[center] قضايا وأراء
المجاز: الأسلوب الذي نفكّر فيه
أيمن حمودة
ترجمة لدراسة: بيرو سكاروفو
ليس المجاز- أو الاستعارة- أداة شعرية للتعبير عن المشاعر فحسب، إنّه جزء لا يتجزأ من لغتنا؛
فقد درجنا في حياتنا اليومية على القول: "حياته جحيم"، و"بيته ملعب كرة"، و"فلانة أفعى"، و"هذا عمل سهل كشربة ماء" وهلم جرا. وكأننا بهذه العبارات وأشباهها نتواصل مع بعضنا بشكل مجازي.
إن استخدام المجاز أمر سهل، ونحن نفضله في التواصل مع الآخرين لأنه يساعدنا في التعبير عن التفاصيل مهما كانت دقيقة. والحقيقة أن المجاز أداة لغوية تنقل الخصائص اللغوية من مفهوم إلى مفهوم .
ولعل أهم ما يميز المجاز تغلغله في لغتنا إلى درجة دفعت بعض المتخصّصين إلى القول إن كل كلمة في لغتنا أصلها مجاز، وإن كل اللغات ذات طابع مجازي.
وإذا ما نظرنا في أهمية الدور الذي تؤدّيه اللغة في القدرات العقلية وموقع المجاز منها، لتبين لنا أن الأخير عنصر مهمّ في عملية التفكير وفي عملية الاستدلال بشكل عام؛ إذ تعدّ القدرة على صياغة المجاز وفهمه بتحويل خصائص "المصدر" أو المشبه إلى الهدف أو المشبه به؛بمعنى تحويل خصائص "الكابوس" إلى "الزواج" في قولنا :" الزواج كابوس"، وخصائص "الذئب" إلى "الإنسان" في القول المأثور:" الإنسان ذئب لأخيه الإنسان" جزءًا مهما من عمل العقل.
ويدعم هذا التحليل ما توصل إليه ستيفن ميثين Steven Mithen عالم الآثار البريطاني من وجود أدلة قبتاريخية prehistoric evidenceتؤكد أن المجاز عنصر جوهري في تطور العقل البشري.
و تختلف الكناية عن المجاز، فهي حالة خاصة منه، تُستخدم للإشارة إلى شيء آخر. فمثلا، يستخدم "البيت الأبيض" للإشارة إلى "رئيس الولايات المتحدة" وليس إلى المبنى نفسه، كما في قولنا :"يتعهد البيت الأبيض عدم السماح برفع الضرائب". لكن الكناية تختلف عن المجاز فالأخير أسلوب نتخيل به شيئا عن طريق شيء آخر، في حين أن الكناية طريقة لاستخدام شيء للدلالة على شيء آخر، أي أن الكناية لها وظيفة استدلالية.
والحقيقة أن دراسة المجاز تواجه عددا من المشكلات والأسئلة، لعل أبرزها: هل بمقدورنا تحديد قيم الصدق أو الكذب المتعلقة بالعبارات المجازية؟ بعبارة أخرى: هل من الممكن أن يشتمل المجاز على حقيقة ما أم أن العبارات المجازية كلها عبارات زائفة؟ وهل من الممكن- مع أنّ المجاز لا يتّسم بالثّبات النّحوي- أن نميز العبارة المجازية من غيرها؟(يشير الكاتب إلى تعدد أنماط التعبير المجازي(أنماط الجمل التي يرد فيها...إلخ)
من الأمور اللافتة أن المجاز يتعارض بقوة مع قواعد بول جرايس Paul Griceالخاصة بالمحادثة، فإذا كان المتحدث يريد التواصل بشكل عقلاني قدر مستطاعه فلماذا يلجأ إلى استخدام لغة المجاز بدلا من اللغة الحرفية أو اليوميّة؟ يمكن القول إن الجواب يكمن في طبيعة المجاز ذاتها كما سنبين لاحقا.
ديناميكية اللغة
ركزت الدراسات المبكرة التي تناولت المجاز على المنطق التماثلي أو القياسي analogical reasoning الذي يتضمنه المجاز. وقد كان لعالم الرياضيات ماكس بلاكMax Black أثر كبير في نقل الكلام على المجاز من مستوى الكلمات إلى مستوى المفاهيم عبر نظرية التفاعل التي قدمها في ستينات القرن العشرين متأثرا بالأعمال الرائدة للناقد الأدبي البريطاني "إيفور ريتشاردز" Ivor Richards في ثلاثينات القرن العشرين.
يرى بلاك أن المجاز ليس لعبة من الكلمات، إنّه ظاهرة معرفية تشتمل على المفاهيم. ويرى أن بمقدورنا أن نجمع في اللغة الحقيقية أو المألوفة مفهومين لنحصل على مفهوم آخر دون أن نغير المفاهيم الأصلية كما في قولنا : "زواج صالح". أما في اللغة المجازية فيُجمع مفهومان للحصول على مفهوم جديد كما في قولنا :"الزواج كابوس"، حيث يكتسب كلا المفهومين معنى مختلفا، فيعكس المفهوم الأول الجانب السوداوي للزواج،ويعكس الآخر جانبا من معنى الزواج على معنى الكابوس. وبذا تصبح العملية تبادلا للمعنى بين هذين المفهومين، ويصبح المحمول الذي ينطبق عادة على أحد المفهومين قابلا للتطبيق على الآخر والعكس صحيح أيضا.
ويشير بلاك إلى أن المجاز وسيلة لإعادة تنظيم خصائص الامتداد أو جهة الخطاب. فالمجاز ليس كلمة مفردة إنما جملة تتكون من موضوعين اثنين؛ ففي عبارة :"الزواج كابوس" يأتي المحمول "الكابوس" محملا بمعلومات نمطية مقترنة به، وتستخدم هذه المعلومات النمطية بوصفها مصفاة أو عدسات للموضوع في العبارة "الزواج" مبرزة "التوتر" بين طرفي المجاز ثم تنعكس على المحمول.
و يرى بلاك أن إنشاء المجاز metaphorizing يقتضي قيامنا بتصنيف الموضوع تحت مقولة ما أو مفهوم محدد، حيث يعتمد اختيار التصنيف الخاص بموقع الموضوع في الجملة على اختيار ما، لكنه يختلف عن التصنيف المفهومي المتعارض الذي يؤدي إلى إعادة ترتيب المفاهيم وخلق منظور جديد.
والمجاز بحسب بلاك لا يعبّر عن التشبيه وإنما يخلقه؛ فهو يعمل وفقا للنظام المعجمي والمنطق الذي يحكم العالم منتهيا إلى البرهنة على ديناميكية اللغة، فقد تصبح اللغة الحقيقية مجازا على مر الزمان والعكس صحيح.
لم يكن جهد عالم الرياضيات الأسترالي مايكل أربيب Michael Arbib الذي كان واحدا من الذين حاولوا البرهنة على أن جميع لغات العالم مجازية- مختلفا عن أطروحة ماكس بلاك؛ فقد قدم نظريته المتعلقة باللغة على نموذج بلاك التفاعلي.
لكن عالم الحاسوب الأمريكي جيمس مارتن James Martin خالف هذا التوجه عادّا فهم المجاز ليس عملية تفكير تكون بالقياس أو المشابهة إنّما هو عرف أو ممارسة لغوية linguistic convention ضمن المجتمع اللغوي الواحد، فالمجاز ليس أكثر من "اختصار" لمفهوم يتطلب كلمات كثيرة، ولا حاجة حينئذٍ إلى تحويل الخصائص من مفهوم إلى آخر.
وتقول نظرية جيمس مارتن إن الكثير من أصناف المجاز البدائية- التي تعدّ جزءا من معرفة اللغة- تستخدم لبناء الأشكال الأخرى للمجاز. وعليه يركب المجاز ويدرك كأي مصطلح معجمي، ولهذا السبب عدّ بعض المتخصّصين فرضية مارتن أنموذجا "نحويا" أو تركيبيا محضا للمجاز.
