سر اللذة في غناء الجيلاني
محاولة للبحث عن المصادر البنائية والمجالات التخييلية
الخميس 21 يونيو-حزيران 2007 القراءات: 608
علي احمد جاحز
(1ـ3)
(التحام القارئ بالنص)
الشاعر يجيء إلى الوجود مشحوناً بعواطف لا محدودة الصدق ومزوداً برؤية خاصة خارقة للأشياء والأحداث ..للتاريخ والحاضر والمتحمل وموسوماً بوسام الحب والخير والجمال ومتفرداً بحساسية مرهفة تجاه المؤثرات والمتغيرات التي تصدر من وفى الواقع من حوله فهو بطبيعته فطرياً يكتلك القدرة على فهم الواقع والتماهي مع مفردات ليخرج بنتيجة يغفل عنها من هم دونه ..فيرسم لما يدور حوله صورة تلامس وجدان الإنسان وتثير دهشته وتلبي حاجيته الكامنة للبوح عن أشياء تأثر بها ولم يستطع تكييفها ..
ولكن الشاعر لن يستطيع أداء تلك الرسالة المطوية في فطرته إلا إذا امتلك مفاتيح القول واستقى من ماء الحكمة وروافد المعرفة وتوغل في مسامات الوقت وأدغال التاريخ وتغلغل في أغوار الواقع وتأمله بعين العقل وتلمسه بأصابع العاطفة ليكون بذلك قد صقل موهبته وثقف مرآته ووضع موازين الإصابة على إبرة قلمه..
والشاعر هو الشاعر في أي زمان ومكان ولغة وثقافة تختلف الحيثيات والشكليات والظواهر في نظره وبذلك تختلف رؤيته وطريقته وأثوابه ولكنه يظل ذلك المطل من شرفات الكلام على مواكب الوقت يتأمل رحلته ويساءل دقائقه وثوانيه عن ما سوف تأتي به القادمات يطل من أفق الشروق مبتسماً للحياة ويتدفق ضوءاً ودفئاً وما يلبث أن يشعر بغربة حين يجد نفسه متجهاً إلى أفق الغروب ذابلاً واهناً .. وهكذا حياة الشاعر ورحلته منذ امرئ القيس وعمر بن أبي ربيعة والمتنبي والبردوني وحتى شاعرنا علوان مهدي الجيلاني الذي نشهد انبثاقه من أفق الشعر متفائلاًَ ينشر شجونه على فنن القول ويسرج حلمه نجمة في مداره .. إنه شاعرٌ يتغنى بأوجاعه وصباباته يسافر في ذاته طويلاً ويملأ قلبه من سراب الوعد يبحث عن حبيبة كانت تسكن القلب وتركت شباكها مفتوحاً لذا فقد صاغ من غرامه مقاماً لغنائه جعلنا نهيم ونغني مع ( غناء في مقام البعد) هذا العمل الشعري العمودي الذي كسر كل الإدعاءات التي تحول بين الحداثة والعمود آتياً بحداثة الصورة والتركيب مستفيداً من تراكماته المعرفية ومستثمراً الإنتاجيات الشعر السابقة وعناصر الطبيعة والواقع ومشاهداته ومواقفه.
سوف تقف في هذه القراءة عند القدرة الواعية لدى الشاعر علوان على استخدام عناصر أو خدمات الشعر في إنتاج عمل شعري متميز وذلك من ثلاث زوايا كلها تجيب على سؤال واحد هو: مم يتكون العمل الشعري الإبداعي وما هي مواده الأولية والأساسية؟وسوف نكون أما ثلاثة مصادر :
1)حقل الصورة الدلالي ( المجالات التخيلية) :
تأتي قابلية النص لتفاعل المتلقي معه من قدرة الشاعر على تحريك الحس التخيلي لديه وأيضاً من عناصر الصورة داخل النص وتكامل عناصر وأدوات التركيب في تكوين مشهد ذي إيحاءات ودلالات تكسر الحاجز بين النص وإدراك المتلقي ويكون النص الذي تتباعد فيه عناصر ومكونات الصورة أو تتزايل مدلولات التركيب يكون عاجزاً عن إيصال البعد الجوهري إلى إدراك أو حتى عن إثارة المتلقي والوصول إلى أوتار المشاعر والعزف عليها وما ذلك إلا نتيجة لما يتركه عدم انسجام عناصر الصورة من اختلافات وتناقضات تظهر على شكل انبهام معتم في الصورة ومن ثم يحتجب البعد.
