مرتكزات الحجاج في العصر الحديث
سليمة محفوظي
لقد شهد الحجاج في العصر الحديث انبعاثه من خلال مؤلّفين صدرا في السّنة نفسها,مؤلّف حاييم برلمان و لوسي أولبرتيتكاه " مصنّف في الحجاج -الخطابة الجديدة" Traité de l’argumentation :la nouvelle rhétoriqueومؤلّف ستيفان تولمان " استعمالات الحجاج" Les usages de l’argumentation [1]
و قد عدَّ المصنّفان عمادَ تصور جديد ما فتىء و أن تتطوّر ليقود الحجاج إلى تصوّر لسانيّ محض تزعّمه بصفة خاصّة ديكروO. Ducrot وأوسكمبر J.C.Anscombre في كتابهما المشترك" الحجاج في اللّغة".] 2] والطّريف في هذه التّصوّرات الجديدة النزوع إلى جعل الحجاج مستقلاّ في الجمل و الخطابة بريئا من تهمة الدّعاية والمغالطة[3] مرتبطا بمفاهيم جديدة انتظمتها اتجاهات ردّت في الغالب إلى أعلامها المنشئين فكيف تمّ تصوّر الحجاج عندهم؟
الحجاج عند برلمان و تيتيكاه : [4]
لقد نشأ اهتمام برلمان و تيتيكاه بالحجاج في إطار حقوقيّ قانونيّ يكاد يذكّرنا بنشأة الاهتمام به عند السّفسطائيّين غير أنّ الباحثين قد استنبطا للحجاج حدّا جديدا جعله سليل الخطابة و الجدل مارقا عنهما في الآن نفسه فموضوع الحجاج عنـــــــــدهما " درس تقنيّات الخطاب التي من شأنها أن تؤدّي بالأذهان إلى التّسليم بما يعرض عليها من أطروحات أو أن تزيد في درجة ذلك التّسليم "[5] وهو إلى ذلك محكوم بغاية عمادُها" جعل العقُولٍ تذعن لما يُطْرَحُ عليها أو يزيد في درجة ذلك الإذعان إذ أنجع الحجاج ما وفّق في جعل حدّة الإذعان تقوى درجتها لدى السّامعين مهيّئين لذلك العمل في اللّحظة المناسبة" [6] ومثل هذا الحدّ جعل الباحثين يميّزّان الحجاج عن الخطابة و الجدل ليؤسّسا لهمـا علاقة جديـــدة جعلت "الجـــدل فــي خدمـــة الخطابــة و الخطابة غاية الجدل فهو لها عماد وهي له امتداد" إنّ هذا التّصوّر الجديد قد نزّل الحجاج في إطار نظريّة التّواصل Théorie de la communication وجعل الاهتمام به بحثا لا في طرائق تداول الأفكار وتمريرها فحسب وإنّما كذلك بحثا في ما يقود إليه التّأثير النّظريّ من إذعان سلوكيّ . ومن ثمّ تصوّر الباحثان ضرورة قيام الحجاج على عقد تواصليّ ميزته الرّئيسيّة طبيعة الجمهور وهي طبيعة نظريّة مجرّدة لاصا نع لها إلاّ ذهن المحاجّ الذي عليه أن ينشئ خطابه على استباق ردود فعل جمهوره وتقبّلهم خطابه ألإقناعي استباقا ينبغي أن يكون عنصرا مهمّا من عناصر صناعة الخطاب نفسه كما تصوّرا حدودا جديدة للحجّة وتقنيّات الحجاج.
أمّا الحجّة فهي عندهما مظهر من مظاهر الخطاب لا تكتسب صفتها تلك – باعتبارها حجّة - إلاّ من خلال وقعها في متقبّل الخطاب بناء على غايات الحجاج و إلاّ فإنّها تصير عند ذلك مجرّد تزويق للكلام و هذا ما يجعل تدبّر أمر الحجّة صناعةً أمرًا مهمًا تنعقد عليه صفة الخطاب إذا كان من الحجاج أم لا كما يجعل استقراء الحجّة مرتبطا عضويّا بموقعها من السّياق إذ أنّ في عزلها عنه خطرًا يتهدّد كيان الحجّة نفسه.
أمّا تقنيّات الحجاج فقد ردّها الباحثان إلى تقنيّتين رئيسيّتين :
v تقنية الوصل Procédé de liaison وهي تقنية قائمة على التّأليف بين المتباعد من العناصر لردّها إلى بنية واضحة من شأنها أن تتيح لنا إمكانية تقويم أيّ عنصر بواسطة غيره من العناصر تقويما إيجابيّا أو سلبيّا . وهذه التّقنية الاتصالية تقتضي ثلاثة أنواع من الحجج هي :
ü الحجج شبه المنطقيّة Les arguments quasi logiqueوهي حجج قائمة على المنطق الرّياضيّ وهي أقرب إلى المنهج الاستدلالي منها إلى التّفكير الصّوريّ المجرّد
ü الحجج المبنية على بنية الواقع Les arguments basés sur la structure du réel وهي حجج قائمة على الرّبط السّببيّ وعلى حجج السّلطة.
ü الحجج المؤسسة لبنية الواقع Arguments qui fondent la structure du réel شأن المثل l’exempleوالشّاهد l’illustrationوالتّمثيــل l’analogie والاستعارة la métaphore
v تقنية الفصل Procédé de dissuasion وهي تقنية قائمة على كسر عرى التّآلف بين عناصر تقتضي في الأصل وجود وحدة بينها وتتأسّس هذه التّقنية على ثنائيّة الظّاهر L’APPARENCE و الحقيقة la réalité فالظّاهر يردّ كلّ الأشياء إلى ما هو مُعاين و الحقيقة تكسبها هويّة جديدة هي بمقتضاها تعبير عن الصّورة المثلى لتلك الأشياء كما استقرت في الأذهان[7].
الحجاج عند تولمان :
تأثّر تولمان في تصوّره للحجاج بالوضعيّة الأنجلوساكسونيّة فسعى إلى نمذجة الحجاج بردّه إلى رسوم حجاجيّة هي :
يتأسّس على ثلاثة أركان هي المعطى والنّتيجة والضّمان وهو رسْمٌ يحدّد هويّة المعطى نتيجة تستمدّ مشروعيّتها من طبيعة الضّامن .
يضيف إلى الأركان الثّلاثة السّابقة عنصرين هما الموجّه والاستثناء ويكون في العادة لرفض القضيّة المطروحة .
ويضيف إلى سابق العناصر عنصر الأساس fondement وهو عنصر يتعلّق أساسا بالضّامن ليثريه فيوجّه الانتباه إلى الاستثناء باعتباره تشكيلا جديدًا للنّتيجة .
إنّ رسوم تولمان الحجاجيّة استمدت من أقيسة سقراط وهو أمر جعلها تسقط في فخّ الصّوريّة ليستبعدها العديد من الدّارسين من دائرة الحجاج[8] إذ أنّها غيّبت العناصر المقاميّة وجعلت صورة المتقبّل ضامرة وهو ما لا يستقيم حجاجا إذ من شروط الحجاج انخراطه في منظومة التّواصل و إيلاء المخاطب مكانة مهمّة نبّهنا إليها تولمـان و تيتيكاه ومن قبل أرسطو في خطابته .
الحجاج عند أوسكمبر وديكرو :
اعتبر الباحثان الحجاج كامنا في اللّغة متأتّيا من بنية الأقوال اللّغويّة لا من مضمونها الإخباريّ[9]ومن ثمّ فلا دراسة للحجاج خارج نطاق دراسة اللّغة وهو ما يجعل العمل الحجاجيّ عملا كلاميّا ACTE DE LANGAGE يتنزّل في إطار براغماتيّ دلاليّ يجعل اللّغة تحمل في ذاتها بعدا حجاجيّا بناءً علــى طرائق النّظم فيهـا باعتبارها – أيْ طرائق النّظم – فاعلة في التّوجيه L’ORIENTATION وهو وظيفة الحجاج الرّئيسيّة.