التفكير المجازي
من الآراء البارزة في التحليل المعرفي للمجاز ما قاله الفيلولوجي الفرنسي مايكل بريل Michel Breal في نهاية القرن التاسع عشر عندما عدّ المجاز جزءا لا يتجزأ من التعبير عن مفهوم يفتقر إلى كلمات تشير إليه في اللغة.
لقد رأى بريل أن ذلك إنما يكون بإنشاء علاقة بين حقلين دلاليين؛ فيحدد مكان الحقل الدلالي للشخصية مثلا في الحقل الدلالي المتعلّق بدرجة الحرارة فيقال : "طبع حاد"، و"سلوك بارد"، و"شخص دافئ" وهكذا. لقد أدرك بريل أن المجاز يصبغ اللغة.
وبنى عالم اللغة الأمريكي جورج لاكوف George Lakoff على الموقف الأخير لبريل، فقام في السبعينات والثمانينات من القرن العشرين بتحليل المجاز من منظور معرفي، وتوصل إلى نتيجتين أساسيتين، الأولى: أن جميع لغات العالم مجازية، والثّانية: أن المجاز يعتمد تجربتنا الجسدية.
ورأى لاكوف أن المجاز يصبغ لغتنا وأفكارنا بغرس المفاهيم في أجسادنا. فالمجاز يمدنا بإطار عملي تجريبي، ويمكـّننا من التوفيق بين المفاهيم المجردة. وبفضله يمكننا الحد من المفاهيم المجردة وفهمها لتتلاءم مع خبراتنا الجسدية وعلاقتنا بالعالم الخارجي. وبذا يعد المجاز وسيطا بين تصورنا الافتراضي للعالم وبين تجربتنا الحسية له. (يذكرنا تحليله هنا بمخطط الفيلسوف الألماني إيمانويل كانتKant)
والحقيقة أن المجاز لا يوجد في لغتنا بشكل كلي فحسب،إنه يتعدى ذلك ليصبح جزءا منظما في أبنية تصورية؛ فترتبط المفاهيم الخاصة بالحب مثلا بمفاهيم السفر،كما ترتبط مفاهيم الجدال بمفاهيم الحرب (1). فالأمر إذن ليس متعلقا بارتباط الكلمة بكلمة أخرى وإنما بارتباط نظام تصوري كامل بنظام آخر.
ويشكـِّل خلق الأبنية أو الأنظمة التصورية "خريطة معرفية"، فيقوم المجاز بإسقاط الخريطة المعرفية لمجال (المعنى المجازي vehicle) على مجال آخر (المعنى الحرفيtenor) بهدف غرس الأخير في الخبرة الحسية بوساطة الخريطة المعرفية للأول.
ويعتمد البناء التصوري الكلي لعقلنا على خلق تلك الأفكار التجريدية بوساطة المجاز اعتمادا على خبرتنا الجسدية في العالم.
لقد نشأ لاكوف في زمن عد فيه المجاز مجرد أداة لغوية يفضلها الشعراء ولا تستخدم في اللغة الحقيقية, وأن المجاز يعبـَّر عن علاقة التشبيه. وسرعان ما أدرك لاكوف أننا نستخدم المجاز في الأوقات كلها وبأسلوب عفوي. فنحن نعبر عن الحب مثلا بصفته رحلة فنقول مثلا: "لا أعرف أين ستنتهي بنا هذه العلاقة" أو نعبر عن الوقت بالمال فنقول :"هدر الوقت".إذ ليس ثمّة شبه بين الحب والرحلة ولا بين المال والوقت.
وعدا ذلك، تحدّد المفاهيم المجردة مثل الحب عن طريق المجاز، فإذا أبعدنا المجاز فكل ما يتبقى هو الأدوار (الحبيبان ونوع العلاقة). فنظام المجاز الذي يبنى حول فكرة مجردة يدلنا على كيفية التفكير بتلك الفكرة المجردة (جميع أشكال المجاز التي نستخدمها في حديثنا عن الحب مثال على ذلك).
واستنتج لاكوف من التحليل السابق أن المجاز لا يوجد في الكلمات وإنّما في الأفكار. أي هو موجود في اللغة الحقيقية لا في الشعر فحسب منتهيا إلى أن المجاز وسيلة تفكير.
وما أن يعرّف المجاز بوصفه معرفة أو اختبار شيء عبر شيء آخر حتى يتضح أن المجاز يتخلل اللغة ويتعداها إلى السلوك والفكر.
ويعد النظام التصوري عند الإنسان مجازيا بشكل أساسي، حيث تُدرك المفاهيم من مفاهيم أخرى لينحصر إدراك اللغة في فهم شيء ما عبر شيء آخر؛ فجميع المفاهيم مجازية بطبيعتها وتعتمد التجربة الجسدية.
ويحسب للاكوف قيامه بتحليل مجالات هائلة من المعرفة الإنسانية وتعقّبه المجاز الذي لا يبدو مجازا للوهلة الأولى. فهو يرى مثلا أن "النظريات" مجاز؛ إذ تعامل بوصفها أبنية؛ لها أساسات وتدعمها المعطيات. وهي إما "ضعيفة" أو "قوية مكينة". كما عدّ الرياضيات مجازا بحد ذاتها. (المثلثات مثلا مجاز يستخدم للكلام على الزوايا)
ورأى لاكوف أننا ندرك العالم عبر المجاز دون بذل أي جهد لأننا نقوم بإدراكه تلقائيا ولا شعوريا. فلا يتطلب منا أن نفكر ما دام عملية طبيعية مستمرة. كما أننا نفكر بشكل مجازي معظم الوقت ودون أن نعرف أننا نقوم بذلك.
والواقع أن عقول البشر تشترك فيما بينها بنظام مجازي اصطلاحي متعارف عليه وهو نظام يفهم عبره مجال معين عن طريق مجال آخر أكثر أهمّيّة منه. ومن الطبيعي أن يفسّر مجال مجرد عن طريق مجال أقل تجريدا، وبمقدار ما يكون المجال ثابتا ومتعينا يكون شيئا "طبيعيا" أن يعمل عقلنا في ضوئه.
ويرى لاكوف أن الأشكال المختلفة للمجاز تـُستخدم جزئيا لتشكيل المفاهيم اليومية. فالمجاز ليس عشوائيا، إنّه نظام متماسك يسمح للإنسان بأن يتخيل تجاربه عبره. ومرة أخرى، نؤكد ما قلناه سابقا إن المجاز يخلق تشابهات.
و حدد لاكوف ثلاثة أنواع للمجاز: الأوّل: "مجاز الجهة أو المكان"metaphor orientational" وفيه نستخدم خبرتنا مع المكان، والثاني هو "المجاز الأنطلوجي" ontological metaphor وفيه نستخدم خبرتنا مع الأشياء المادية. أما الثالث فهو "المجاز البنيوي" structural metaphor وفيه نستخدم الأنواع الطبيعية للمجاز لتحديد المفاهيم الأخرى أو تعريفها. ويمكن تقليص كل مجاز إلى آخر أكثر ببساطة.
لقد خلقت اللغة على الأرجح للتعامل مع الأشياء المادية قبل أن يجري توسيعها لاحقا لتشمل الأشياء المعنوية باستعمال المجاز. وينقل المجاز التصوري الخصائص من بنية العالم المادي إلى البنيات المعنوية.
وعلى العموم، فالعقل يتشكل بالجسد. أما التغذية الراجعة من البيئة المحيطة فهي المسؤولة عن تشكيل نظامنا التصوري الذي تعكسه لغة المتكلم .وقد حاول إدوارد سابير Edward Sapir أن يوضح ذلك سيرا على نهج سلفه "بنيامين ورف Benjamin Whorf.
وبالعودة إلى لاكوف فإن المجاز لا يقتصر على الكلمات إنه يتعداها إلى التفكير أيضا؛ لأن المجاز هو محور استيعابنا العالم بحد ذاته.
أخيرا، أظهر لاكوف كيف أن شكلا بسيطا من المجاز يمكنه أن يحدد نظاما كاملا من التفكير. من هنا جاءت نظرته إلى الطقوس بوصفها عملية مهمة للحفاظ على المجاز الثقافي وتوارثه.
