رحلة العلامة من الصوت إلى الرمز (3/3)
د. محمد ربيع
وهم الكتابة ودراسة العربية* مع أن ثقافتنا العربية بدأت شفهية في الأساس، ومع أننا أمَّةٌ أُميَّةٌ فَيُفترض بناءً على ذلك ألا يكون للكتابة وأوهامها من قوة التأثير ما يحوِّل مجرى التحليل الصوتي عن مساره الطبيعي، إلا أن علومنا اللغوية التي درست الأصوات وحللتها بوصفها مكونات الألفاظ المفردة والمركبة لم تسلم من طغيان أوهام الكتابة على حقائق الصوت. وهو ما أدى إلى معرفة مغلوطة بطبيعة بعض الأصوات للمفردة العربية، أو الخلط أحياناً بين مفاهيم نطقية وأخرى كتابية فيها. وسأكتفي في هذه الورقة للإيجاز بوصف بعض الآثار التي أصابت الأحرف الهوائية فقط من حيث تصور الصرفيين العرب لطبيعة الصوت، ومن ثم وضعه في موضعه المناسب له بين مكونات اللفظ الصوتية الأخرى.أدرك بعض العلماء العرب الحاذقين كابن جني تطابق الخصائص الصوتية بين ما سمي في الاصطلاح القديم بالحركات (الضمة والفتحة والكسرة) وما يسمى بأحرف المدّ (الواو والألف والياء)، وأن الفرق بين النوعين إنما هو الفارق الزمني في الأداء، أي: أن النوع الأول حركات قصيرة والنوع الثاني حركات طويلة. وهذا يوافق ما انتهت إليه الدراسات الحديثة التي تثبت للفرق بين النوعين اختلافاً في (الكمية) فقط، مع اتفاقٍ كاملٍ في المخرج والصفة (السمات المميزة Distinctive Features). هذا بالطبع في حال مجيء الحركة الطويلة تالية لأحد الصوامت مباشرةً ومن دون فاصل. أما إذا فصل بين الصامت السابق وبين الياء والواو خاصة فاصل بحركة قصيرة (وهنا لا بد أن تكون حركة غير مجانسة بالضرورة) فإنهما بالطبع يكونان حرفين من حروف الهجاء العادية يمكن أن يكون كلٌ منهما ساكناً مرّةً ومتحركاً مرةً أخرى، ويسميان حينئذٍ (حرفي لين). ومعلوم أن الألف لا يفصل بينها وبين السابق عليها حركة، لاستحالة النطق بها كذلك، فهي مدٌّ دائماً.ولما لم تدرج العربيةُ رموزَ الحركات في الترتيب المتبع بحسب تسلسل نطق الأصوات، بل جعلتها إن كُتبت جُعلت فوق الحرف أو تحته، ولما وقع الاختيار في تمثيل الحركات القصيرة كتابياً على الرموز المشابهة إلى حد كبير للحركات الطويلة، والتي تشبه بدورها المد واللين التي ليست حركات وتتقاطع معها، ولما كانت العربية لغة اشتقاقية في المقام الأول (أي: تعتمد بالدرجة الأولى وحدة الصوامت وتنويع الحركات الطويلة والقصيرة السابقة واللاحقة لها لأداء المعاني المتصلة بمعنى رئيس واحد)، استقر في أذهان الصرفيين تحتم الحكم بأولوية زيادة الأحرف الهوائية أينما وردت. حتى إن كان الحرف الهوائي مما لا دليل على زيارته من قريب أو بعيد.