إنّ هذا الحدّ يرتبط عضويّا بتصوّر لسانيّ دلاليّ تمتدّ جذوره إلى دروس سوسّير العامّة و تصوّره المستحدث للتّواصل اللّغويّ وهو تصوّر جعل المواضعة عماد الفعل اللّغويّ لتكتسب البنية دلالة مخصوصة همّ منتج الخطاب فيها يتخطّى حدود الإبلاغ المجرّد ليضمن لخطابه بعدًا توجيهيّا يؤثّر في السّامع أو المتلقّي و يحمله على ما رامه منتج الخطاب من مقاصد.
الخاتمة:
لقد مثّلت هذه الاتجاهات حجر الأساس لكلّ من طلب دراسة الحجاج في العصر الحديث وهي و إن اختلفت مشاربها و منطقاتها المنهجيّة أو الأصوليّة تكشف لنا بوضوح قيمة الموقف من الحجاج باعتباره عنوان بلاغتنا الجديدة
مرتكزات الحجاج
يرتكز الخطاب الحجاجي على عناصر أوّلها المقدّمات des prémisses ، تؤخذ عل أنّها مسلّمات يقبلها الجمهور ومنها الوقائع والحقائق والافتّراضات والقّيم، والمواضع les lieux وسنفصّل القولّ في كلّ منها.
1.1 – الوقائع : les événements
تمثّل ما هو مشترك بين عدّة أشخاص أو بين جميع النّاس، إنّ الوقائع لا تكون عرضة للدّحض أو الشّك وهي تشكّل نقطة انطلاق ممّكنة للحجاج، و تنقسم الوقائع إلى وقائع مشاهدة معاينة من ناحية ووقائع مفترضة والتّسليم بالواقعة من قبل الفرد ليس إلاّ تجاوبا منه مع ما يفرض نفسه على جميع الخلق إذ الواقع يقتضي إجماعا كونيّا() وبهذا نرى أنّ الوقائع تعتبر من ركائز الحجاج الهامّة، التّي يستغّلها المحاجّ للإقناع والتّأثير في متلقي.
2.1 الحقائــــق:
هي أنظمة أكثر تعقيدا من الوقائع، وتقوم على الرّبط بين الوقائع والحقائق وقد يعمد الخطيب إلى الرّبط بين الوقائع والحقائق من حيث هي موضوعات متّفق عليها لتحدث موافقة الجمهور على واقعة معيّنة غير معلومة والمثال الذي ضربه أرسطو من كتاب (الخطابة المقالة1 الفصل 2) الواقعة (أ) (واقعة جزئيّة) وهي أنّ بايستراتوس وقبله ثياجنيس الميغارى كانا قد طلبا حرسّا خاصّا وحين حصلا على ذلك تحوّلا إلى طاغيتّين. القضيّة(ب) وهو الرّأي الّذي يريد الخطيب حمل السّامعين على التّصديق به وديونوسيوس طاغية لأنّه يطلب حرسا خاصا، فقد تضافرت على تأييد القضية(ب) الواقعة (أ) فالنّظرية (س)() فالحقائق إذا ما زكّيت بوقائع كانت أكثر إقناعا.
3.1 الافتراضات Les présomptions
شأنها شأن الوقائع والحقائق تحظى بالموافقة العامة، ولكنّ الإذعان لهما والتّسليم بهما لا يكونان قوييّن حتّى تأتي مسار الحجاج عناصر أخرى تقويهما. والافتراضات إنمّا تحدّد بالقياس إلى العادي أو المحتمّل... ولكنّ هذا العادي وهذا المحتّمل يتغيّران بتغيّر الحالات () فهّي وإن كانت من مرّتكزات الحجاج إلاّ أنّها تتطلّب فكّرا واعيّا للنجاح في توصيلها للسّامع.
4.1 القيّم Les valeurs
إنّ القيّم عليها مدار الحجاج بكلّ ضروبه... فهي التّي يعوّل عليها في جعل السّامع يذعن لما يطرح عليه من آراء ()، والقيّم نوعان مجرّدة كالعدل، والحق، ومحسوسة مثل البلد. والإنسان لا يخلو من قيم يؤمن بها و يذعن لها
5.1 الهرمياتLes niera dies :
القيّم متفاوتّة الدّرجات () وهي بذلك تخضع لهرم معيّن لأنّ لّلعاطفة مثلا درجات و للكره كذلك درجات " إن هرميّة القيّم في البنيّة الحجاجيّة أهمّ من القيّم نفسها، فالقيّم وإن كانت تسلّم
بها الجماهير فإنّ درجة تسليمها بها تكون مختلفة من جمهور إلى آخر"() فالإيمان بالجزاء والعقاب يقع في أعلى الدّرجات بالنّسبة للمسلم عن غيره من الذين ينتمون إلى ديانات أخرئ.
1?6 المواضع les lieux :
لا يمكن الحديث عن المنطق دون حديث عن ضروب الأقيّسة التّي يقوم عليها، فكذلك الأمر بالنّسبة للحجاج، لا يمكن الحديث عنه دونما حديث عن المواضع،كيف لا وقد عرّفها شيسترون بكونها "مخازن الحجاج" وألّح أرسطو على أنّها "ما يجب حسن امتلاكه" حتّى يصلح الحجاج ويحقّق الملفوظ وظيفته الحجاجيّة فهي ليستحججّا في حدّ ذاتها بل كما سّماها بيرلمان ما يشبه الأقسام les Rubriques التّي يقع تحتها ما يؤيّد الحجج () وهي أنواع :
الأشكال الحجاجيّةShemes argumentatif التّي يمكن اعتبارها مواضع حجاجيّةlieux argumentatifs على نوعين():
طرائق الوصل أو الاتصالProcédés de liaison
طرائق الفصل أو الانفصال Procédés de dissociation
1- الطّرائق الاتّصاليّة :
وهي الطّرائق? التي تقرّب بين العناصر المتبايّنة وتتيح إقامة ضرب من التّضامن لغاية تقويم أحد هذه العناصر بواسطة الآخر تقويما إيجابيّا أو سلبيّا ?() ومن بين الطّرائق الاتّصاليّة .
1.1 الحجج شبه المنطقيّة:
تسمد قوّتها الاقناعيّة من مشابهتها للطرائق الشّكليّة والمنطقيّة والرّياضيّة في البرهنة وإذ كانت تشبهها فلا يعني أنّها هي وعليه وجب التّدقيق بأن يبذل جهدا كبيرا في بناء استدلالها ومنها:
1.1.1 التّناقض وعدم الاتّفاق incompatibilité ():
والمقصود بالتّناقضContradiction هو أن تكون هناك قضيّتان في نطاق مشكلتّين إحداهما نفي للأخرى... كأن يقال (المطر ينزل ولا ينزل) في حين أنّ عدم الاتّفاق أو التّعارض بين ملفوظيّن يتمثّل في وضع الملفوظيّن على محكّ الواقع والظّروف أو المقام،لاختيار إحدى الأطروحتيّن و إقصاء الأخرى.
2.1.1 التّماثل والحدّ في الحجاج: ()
التّماثل التّام مداره على التّعريف définition من حيث هو تعبير عن التّماثل بين المعرّف والمعرّف وليس المعرّف تمام المعرّف على الحقيقة لهذا سميّ الحجاج من هذا القبيل حجاجّا شبه منطقيّ.
فقولنا الرّجل وجلّ، والأب يبقى أبا.
هو من قبيل تحصيل الحاصل، لاتجد فيه معنى المعرّف وهو رجلاّ أو أبّا هو نفسه معنى المعرّف وهو الرّجل والأب،ولهذا قيل عن مثل هذه القضايا أنّ أحد ركنيّها أو لفظيّها ورد على الحقيقة، والآخر على وجه المجاز.