والسبب الذي يجعل اعتقادنا بأهمية وجود حقل دلالي واحد تنسجم بعض مفرداته لتكوين صورة ما السبب هو أن الإنسان بطبيعته يعي أن لكل ملموسات ومحسوسات ومعنويات الحياة سمة أو اسماً يحمل دلالة ما وقد يحمل أكثر من دلالة للمسمى الواحد وقد تكون الدلالة بعيدة أو قريبة مغايرة أو موافقة ظاهرة وباطنة ..ألخ .
وفي هذا العمل الإبداعي ( غناء في مقام البعد ) نجد أن الشاعر كان واعياً بهذا في تصويره وقدرته على جعل المتلقي يتفاعل مع الصورة التي صنعها وأسقطها على موقف ما أو شعورا ما.. ولا نعني بقولنا أن المسميات لا بد أن توضع في الصورة بمدلولها الحقيقي بل لا بد أن تكون منزاحة في سياق فني منزاح ولكن الصورة بكاملها تنتمي إلى مجال دلالي كما تنتمي مكوناتها إليه أيضاً وما دام هذا العمل الإبداعي بين أيدينا بإمكانناً التدليل على ذلك ..
مدار حزني على الآفاق مسفوح
عن كوكب يصطفيني تبحث الروح
في هذا البيت الذي هو مستهل الديوان أول ما يتبادر إلى أذهاننا المشهد التصويري المتخيل مدار مسفوح على آفاق روح تتيه باحثة عن كوكب نلاحظ أن المجال الدلالي الذي تنتمي إليه الصورة هو الفلك وهو حقل يستلزم مكونات عديدة منها المدار الأفق الكوكب والتي تآصرت لتكون الصورة السابقة ومن انسجام تلك العناصر تنتح الصورة في خيال المتلقي و يستطيع الوصول إلى أبعادها وذلك عن طريق القرائن التي يتركها الشاعر ففي البيت السابق أسقط الشاعر صورة فلكية على وضعه الحزين فالمدار مدار حزن وهذا المدار محيط بالشاعر من كل اتجاه مدار مسفوح على الآفاق لذلك تظهر الروح ضائقة بذلك الحزن تبحث عن كوكب بديل عنه.
نستنتج أن توحيد المجال الدلالي لمكونات الصورة يساعد المتلقي في الوصول إلى رؤية واضحة للبعد الجوهري ..
ويلاحظ في القصيدة البيتية في هذا العمل الإبداعي أن الشاعر كان ل يتنقل من حقل تصويري إلى آخر من بيت إلى بيت أحياناً ويستخدم مجالاً تخيلياً ما في أكثر من موضع وأكثر من قصيدة إلى جانب وجود حقول دلالية مصاحبة تجتمع مع الحقول الأخرى في التكوين البنائي للقصيدة بكاملها. إن الحديث عن الصورة ومكوناتها وحقولها الدلالية يشبه إلى حد كبير الحديث عن اللوحة التشكيلية وألوانها ومدى تآصر الألوان لتشكيل صورة ذات دلالة معينة وقد تكون اللوحة التشكيلية إما كلاسيكية وهي التي تشكل منظراً حقيقياً في الواقع أو مشابهاً لمنظر مألوف كرسم( دار-حديقة- وجه امرأة) دون أدنى تغير وإما أن تكون واقعية أي مأخوذة من الواقع أو مشابه لمألوف في الواقع مع وجود بعض الإنزياح الذي يوحي بدلالة ما جديدة لم تكن مألوفة ويحمل الانزياح فيها بعداً دلالياً وإما سوريالية أي قد لا يكون لها مقابل في الواقع بل تكون منظراًُ متخيلاً أي خيالاً بحتاً أي فوق الواقع..
وكذلك الصورة الشعرية لها نفس التصنيفات مع وجود اختلافات تلتزمها طبيعة الصورة فهناك الصورة التقليدية وهي مطابقة مشهد حقيقي على موقف نفسي كالتشبيه والإستعارة وهناك الصورة المنزاحة عن التقليد حيث يكون ذلك الانزياح ذا بعد دلالي معين وهناك الصورة السرياليه وهي ذات الطابع الفني الراقي والتي تحمل مجالاًَ تخيلياً لا يطابق فيها المشهد المتخيل مشهداً حقيقاً وإنما تأتي الصورة من الافتراض البحث.