إن مرجع قوة التعبيرات المجازية في أذهاننا هو طبيعتنا البيولوجية ؛ لأن عقولنا مصممة كي تفكر مجازيا؛ فالدماغ البشري تطور مع قشرة الدماغ الخاصة بالعمليات العليا آخذة البيانات من مناطق الإدراك والحركة. ونتيجة لذلك تعدّ المفاهيم الحركية والمكانية الأساس الطبيعي للتفكير المجرد. وعليه يمكن رد "المجاز" إلى آلية فسيولوجية، وإلى قدرة عقولنا على توظيف العمليات الإدراكية والعمليات الاستدلالية الحركية لخلق العمليات الاستدلالية المجردة. اللغة المجازية إذن ليست إلا جانبا واحدا من جوانب الدماغ المجازي.
مزج التعبيرات المجازية
لقد بين جو جريدي Joe Grady تلميذ جورج لاكوف في العام 1997أن المجاز على درجة كبيرة من التعقيد. فهو مكون من جزيئات مجازية صغيرة (مجاز أساسي) هي بدورها نتاج ارتباطات وتداخلات تتم على المستوى الفردي وعلى المستوى الاجتماعي (لاسيما في المراحل المبكرة للحياة؛ممّا يعني أن الجزيئات المجازية الصغيرة "مزجت" في مجاز معقد. وعن المجاز تنتج الفاعلية العفوية للأجزاء المكونة.
وهذا يعني أننا نتعلم المجاز طوال الوقت آليا وبلاوعي في سنوات عمرنا الممتدة. فالأطفال لا يفصلون غالبا بين عنصرين مترابطين من عناصر الخبرة إلا في وقت متأخر. وبعد ذلك نستعمل تلك التعبيرات المجازية في حياتنا اليومية.
وتتضمن التعبيرات المجازية الأساسية أو الأولية عبارات مثل:" دفء العاطفة" (ومنه يتفرع قولنا: "ابتسامة دافئة")، وعبارة مثل:" الشيء المهم كبير" (ومنه يتفرع قولنا: "فرصة كبيرة")، وعبارة مثل:" الوقت حركة" (ومنه يتفرع قولنا" طار الوقت)
ضبابية المجاز
قدم الفيلسوف الأمريكي ايرل ماكورماك Earl MacCormac نظرية موحدة للمجاز تميزت بمضامين أو نتائج واسعة ذات صلة بمفهومي المعنى والحقيقة.
فقد رفض ماكورماك نظرية " التوتر" وهي النظرية التي تحدد الاختلاف بين المجاز والمماثلةanalogy في التوتر العاطفي الذي يحدثه الجمع بين مدلولين غير عاديين. كما رفض نظرية " الاختلاف" controversion التي صاغها الفيلسوف الأمريكي مونرو بيردسلي Monroe Beardsley وهي النظرية التي تحدد الاختلاف بين المجاز والمماثلة في الخطأ الناجم عن قراءة حرفية توحد بين المدلولين.
كما رفض نظرية" الانحراف" وهي نظرية تحدد الاختلاف بين المجاز والمماثلة في افتقار الجمع بين المدلولين إلى التوافق النحوي ungrammaticality.
ويعتقد ماكورماك أن المجاز يتخذ صفته هذه على أساس الانحراف الدلالي الناجم من الجمع بين المدلولين. وهذا يعني أيضا أن المجاز ينبغي أن يكون متميزا عن اللغة العادية( أي خلافا للرأي القائل إن كل اللغة مجاز).
لقد تأثر ماكورماك بالفيلسوف الأمريكي فيليب ويلرايت Philip Wheelwright الذي صنف المجاز نوعين: الأول سمّاه "المجاز المتحقق"epiphors (تلك الاستعارات التي تعبر عن وجود شيء ما) والثّاني.المجاز الممكن diaphors (ذلك النوع من الاستعارة الذي يشير فقط إلى احتمال وجود الشيء).وهذان النوعان يحددان أو يقيسان التشابه والاختلاف في صفات المدلولات.
(المصطلحان السابقان لم أجد لهما في الموسوعات اللغوية واللسانية مقابلا فاجتهدت في اقتراح المقابل وشرحته في الهامش، لأهميته)
ويضيف ماكورماك أن المجاز الممكن يمكن أن يتحول إلى مجاز واقعي (وذلك عندما يتأكد وجود الشيء فعليا)، كما يمكن أن يتحول مجاز الواقع إلى تعبير حرفي ( عندما يستعمل التعبير مدة طويلة حيثُ يُنسى أصل استخدامه).(2)
وعدّ ماكورماك أن المجاز يتشكل وفق المنظور السابق في ثلاثة مستويات: هناك أولا مستوى العملية اللغوية( من اللغة العادية إلى المجاز المتحقق إلى المجاز الممكن رجوعا إلى اللغة العادية)، وهناك المستوى الثاني وهو عملية دلالية نحوية (والمقصود هنا تفسير المجاز لغويا)، وهناك أخيرا العملية المعرفية (اكتساب المعرفة الجديدة). ولهذا فأي نظرية في المجاز تتطلب مستويات ثلاثة: حرفي، دلالي، ومعرفي.
وتأسيسا على الكلام الأخير فبالإمكان صياغة الجانب الدلالي للمجاز باستعمال الأداة الرياضية لمنطق متعدد القيم fuzzy logic. فهناك أولا الحقيقة الحرفية، ثم المجاز figurality وأخيرا الكذب falsity .وهذه العناصر الثلاثة يمكن أن ينظر إليها جميعها بوصفها مجالا من الإمكانيات لا فئة محددة منها، وأن ينظر إلى "مجازية" المجاز بوصفه مجالا من حقائق "جزئية" تترواح بين كذب مطلق،وصدق مطلق. ويمكن تمثيل هذه الحقائق الجزئية من منطق ما بين الصدق والكذب.
وللتعبير عن هذا المنطق نبدأ بعدد حقيقي على مقياس يبدأ من صفر وينتهي إلى واحد؛ الصفر كذب مطلق؛ المسافة من صفر إلى أي قيمة مؤكّدة تمثّل الكذب؛ أي أن المسافة من تلك القيمة إلى قيمة أخرى تمثّل مجاز الممكن؛ المسافة من تلك القيمة إلى القيمة الأخرى تمثّل المجاز المتحقق؛ وما بين الأخير إلى الواحد تكون الحقيقة (بالنظر إلى العدد واحد على أنه حقيقة مطلقة).
يولد المجاز مجازا واقعيا، وفيما يصبح مألوفا أكثر فأكثر نظرا لشيوع الاستعمال يتغيّر ببطء إلى مجاز ممكن، وبذلك يفقد "توتّره العاطفي""emotive tension.
ويترتب على ذلك أن اللغة يمكن أن تتمثّل رياضيا كشبكة مراتبية في فضاء بعدي حيث يكون لكلّ عقدة من عقد الشبكة فئة متعددة القيم (تحدد مؤشرا دلالياsemantic marker ). وعندما يكون من غير المحتمل جمع العلامات فإن درجة عضوية علامة دلالية أو سيمانطيقية واحدة في المجموعة المتعددة القيم التي تمثّل العلامة السيمانطيقية الأخرى يمكن أن تظهر في منطق رباعي القيمة (فالمجاز ليس عبارة صادقة أو كاذبة فحسب).
وصفوة رأي ماكورماك أنّ المجاز بوصفه عمليات إدراكية أو معرفية فإنّه يتوسّط بين الثقافة والعقل، ويؤثّر في التطور الثقافي والحيوي معا.
المجاز بوصفه معنى
استطاعت الفيلسوفة الأمريكية إيفا كيتي Eva Kittayأن تطور في تحليل المجاز نظرية "علاقية" relational في المعنى معتمدة نظرية ماكس بلاك التفاعلية ورؤيتها للمضمون الثنائي (الحقيقي والمجازي)،ونظرية العلامات عند فرديناند دوسوسير .