1?1?3 الحجج القائمة على العلاقة التبادلية:
تتمثّل هذه الحجج? في معالجة وضعيتيّن إحداهما بسبيل الآخر معالجة واحدة وهذا يعني أنّهما متشابهتان بطريقة أو بأخرى() ومن أمثلة ذلك "ضع نفسك مكان لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبه لنفسه"
4.1.1 حجج التعدية Arguments de transitivité ()
إنّ التّعدية خاصة شكليّة تتّصف بها ضروب من العلاقات التّي تتيح لنا أن نمرّ من إثبات أنّ العلاقة الموجودة بين "أ" و "ب" من ناحيّة و "ب" و "ج" من ناحية أخرى هي علاقة واحدة إلى استنتاج أنّ العلاقة نفسها موجودة بالتالي بين "أ" و"ج" مثال ذلك :
( علي أخو محمد ) و ( علي أخو عمر ) ( عمر أخو محمد)
نلاحظ أنّ التّعدية مبنيّة على علاقة التّضمن وهذا ما نلمسه في المثال الذي ضربه "ببرلمان" "قضى سقراط نحبه لأنّه إنسان" النّتيجة المسكوت عنها "كلّ إنسان فان"
2.1 الحجج المؤسسة على بنية الواقع :
تقوم ?بربط الأحكام المسلّم بها، وأحكام يسعى الخطاب إلى تأسيسها وتثبيتها وجعلها مقبولة ومسلّما بها وذلك بجعل الأحكام المسلّم بها والأحكام غير المسلّم بها عناصر تنتمي إلى كلّ يجمع بينها ولا يمكن التّسليم بأحدهما دون أن يسلّم بالآخر().
1.2.1 الوصل السّببي: وله ثلاثة ضروب () وهي :
حجاج يرمي إلى الرّبط بين حدثيّن متتابعيّن بواسطة رابط سببي مثال ذلك "اجتهد فتنجح ".
حجاج يرمي إلى أن يستخلص من حدث ما ،وقع سبب أحدثه وأدى إليه ومثال ذلك" نجح لأنّه اجتهد ".
حجاج يرمي إلى التّكهن بما سينجرّ عن حدث ما من نتائج، مثال "هو يجتهد فسينجح".
ولهذا النّوع من الوصل " تأثير مباشر في توجيه السّلوك وعدّه من أهمّ وسائل الحجاج "() .
2.2.1 حجة التبذير:
حجّة تقوم على التّتابع، وإن لم تكن ليعتمد فيها على السّببية وتتمثّل في أن نقول حسب برلمان "بما أنّنا شرعنا في العمل وضحيّنا في سبيله بما لو أعرضنا عن تمامه لكان مضّيعة للمال والجهد فإنّه علينا أن نواصل إنجازه"()
3.2.1 حجة الاتجاه :
وتتمثّل أساسا في التحذير من مغبة إتباع سياسية المراحل التنازلية كقولنا إذا تنازلت هذه المرة وجب عليك أن تتنازل أكثر في المرة القادمة و الله أعلم ا ين ستقف بك سياسة التنازل هذه؟
3.1 وجوه الاتّصال التّواجدي:
1.3.1 الشّخص وأعماله: إن الإنسان كل لا يتجزأ ينظر إليه من زوايا عدّة "فعلم الأخلاق والقضاء يعتمدان مفهوميّ الإنسان وأعماله من حيث هما مفهومان مترابطان... لا فكاك لأحدهما عن الآخر فعلم الأخلاق والقضاء يحكمان على العمل وعلى صاحبه في الوقت نفسه... فعلاقة الوصل التّواجديّة لا يتبع الحجاج فيها مسار- عمل شخص- وإنّما يتبع فيها أيضا مسار- شخص عمل- وهو ما أسماه برلمان "التّداخل بين العمل والشّخص" () وهكذا يتبيّن أنّ للشّخص وأعماله دور في استمالة المتلقيّن
2.3.1 حجة السلطة: تختلف السّلطة في هذا المجال وتتعدّد تعددّا كبيرا فقد تكون ?الإجماع، أو الرأي العام، أو العلماء... أو الأنبياء وقد تكون غير شخصيّة مثل الفيزياء أو العقيد أو الدين... وقد يعتمد الحجاج بالسّلطة على ذكر أشخاص معينيّن على أن تكون سلطة هؤلاء معترفّا بها من قبل جمهور السّامعين... والعادة في الحجاج ألاّ تكون الحجة بالسّلطة الحجّة الوحيدة فيه وإنمّا تأتي هذه الحجّة مكمّلة لحجاج يكون غنيّا بحججّ أخرى" ()
4.1 الاتّصال المؤسّس لبنيّة الواقع : يوجد بنيّات مستمّدة من الواقع الماضي، بما تختزنه من تجارب إنسانيّة وأحداث تاريخيّة أو شخصيّة تترجمها الحكم والأمثال والحكايات وغيرها، تكون معروفة من قبل، وذات قيّم مجتمعيّة، تحظى باحترام واهتمام الأفراد والجماعات، تستخدم داخل القول الحجاجي للإقناع وتختلف وفق الضّرورة السّياقية أو المقاميّة ومن بين هذه البيانات نذكر ما يلي:
1.4.1 المثل Exemple : هو نوع من الاستدلال ?يقوم بنقلة نوعية من خلال الجمع ين الاستقرار والمشابهة عن طريق الحدس، وقد وجد هذا التّوظيف كقيمة رمزيّة أو بمثابة مسلّمات قيميّة تستجيب للقضايا المطروحة ()، وقد وجد هذا التّوظيف امتدادا واسعا داخل الخطابة العربيّة حيث يرجع الخفاجي أساس المثل إلى كونه: ?ماثل في خاطر الإنسان أبدّا وشاخص، و?عون شيّء عل البيان" وفي نفس السّياق يؤكّد الزّمخشري: "أن الأمثال هي زيادة في الكشف و تنتمي للبيان وتضرب العرب الأمثال لإبراز جليّات المعاني، ورفع الأستار عن الحقائق حتى تريك المتخيّل في صورة المحقّق، والمتوهّم في صورة المتيقّن ،والغائب كأنّه مشاهد، وفيه تبكيت للخصم، وقمع لسورة الجامح الأبي"(). فالمثل يصوّر المعاني بصورة الأشخاص مع ترسّخه في الذّهن وتقريب المعنى للمتلقي.
2.4.1 النموذج le modèle والنموذج المضاد Anti modèle
وسيلة تعبيريّة ?مؤسّسة على حجة السّلوك باعتبار السّلوك قدوة تستوحي من الأشخاص أو الجماعات أو الأفكار... تؤكّدها قيمة الأفعال وذلك كميل طبيعي في النّاس نحو الاقتداء بنماذج معيّنة حيث تعتبر في القول الحجاجي مقدمات تستخلص منها نتائج معيّنة تؤدّي إلى امتداح سلوك خاص?() لذلك تعتبر النّماذج الجيّدة وراء تشكيل سلوك وثقافة الأفراد والجماعات كما يعتبر" النّموذج المضاد نموذجا يستعمل أيضا كتقنيّة في الخطاب الحجاجي ويكون أكثر فعاليّة حيث يفقد النموذج الأصلي قيمته وفعاليّته ويحوّله في مجالات مقاميّة معيّنة
إلى الهزأ أو الهزل أو السخريّة كما في المثال الذي أورده برلمان () حين قال الأب لابنه الكسول: في مثل سنّك كان نابليون على رأسالفصل الذي يدرس فيه.
فردّ الابن : وفي مثل سنّك كان نابليون إمبراطورا .