وفي هذا الديون نجد أن هذه التصنيفات وغيرها من الممكن أن نعثر على تطبيقات لها في سياق قراءتنا لأبياته قراءة تحليلية لنعرف مدى التمثيل والتخيل لدى الشاعر :
تجيء كالريح صخاباً ومندفعاً
كالليل ترخي على أضلاعي الجزعا.
الصورة تقليدية ومألوفة في السطر أو العجز اندفاع الريح وطأة الليل!! يجتمعان في حقل دلالي واحد الليل العاصف الذي يجمع بين الوحشة والضجيج وهذا التشبيه جاء من حقائق الواقع برمتها حيث نجده يشبه مجيء الحزن كمجيء الريح في الصخب والاندفاع وكذلك الليل في وحشته وهمومه ولم يحدث أي تغير لشكل المشبه وهذه مألوفة دائماً لا يتميز بها زمان ولا مكان, أي صورة بديهية يسهل تخيلها ..
ولو تأملنا صور الديوان لوجدناه لا يخلو من الصورة التقليدية التي تظهر دون انزياح تصويري ولو تأملنا في الانزياح التصويري لوجدنا أنه لا علاقة له بانزياح المفردة وذلك ما سوف نحصل عليه حين نقف على مثال للنوع الثاني من الصورة أي الصورة ذات الانزياح عن المطابق في الواقع أو الصورة التي رآها الشاعر في الواقع برؤية خاصة:
هزي بجذع القلب وارتقبي
تتبازغ الأقمار من تعبي.
ص35/قصيدة/ هامش/ الديوان
الصورة هنا - بعيداً عن المعنى تظهر في تخلينا( جذع يهتز فتتبازغ أقمار وفي بداية الأمر كان توقع المتلقي جذع يهتز فتساقط أثمار فالانزياح هنا واقع في تبازغ الأقمار وأيضاً نجد في قوله :
يا وردة المشتهي أسرجت أمنيتي
لكنها في مدار الشوق تحترق
أراد الشاعر وصف حالته حين يتمنى ويشتاق لتحقيقها رأى الأمنية ومدى تفاعل الأمنية والشوق فأسقط على أمنيته صفة الكوكب في مداره "أسرجت أمنيتي " ولكن الكوكب في مدارها في الواقع لا يحترق فإذا كان يحترق لا نتهى فالحريق ينتهي بالانطفاء والتحول إلى رماد وهنا يكمن انزياح الصورة عن ما يطابقها في الواقع .. فأمنية الشاعر هنا تسير في مدار الشوق كالكوكب لكنها تحترق.. للانزياح هنا بعد دلالي مفاده أن احتراق الأمنية في شوقه ولهفته يعني استحالتها إلى يأس وهو ما يخشاه الشاعر .. ومثل ذلك كثير في هذا العمل الشعري ويمكننا أن نجد فيها ملامح هذا النوع من الصورة الشعرية التي استطاع الشاعر أن يستخدمها برؤية جديدة ويدخل عليها بعض اللمسات الشكلية والانزياحية مثلاً (مرور الندى) حيث إن الندى لا يمر( مري على خاطري مر الندى ..إلخ البيت)/ جذوة الوهم / الديون/).
ومثل ذلك (برق يلمع نتيجة إدارة أنشودة ) في قوله:
أدير أنشودتي الولهى فيلمع في
محاجر الغيم برق من نجاوانا
جذوة الوهم /الديوان
وبرغم أن هذا النوع من الصور بعيد وغريب لكن مجاله الدلالي أو حقله الدلالي ملموساً في الواقع المدرك ولو وفقنا على هذا العمل وقفة أخرى وتأملنا بحس تخيلي في صورة دون الأخذ في اعتبار ما تم المرور عليه والوقوف عنده سنجد ما هو أجمل وأبعد وأغرب من الصور ذات الاستقلالية الإبداعية والدلالية .