وقد عدّت إيفا كيتي معنى الكلمة يتحدد بكلمات أخرى ترتبط بها معجميا. فالمعنى بحسب ما رأت ليس مفردة: إنه مجال. والمجال الدلالي هو مجموعة من الكلمات المرتبطة معا دلاليا. والمجاز عملية تنقل البنيات الدلالية بين حقلين دلاليين: بعض بنيات الحقل الأول تخلق أو تعيد تنظيم البنية في الحقل الدلالي الثاني.
ويشتمل معنى الكلمة علىمعانيها الحرفية كلّها. أما المعنى الحرفي فيشمل المحتوى التصوري، ومجموعة الشروط، أو مجموعة القواعد السيمانطيقية(الارتباطات السيمانطيقية الممكنة للكلمة كما في قواعد الاختيار المقيد عند فودلر Fodor) ومؤشر الحقل السيمانطيقي (علاقة المحتوى التصوري بالمفاهيم الأخرى لمجال المحتوى). أما تأويل تعبير معين فهو أيّ معنى من معاني ذلك التعبير.
وتقوم قواعد الإسقاط Projection rules بربط وحدات المستوى الأدنى بوحدات المستوى الأعلى وفقا للقواعد السيمانطيقية الخاصة بها. ولهذا فالتأويل على المستوى الأول A first-order interpretation مشتق من تركيب صحيح لمعاني مكوناته .أما التأويل على المستوى الثاني فهو دال للتأويل على المستوى الأول، ويعبر عن واقعة واضحة بذاتها وهي أن ما يجب أن ينقل ليس ما هو متضمن في المعنى الحرفي للتعبير.
وتساعد الحقول الدلالية على تمييز التعبير المجازي. فمثلا عندما يشير التأويل من نظام الدرجة الأولى والثانية إلى حقلين دلاليين منفصلين يكون ذلك مؤشرا صريحا على الطبيعة المجازية للتعبير.
إن القوة المعرفية للمجاز تأتي من "إعادة صورنة" re-conceptualization معلومات عن العالم اكتسبت سابقا،غير أنها لم تخضع لعملية الصورنة. ولهذا فان كيتي تعتقد أن المعنى المجازي لا يمكن رده إلى المعنى الحرفي. فالمجاز بحكم الطبيعة هو نظام ثان من المعنى.
الكذب يساعد على الاتصال
نحن نخدع الأطفال إذ نخبرهم كلّ مرّة بقصّص الجنيات، إننا نكذب عليهم؛ فهذه الشخصيات غير موجودة: سانتا كلوز غير موجود، والصور المتحركة على التلفزيون ليست موجودة. ونحن لا ننفك نخبر الأطفال الأكاذيب وما زالوا "يتعلّمونها". لكن ما يتعلّمونه ليس المعنى الحرفي لتلك القصص. فالحقيقة أن الأطفال يشكّون في تلك القصص كثيرا. لكنهم يفهمون أنّ ما يفترض بهم أن يتعلّموه ليس المعنى الحرفي.
الواقع أن الأطفال يفهمون بطريقة ما أنّ آباءهم يحاولون تعليمهم شيئا آخر؛ الآباء يستعملون قصص الجنيات لأنها طريق فعالة وغير مؤلمة لتعليمهم أمورا تهمهم. ما يهم ليست الفتاة ذات القبّعة الحمراء (ليلى) ولا مصادفتها الذئب في الطريق إنما المهم أنّ في هذه الحياة أناسا جيدين وسيئين. فدماغ الأطفال مبرمج بطريقة ما تضع القصّة الخرافية جانبا وتدرك "المعنى".
بعد مدّة ينسى الأطفال ليلى،وما حدث لها،لكنهم سيبقون يتذكرون أن الناس مستويان: جيد وسيئ.
يفترض بنا نحن الكبار أنّ نتوقّف عن الكذب، ونحاول الحديث عن الأشياء كما هي. لكن ذلك قد يكون حقيقيا بالنسبة للعلماء، لكنّه بالكاد يصح في الحياة العادية. فكلّ حجّة بين شخصين تتضمّن نوعا من المبالغة عادة. إذ تبدأ أكثر المناقشات السياسية بالبيانات غير المعقولة (مثلا ثمة خبر شعبي يقول"قتل اليورانيوم المنضّب مليون طفل عراقي"). هذا خبر غير صحيح إذا دقّق واحدنا في سكان العراق،لكنّه واسع الانتشار في جميع أنحاء العالم).
ويبالغ أكثر الناس بالتفاصيل بشكل روتيني ولاسيما في تلك الأمور المهمّة في القصّة. أما المستمع، فهو من الناحية الأخرى "يترجم" تلك المبالغات بشكل روتيني. اللغة تعير نفسها لمستوى من الغموض يستعمل لنقل أكثر من المعنى الحرفي. وهكذا يستمر بعضنا بسرد"قصص الجنيات". وهي لا تنتهي أبدا.
ثمّة ضعف وحيد في عمل علماء اللغة؛ فهم يدرسون المتمكنين من اللغة. إذا أردت أن تدرس لغة قبائل النوير فتوجه إلى منطقتهم وتحدث إليهم. إنهم الخبراء العالميون في هذه اللغة. المشكلة أن معظم آرائنا عن اللغة مثل التصنيف والمجاز مصدرها دراسة أولئك الناس المتمكنين من اللغة.
أما العلماء فهم يبالغون إلى حدّ ما بنتائج نظرياتهم عندما يحاولون توضيحها للناس العاديين ؛فتشويه الحقيقة يبدو مفيدا إن لم يكن ضروريا، في عمليات الاتصال البشري.
الجهل المجازي
لكن دماغ الشخص غير الطليق في تلك اللغة يجب أن يشتغّل بالطريقة نفسها.
إن "استعمالي" اللغة الألمانية، مع ذلك، ليس مثل استعمال الألماني للغته الأم تماما. فأنا أتجنب الاستعارة في لغة مثل اللغة الألمانية التي بالكاد أفهمها. لأن استعمالها في الألمانية مخيف بالنسبة إليّ.
وإذا كنت أتكلّم بلغة أجنبية فعلي أن أتمسّك بالجمل البسيطة ذات المعنى الشفّاف. لن أقول :"زواج متعثر": بل سأقول "زواج سيئ". محوّلا المفاهيم كلّها إلى مفاهيم أولّية: جميلة وقبيحة، جيدة وسيئة الخ؛ ذلك أن إجادتي اللغة الأجنبية لن يكون بمستوى يمكنني من تحمّل استعمال التعبيرات المجازية.
إنّ هذا الأمر يناقض الادّعاء القائل إن الاستعارة أكثر فاعلية وكفاءة في التعبير عن المعنى. فالناس الذين لا يتقنون اللغة ينبغي أن يستعملوا الاستعارة بدقة لتعويض ذلك النقص. بدلا من ذلك، لنهتمّ بفعل الشيء المقابل: إذا لم نكن نتقن اللغة فلنتجنب الاستعارة. ذلك أنّ اللغة المجازية تتطلّب إتقان مهارات اللغة. هذا ما توقّعته النظرية التقليدية التي قالت إنّ في ذلك القول بذرة من الحقيقة.
..............................
*المادة جزء من كتاب "طبيعة الوعي "The Nature of onsciousness للمؤرخ الإيطالي الأمريكي بيرو سكاروفو Piero Scaruffi المنشور في العام 2006.
كتب سكاروفو العديد من المؤلفات والبحوث في الفلسفة وتاريخ الثقافة.
(1) كما في قولنا: "صوّب سهام النقد على نقطة الضعف في حجته"(المترجم)
(2) مجاز متحقق كقولنا: (العالم آلة كبيرة) وفقا لنظرية نيوتن، ومجاز غير متحقق كقولنا: (العالم مجموع ما فيه من مونادات)
والموناد هو الجزء الذي لا يتجزأ بحسب نظرية ليبنتز في الوجود، وهي نظرية لم يثبت تحققها علميا ولهذا ينطبق عليها وصف المجاز الممكن.(المترجم).