3.4.1 الّشاهد Illustration :
طريقة تدور حول تقويّة وتأكيد الأطروحة "فالغاية منه لا تكمن فقط في تعويض المجرد بالملموس وتبديل أو نقل الأطروحات من مجال إلى مجال آخر كماهو الشأن في المثل أو التّمثيل وإنّما تكمن أساّسا في تقويّة الفكرة وتأكّيد حضورها في الذّهن () ولهذا فإن اختيار الشّاهد يخضع" لمعايير تقتضيها الشّروط المقاميّة التّي تجد لها صدى شعوريّا وعاطفّيا لدى المخاطّب، فتقوم بدور المحرّك لخياله وتفرض عليه الانتباه وتسهّل عليه عمليّة الفهم () والشّاهد حسب الجاحظ يستمّد طاقته من العيان والمشاهدة" وهو استشهاد على شيء ما بقرآن أو حديث أو شعر أو مثل أو خبر مرويّ بهدف ثباته أو إنكاره أو الاحتجاج له أو بطلانه أو نحو ذلك" ()
1.4.4 التمثيل Analogie:
طريقة حجاجيّة?تعلو قيمتها على مفهوم المشابهة حيث لا يرتبط التّمثيل بعلاقة المشابهة دائمّا، وإنّما يرتبط بتشابه العلاقة بين أشياء ما كان لها أن تكون مترابطة" () وينطلق الحجاج بالتّمثيل من التّجربة ?بهدف إفهام الفكرة أو العمل، على أن تكون الفكرة مقبولة وذلك بنقلها من مجال إلى مجال مغايّر، جريّا على مبدأ الاستعارة ويرتكز التّمثيل على استدعاء صورة تحكي أحداثّا من أجل نقل أفكار مرجعيّة ذات قيمة رمزيّة ?()
2-الطرائق الانفصالية في الحجاج:
تحدثنا عن ثلاثة مظاهر من الاتّصال الحجاجي هي الحجج شبه المنطقيّة والحجج المؤسّسة على بني الواقع، والحجج المؤسّسة لبني الواقع وهي طرائق تربط بين عناصر غير مترابطة في أصل وجودها، أما الطرائق الانّفصاليّة أو الفصل "فإن الانّفصال بين العناصر في الحجاج يقتضي وجود وحدة بينها، ومفهوم واحد لها فهي عناصر عائدة إلى اسم واحد... وقع الفصل بينها لأسباب دعا إليها الحجاج ومردّ ذلك إلى زوج (الظاهر/الواقع). بمعنى أن الأشياء أو المعطيات قد تكون حدان ظاهر زائف وواقع حقيقي () ويرى "برلمان وتيتكاه "أنّ الظاهر هو ما يخاطر بالذّهن ويدركه الفكر منذ الوهلة الأولى فهو المعطى الرّاهن المباشر في حين أن الحقيقي لمّا كان تمييّزه لا يكون إلاّ في علاقته بالّظاهر ومقارنة به فإنّه لا يمكن أن يكون إلاّ نتيجة فصل تحدثه داخل الحدّ الأول –في الظّاهر- سعيّا منا إلى القضاء على ما يمكن أن نلمحه في مظاهر الحدّ الأول هذا من تناقضات بينها توقظ فكرنا من غفلته عنها وانخداعه بها () وتتجلى طرق الفصل في الأقوال والخطابات بما يعبّر عن حضور أزواج من قبيل ()
ظاهري /حقيقي Apparent /Réel
هو شبه كذا .
غير كذا، غير صحيح.
بعض الجمل الاعتراضيّة: إنّ هذا البطل إن صحّ أنّه بطل.
بعض الأفعال مثل: يزعم، يتوهّم.
وضع بعض الأقوال بين قوسين أو مزدوجتين وبالتّالي نلاحظ أن الفصل يكون داخل المفهوم الواحد بين ما هو ظاهري وما هو حقيقي كأن يقال: "إنّ ملكا يفعل هذه الأفاعيل ليس ملكا" !
.
الهوامش
[1] برلمان وتيتيكاه: مصنّف في الحجاج :الخطابة الجديدة وقد كانت طبعة الكتاب الأولى سنة 1958 في منشورات الجامعة الفرنسيّة.أمّا كتاب تولمان "استعمال الحجاج" فقد صدرت طبعته الأولى في السّنة نفسها في منشورات جامعة كامبريدج
[2] - صدر الكتاب( (L’argumentation dans la langue في طبعته الأولى سنة 1983 وكانت طبعته الثّانية سنة 1988 عن دار مارد قالي اجبر وكسال
[3] صولة عبد الله: الحجاج في القرآن ص25
[4] للتعمّق أكثر في هذا المبحث انظر صولة عبد اللّه مؤلّف فريق الحجاج ص ص 297-350 وكذلك أطروحته الحجاج في القرآن ص ص 30-36
[5] برلمان وتيتيكاه مصنّف في الحجاج ص 5 وقد نقلنا تعريب الدّكتور عبد الله صولة لهذا التعريف كما ورد في أطروحته وفي مصنّف فريق الحجاج ص 293
[6] صولة عبد اللّه:نفسه ص 299/ص31
[7] انظر صولة عبد اللّه مؤلّف فريق الحجاج وفيه تفصيل للتّقنيتين المذكورتين
[8] انظر صولة عبد اللّه: الحجاج في القرآن ص ص 29-30
[9] نفسه ص37
مفهوم الحجاج في القرآن
د. فريدة زمرد
عضو المجلس الأكاديمي للرابطة
مدار لفظ الحِجاج في أصل اللغة على القصد، ومنه الحَج، والحُجة، سميت حُجة لأنها تُحَج أي تقصد، وكذلك المحجة: الطريق التي تقصد للسير. وفي الاصطلاح عرفت المحاجة: "أن يطلب كل واحد أن يرد الآخر عن حجته ومحجته" [ مفردات الراغب]، والحجة: الدلالة المبينة للمحجة.
وفي القرآن الكريم ورد لفظ الحجاج بصيغ الفعل حاجَّ بتصريفاته المختلفة، والاسم الحجة ست عشرة مرة، منها تسع مرات في سور مدنية، والباقي في سور مكية، وبذلك يكون مفهوم الحِجاج على عكس مفهوم الجدال مدنيا أكثر منه مكيا. ولذلك غلب عليه موضوع حِجاج أهل الكتاب ممن عايشوا المسلمين في المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها وبناء دولة الإسلام فيها، ومن الآيات الدالة على هذا المعنى:
• قوله تعالى: "فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ" [سورة اَل عمران، الآية: 61] وهي آية المباهلة التي نزلت بسبب ما كان بين النبي ووفد من نصارى نجران من جدال في أمر عيسى عليه السلام.
• وقوله في نفس السورة: "فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ اَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اِتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالاُمِّيِّينَ ءَاَسْلَمْتُمْ فَإِنْ اَسْلَمُواْ فَقَدِ اِهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ" [سورة اَل عمران، الآية: 19].
• وقوله تعالى بخصوص اليهود: "وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ أَمَنُواْ قَالُواْ أَمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ اْأَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ" [سورة البقرة، الآية: 76].
ومن أنواع الحجاج المذكور في القرآن ما كان بين أهل الإيمان وأهل الكفر في الدنيا والآخرة:
• فمما كان في الدنيا: ما جسدته قصة سيدنا إبراهيم مع قومه كقوله عز وجل: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَاتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" [سورة البقرة، الآية: 258]، وقوله: "وَحَاَجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ" [سورة الاَنعام، الآية 80].
• ومما كان في الآخرة: ما جرى بين المستضعفين والمستكبرين: "وَإِذْ يَتَحَاَجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفؤُاْ لِلَّذِينَ اَسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ اَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ" [سورة غافر، الآية: 47].
إن أهم ما يلاحظ بخصوص مفهوم الحجاج أنه يتميز بارتباطه بالدليل والبرهان الذي لا يدع مجالا للإنكار أو التردد، إلا على وجه التحكم، وقد سمى القرآن هذا الدليل حجة. وذلك شرطه أو ركنه الذي إذا تخلف بطل الحجاج، ولذلك كان الحجاج سبيلا للإقناع. ومتى تخلف ركن الدليل والبرهان الذي يرجح كفة الحق، صار الحجاج شيئا آخر، وصرنا إلى مفهوم آخر هو مفهوم المراء.