إن الواقع مليء بالتعابير والدلالات لكن هناك عالم الشاعر الخاص الذي يعيش فيه بمفرده ومنه تأتي الصورة التي ليس لها ظل في الواقع ولا يعني هذا عدم وجود حقول دلالية تنتمي إليها العناصر المكونة للصورة , بل تأتي الصورة السريالية عبارة عن مشهد لا يحمله الإدراك في افقه التوقعي المكتسب من تجارب الواقع أي يقوم الشاعر بالتأليف بين صور وهيئات لتشكيل صورة لم يعهدها المتلقي بهذا الشكل والهيئة ومن هنا نستطيع أن نتعرف على الصورة السوريالية في هذا العمل التسعيني وسوف نجدها ولكن ليس بكثرة فنحن نريد سوريالية الصورة وليس التركيب اللفظي والسوريالية هي ( الفوق واقعية) لنأخذ مثلاً :
وقتي على شرفة خرساء مندلق ..إلخ البيت
(جذوة الوهم الديون)
إن الصورة حين ترتسم في تخيل المتلقي تبدو غريبة فليس ثمة مشهد في الواقع يماثل هذا المشهد اندلاق وقت على شرفة خرساء ويبدو أن مجال التخيل ليس واحداً غير أن جو الشرفة الذي يشكل المساحة الكبرى في الصورة مجازي إذن فما هو المشهد الأصلي الذي أسقطة على حالة الوقت لديه؟ هذا هو سر السريالية التصويرية ونخطئ لو اعتقدنا أن السريالية دون المدلول فهذا النوع مثله مثل بقية الصور يجتاح إلى وجود خيوط تقود المتلقي إلى الدلالة.. ومثله قوله:
واستقصى رسوم الروح علي
أرى قبساً لأمنيتي يضاء
قافية الدهشة/ الديوان
قوله :
أنا المعنى بترتيب الفضاء لمن
غابت وشباكها في القلب مفتوح
غناء في مقام البعد/الديوان
نستنتج من هذا التصريف أهمية وجود ثنائية التخييل والتخيل لدى الشاعر والمتلقي لتؤدي الصورة وظيفتها الدلالية إضافة إلى مدى قدرة الشاعر على إثارة المتلقي وجعله يتتبع المشهد التصويري وصولاً إلى البعد الجوهري وقد وجدنا أن شاعرنا في هذا العمل الإبداعي مر بتجربة حقيقة تحكمها عدة خصائص وملامح وسواء على مستوى الخاصية البنائية والتخييلية أو على مستوى الملامح التجديدية والإبداعية .. ونحن الآن بصدد الرؤية التخيلية حيث نراه ينتقل بالتجربة من أفق تصويري إلى آخر ففي القصيدة الحديثة تاريخاً نلحظ وجود الصورة الحديثة وكلما كان التاريخ قديماً قل وجود الصورة الحديثة السوريالية - والمنزاحة وتظل الصورة التقليدية تلاحقه ولكنها تقل كلما أزداد وعي الشاعر .. وفي هذا الإطار الموضوعي ما تزال هناك بعض النتائج التي وصلنا إليها ونحن بصدد حقل الصورة ومجال التخيل فبرغم وجود الرؤية الجديدة والحقل الدلالي المأخوذ من محيط جديد إلا أن الشاعر قد وقع في شرك التأثر بما أنتجه هو من صور ذلك يحيلنا إلى سباحتة المفرطة في المجال /الحقل / التخيلي لدرجة أنها أمست ملتفتة حيث يظهر ذلك في استخدامه بوعي أو لا وعي للحقل الدلالي الواحد في أكثر من موضع تصويري ومهما اختلفت الصورة شكلاً ومدلولاً فإنها تختلف رؤية فقط لكنها تقع في حقل تخيلي واحد تشترك فيه ، وشاعرنا - في هذا العمل أعجبه التحليق في عدة مجالات تخييلية وبشكل ملفت مما قد ينعكس على أفق الرؤية لديه لكل ما يدور حوله من شواهد وتعابير وصور وأشكال وظواهر يمكن أن تكون حقولاً لصور لا منتهية ولا محدودة وكان حرياً أن يتسع أفق الرؤيا لديه كما يقول هو رؤيا لا يحددها فضاء غير أنه لم يسلم من محدودية الخيال .