وقد ساعد على فرط الإمعان في توهم زيادة الحرف الهوائي ورودهُ مع ثلاثة صوامت، وذلك للقناعة التامَّة من لدن الصرفيين بانبناء المفردة على ثلاثة أصول، ومن ثم الحكم على ما تعدى الثلاثة بالزيادة. فإذا كان مع الأصول الثلاثة المحكومة بأصالتها أحد الأحرف الهوائية سارعوا إلى الحكم عليه بالزيادة دون تردد. وإن وجدوا بنية اللفظ نقصت عن الثلاثة احتالوا إلى البلاغ بها ثلاثة، وإن لم يسعفهم الدليل في جميع الأحوال، كما في مبحث (الإلحاق) الذي سيأتي بيانه بعد قليل. وقد أفضى بهم ذلك إلى إشكالات عديدة حين لم يستطيعوا الاستدلال القاطع على إثبات زيادة الحرف الرابع في مواضع كثيرة لا تكاد تحصى. غير أنهم إن كان لا مفر من إثبات الرابع أصلاً بأن كانت الأربعة جميعها صوامت أثبتوه في أضيق حدود العدد من الأبنية الرباعية، إما إن كان من الأحرف الثلاثة (الألف والياء والواو) فقد ألزموه الحكم بالزيادة حتى في حال تعارضه مع أدلة الزيادة المشهورة المقول بها في الدرس الصرفي. وخير مثال على هذا اختراع الصرفيين مقولة (الإلحاق) الآتي بيانها، والتي أزعم أنها لم تأتي إلا تسويغاً للقول بزيادة أحرف اللين التي لا دليل على زيادتها ولا يصح استناداً إلى أدلة الزيادة الحكم عليها بذلك.جعل الصرفيون وزن (دَحءرَجَ) مثلاً مما كانت أحرفه الأربعة من الصوامتفَعءلَلَ). لكنَّ البناء إذا اشتمل على أحد حرفي اللين (الياء والواو) لم يكن عندهم على تلك الزنة مطلقاً. فإنَّ (سيطر، وهيمن) مثلاً على زنة (فَيءعَلَ). وكذا (حَوءقَلَ) على وزن (فَوءعَلَ).ومن الأسماء جوهر، وكوثر (فَوءعَل) وهكذا. هذا مع أن لا دليل من الاشتقاق على زيادة الياء أو النون سواء من حيث الحذف في بعض في تصرفات الكلمة أم من جهة دلالة الاشتقاق المعنوية، كما يكون ذلك في زيادة المدود التي يستدل على زيادتها بالأمرين، أي: بسقوطها في تصرفات الكلمة المختلفة وبدلالة الاشتقاق المعنوية على زيادتها. إذ يبقى الحرفان في قولك مثلاً: سَيطَرَ يسيطرُ سَيءطرء سيطرةً فهو مسيطر، وكذلك ليس اشتقاق (سيطر) من (السطر) الخالية من الياء. وعلى هذا لا يجد من لم يطلع على مباحث الصرفين في موضوع (الإلحاق) ما يلجئه إلى أن يعد الأفعال (سيطر، وهيمن، وحوقل) جميعاً على غير الوزن (فعلل) ك (دحرج) تماماً، ولا ما يسوغ له المخالفة بين (كوثر، وجوهر، وكوكب، وفيصل، ودورق،.. إلخ) وبين (جعفر) التي يقول الصرفيون: إن هذه الأسماء ملحقة بها.ونظر الصرفيين المشار إليه هنا، أسهم في مجيئه على النحو بالإضافة إلى أصول منهجية أخرى سبقت الإشارة إلى بعضها اعتقادٌ ما بهيئة معينة يشدهم إلى معرفة طبيعة الأحرف الهوائية، فيدركون بعض وجوهها التي تستثمرها اللغة على أنحاء مختلفة ويذهلون عن إدراك بعضها الآخر. ذلك أن اللغة تعمد إلى الإفادة من جميع الصور الممكنة من تنوعات الصوائت، ومن بين تلك الصور الممكنة مجيء حرفي الواو والياء مستعملة استعمال الصوامت في مثل البنيات السابق ذكرها. وكان ينبغي التنبه إلى هذه الحالة الخاصة التي يكون فيهما الحرفان وظيفيا كالصامت تماماً.ومن عجائب المفارقات في الخلط في المعرفة والتصور الصحيح بين وجوه استثمار اللغة للحركات الثلاث القصار من حيث هي مكونات صوتية متنوعة استعانت بها اللغة على وجه الاختصاص لتوظيفها (مورفيمات Morphemes) إعراب، كما استعانت بها وبأخواتها الطويلة في مورفيمات أخرى، كالتصاريف المتعددة، أن الأعراب بالحركات الثلاث على آخر الكلمة حاز على عناية النحاة إلى أن أصبحت الدراسة النحوية تكاد تقتصر على الإعراب ممثلاً في هذه الحركات القصيرة. في حين أن الإعراب ليس إلا واحداً من بين مورفيمات مشابهة كثيرة، نحو الوقف، والمطابقة بين أجزاء العبارة أحياناً والعدول عن المطابقة أحياناً أخرى، والترتيب، والنبر، والتنغيم، ... الخ. وما ذلك إلا لأن علامة الإعراب رمز كتابي يوضع على نهاية الكلمة لفت الأنظار إلى نفسه بأكثر مما ينبغي.