سليمة محفوظي
لقد شهد الحجاج في العصر الحديث انبعاثه من خلال مؤلّفين صدرا في السّنة نفسها,مؤلّف حاييم برلمان و لوسي أولبرتيتكاه " مصنّف في الحجاج -الخطابة الجديدة" Traité de l’argumentation :la nouvelle rhétoriqueومؤلّف ستيفان تولمان " استعمالات الحجاج" Les usages de l’argumentation [1]
و قد عدَّ المصنّفان عمادَ تصور جديد ما فتىء و أن تتطوّر ليقود الحجاج إلى تصوّر لسانيّ محض تزعّمه بصفة خاصّة ديكروO. Ducrot وأوسكمبر J.C.Anscombre في كتابهما المشترك" الحجاج في اللّغة".] 2] والطّريف في هذه التّصوّرات الجديدة النزوع إلى جعل الحجاج مستقلاّ في الجمل و الخطابة بريئا من تهمة الدّعاية والمغالطة[3] مرتبطا بمفاهيم جديدة انتظمتها اتجاهات ردّت في الغالب إلى أعلامها المنشئين فكيف تمّ تصوّر الحجاج عندهم؟
الحجاج عند برلمان و تيتيكاه : [4]
لقد نشأ اهتمام برلمان و تيتيكاه بالحجاج في إطار حقوقيّ قانونيّ يكاد يذكّرنا بنشأة الاهتمام به عند السّفسطائيّين غير أنّ الباحثين قد استنبطا للحجاج حدّا جديدا جعله سليل الخطابة و الجدل مارقا عنهما في الآن نفسه فموضوع الحجاج عنـــــــــدهما " درس تقنيّات الخطاب التي من شأنها أن تؤدّي بالأذهان إلى التّسليم بما يعرض عليها من أطروحات أو أن تزيد في درجة ذلك التّسليم "[5] وهو إلى ذلك محكوم بغاية عمادُها" جعل العقُولٍ تذعن لما يُطْرَحُ عليها أو يزيد في درجة ذلك الإذعان إذ أنجع الحجاج ما وفّق في جعل حدّة الإذعان تقوى درجتها لدى السّامعين مهيّئين لذلك العمل في اللّحظة المناسبة" [6] ومثل هذا الحدّ جعل الباحثين يميّزّان الحجاج عن الخطابة و الجدل ليؤسّسا لهمـا علاقة جديـــدة جعلت "الجـــدل فــي خدمـــة الخطابــة و الخطابة غاية الجدل فهو لها عماد وهي له امتداد" إنّ هذا التّصوّر الجديد قد نزّل الحجاج في إطار نظريّة التّواصل Théorie de la communication وجعل الاهتمام به بحثا لا في طرائق تداول الأفكار وتمريرها فحسب وإنّما كذلك بحثا في ما يقود إليه التّأثير النّظريّ من إذعان سلوكيّ . ومن ثمّ تصوّر الباحثان ضرورة قيام الحجاج على عقد تواصليّ ميزته الرّئيسيّة طبيعة الجمهور وهي طبيعة نظريّة مجرّدة لاصا نع لها إلاّ ذهن المحاجّ الذي عليه أن ينشئ خطابه على استباق ردود فعل جمهوره وتقبّلهم خطابه ألإقناعي استباقا ينبغي أن يكون عنصرا مهمّا من عناصر صناعة الخطاب نفسه كما تصوّرا حدودا جديدة للحجّة وتقنيّات الحجاج.
أمّا الحجّة فهي عندهما مظهر من مظاهر الخطاب لا تكتسب صفتها تلك – باعتبارها حجّة - إلاّ من خلال وقعها في متقبّل الخطاب بناء على غايات الحجاج و إلاّ فإنّها تصير عند ذلك مجرّد تزويق للكلام و هذا ما يجعل تدبّر أمر الحجّة صناعةً أمرًا مهمًا تنعقد عليه صفة الخطاب إذا كان من الحجاج أم لا كما يجعل استقراء الحجّة مرتبطا عضويّا بموقعها من السّياق إذ أنّ في عزلها عنه خطرًا يتهدّد كيان الحجّة نفسه.
أمّا تقنيّات الحجاج فقد ردّها الباحثان إلى تقنيّتين رئيسيّتين :
v تقنية الوصل Procédé de liaison وهي تقنية قائمة على التّأليف بين المتباعد من العناصر لردّها إلى بنية واضحة من شأنها أن تتيح لنا إمكانية تقويم أيّ عنصر بواسطة غيره من العناصر تقويما إيجابيّا أو سلبيّا . وهذه التّقنية الاتصالية تقتضي ثلاثة أنواع من الحجج هي :
ü الحجج شبه المنطقيّة Les arguments quasi logiqueوهي حجج قائمة على المنطق الرّياضيّ وهي أقرب إلى المنهج الاستدلالي منها إلى التّفكير الصّوريّ المجرّد
ü الحجج المبنية على بنية الواقع Les arguments basés sur la structure du réel وهي حجج قائمة على الرّبط السّببيّ وعلى حجج السّلطة.
ü الحجج المؤسسة لبنية الواقع Arguments qui fondent la structure du réel شأن المثل l’exempleوالشّاهد l’illustrationوالتّمثيــل l’analogie والاستعارة la métaphore
v تقنية الفصل Procédé de dissuasion وهي تقنية قائمة على كسر عرى التّآلف بين عناصر تقتضي في الأصل وجود وحدة بينها وتتأسّس هذه التّقنية على ثنائيّة الظّاهر L’APPARENCE و الحقيقة la réalité فالظّاهر يردّ كلّ الأشياء إلى ما هو مُعاين و الحقيقة تكسبها هويّة جديدة هي بمقتضاها تعبير عن الصّورة المثلى لتلك الأشياء كما استقرت في الأذهان[7].
الحجاج عند تولمان :
تأثّر تولمان في تصوّره للحجاج بالوضعيّة الأنجلوساكسونيّة فسعى إلى نمذجة الحجاج بردّه إلى رسوم حجاجيّة هي :
يتأسّس على ثلاثة أركان هي المعطى والنّتيجة والضّمان وهو رسْمٌ يحدّد هويّة المعطى نتيجة تستمدّ مشروعيّتها من طبيعة الضّامن .
يضيف إلى الأركان الثّلاثة السّابقة عنصرين هما الموجّه والاستثناء ويكون في العادة لرفض القضيّة المطروحة .
ويضيف إلى سابق العناصر عنصر الأساس fondement وهو عنصر يتعلّق أساسا بالضّامن ليثريه فيوجّه الانتباه إلى الاستثناء باعتباره تشكيلا جديدًا للنّتيجة .
إنّ رسوم تولمان الحجاجيّة استمدت من أقيسة سقراط وهو أمر جعلها تسقط في فخّ الصّوريّة ليستبعدها العديد من الدّارسين من دائرة الحجاج[8] إذ أنّها غيّبت العناصر المقاميّة وجعلت صورة المتقبّل ضامرة وهو ما لا يستقيم حجاجا إذ من شروط الحجاج انخراطه في منظومة التّواصل و إيلاء المخاطب مكانة مهمّة نبّهنا إليها تولمـان و تيتيكاه ومن قبل أرسطو في خطابته .
الحجاج عند أوسكمبر وديكرو :
اعتبر الباحثان الحجاج كامنا في اللّغة متأتّيا من بنية الأقوال اللّغويّة لا من مضمونها الإخباريّ[9]ومن ثمّ فلا دراسة للحجاج خارج نطاق دراسة اللّغة وهو ما يجعل العمل الحجاجيّ عملا كلاميّا ACTE DE LANGAGE يتنزّل في إطار براغماتيّ دلاليّ يجعل اللّغة تحمل في ذاتها بعدا حجاجيّا بناءً علــى طرائق النّظم فيهـا باعتبارها – أيْ طرائق النّظم – فاعلة في التّوجيه L’ORIENTATION وهو وظيفة الحجاج الرّئيسيّة.