ولكي نكون أكثر مصداقية في ما طرحناه ولمسناه نعود إلى هذا العمل وندلل على وجود ظاهرة التكرار للمجال التخيلي..فمن خلال قراءتنا سنجد أننا نحلق بخيالنا في مجال الطقس أكثر من مرة بل وبشكل ملفت مثلاً:
هذا الظما سورة الأنواء فاتنتي
أنا التراب و أنت الشمس والريحُ
غناء / الديوان
فالصورة المستعارة هنا من حقل الطقس : سورة الأنواء - تراب تجففه الشمس وتنشره الريح... والصور المستعارة من حقل الطقس كثيرة نأخذ منها للتمثيل :
!!على فمي منى غبار العسر سافية!!
!! هل تنال السوافي من فمي عطشاً!!
!!تجيء كالريح ..!! إلى لفحات شمسك - كأن هواك ريح في عروقي..-!!
يجتاحني عاصفة بديعة تزمجر!! ... الخ
وغير ذلك مما يمكن تخيله في حقل الطقس بشتى مشاهده ومكاناته وسنجد أيضاً أننا حلقنا في حقل آخر هو !الفلك! بمختلف مشاهده وتصويراته .
وبمداراته وآفاته ونجومه وكواكبه.. مثلاً
مدار حزني على الآفاق مسفوح
عن كوكب يصطفيني تبحث الروح
هذا البيت يتضمن صورة فلكية ورغم ما تحمله من دلالة معنوية مدار على الآفاق- روح تبحث عن كوكب ومثله تجئ صور في مواضع مختلفة تم استعاراتها من الفلك !
!! تمشي النجوم على جفني..- !_!.. أسرجت أمنيتي لكنها في مدار الشوق تحترق سكن الحنين مدار إسرائي -... تبازغ الأقمار منى تعبي - تسايل في المدارات الشروق -وتسبح الأنجم فيهما ويسري القمر - أقبلت سالت نحونا أنجم ...إلخ.
وحيناً نجده يحلق في مجال الفضاء بما يحويه من مدلولات ومشاهدات من فتح وغلق وتحليق وتعريش وتفريغ وما يحدث في الفضاء من بروق وأضواء وظلمة ..إلخ مثلاً
أنا المعنى بترتيب الفضاء لمن
غابت وشباكها في القلب مفتوح
ومثل ذلك :
كأنني فوق ريش البرق أنطلق - وتفتحين لقلبي ألف نافذة وكان في مدلهم الصمت يختنق - عطراً له في فضاء الفل تجريح - يعرش في ملاعبته الرجاء - رؤيا لا يحدها فضاء أمنيتي - دروب هذا الكبت مخفوفة - يا عبير الأقاح نشوى سمائي - !!يمد شراعه فيها المساء - وأسكنها فتتسع السماء ..لخ.
وسوف نكتفي بإيراد هذه الأمثلة الثلاثة رغم وجود بعض الحقول الدلالية المستخدمة بكثرة في أكثر قصائد الديوان وبخاصة مجال النار والاشتعال أو مجال الشجرة والخضرة أو الماء وهذه المجالات توحي عند كثرة استخدامها بوجود أبعاد نفسية ترتبط بكل منها وتلك الأبعاد النفسية قد تكون نابعة من حالة نفسية في ذات الشاعر انعكست على إبداعاته كالرغبة في الانطلاق والشعور بالكبت انعكس ذلك في استخدامه للفضاء ولوازمه والشعور بالانكفاء والجمود انعكس في الرؤية التصويرية لديه وبخاصة أجواء وطقوس تهامة موطنة الأصلي برياحها وعواصفها وغبارها وحرارتها وسوافيها... إلخ. ومن جهة أخرى توحي هذه الظاهرة بواحدية الفكرة وتكامل التجربة الشعرية .
2) التراكيب الفنية وتوظيف المفردة - سر غنائه النص ولذاته /الشعرية :
تترك القصيدة ذات الجودة العالية والتقنية المحكمة أثرًاً في نفسية المتلقي وذلك وفق ما تحتويه من لذة أو نشوة نابعة من قدرة الشاعر نفسه وبعيداً عن فعل أو تأثير الصورة المتخيلة في خلق تلك اللذة والغنائية في القصيدة إلا أننا نود الآن البحث عن أسرار اللذة في التراكيب البنائية للصورة لعلمنا باختلاف الكلام الأدبي عن العادي وبالتالي تفرد الخطاب الشعري عن بقية الأجناس الأدبية.