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1347 الاربعاء 17/03/2010)
[/center]
المجاز: الأسلوب الذي نفكّر فيه
أيمن حمودة
ترجمة لدراسة: بيرو سكاروفو
ليس المجاز- أو الاستعارة- أداة شعرية للتعبير عن المشاعر فحسب، إنّه جزء لا يتجزأ من لغتنا؛
فقد درجنا في حياتنا اليومية على القول: "حياته جحيم"، و"بيته ملعب كرة"، و"فلانة أفعى"، و"هذا عمل سهل كشربة ماء" وهلم جرا. وكأننا بهذه العبارات وأشباهها نتواصل مع بعضنا بشكل مجازي.
إن استخدام المجاز أمر سهل، ونحن نفضله في التواصل مع الآخرين لأنه يساعدنا في التعبير عن التفاصيل مهما كانت دقيقة. والحقيقة أن المجاز أداة لغوية تنقل الخصائص اللغوية من مفهوم إلى مفهوم .
ولعل أهم ما يميز المجاز تغلغله في لغتنا إلى درجة دفعت بعض المتخصّصين إلى القول إن كل كلمة في لغتنا أصلها مجاز، وإن كل اللغات ذات طابع مجازي.
وإذا ما نظرنا في أهمية الدور الذي تؤدّيه اللغة في القدرات العقلية وموقع المجاز منها، لتبين لنا أن الأخير عنصر مهمّ في عملية التفكير وفي عملية الاستدلال بشكل عام؛ إذ تعدّ القدرة على صياغة المجاز وفهمه بتحويل خصائص "المصدر" أو المشبه إلى الهدف أو المشبه به؛بمعنى تحويل خصائص "الكابوس" إلى "الزواج" في قولنا :" الزواج كابوس"، وخصائص "الذئب" إلى "الإنسان" في القول المأثور:" الإنسان ذئب لأخيه الإنسان" جزءًا مهما من عمل العقل.
ويدعم هذا التحليل ما توصل إليه ستيفن ميثين Steven Mithen عالم الآثار البريطاني من وجود أدلة قبتاريخية prehistoric evidenceتؤكد أن المجاز عنصر جوهري في تطور العقل البشري.
و تختلف الكناية عن المجاز، فهي حالة خاصة منه، تُستخدم للإشارة إلى شيء آخر. فمثلا، يستخدم "البيت الأبيض" للإشارة إلى "رئيس الولايات المتحدة" وليس إلى المبنى نفسه، كما في قولنا :"يتعهد البيت الأبيض عدم السماح برفع الضرائب". لكن الكناية تختلف عن المجاز فالأخير أسلوب نتخيل به شيئا عن طريق شيء آخر، في حين أن الكناية طريقة لاستخدام شيء للدلالة على شيء آخر، أي أن الكناية لها وظيفة استدلالية.
والحقيقة أن دراسة المجاز تواجه عددا من المشكلات والأسئلة، لعل أبرزها: هل بمقدورنا تحديد قيم الصدق أو الكذب المتعلقة بالعبارات المجازية؟ بعبارة أخرى: هل من الممكن أن يشتمل المجاز على حقيقة ما أم أن العبارات المجازية كلها عبارات زائفة؟ وهل من الممكن- مع أنّ المجاز لا يتّسم بالثّبات النّحوي- أن نميز العبارة المجازية من غيرها؟(يشير الكاتب إلى تعدد أنماط التعبير المجازي(أنماط الجمل التي يرد فيها...إلخ)
من الأمور اللافتة أن المجاز يتعارض بقوة مع قواعد بول جرايس Paul Griceالخاصة بالمحادثة، فإذا كان المتحدث يريد التواصل بشكل عقلاني قدر مستطاعه فلماذا يلجأ إلى استخدام لغة المجاز بدلا من اللغة الحرفية أو اليوميّة؟ يمكن القول إن الجواب يكمن في طبيعة المجاز ذاتها كما سنبين لاحقا.
ديناميكية اللغة
ركزت الدراسات المبكرة التي تناولت المجاز على المنطق التماثلي أو القياسي analogical reasoning الذي يتضمنه المجاز. وقد كان لعالم الرياضيات ماكس بلاكMax Black أثر كبير في نقل الكلام على المجاز من مستوى الكلمات إلى مستوى المفاهيم عبر نظرية التفاعل التي قدمها في ستينات القرن العشرين متأثرا بالأعمال الرائدة للناقد الأدبي البريطاني "إيفور ريتشاردز" Ivor Richards في ثلاثينات القرن العشرين.
يرى بلاك أن المجاز ليس لعبة من الكلمات، إنّه ظاهرة معرفية تشتمل على المفاهيم. ويرى أن بمقدورنا أن نجمع في اللغة الحقيقية أو المألوفة مفهومين لنحصل على مفهوم آخر دون أن نغير المفاهيم الأصلية كما في قولنا : "زواج صالح". أما في اللغة المجازية فيُجمع مفهومان للحصول على مفهوم جديد كما في قولنا :"الزواج كابوس"، حيث يكتسب كلا المفهومين معنى مختلفا، فيعكس المفهوم الأول الجانب السوداوي للزواج،ويعكس الآخر جانبا من معنى الزواج على معنى الكابوس. وبذا تصبح العملية تبادلا للمعنى بين هذين المفهومين، ويصبح المحمول الذي ينطبق عادة على أحد المفهومين قابلا للتطبيق على الآخر والعكس صحيح أيضا.
ويشير بلاك إلى أن المجاز وسيلة لإعادة تنظيم خصائص الامتداد أو جهة الخطاب. فالمجاز ليس كلمة مفردة إنما جملة تتكون من موضوعين اثنين؛ ففي عبارة :"الزواج كابوس" يأتي المحمول "الكابوس" محملا بمعلومات نمطية مقترنة به، وتستخدم هذه المعلومات النمطية بوصفها مصفاة أو عدسات للموضوع في العبارة "الزواج" مبرزة "التوتر" بين طرفي المجاز ثم تنعكس على المحمول.
و يرى بلاك أن إنشاء المجاز metaphorizing يقتضي قيامنا بتصنيف الموضوع تحت مقولة ما أو مفهوم محدد، حيث يعتمد اختيار التصنيف الخاص بموقع الموضوع في الجملة على اختيار ما، لكنه يختلف عن التصنيف المفهومي المتعارض الذي يؤدي إلى إعادة ترتيب المفاهيم وخلق منظور جديد.
والمجاز بحسب بلاك لا يعبّر عن التشبيه وإنما يخلقه؛ فهو يعمل وفقا للنظام المعجمي والمنطق الذي يحكم العالم منتهيا إلى البرهنة على ديناميكية اللغة، فقد تصبح اللغة الحقيقية مجازا على مر الزمان والعكس صحيح.
لم يكن جهد عالم الرياضيات الأسترالي مايكل أربيب Michael Arbib الذي كان واحدا من الذين حاولوا البرهنة على أن جميع لغات العالم مجازية- مختلفا عن أطروحة ماكس بلاك؛ فقد قدم نظريته المتعلقة باللغة على نموذج بلاك التفاعلي.
لكن عالم الحاسوب الأمريكي جيمس مارتن James Martin خالف هذا التوجه عادّا فهم المجاز ليس عملية تفكير تكون بالقياس أو المشابهة إنّما هو عرف أو ممارسة لغوية linguistic convention ضمن المجتمع اللغوي الواحد، فالمجاز ليس أكثر من "اختصار" لمفهوم يتطلب كلمات كثيرة، ولا حاجة حينئذٍ إلى تحويل الخصائص من مفهوم إلى آخر.
وتقول نظرية جيمس مارتن إن الكثير من أصناف المجاز البدائية- التي تعدّ جزءا من معرفة اللغة- تستخدم لبناء الأشكال الأخرى للمجاز. وعليه يركب المجاز ويدرك كأي مصطلح معجمي، ولهذا السبب عدّ بعض المتخصّصين فرضية مارتن أنموذجا "نحويا" أو تركيبيا محضا للمجاز.