إنّ هذا الحدّ يرتبط عضويّا بتصوّر لسانيّ دلاليّ تمتدّ جذوره إلى دروس سوسّير العامّة و تصوّره المستحدث للتّواصل اللّغويّ وهو تصوّر جعل المواضعة عماد الفعل اللّغويّ لتكتسب البنية دلالة مخصوصة همّ منتج الخطاب فيها يتخطّى حدود الإبلاغ المجرّد ليضمن لخطابه بعدًا توجيهيّا يؤثّر في السّامع أو المتلقّي و يحمله على ما رامه منتج الخطاب من مقاصد.
الخاتمة:
لقد مثّلت هذه الاتجاهات حجر الأساس لكلّ من طلب دراسة الحجاج في العصر الحديث وهي و إن اختلفت مشاربها و منطقاتها المنهجيّة أو الأصوليّة تكشف لنا بوضوح قيمة الموقف من الحجاج باعتباره عنوان بلاغتنا الجديدة
مرتكزات الحجاج
يرتكز الخطاب الحجاجي على عناصر أوّلها المقدّمات des prémisses ، تؤخذ عل أنّها مسلّمات يقبلها الجمهور ومنها الوقائع والحقائق والافتّراضات والقّيم، والمواضع les lieux وسنفصّل القولّ في كلّ منها.
1.1 – الوقائع : les événements
تمثّل ما هو مشترك بين عدّة أشخاص أو بين جميع النّاس، إنّ الوقائع لا تكون عرضة للدّحض أو الشّك وهي تشكّل نقطة انطلاق ممّكنة للحجاج، و تنقسم الوقائع إلى وقائع مشاهدة معاينة من ناحية ووقائع مفترضة والتّسليم بالواقعة من قبل الفرد ليس إلاّ تجاوبا منه مع ما يفرض نفسه على جميع الخلق إذ الواقع يقتضي إجماعا كونيّا() وبهذا نرى أنّ الوقائع تعتبر من ركائز الحجاج الهامّة، التّي يستغّلها المحاجّ للإقناع والتّأثير في متلقي.
2.1 الحقائــــق:
هي أنظمة أكثر تعقيدا من الوقائع، وتقوم على الرّبط بين الوقائع والحقائق وقد يعمد الخطيب إلى الرّبط بين الوقائع والحقائق من حيث هي موضوعات متّفق عليها لتحدث موافقة الجمهور على واقعة معيّنة غير معلومة والمثال الذي ضربه أرسطو من كتاب (الخطابة المقالة1 الفصل 2) الواقعة (أ) (واقعة جزئيّة) وهي أنّ بايستراتوس وقبله ثياجنيس الميغارى كانا قد طلبا حرسّا خاصّا وحين حصلا على ذلك تحوّلا إلى طاغيتّين. القضيّة(ب) وهو الرّأي الّذي يريد الخطيب حمل السّامعين على التّصديق به وديونوسيوس طاغية لأنّه يطلب حرسا خاصا، فقد تضافرت على تأييد القضية(ب) الواقعة (أ) فالنّظرية (س)() فالحقائق إذا ما زكّيت بوقائع كانت أكثر إقناعا.
3.1 الافتراضات Les présomptions
شأنها شأن الوقائع والحقائق تحظى بالموافقة العامة، ولكنّ الإذعان لهما والتّسليم بهما لا يكونان قوييّن حتّى تأتي مسار الحجاج عناصر أخرى تقويهما. والافتراضات إنمّا تحدّد بالقياس إلى العادي أو المحتمّل... ولكنّ هذا العادي وهذا المحتّمل يتغيّران بتغيّر الحالات () فهّي وإن كانت من مرّتكزات الحجاج إلاّ أنّها تتطلّب فكّرا واعيّا للنجاح في توصيلها للسّامع.
4.1 القيّم Les valeurs
إنّ القيّم عليها مدار الحجاج بكلّ ضروبه... فهي التّي يعوّل عليها في جعل السّامع يذعن لما يطرح عليه من آراء ()، والقيّم نوعان مجرّدة كالعدل، والحق، ومحسوسة مثل البلد. والإنسان لا يخلو من قيم يؤمن بها و يذعن لها
5.1 الهرمياتLes niera dies :
القيّم متفاوتّة الدّرجات () وهي بذلك تخضع لهرم معيّن لأنّ لّلعاطفة مثلا درجات و للكره كذلك درجات " إن هرميّة القيّم في البنيّة الحجاجيّة أهمّ من القيّم نفسها، فالقيّم وإن كانت تسلّم
بها الجماهير فإنّ درجة تسليمها بها تكون مختلفة من جمهور إلى آخر"() فالإيمان بالجزاء والعقاب يقع في أعلى الدّرجات بالنّسبة للمسلم عن غيره من الذين ينتمون إلى ديانات أخرئ.
1?6 المواضع les lieux :
لا يمكن الحديث عن المنطق دون حديث عن ضروب الأقيّسة التّي يقوم عليها، فكذلك الأمر بالنّسبة للحجاج، لا يمكن الحديث عنه دونما حديث عن المواضع،كيف لا وقد عرّفها شيسترون بكونها "مخازن الحجاج" وألّح أرسطو على أنّها "ما يجب حسن امتلاكه" حتّى يصلح الحجاج ويحقّق الملفوظ وظيفته الحجاجيّة فهي ليستحججّا في حدّ ذاتها بل كما سّماها بيرلمان ما يشبه الأقسام les Rubriques التّي يقع تحتها ما يؤيّد الحجج () وهي أنواع :
الأشكال الحجاجيّةShemes argumentatif التّي يمكن اعتبارها مواضع حجاجيّةlieux argumentatifs على نوعين():
طرائق الوصل أو الاتصالProcédés de liaison
طرائق الفصل أو الانفصال Procédés de dissociation
1- الطّرائق الاتّصاليّة :
وهي الطّرائق? التي تقرّب بين العناصر المتبايّنة وتتيح إقامة ضرب من التّضامن لغاية تقويم أحد هذه العناصر بواسطة الآخر تقويما إيجابيّا أو سلبيّا ?() ومن بين الطّرائق الاتّصاليّة .
1.1 الحجج شبه المنطقيّة:
تسمد قوّتها الاقناعيّة من مشابهتها للطرائق الشّكليّة والمنطقيّة والرّياضيّة في البرهنة وإذ كانت تشبهها فلا يعني أنّها هي وعليه وجب التّدقيق بأن يبذل جهدا كبيرا في بناء استدلالها ومنها:
1.1.1 التّناقض وعدم الاتّفاق incompatibilité ():
والمقصود بالتّناقضContradiction هو أن تكون هناك قضيّتان في نطاق مشكلتّين إحداهما نفي للأخرى... كأن يقال (المطر ينزل ولا ينزل) في حين أنّ عدم الاتّفاق أو التّعارض بين ملفوظيّن يتمثّل في وضع الملفوظيّن على محكّ الواقع والظّروف أو المقام،لاختيار إحدى الأطروحتيّن و إقصاء الأخرى.
2.1.1 التّماثل والحدّ في الحجاج: ()
التّماثل التّام مداره على التّعريف définition من حيث هو تعبير عن التّماثل بين المعرّف والمعرّف وليس المعرّف تمام المعرّف على الحقيقة لهذا سميّ الحجاج من هذا القبيل حجاجّا شبه منطقيّ.
فقولنا الرّجل وجلّ، والأب يبقى أبا.
هو من قبيل تحصيل الحاصل، لاتجد فيه معنى المعرّف وهو رجلاّ أو أبّا هو نفسه معنى المعرّف وهو الرّجل والأب،ولهذا قيل عن مثل هذه القضايا أنّ أحد ركنيّها أو لفظيّها ورد على الحقيقة، والآخر على وجه المجاز.