ولهذا ونحن نقرأ هذا العمل الرائع الذي أسماه شاعرنا علوان / عناء في مقام البعد!!.. فقد وجدنا الغناء ينساب من أكثر قصائده واللذة تفتح شهية النفس لقراءة المزيد ..ولكني ومع كثرة الترنم بأبياته وجدت نفسي بدأت أتوقف عند بعض المواضع ومنها أحسست بوجود علة تجرجر المتلقي إلى التفاعل والاستمتاع مع القصيدة .
ومن ثم يلوح سؤال : من أين تأتي غنائية النص ولذته...؟
وللإجابة حديث لطويل ومن الصعب تحديد تلك المصادر في كل النصوص ... ولكن يمكننا الوقوف على مجمل مصادر اللذة والجاذبية في أي نص شعري, وقبل أن نفتش في هذا الديوان عن مصادر اللذة والغنائية سوف نستعرض أهم المصادر فالفنية التي تنتج تلك الجاذبية قد تأتي من طبيعة البحر الإيقاعية.. قد تأتي من القافية ..قد تأتي من الموضوع الشعري ولكنها لا تأتي بانفراد واحد من هذه المصادر فإذا كان البحر ذا إيقاع جميل وطروب وكانت القافية ثقيلة والموضوع معدوماً أو غير ذي أهمية لا نجد اللذة وكذلك مع البقية .. ولا تأتي اللذة بوجود البحر اللذيذ والقافية الرنانة والموضوع المثير مجتمعه أيضاً فقد نقرأ قصيدة إذا جاز التعبير لا تشبع حاجة النفس للغناء كأشعار المتون المنظومة وأشعار المناسبات الجماهيرية التقريرية .
ومن هنا نجد أن أهم مصدر هو التراكيب الفنية أو ما يسمى شعرية النص التي تنتج اللذة بمفردها كما يحدث في القصة والمقامة وقصيدة النثر ولكنها في العمود الشعري تخلق لذة وغنائية أكبر كما في هذا العمل الشعري الذي هو موضوعنا .
سوف نجد في هذا الديوان حياة وحركة وعالماً خاصاً سنجد حرفاً يخضر ورقاً يختال بوحاً موجوعاً وسماء مجروحة وشفة تغني بلا لغة ووقتاً مندلقاً على شرفة خرساء .. سوف نرى ما لا يرى ونسمع ما ليس يسمع سنتذوق طعم الحب ونسمع أنين الجراح ورياح الوجد ... إلى غير ذلك مما يجعلنا نشعربحلاوة التحليق في عالم جديد.
ومن خلال معرفتنا بماهية الشعرية وهي اختيار المفردة وتأليفها في تركيب نحوي منزاحة عن معناها اللغوي الأصلي فإننا سوف نقف عند بعض المواضع التي نجد عندها ما يدلل على وجود الشعرية بشتى مراتبها وصورها وسواء كان الانزياح مفرداً أو مركباً وسواء كان انزياح المفردة تحويل المعنوي إلى حسي أو العكس وسواء كانت المفردة المنزاحة أسماً أو فعلاً وسواء أتى الانزياح اعتياداً أو غريباً غامضاً ومعقداً وسواء كان مستهلكاً أو مبتكراً جديداً وسواء كانت التقنية البنائية عالية أو تقليدية ..إلخ.
ولا يجوز الحكم بعدم شعرية تركيبة فنية ذات استخدامات سابقة ومألوفة إذا أدخل الشاعر عليها تجديداً ما أو رؤية خاصة تختلف عما كانت عليه وصبغها بصبغة العصر ولا حكم على قدم المفردة وإنما الحكم على وضعها الانزياحي في التراكيب فمثلاً الشمس كانت توظف منزاحة للتعبير عن البهاء أو البياض في المرأة ولكنها في هذا العمل تبدو ذات وظيفة أخرى في المرأة .
هذا الظما سَورة الأنواء فاتنتي
أنا التراب و أنت الشمس والريح.