التفكير المجازي
من الآراء البارزة في التحليل المعرفي للمجاز ما قاله الفيلولوجي الفرنسي مايكل بريل Michel Breal في نهاية القرن التاسع عشر عندما عدّ المجاز جزءا لا يتجزأ من التعبير عن مفهوم يفتقر إلى كلمات تشير إليه في اللغة.
لقد رأى بريل أن ذلك إنما يكون بإنشاء علاقة بين حقلين دلاليين؛ فيحدد مكان الحقل الدلالي للشخصية مثلا في الحقل الدلالي المتعلّق بدرجة الحرارة فيقال : "طبع حاد"، و"سلوك بارد"، و"شخص دافئ" وهكذا. لقد أدرك بريل أن المجاز يصبغ اللغة.
وبنى عالم اللغة الأمريكي جورج لاكوف George Lakoff على الموقف الأخير لبريل، فقام في السبعينات والثمانينات من القرن العشرين بتحليل المجاز من منظور معرفي، وتوصل إلى نتيجتين أساسيتين، الأولى: أن جميع لغات العالم مجازية، والثّانية: أن المجاز يعتمد تجربتنا الجسدية.
ورأى لاكوف أن المجاز يصبغ لغتنا وأفكارنا بغرس المفاهيم في أجسادنا. فالمجاز يمدنا بإطار عملي تجريبي، ويمكـّننا من التوفيق بين المفاهيم المجردة. وبفضله يمكننا الحد من المفاهيم المجردة وفهمها لتتلاءم مع خبراتنا الجسدية وعلاقتنا بالعالم الخارجي. وبذا يعد المجاز وسيطا بين تصورنا الافتراضي للعالم وبين تجربتنا الحسية له. (يذكرنا تحليله هنا بمخطط الفيلسوف الألماني إيمانويل كانتKant)
والحقيقة أن المجاز لا يوجد في لغتنا بشكل كلي فحسب،إنه يتعدى ذلك ليصبح جزءا منظما في أبنية تصورية؛ فترتبط المفاهيم الخاصة بالحب مثلا بمفاهيم السفر،كما ترتبط مفاهيم الجدال بمفاهيم الحرب (1). فالأمر إذن ليس متعلقا بارتباط الكلمة بكلمة أخرى وإنما بارتباط نظام تصوري كامل بنظام آخر.
ويشكـِّل خلق الأبنية أو الأنظمة التصورية "خريطة معرفية"، فيقوم المجاز بإسقاط الخريطة المعرفية لمجال (المعنى المجازي vehicle) على مجال آخر (المعنى الحرفيtenor) بهدف غرس الأخير في الخبرة الحسية بوساطة الخريطة المعرفية للأول.
ويعتمد البناء التصوري الكلي لعقلنا على خلق تلك الأفكار التجريدية بوساطة المجاز اعتمادا على خبرتنا الجسدية في العالم.
لقد نشأ لاكوف في زمن عد فيه المجاز مجرد أداة لغوية يفضلها الشعراء ولا تستخدم في اللغة الحقيقية, وأن المجاز يعبـَّر عن علاقة التشبيه. وسرعان ما أدرك لاكوف أننا نستخدم المجاز في الأوقات كلها وبأسلوب عفوي. فنحن نعبر عن الحب مثلا بصفته رحلة فنقول مثلا: "لا أعرف أين ستنتهي بنا هذه العلاقة" أو نعبر عن الوقت بالمال فنقول :"هدر الوقت".إذ ليس ثمّة شبه بين الحب والرحلة ولا بين المال والوقت.
وعدا ذلك، تحدّد المفاهيم المجردة مثل الحب عن طريق المجاز، فإذا أبعدنا المجاز فكل ما يتبقى هو الأدوار (الحبيبان ونوع العلاقة). فنظام المجاز الذي يبنى حول فكرة مجردة يدلنا على كيفية التفكير بتلك الفكرة المجردة (جميع أشكال المجاز التي نستخدمها في حديثنا عن الحب مثال على ذلك).
واستنتج لاكوف من التحليل السابق أن المجاز لا يوجد في الكلمات وإنّما في الأفكار. أي هو موجود في اللغة الحقيقية لا في الشعر فحسب منتهيا إلى أن المجاز وسيلة تفكير.
وما أن يعرّف المجاز بوصفه معرفة أو اختبار شيء عبر شيء آخر حتى يتضح أن المجاز يتخلل اللغة ويتعداها إلى السلوك والفكر.
ويعد النظام التصوري عند الإنسان مجازيا بشكل أساسي، حيث تُدرك المفاهيم من مفاهيم أخرى لينحصر إدراك اللغة في فهم شيء ما عبر شيء آخر؛ فجميع المفاهيم مجازية بطبيعتها وتعتمد التجربة الجسدية.
ويحسب للاكوف قيامه بتحليل مجالات هائلة من المعرفة الإنسانية وتعقّبه المجاز الذي لا يبدو مجازا للوهلة الأولى. فهو يرى مثلا أن "النظريات" مجاز؛ إذ تعامل بوصفها أبنية؛ لها أساسات وتدعمها المعطيات. وهي إما "ضعيفة" أو "قوية مكينة". كما عدّ الرياضيات مجازا بحد ذاتها. (المثلثات مثلا مجاز يستخدم للكلام على الزوايا)
ورأى لاكوف أننا ندرك العالم عبر المجاز دون بذل أي جهد لأننا نقوم بإدراكه تلقائيا ولا شعوريا. فلا يتطلب منا أن نفكر ما دام عملية طبيعية مستمرة. كما أننا نفكر بشكل مجازي معظم الوقت ودون أن نعرف أننا نقوم بذلك.
والواقع أن عقول البشر تشترك فيما بينها بنظام مجازي اصطلاحي متعارف عليه وهو نظام يفهم عبره مجال معين عن طريق مجال آخر أكثر أهمّيّة منه. ومن الطبيعي أن يفسّر مجال مجرد عن طريق مجال أقل تجريدا، وبمقدار ما يكون المجال ثابتا ومتعينا يكون شيئا "طبيعيا" أن يعمل عقلنا في ضوئه.
ويرى لاكوف أن الأشكال المختلفة للمجاز تـُستخدم جزئيا لتشكيل المفاهيم اليومية. فالمجاز ليس عشوائيا، إنّه نظام متماسك يسمح للإنسان بأن يتخيل تجاربه عبره. ومرة أخرى، نؤكد ما قلناه سابقا إن المجاز يخلق تشابهات.
و حدد لاكوف ثلاثة أنواع للمجاز: الأوّل: "مجاز الجهة أو المكان"metaphor orientational" وفيه نستخدم خبرتنا مع المكان، والثاني هو "المجاز الأنطلوجي" ontological metaphor وفيه نستخدم خبرتنا مع الأشياء المادية. أما الثالث فهو "المجاز البنيوي" structural metaphor وفيه نستخدم الأنواع الطبيعية للمجاز لتحديد المفاهيم الأخرى أو تعريفها. ويمكن تقليص كل مجاز إلى آخر أكثر ببساطة.
لقد خلقت اللغة على الأرجح للتعامل مع الأشياء المادية قبل أن يجري توسيعها لاحقا لتشمل الأشياء المعنوية باستعمال المجاز. وينقل المجاز التصوري الخصائص من بنية العالم المادي إلى البنيات المعنوية.
وعلى العموم، فالعقل يتشكل بالجسد. أما التغذية الراجعة من البيئة المحيطة فهي المسؤولة عن تشكيل نظامنا التصوري الذي تعكسه لغة المتكلم .وقد حاول إدوارد سابير Edward Sapir أن يوضح ذلك سيرا على نهج سلفه "بنيامين ورف Benjamin Whorf.
وبالعودة إلى لاكوف فإن المجاز لا يقتصر على الكلمات إنه يتعداها إلى التفكير أيضا؛ لأن المجاز هو محور استيعابنا العالم بحد ذاته.
أخيرا، أظهر لاكوف كيف أن شكلا بسيطا من المجاز يمكنه أن يحدد نظاما كاملا من التفكير. من هنا جاءت نظرته إلى الطقوس بوصفها عملية مهمة للحفاظ على المجاز الثقافي وتوارثه.