1?1?3 الحجج القائمة على العلاقة التبادلية:
تتمثّل هذه الحجج? في معالجة وضعيتيّن إحداهما بسبيل الآخر معالجة واحدة وهذا يعني أنّهما متشابهتان بطريقة أو بأخرى() ومن أمثلة ذلك "ضع نفسك مكان لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبه لنفسه"
4.1.1 حجج التعدية Arguments de transitivité ()
إنّ التّعدية خاصة شكليّة تتّصف بها ضروب من العلاقات التّي تتيح لنا أن نمرّ من إثبات أنّ العلاقة الموجودة بين "أ" و "ب" من ناحيّة و "ب" و "ج" من ناحية أخرى هي علاقة واحدة إلى استنتاج أنّ العلاقة نفسها موجودة بالتالي بين "أ" و"ج" مثال ذلك :
( علي أخو محمد ) و ( علي أخو عمر ) ( عمر أخو محمد)
نلاحظ أنّ التّعدية مبنيّة على علاقة التّضمن وهذا ما نلمسه في المثال الذي ضربه "ببرلمان" "قضى سقراط نحبه لأنّه إنسان" النّتيجة المسكوت عنها "كلّ إنسان فان"
2.1 الحجج المؤسسة على بنية الواقع :
تقوم ?بربط الأحكام المسلّم بها، وأحكام يسعى الخطاب إلى تأسيسها وتثبيتها وجعلها مقبولة ومسلّما بها وذلك بجعل الأحكام المسلّم بها والأحكام غير المسلّم بها عناصر تنتمي إلى كلّ يجمع بينها ولا يمكن التّسليم بأحدهما دون أن يسلّم بالآخر().
1.2.1 الوصل السّببي: وله ثلاثة ضروب () وهي :
حجاج يرمي إلى الرّبط بين حدثيّن متتابعيّن بواسطة رابط سببي مثال ذلك "اجتهد فتنجح ".
حجاج يرمي إلى أن يستخلص من حدث ما ،وقع سبب أحدثه وأدى إليه ومثال ذلك" نجح لأنّه اجتهد ".
حجاج يرمي إلى التّكهن بما سينجرّ عن حدث ما من نتائج، مثال "هو يجتهد فسينجح".
ولهذا النّوع من الوصل " تأثير مباشر في توجيه السّلوك وعدّه من أهمّ وسائل الحجاج "() .
2.2.1 حجة التبذير:
حجّة تقوم على التّتابع، وإن لم تكن ليعتمد فيها على السّببية وتتمثّل في أن نقول حسب برلمان "بما أنّنا شرعنا في العمل وضحيّنا في سبيله بما لو أعرضنا عن تمامه لكان مضّيعة للمال والجهد فإنّه علينا أن نواصل إنجازه"()
3.2.1 حجة الاتجاه :
وتتمثّل أساسا في التحذير من مغبة إتباع سياسية المراحل التنازلية كقولنا إذا تنازلت هذه المرة وجب عليك أن تتنازل أكثر في المرة القادمة و الله أعلم ا ين ستقف بك سياسة التنازل هذه؟
3.1 وجوه الاتّصال التّواجدي:
1.3.1 الشّخص وأعماله: إن الإنسان كل لا يتجزأ ينظر إليه من زوايا عدّة "فعلم الأخلاق والقضاء يعتمدان مفهوميّ الإنسان وأعماله من حيث هما مفهومان مترابطان... لا فكاك لأحدهما عن الآخر فعلم الأخلاق والقضاء يحكمان على العمل وعلى صاحبه في الوقت نفسه... فعلاقة الوصل التّواجديّة لا يتبع الحجاج فيها مسار- عمل شخص- وإنّما يتبع فيها أيضا مسار- شخص عمل- وهو ما أسماه برلمان "التّداخل بين العمل والشّخص" () وهكذا يتبيّن أنّ للشّخص وأعماله دور في استمالة المتلقيّن
2.3.1 حجة السلطة: تختلف السّلطة في هذا المجال وتتعدّد تعددّا كبيرا فقد تكون ?الإجماع، أو الرأي العام، أو العلماء... أو الأنبياء وقد تكون غير شخصيّة مثل الفيزياء أو العقيد أو الدين... وقد يعتمد الحجاج بالسّلطة على ذكر أشخاص معينيّن على أن تكون سلطة هؤلاء معترفّا بها من قبل جمهور السّامعين... والعادة في الحجاج ألاّ تكون الحجة بالسّلطة الحجّة الوحيدة فيه وإنمّا تأتي هذه الحجّة مكمّلة لحجاج يكون غنيّا بحججّ أخرى" ()
4.1 الاتّصال المؤسّس لبنيّة الواقع : يوجد بنيّات مستمّدة من الواقع الماضي، بما تختزنه من تجارب إنسانيّة وأحداث تاريخيّة أو شخصيّة تترجمها الحكم والأمثال والحكايات وغيرها، تكون معروفة من قبل، وذات قيّم مجتمعيّة، تحظى باحترام واهتمام الأفراد والجماعات، تستخدم داخل القول الحجاجي للإقناع وتختلف وفق الضّرورة السّياقية أو المقاميّة ومن بين هذه البيانات نذكر ما يلي:
1.4.1 المثل Exemple : هو نوع من الاستدلال ?يقوم بنقلة نوعية من خلال الجمع ين الاستقرار والمشابهة عن طريق الحدس، وقد وجد هذا التّوظيف كقيمة رمزيّة أو بمثابة مسلّمات قيميّة تستجيب للقضايا المطروحة ()، وقد وجد هذا التّوظيف امتدادا واسعا داخل الخطابة العربيّة حيث يرجع الخفاجي أساس المثل إلى كونه: ?ماثل في خاطر الإنسان أبدّا وشاخص، و?عون شيّء عل البيان" وفي نفس السّياق يؤكّد الزّمخشري: "أن الأمثال هي زيادة في الكشف و تنتمي للبيان وتضرب العرب الأمثال لإبراز جليّات المعاني، ورفع الأستار عن الحقائق حتى تريك المتخيّل في صورة المحقّق، والمتوهّم في صورة المتيقّن ،والغائب كأنّه مشاهد، وفيه تبكيت للخصم، وقمع لسورة الجامح الأبي"(). فالمثل يصوّر المعاني بصورة الأشخاص مع ترسّخه في الذّهن وتقريب المعنى للمتلقي.
2.4.1 النموذج le modèle والنموذج المضاد Anti modèle
وسيلة تعبيريّة ?مؤسّسة على حجة السّلوك باعتبار السّلوك قدوة تستوحي من الأشخاص أو الجماعات أو الأفكار... تؤكّدها قيمة الأفعال وذلك كميل طبيعي في النّاس نحو الاقتداء بنماذج معيّنة حيث تعتبر في القول الحجاجي مقدمات تستخلص منها نتائج معيّنة تؤدّي إلى امتداح سلوك خاص?() لذلك تعتبر النّماذج الجيّدة وراء تشكيل سلوك وثقافة الأفراد والجماعات كما يعتبر" النّموذج المضاد نموذجا يستعمل أيضا كتقنيّة في الخطاب الحجاجي ويكون أكثر فعاليّة حيث يفقد النموذج الأصلي قيمته وفعاليّته ويحوّله في مجالات مقاميّة معيّنة
إلى الهزأ أو الهزل أو السخريّة كما في المثال الذي أورده برلمان () حين قال الأب لابنه الكسول: في مثل سنّك كان نابليون على رأسالفصل الذي يدرس فيه.
فردّ الابن : وفي مثل سنّك كان نابليون إمبراطورا .