(التحام القارئ بالنص)
الشاعر يجيء إلى الوجود مشحوناً بعواطف لا محدودة الصدق ومزوداً برؤية خاصة خارقة للأشياء والأحداث ..للتاريخ والحاضر والمتحمل وموسوماً بوسام الحب والخير والجمال ومتفرداً بحساسية مرهفة تجاه المؤثرات والمتغيرات التي تصدر من وفى الواقع من حوله فهو بطبيعته فطرياً يكتلك القدرة على فهم الواقع والتماهي مع مفردات ليخرج بنتيجة يغفل عنها من هم دونه ..فيرسم لما يدور حوله صورة تلامس وجدان الإنسان وتثير دهشته وتلبي حاجيته الكامنة للبوح عن أشياء تأثر بها ولم يستطع تكييفها ..
ولكن الشاعر لن يستطيع أداء تلك الرسالة المطوية في فطرته إلا إذا امتلك مفاتيح القول واستقى من ماء الحكمة وروافد المعرفة وتوغل في مسامات الوقت وأدغال التاريخ وتغلغل في أغوار الواقع وتأمله بعين العقل وتلمسه بأصابع العاطفة ليكون بذلك قد صقل موهبته وثقف مرآته ووضع موازين الإصابة على إبرة قلمه..
والشاعر هو الشاعر في أي زمان ومكان ولغة وثقافة تختلف الحيثيات والشكليات والظواهر في نظره وبذلك تختلف رؤيته وطريقته وأثوابه ولكنه يظل ذلك المطل من شرفات الكلام على مواكب الوقت يتأمل رحلته ويساءل دقائقه وثوانيه عن ما سوف تأتي به القادمات يطل من أفق الشروق مبتسماً للحياة ويتدفق ضوءاً ودفئاً وما يلبث أن يشعر بغربة حين يجد نفسه متجهاً إلى أفق الغروب ذابلاً واهناً .. وهكذا حياة الشاعر ورحلته منذ امرئ القيس وعمر بن أبي ربيعة والمتنبي والبردوني وحتى شاعرنا علوان مهدي الجيلاني الذي نشهد انبثاقه من أفق الشعر متفائلاًَ ينشر شجونه على فنن القول ويسرج حلمه نجمة في مداره .. إنه شاعرٌ يتغنى بأوجاعه وصباباته يسافر في ذاته طويلاً ويملأ قلبه من سراب الوعد يبحث عن حبيبة كانت تسكن القلب وتركت شباكها مفتوحاً لذا فقد صاغ من غرامه مقاماً لغنائه جعلنا نهيم ونغني مع ( غناء في مقام البعد) هذا العمل الشعري العمودي الذي كسر كل الإدعاءات التي تحول بين الحداثة والعمود آتياً بحداثة الصورة والتركيب مستفيداً من تراكماته المعرفية ومستثمراً الإنتاجيات الشعر السابقة وعناصر الطبيعة والواقع ومشاهداته ومواقفه.
سوف تقف في هذه القراءة عند القدرة الواعية لدى الشاعر علوان على استخدام عناصر أو خدمات الشعر في إنتاج عمل شعري متميز وذلك من ثلاث زوايا كلها تجيب على سؤال واحد هو: مم يتكون العمل الشعري الإبداعي وما هي مواده الأولية والأساسية؟وسوف نكون أما ثلاثة مصادر :
1)حقل الصورة الدلالي ( المجالات التخيلية) :
تأتي قابلية النص لتفاعل المتلقي معه من قدرة الشاعر على تحريك الحس التخيلي لديه وأيضاً من عناصر الصورة داخل النص وتكامل عناصر وأدوات التركيب في تكوين مشهد ذي إيحاءات ودلالات تكسر الحاجز بين النص وإدراك المتلقي ويكون النص الذي تتباعد فيه عناصر ومكونات الصورة أو تتزايل مدلولات التركيب يكون عاجزاً عن إيصال البعد الجوهري إلى إدراك أو حتى عن إثارة المتلقي والوصول إلى أوتار المشاعر والعزف عليها وما ذلك إلا نتيجة لما يتركه عدم انسجام عناصر الصورة من اختلافات وتناقضات تظهر على شكل انبهام معتم في الصورة ومن ثم يحتجب البعد.