ولعلَّ من أوضح ما يمكن أن نلحظه من صور إيهام الحركات الإعرابية بخلاف ما ينبغي إدراكه من حقائقها الصوتية ما أورده ابن جني في (الخصائص) بعنوان: (محل الحركات من الحروف، أمعها أم قبلها أم بعدها؟). ( 323/2 329). ذلك أن مجرد شك واحدٍ من اللغويين في الترتيب بين حرف الكلمة المكتوب على هيئة رمز أصلي من رموز الكلمة والصائت الممثَّل في العربية بحركة فوق الحرف أو تحته، بأن اعتقَدَ أن الحركة القصيرة ليست بعد الحرف، يعني بكل تأكيد غفلةَ اللغوي عن إدارك أنها مكوِّنٌ لا يتخلف عن مكونات الكلمة الأخرى إلا من حيث الخصائص المميزة الخاصة، وعن أنه لو مُثِّل برمز كتابي مستقل لجاء ضرورةً بعد الحرف كالحركة الطويلة تماماً. ومع أن ابن جنبي بحذقه وفطنته لم يعجبه قولَ من اعتقد أن الحركة قبل الحرف أو معه، موافقاً في هذا القول الصائب إمام النحاة سيبويه، جاءت حججه في هذا الباب بعيدة عن لفت الأنظار إلى السبب الحقيقي للخلاف ومنبعه. وهذا يقودنا إلى الانتقال إلى الإشارة إلى بعض جوانب أثر أوهام الكتابة في الدراسة النحوية التي تُعنى على وجه الخصوص بتحليل التراكيب من جهة تضامّ المفردات، في مقابل عناية الدراسة الصرفية بتحليل بنيات المفردات معزولةً عن غيرها.لم تسلم دراسة التراكيب (النحو) مما لم تسلم منه دراسةُ البنية (الصرف) من التباس الحقائق الصوتية بفعل أثر الأوهام الكتابية. وسأكتفي في هذا الجانب اختصاراً أيضاً بالإشارة بإيجاز إلى التباس (النون) من حيث هو اصطلاح كتابي بصوت (التنوين) من حيث هو مكون بنائي يرمز له بالرمز الكتابي المشهور الذي على صورة ضمتين في الرفع وفتحتين في النصب وكسرتين في الجر. ومما لا شك فيه أن لفظ (تنوين) اشتقاق من (النون) يعني إلحاق الكلمة المعربة في الغالب نوناً ساكنةً من آخرها تاليةً حرف الإعراب، كما نص على ذلك القدماء.وينبغي بداهةً أن يُنظر في التحليل اللغوي إلى البنية الصوتية المقطعية الحادثة بصوت النون الساكنة مع حركة الإعراب السابقة عليها باعتبارها بنية إضافية زائدة متصلة ببنية الكلمة الأصلية، ومن ثم إلى مجموع المكونات المقطعية في الكلمة مفردة أو متصلة بغيرها من مقاطع الكلمات الأخرى في الجملة أو العبارة. وبناءً على ذلك يلتئم التحليل الصوتي مع التحليل التركيبي (النحوي)، لأنه لا غنى لأحدهما عن الآخر.غير أن الاصطلاح الكتابي بموافقته الرمز الدال على الإعراب بتكرار الضمة والفتحة والكسرة أدى إلى طغيان التصور الإعرابي على بحث الأثر المقطعي الصوتي، سواء حين حضور النون الساكنة المتممة للمقطع أم في حال غيابها ونقص المقطع. فجاء باب (الممنوع من الصرف) مثلاً في مصنفات النحاة مقتصراً على التحليل الإعرابي خالياً من التحليل الصوتي لمقاطع الكلمة، ومن غير إشارة لأثر الغياب أو الحضور في تكوين المقاطع أو أثر المقاطع على لزوم الحضور أو الغياب.