إن مرجع قوة التعبيرات المجازية في أذهاننا هو طبيعتنا البيولوجية ؛ لأن عقولنا مصممة كي تفكر مجازيا؛ فالدماغ البشري تطور مع قشرة الدماغ الخاصة بالعمليات العليا آخذة البيانات من مناطق الإدراك والحركة. ونتيجة لذلك تعدّ المفاهيم الحركية والمكانية الأساس الطبيعي للتفكير المجرد. وعليه يمكن رد "المجاز" إلى آلية فسيولوجية، وإلى قدرة عقولنا على توظيف العمليات الإدراكية والعمليات الاستدلالية الحركية لخلق العمليات الاستدلالية المجردة. اللغة المجازية إذن ليست إلا جانبا واحدا من جوانب الدماغ المجازي.
مزج التعبيرات المجازية
لقد بين جو جريدي Joe Grady تلميذ جورج لاكوف في العام 1997أن المجاز على درجة كبيرة من التعقيد. فهو مكون من جزيئات مجازية صغيرة (مجاز أساسي) هي بدورها نتاج ارتباطات وتداخلات تتم على المستوى الفردي وعلى المستوى الاجتماعي (لاسيما في المراحل المبكرة للحياة؛ممّا يعني أن الجزيئات المجازية الصغيرة "مزجت" في مجاز معقد. وعن المجاز تنتج الفاعلية العفوية للأجزاء المكونة.
وهذا يعني أننا نتعلم المجاز طوال الوقت آليا وبلاوعي في سنوات عمرنا الممتدة. فالأطفال لا يفصلون غالبا بين عنصرين مترابطين من عناصر الخبرة إلا في وقت متأخر. وبعد ذلك نستعمل تلك التعبيرات المجازية في حياتنا اليومية.
وتتضمن التعبيرات المجازية الأساسية أو الأولية عبارات مثل:" دفء العاطفة" (ومنه يتفرع قولنا: "ابتسامة دافئة")، وعبارة مثل:" الشيء المهم كبير" (ومنه يتفرع قولنا: "فرصة كبيرة")، وعبارة مثل:" الوقت حركة" (ومنه يتفرع قولنا" طار الوقت)
ضبابية المجاز
قدم الفيلسوف الأمريكي ايرل ماكورماك Earl MacCormac نظرية موحدة للمجاز تميزت بمضامين أو نتائج واسعة ذات صلة بمفهومي المعنى والحقيقة.
فقد رفض ماكورماك نظرية " التوتر" وهي النظرية التي تحدد الاختلاف بين المجاز والمماثلةanalogy في التوتر العاطفي الذي يحدثه الجمع بين مدلولين غير عاديين. كما رفض نظرية " الاختلاف" controversion التي صاغها الفيلسوف الأمريكي مونرو بيردسلي Monroe Beardsley وهي النظرية التي تحدد الاختلاف بين المجاز والمماثلة في الخطأ الناجم عن قراءة حرفية توحد بين المدلولين.
كما رفض نظرية" الانحراف" وهي نظرية تحدد الاختلاف بين المجاز والمماثلة في افتقار الجمع بين المدلولين إلى التوافق النحوي ungrammaticality.
ويعتقد ماكورماك أن المجاز يتخذ صفته هذه على أساس الانحراف الدلالي الناجم من الجمع بين المدلولين. وهذا يعني أيضا أن المجاز ينبغي أن يكون متميزا عن اللغة العادية( أي خلافا للرأي القائل إن كل اللغة مجاز).
لقد تأثر ماكورماك بالفيلسوف الأمريكي فيليب ويلرايت Philip Wheelwright الذي صنف المجاز نوعين: الأول سمّاه "المجاز المتحقق"epiphors (تلك الاستعارات التي تعبر عن وجود شيء ما) والثّاني.المجاز الممكن diaphors (ذلك النوع من الاستعارة الذي يشير فقط إلى احتمال وجود الشيء).وهذان النوعان يحددان أو يقيسان التشابه والاختلاف في صفات المدلولات.
(المصطلحان السابقان لم أجد لهما في الموسوعات اللغوية واللسانية مقابلا فاجتهدت في اقتراح المقابل وشرحته في الهامش، لأهميته)
ويضيف ماكورماك أن المجاز الممكن يمكن أن يتحول إلى مجاز واقعي (وذلك عندما يتأكد وجود الشيء فعليا)، كما يمكن أن يتحول مجاز الواقع إلى تعبير حرفي ( عندما يستعمل التعبير مدة طويلة حيثُ يُنسى أصل استخدامه).(2)
وعدّ ماكورماك أن المجاز يتشكل وفق المنظور السابق في ثلاثة مستويات: هناك أولا مستوى العملية اللغوية( من اللغة العادية إلى المجاز المتحقق إلى المجاز الممكن رجوعا إلى اللغة العادية)، وهناك المستوى الثاني وهو عملية دلالية نحوية (والمقصود هنا تفسير المجاز لغويا)، وهناك أخيرا العملية المعرفية (اكتساب المعرفة الجديدة). ولهذا فأي نظرية في المجاز تتطلب مستويات ثلاثة: حرفي، دلالي، ومعرفي.
وتأسيسا على الكلام الأخير فبالإمكان صياغة الجانب الدلالي للمجاز باستعمال الأداة الرياضية لمنطق متعدد القيم fuzzy logic. فهناك أولا الحقيقة الحرفية، ثم المجاز figurality وأخيرا الكذب falsity .وهذه العناصر الثلاثة يمكن أن ينظر إليها جميعها بوصفها مجالا من الإمكانيات لا فئة محددة منها، وأن ينظر إلى "مجازية" المجاز بوصفه مجالا من حقائق "جزئية" تترواح بين كذب مطلق،وصدق مطلق. ويمكن تمثيل هذه الحقائق الجزئية من منطق ما بين الصدق والكذب.
وللتعبير عن هذا المنطق نبدأ بعدد حقيقي على مقياس يبدأ من صفر وينتهي إلى واحد؛ الصفر كذب مطلق؛ المسافة من صفر إلى أي قيمة مؤكّدة تمثّل الكذب؛ أي أن المسافة من تلك القيمة إلى قيمة أخرى تمثّل مجاز الممكن؛ المسافة من تلك القيمة إلى القيمة الأخرى تمثّل المجاز المتحقق؛ وما بين الأخير إلى الواحد تكون الحقيقة (بالنظر إلى العدد واحد على أنه حقيقة مطلقة).
يولد المجاز مجازا واقعيا، وفيما يصبح مألوفا أكثر فأكثر نظرا لشيوع الاستعمال يتغيّر ببطء إلى مجاز ممكن، وبذلك يفقد "توتّره العاطفي""emotive tension.
ويترتب على ذلك أن اللغة يمكن أن تتمثّل رياضيا كشبكة مراتبية في فضاء بعدي حيث يكون لكلّ عقدة من عقد الشبكة فئة متعددة القيم (تحدد مؤشرا دلالياsemantic marker ). وعندما يكون من غير المحتمل جمع العلامات فإن درجة عضوية علامة دلالية أو سيمانطيقية واحدة في المجموعة المتعددة القيم التي تمثّل العلامة السيمانطيقية الأخرى يمكن أن تظهر في منطق رباعي القيمة (فالمجاز ليس عبارة صادقة أو كاذبة فحسب).
وصفوة رأي ماكورماك أنّ المجاز بوصفه عمليات إدراكية أو معرفية فإنّه يتوسّط بين الثقافة والعقل، ويؤثّر في التطور الثقافي والحيوي معا.
المجاز بوصفه معنى
استطاعت الفيلسوفة الأمريكية إيفا كيتي Eva Kittayأن تطور في تحليل المجاز نظرية "علاقية" relational في المعنى معتمدة نظرية ماكس بلاك التفاعلية ورؤيتها للمضمون الثنائي (الحقيقي والمجازي)،ونظرية العلامات عند فرديناند دوسوسير .