3.4.1 الّشاهد Illustration :
طريقة تدور حول تقويّة وتأكيد الأطروحة "فالغاية منه لا تكمن فقط في تعويض المجرد بالملموس وتبديل أو نقل الأطروحات من مجال إلى مجال آخر كماهو الشأن في المثل أو التّمثيل وإنّما تكمن أساّسا في تقويّة الفكرة وتأكّيد حضورها في الذّهن () ولهذا فإن اختيار الشّاهد يخضع" لمعايير تقتضيها الشّروط المقاميّة التّي تجد لها صدى شعوريّا وعاطفّيا لدى المخاطّب، فتقوم بدور المحرّك لخياله وتفرض عليه الانتباه وتسهّل عليه عمليّة الفهم () والشّاهد حسب الجاحظ يستمّد طاقته من العيان والمشاهدة" وهو استشهاد على شيء ما بقرآن أو حديث أو شعر أو مثل أو خبر مرويّ بهدف ثباته أو إنكاره أو الاحتجاج له أو بطلانه أو نحو ذلك" ()
1.4.4 التمثيل Analogie:
طريقة حجاجيّة?تعلو قيمتها على مفهوم المشابهة حيث لا يرتبط التّمثيل بعلاقة المشابهة دائمّا، وإنّما يرتبط بتشابه العلاقة بين أشياء ما كان لها أن تكون مترابطة" () وينطلق الحجاج بالتّمثيل من التّجربة ?بهدف إفهام الفكرة أو العمل، على أن تكون الفكرة مقبولة وذلك بنقلها من مجال إلى مجال مغايّر، جريّا على مبدأ الاستعارة ويرتكز التّمثيل على استدعاء صورة تحكي أحداثّا من أجل نقل أفكار مرجعيّة ذات قيمة رمزيّة ?()
2-الطرائق الانفصالية في الحجاج:
تحدثنا عن ثلاثة مظاهر من الاتّصال الحجاجي هي الحجج شبه المنطقيّة والحجج المؤسّسة على بني الواقع، والحجج المؤسّسة لبني الواقع وهي طرائق تربط بين عناصر غير مترابطة في أصل وجودها، أما الطرائق الانّفصاليّة أو الفصل "فإن الانّفصال بين العناصر في الحجاج يقتضي وجود وحدة بينها، ومفهوم واحد لها فهي عناصر عائدة إلى اسم واحد... وقع الفصل بينها لأسباب دعا إليها الحجاج ومردّ ذلك إلى زوج (الظاهر/الواقع). بمعنى أن الأشياء أو المعطيات قد تكون حدان ظاهر زائف وواقع حقيقي () ويرى "برلمان وتيتكاه "أنّ الظاهر هو ما يخاطر بالذّهن ويدركه الفكر منذ الوهلة الأولى فهو المعطى الرّاهن المباشر في حين أن الحقيقي لمّا كان تمييّزه لا يكون إلاّ في علاقته بالّظاهر ومقارنة به فإنّه لا يمكن أن يكون إلاّ نتيجة فصل تحدثه داخل الحدّ الأول –في الظّاهر- سعيّا منا إلى القضاء على ما يمكن أن نلمحه في مظاهر الحدّ الأول هذا من تناقضات بينها توقظ فكرنا من غفلته عنها وانخداعه بها () وتتجلى طرق الفصل في الأقوال والخطابات بما يعبّر عن حضور أزواج من قبيل ()
ظاهري /حقيقي Apparent /Réel
هو شبه كذا .
غير كذا، غير صحيح.
بعض الجمل الاعتراضيّة: إنّ هذا البطل إن صحّ أنّه بطل.
بعض الأفعال مثل: يزعم، يتوهّم.
وضع بعض الأقوال بين قوسين أو مزدوجتين وبالتّالي نلاحظ أن الفصل يكون داخل المفهوم الواحد بين ما هو ظاهري وما هو حقيقي كأن يقال: "إنّ ملكا يفعل هذه الأفاعيل ليس ملكا" !
.
الهوامش
[1] برلمان وتيتيكاه: مصنّف في الحجاج :الخطابة الجديدة وقد كانت طبعة الكتاب الأولى سنة 1958 في منشورات الجامعة الفرنسيّة.أمّا كتاب تولمان "استعمال الحجاج" فقد صدرت طبعته الأولى في السّنة نفسها في منشورات جامعة كامبريدج
[2] - صدر الكتاب( (L’argumentation dans la langue في طبعته الأولى سنة 1983 وكانت طبعته الثّانية سنة 1988 عن دار مارد قالي اجبر وكسال
[3] صولة عبد الله: الحجاج في القرآن ص25
[4] للتعمّق أكثر في هذا المبحث انظر صولة عبد اللّه مؤلّف فريق الحجاج ص ص 297-350 وكذلك أطروحته الحجاج في القرآن ص ص 30-36
[5] برلمان وتيتيكاه مصنّف في الحجاج ص 5 وقد نقلنا تعريب الدّكتور عبد الله صولة لهذا التعريف كما ورد في أطروحته وفي مصنّف فريق الحجاج ص 293
[6] صولة عبد اللّه:نفسه ص 299/ص31
[7] انظر صولة عبد اللّه مؤلّف فريق الحجاج وفيه تفصيل للتّقنيتين المذكورتين
[8] انظر صولة عبد اللّه: الحجاج في القرآن ص ص 29-30
[9] نفسه ص37
مفهوم الحجاج في القرآن
د. فريدة زمرد
عضو المجلس الأكاديمي للرابطة
مدار لفظ الحِجاج في أصل اللغة على القصد، ومنه الحَج، والحُجة، سميت حُجة لأنها تُحَج أي تقصد، وكذلك المحجة: الطريق التي تقصد للسير. وفي الاصطلاح عرفت المحاجة: "أن يطلب كل واحد أن يرد الآخر عن حجته ومحجته" [ مفردات الراغب]، والحجة: الدلالة المبينة للمحجة.
وفي القرآن الكريم ورد لفظ الحجاج بصيغ الفعل حاجَّ بتصريفاته المختلفة، والاسم الحجة ست عشرة مرة، منها تسع مرات في سور مدنية، والباقي في سور مكية، وبذلك يكون مفهوم الحِجاج على عكس مفهوم الجدال مدنيا أكثر منه مكيا. ولذلك غلب عليه موضوع حِجاج أهل الكتاب ممن عايشوا المسلمين في المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها وبناء دولة الإسلام فيها، ومن الآيات الدالة على هذا المعنى:
• قوله تعالى: "فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ" [سورة اَل عمران، الآية: 61] وهي آية المباهلة التي نزلت بسبب ما كان بين النبي ووفد من نصارى نجران من جدال في أمر عيسى عليه السلام.
• وقوله في نفس السورة: "فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ اَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اِتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالاُمِّيِّينَ ءَاَسْلَمْتُمْ فَإِنْ اَسْلَمُواْ فَقَدِ اِهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ" [سورة اَل عمران، الآية: 19].
• وقوله تعالى بخصوص اليهود: "وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ أَمَنُواْ قَالُواْ أَمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ اْأَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ" [سورة البقرة، الآية: 76].
ومن أنواع الحجاج المذكور في القرآن ما كان بين أهل الإيمان وأهل الكفر في الدنيا والآخرة:
• فمما كان في الدنيا: ما جسدته قصة سيدنا إبراهيم مع قومه كقوله عز وجل: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَاتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" [سورة البقرة، الآية: 258]، وقوله: "وَحَاَجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ" [سورة الاَنعام، الآية 80].
• ومما كان في الآخرة: ما جرى بين المستضعفين والمستكبرين: "وَإِذْ يَتَحَاَجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفؤُاْ لِلَّذِينَ اَسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ اَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ" [سورة غافر، الآية: 47].
إن أهم ما يلاحظ بخصوص مفهوم الحجاج أنه يتميز بارتباطه بالدليل والبرهان الذي لا يدع مجالا للإنكار أو التردد، إلا على وجه التحكم، وقد سمى القرآن هذا الدليل حجة. وذلك شرطه أو ركنه الذي إذا تخلف بطل الحجاج، ولذلك كان الحجاج سبيلا للإقناع. ومتى تخلف ركن الدليل والبرهان الذي يرجح كفة الحق، صار الحجاج شيئا آخر، وصرنا إلى مفهوم آخر هو مفهوم المراء.