الكتابة بين مستويات اللغةتمر اللغة بمراحل تجعلها تُعد بالنسبة لما تعبر عنه في مستويات عدة، لعل أهمها المستوى الكتابي. غير أن أهمية الكتابة بقطع النظر عن تأييد وجهة النظر التي تقدم المستوى الكتابي عن المستوى المنطوق في الأهمية أو معارضتها لا تعني بحال من الأحوال كمالها المطلق، ولا تعني قدرتها على أداء ما لا يؤديه الصوت، كما أن ذلك لا يعني في الوقت نفسه استبعاد أن تكون الكتابة أحياناً لمجرد تمثيل المنطوق وتقريب صورته مثلما أنها قد تتعدى هذه المهمة في أحايين أخر. ولذا سنتجاوز استعراض المقارنة بين اعتبارات التمثيل اللغوي في المستويين الصوتي والكتابي إلى نقطة محددة ذات صلة وثيقة بموضوع أوهام الكتابة ونقص تمثيلها للأصوات في الحين الذي يعمد إليها لمجرد تمثيله، لما لذلك من الاتصال المباشر بما تنحو الورقة نحو بحثه ومراجعته تحديداً.لقد لفت الأنظار عالم اللغة الشهير (دي سوسير) إلى فرق جوهري بين مستويين من مستويات اللغة المعينة، هما المستوى الذهني المتصور (اللغة) والمستوى الفعلي المتحقق (الكلام). وجاء كذلك بعده بزمن عند الأمريكي (تشومسكي) ما فرق بناءً عليه بين البنية المنجزة (السطحية) والبنية المتصورة (العميقة). ومن الطبيعي أن يختلف المستويان في مظاهر جوهرية متعددة من حيث هما مرحلتان لا مفر من أن يطرأ على اللغة بكل تأكيد بُعءدَ ما بينهما بالقدر الذي يلحظه الباحثُ اللغوي المختص في شؤون التحولات اللغوية المعني برصدها ودراستها. ولنا أن نسمي هذه المرحلة من رحلة العلامة برحلتها من العقل إلى اللسان. ولنا أن نتأمل قدر ما تفقده العلامة في هذه المرحلة من الرحلة أو تكتسبه من مظاهر ليس هذا مجال الخوض فيها.أما مرحلتنا التي عنينا هنا بإبراز بعض ملامحها فهي المرحلة التي تلي الانتقال من العقل إلى اللسان، وهو انتقالها باليد حتى تكون مهيأة لالتقاطها بعد ذلك بالعين بعد أن كانت تلتقط في المرحلة السابقة بالأذن. ويتلوها مرحلة عودة العلامة من الصورة المرئية بالعين إلى العقل مرة أخرى، وربما باشراك الأذن في ذلك، فيما يعرف ب (القراءة) التي لا تكون إلا بعد (الكتابة) تاليةً لها، إما متممة لها وإما مقابلة إياها. ونلحظ هنا توسط هذه المرحلة بين مراحل لغوية حيوية ومهمة، لا مفر من تأثير إحداها على الأخرى وتأثرها بها، في حركةٍ لغويةٍ دائمةِ الامتزاج والتفاعل والتأثر والتأثير، وفي حركةِ تفاعلٍ دائم أيضاً مع العقل والحواس.لكن اللافت حقاً هنا وهو الأمر الذي عنيت هذه الورقة بإبرازه هو أن اللغة ما تزال تلح على مبدأ (الاختلاف Difference) والمغايرة بين المظاهر المصاحبة لمرحلةٍ ما من مراحل سيرورتها وتلك المصاحبة للمراحل الأخرى، مع أن القصد أصلاً إنما يكون للمطابقة لا الاختلاف. ولا مفر للعلامة من أن تفقد أو تكتسب في رحلتها ما لا يراد لها عمداً أن تفقده أو أن تكتسبه.بداية الص