وقد عدّت إيفا كيتي معنى الكلمة يتحدد بكلمات أخرى ترتبط بها معجميا. فالمعنى بحسب ما رأت ليس مفردة: إنه مجال. والمجال الدلالي هو مجموعة من الكلمات المرتبطة معا دلاليا. والمجاز عملية تنقل البنيات الدلالية بين حقلين دلاليين: بعض بنيات الحقل الأول تخلق أو تعيد تنظيم البنية في الحقل الدلالي الثاني.
ويشتمل معنى الكلمة علىمعانيها الحرفية كلّها. أما المعنى الحرفي فيشمل المحتوى التصوري، ومجموعة الشروط، أو مجموعة القواعد السيمانطيقية(الارتباطات السيمانطيقية الممكنة للكلمة كما في قواعد الاختيار المقيد عند فودلر Fodor) ومؤشر الحقل السيمانطيقي (علاقة المحتوى التصوري بالمفاهيم الأخرى لمجال المحتوى). أما تأويل تعبير معين فهو أيّ معنى من معاني ذلك التعبير.
وتقوم قواعد الإسقاط Projection rules بربط وحدات المستوى الأدنى بوحدات المستوى الأعلى وفقا للقواعد السيمانطيقية الخاصة بها. ولهذا فالتأويل على المستوى الأول A first-order interpretation مشتق من تركيب صحيح لمعاني مكوناته .أما التأويل على المستوى الثاني فهو دال للتأويل على المستوى الأول، ويعبر عن واقعة واضحة بذاتها وهي أن ما يجب أن ينقل ليس ما هو متضمن في المعنى الحرفي للتعبير.
وتساعد الحقول الدلالية على تمييز التعبير المجازي. فمثلا عندما يشير التأويل من نظام الدرجة الأولى والثانية إلى حقلين دلاليين منفصلين يكون ذلك مؤشرا صريحا على الطبيعة المجازية للتعبير.
إن القوة المعرفية للمجاز تأتي من "إعادة صورنة" re-conceptualization معلومات عن العالم اكتسبت سابقا،غير أنها لم تخضع لعملية الصورنة. ولهذا فان كيتي تعتقد أن المعنى المجازي لا يمكن رده إلى المعنى الحرفي. فالمجاز بحكم الطبيعة هو نظام ثان من المعنى.
الكذب يساعد على الاتصال
نحن نخدع الأطفال إذ نخبرهم كلّ مرّة بقصّص الجنيات، إننا نكذب عليهم؛ فهذه الشخصيات غير موجودة: سانتا كلوز غير موجود، والصور المتحركة على التلفزيون ليست موجودة. ونحن لا ننفك نخبر الأطفال الأكاذيب وما زالوا "يتعلّمونها". لكن ما يتعلّمونه ليس المعنى الحرفي لتلك القصص. فالحقيقة أن الأطفال يشكّون في تلك القصص كثيرا. لكنهم يفهمون أنّ ما يفترض بهم أن يتعلّموه ليس المعنى الحرفي.
الواقع أن الأطفال يفهمون بطريقة ما أنّ آباءهم يحاولون تعليمهم شيئا آخر؛ الآباء يستعملون قصص الجنيات لأنها طريق فعالة وغير مؤلمة لتعليمهم أمورا تهمهم. ما يهم ليست الفتاة ذات القبّعة الحمراء (ليلى) ولا مصادفتها الذئب في الطريق إنما المهم أنّ في هذه الحياة أناسا جيدين وسيئين. فدماغ الأطفال مبرمج بطريقة ما تضع القصّة الخرافية جانبا وتدرك "المعنى".
بعد مدّة ينسى الأطفال ليلى،وما حدث لها،لكنهم سيبقون يتذكرون أن الناس مستويان: جيد وسيئ.
يفترض بنا نحن الكبار أنّ نتوقّف عن الكذب، ونحاول الحديث عن الأشياء كما هي. لكن ذلك قد يكون حقيقيا بالنسبة للعلماء، لكنّه بالكاد يصح في الحياة العادية. فكلّ حجّة بين شخصين تتضمّن نوعا من المبالغة عادة. إذ تبدأ أكثر المناقشات السياسية بالبيانات غير المعقولة (مثلا ثمة خبر شعبي يقول"قتل اليورانيوم المنضّب مليون طفل عراقي"). هذا خبر غير صحيح إذا دقّق واحدنا في سكان العراق،لكنّه واسع الانتشار في جميع أنحاء العالم).
ويبالغ أكثر الناس بالتفاصيل بشكل روتيني ولاسيما في تلك الأمور المهمّة في القصّة. أما المستمع، فهو من الناحية الأخرى "يترجم" تلك المبالغات بشكل روتيني. اللغة تعير نفسها لمستوى من الغموض يستعمل لنقل أكثر من المعنى الحرفي. وهكذا يستمر بعضنا بسرد"قصص الجنيات". وهي لا تنتهي أبدا.
ثمّة ضعف وحيد في عمل علماء اللغة؛ فهم يدرسون المتمكنين من اللغة. إذا أردت أن تدرس لغة قبائل النوير فتوجه إلى منطقتهم وتحدث إليهم. إنهم الخبراء العالميون في هذه اللغة. المشكلة أن معظم آرائنا عن اللغة مثل التصنيف والمجاز مصدرها دراسة أولئك الناس المتمكنين من اللغة.
أما العلماء فهم يبالغون إلى حدّ ما بنتائج نظرياتهم عندما يحاولون توضيحها للناس العاديين ؛فتشويه الحقيقة يبدو مفيدا إن لم يكن ضروريا، في عمليات الاتصال البشري.
الجهل المجازي
لكن دماغ الشخص غير الطليق في تلك اللغة يجب أن يشتغّل بالطريقة نفسها.
إن "استعمالي" اللغة الألمانية، مع ذلك، ليس مثل استعمال الألماني للغته الأم تماما. فأنا أتجنب الاستعارة في لغة مثل اللغة الألمانية التي بالكاد أفهمها. لأن استعمالها في الألمانية مخيف بالنسبة إليّ.
وإذا كنت أتكلّم بلغة أجنبية فعلي أن أتمسّك بالجمل البسيطة ذات المعنى الشفّاف. لن أقول :"زواج متعثر": بل سأقول "زواج سيئ". محوّلا المفاهيم كلّها إلى مفاهيم أولّية: جميلة وقبيحة، جيدة وسيئة الخ؛ ذلك أن إجادتي اللغة الأجنبية لن يكون بمستوى يمكنني من تحمّل استعمال التعبيرات المجازية.
إنّ هذا الأمر يناقض الادّعاء القائل إن الاستعارة أكثر فاعلية وكفاءة في التعبير عن المعنى. فالناس الذين لا يتقنون اللغة ينبغي أن يستعملوا الاستعارة بدقة لتعويض ذلك النقص. بدلا من ذلك، لنهتمّ بفعل الشيء المقابل: إذا لم نكن نتقن اللغة فلنتجنب الاستعارة. ذلك أنّ اللغة المجازية تتطلّب إتقان مهارات اللغة. هذا ما توقّعته النظرية التقليدية التي قالت إنّ في ذلك القول بذرة من الحقيقة.
..............................
*المادة جزء من كتاب "طبيعة الوعي "The Nature of onsciousness للمؤرخ الإيطالي الأمريكي بيرو سكاروفو Piero Scaruffi المنشور في العام 2006.
كتب سكاروفو العديد من المؤلفات والبحوث في الفلسفة وتاريخ الثقافة.
(1) كما في قولنا: "صوّب سهام النقد على نقطة الضعف في حجته"(المترجم)
(2) مجاز متحقق كقولنا: (العالم آلة كبيرة) وفقا لنظرية نيوتن، ومجاز غير متحقق كقولنا: (العالم مجموع ما فيه من مونادات)
والموناد هو الجزء الذي لا يتجزأ بحسب نظرية ليبنتز في الوجود، وهي نظرية لم يثبت تحققها علميا ولهذا ينطبق عليها وصف المجاز الممكن.(المترجم).
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1347 الاربعاء 17/03/2010)
[/center]