المفسرين بالمأثور وأصحاب النزعة الأخبارية الذين ينطلقون من دعوى "وقف الفهم على من خوطب به"([79]) يعتمدون بشكل أو آخر على مفاد هذه النظرية.
كما أن بعض الأصوليين([80]) الذين يقصرون الخطاب بالمشافهين الحاضرين دون الغائبين ينطلقون من اعتبارات تلتقي مع نظرية المحتوى الدلالي.
ويصعب استعادة لحظات التلقي الأصلية للخطاب وفق هذه النظرية كونها خالية عن عنصر الزمان وإشراطاته، ما يضيِّع على المفسِّر القائل بهذه النظرية فرصة القراءة والتفسير المتزامنين للنَّص.
كما يصعب-انطلاقاً من هذه النظرية- القراءة الكلية للقرآن الكريم وباقي النصوص الدينية لعدم الاعتراف من قبل هؤلاء بالمستويات المتعددة للخطاب وبوسائل الوعي الكلي. مضافاً إلى أنَّ نظرية المعنى بالذات لا تستطيع أن تزوّدنا بنظريات قادرة على ارتباط المفاهيم القرآنية بعضها ببعض داخل السورة وفي كل القرآن.
ثم إنَّ الحجّة من الظهور عند الأصوليين هو خصوص "الظهور في عصر صدور الكلام لا في عصر السماع المغاير له"([81])؛ "وذلك لأنَّ أصالة الظهور ليست تعبدية بل هي أصل عقلائي مبني على تحكيم ظاهر حال المتكلم في الكشف عن مرامه، ومن الواضح أن ظاهر حاله الجري وفق أساليب العرف واللغة المعاصرة لزمان صدور النصّ لا التي تنشأ في المستقبل"([82])، ولا التي تنشأ من خلال دلالة الكلمات وفق نظرية المعنى بالذات؛ لأنَّ المعتمد في الظهور هو الظهور الموضوعي، وهو الظهور النوعي الذي يشترك في فهمه جميع أهل العرف اللغوي وبعبارة أخرى، الظهور الموضوعي هو "الدلالة التصديقية النهائية التي تتعين للكلام بلحاظ مجموع النظم والقوانين الموجودة لدى العرف لاقتناص المراد"([83])، بخلاف الظهور الشخصي المعتمد على معطيات ذهنية.
ونظراً لتركيز "نظرية المعنى بالذات" على الدور المفصلي للكلمات وتهميش العوامل الأخرى، فإن هذه النظرية غير قادرة على تفعيل عملية الدلالة والاستظهار خارج دائرة المعنى المعجمي والعلاقة النحوية السائدة بين الكلمات ولا تستطيع إعادة العناصر المؤثرة الأخرى في تكوين الخطاب خارج دائرة الألفاظ.
ب- نظرية المدلول السياقي:
سبق أن تحدثنا عن مفهوم السياق([84])، وقلنا إنه عبارة عن كل ما يكتنف اللفظ من دوال أخرى، الأعم من أن تكون لفظية أو حالية. ونظرية المدلول السياقي تسعى للتخلّص من الجمود الذي يعاني منه المعنى الأساس حسب نظرية المعنى بالذات. كما أنها لا تقتصر على المعطى اللغوي المحض كما هو الحال مع نظرية المحتوى الدلالي (المعنى بالذات)، بل تستعين بالقرائن الحالية، والمعطيات الاستعمالية الأخرى، بهدف الوصول إلى المعنى التداولي للجملة. فمثلاً، حينما يبادر أحد الأفراد الموجودين في غرفة مزوَّدة بجهاز التكييف مخاطباً صاحب البيت بقوله: "الجو حار". فإن للجملة معنيان: المعنى اللغوي وهو الإخبار بشعور القائل بحرارة الجو، والمعنى الآخر هو المعنى السياقي المعتمد على القرائن الحالية، وهو يتجاوز المعنى اللغوي (الأخبار) إلى (الطلب) من صاحب البيت بفتح جهاز التكييف.
والمثال الآخر([85]) قوله –تعالى- ﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾([86]). فإننا لا نفهم المراد الحقيقي إلاّ من خلال السياق. فالمعنى اللغوي لا يفيد أكثر من أن شخصاً ما ينسب فعلاً ما إلى شخص ما هو أكبر المحيطين به. في حين أن المعنى السياقي –نظراً إلى أن المتكلم هو النبي إبراهيم وأنه يشير إلى قصة كسر الأصنام والمراد من "كبيرهم" أكبر الأصنام- هو: "التشكيك في ألوهية تلك الأصنام".
ومن هنا، فإن المعنى السياقي يتّصل بالمستوى الثاني من المستويات الثلاثة السيميائية وهو مستوى العلاقة القائمة بين العلامة والمعبِّر (المتكلم)، ويشكل المستوى التداولي للعلاقة، ويسمى العلم الذي يبحث في هذا المستوى "علم التداول"([87]) كما أشرنا سابقاً.
ويعبّر الأصوليون عن المستوى السياقي بـ "المراد الاستعمالي" أيضاً. يشير "الشاطبي" إلى الموضوع بقولـه: لابد من "نظرين: أحدهما باعتبار ما تدل عليه الصيغة في أصل وضعها على الإطلاق... والثاني، بحسب المقاصد الاستعمالية التي تقتضي العوائد بالقصد إليها وإن كان أصل الوضع على خلاف ذلك"([88]).
وكما أشرنا، فإن أنحاء الاستعمال كالحقيقة والمجاز، والصريح والكناية وغيرها ترجع إلى مستوى الاستعمال حسب الأصوليين.
وانطلاقاً من حقيقة أن اللسان العربي مثله مثل باقي اللغات يتم فهمه بحسب ما تقضي به العوائد الاستعمالية، فإن "كل خبر يقتضي من هذه الجهة –جهة الخبر- أموراً خادمة لذلك الإخبار بحسب المخبر والمخبر عنه، والمخبر به، ونفس الإخبار في الحال والمساق ونوع الأسلوب من الإيضاح والخفاء، والإيجاز والإطناب وغير ذلك"([89]).
وهذا ما يطرح –بقوة- أهمية البعد التاريخي (بقسميه الحدثي واللغوي) في الفهم السياقي للنّص، إذ لا يمكن استعادة مفاعيل لحظات التلقي الأصلية للخطاب من دون الوعي التاريخي.
وقد تنبّه الأصوليون لإشكالية الظهور الحاصل للكلام في عصر صدور الكلام دون عصر السماع، وحاولوا التغلّب على الإشكالية من خلال تأسيس أصل لغوي عبّروا عنه تارةً بـ"أصالة عدم النقل" و "الاستصحاب القهقرائي"([90])، وأخرى بـ "أصالة الثبات في الظهورات"([91])، كما حاولوا التخلّص من إشكالية حكومة قانون التغيّر والتطور في المجال اللغوي كونه ظاهرة اجتماعية، وأنّ الثبات في الظهورات إيحاء خادع وغير مطابق للواقع، بقولهم: "إن هذا الإيحاء، وإن كان خادعاً ولكنّه –على أي حال- إيحاء عام استقر بموجبه البناء العقلائي على إلغاء احتمال التغيير في الظهور باعتبار أنّ التغيير حالة استثنائية نادرة تُنفى بالأصل..."([92]).
على أن هذه الطريقة من المعالجة، وإن كانت متسقة بحسب علم أصول الفقه، إلاّ أنّها لا تنفي التغيير ولا اعتباره حالة استثنائية نادرة، بعد القب