والسبب الذي يجعل اعتقادنا بأهمية وجود حقل دلالي واحد تنسجم بعض مفرداته لتكوين صورة ما السبب هو أن الإنسان بطبيعته يعي أن لكل ملموسات ومحسوسات ومعنويات الحياة سمة أو اسماً يحمل دلالة ما وقد يحمل أكثر من دلالة للمسمى الواحد وقد تكون الدلالة بعيدة أو قريبة مغايرة أو موافقة ظاهرة وباطنة ..ألخ .
وفي هذا العمل الإبداعي ( غناء في مقام البعد ) نجد أن الشاعر كان واعياً بهذا في تصويره وقدرته على جعل المتلقي يتفاعل مع الصورة التي صنعها وأسقطها على موقف ما أو شعورا ما.. ولا نعني بقولنا أن المسميات لا بد أن توضع في الصورة بمدلولها الحقيقي بل لا بد أن تكون منزاحة في سياق فني منزاح ولكن الصورة بكاملها تنتمي إلى مجال دلالي كما تنتمي مكوناتها إليه أيضاً وما دام هذا العمل الإبداعي بين أيدينا بإمكانناً التدليل على ذلك ..
مدار حزني على الآفاق مسفوح
عن كوكب يصطفيني تبحث الروح
في هذا البيت الذي هو مستهل الديوان أول ما يتبادر إلى أذهاننا المشهد التصويري المتخيل مدار مسفوح على آفاق روح تتيه باحثة عن كوكب نلاحظ أن المجال الدلالي الذي تنتمي إليه الصورة هو الفلك وهو حقل يستلزم مكونات عديدة منها المدار الأفق الكوكب والتي تآصرت لتكون الصورة السابقة ومن انسجام تلك العناصر تنتح الصورة في خيال المتلقي و يستطيع الوصول إلى أبعادها وذلك عن طريق القرائن التي يتركها الشاعر ففي البيت السابق أسقط الشاعر صورة فلكية على وضعه الحزين فالمدار مدار حزن وهذا المدار محيط بالشاعر من كل اتجاه مدار مسفوح على الآفاق لذلك تظهر الروح ضائقة بذلك الحزن تبحث عن كوكب بديل عنه.
نستنتج أن توحيد المجال الدلالي لمكونات الصورة يساعد المتلقي في الوصول إلى رؤية واضحة للبعد الجوهري ..
ويلاحظ في القصيدة البيتية في هذا العمل الإبداعي أن الشاعر كان ل يتنقل من حقل تصويري إلى آخر من بيت إلى بيت أحياناً ويستخدم مجالاً تخيلياً ما في أكثر من موضع وأكثر من قصيدة إلى جانب وجود حقول دلالية مصاحبة تجتمع مع الحقول الأخرى في التكوين البنائي للقصيدة بكاملها. إن الحديث عن الصورة ومكوناتها وحقولها الدلالية يشبه إلى حد كبير الحديث عن اللوحة التشكيلية وألوانها ومدى تآصر الألوان لتشكيل صورة ذات دلالة معينة وقد تكون اللوحة التشكيلية إما كلاسيكية وهي التي تشكل منظراً حقيقياً في الواقع أو مشابهاً لمنظر مألوف كرسم( دار-حديقة- وجه امرأة) دون أدنى تغير وإما أن تكون واقعية أي مأخوذة من الواقع أو مشابه لمألوف في الواقع مع وجود بعض الإنزياح الذي يوحي بدلالة ما جديدة لم تكن مألوفة ويحمل الانزياح فيها بعداً دلالياً وإما سوريالية أي قد لا يكون لها مقابل في الواقع بل تكون منظراًُ متخيلاً أي خيالاً بحتاً أي فوق الواقع..
وكذلك الصورة الشعرية لها نفس التصنيفات مع وجود اختلافات تلتزمها طبيعة الصورة فهناك الصورة التقليدية وهي مطابقة مشهد حقيقي على موقف نفسي كالتشبيه والإستعارة وهناك الصورة المنزاحة عن التقليد حيث يكون ذلك الانزياح ذا بعد دلالي معين وهناك الصورة السرياليه وهي ذات الطابع الفني الراقي والتي تحمل مجالاًَ تخيلياً لا يطابق فيها المشهد المتخيل مشهداً حقيقاً وإنما تأتي الصورة من الافتراض البحث.
وفي هذا الديون نجد أن هذه التصنيفات وغيرها من الممكن أن نعثر على تطبيقات لها في سياق قراءتنا لأبياته قراءة تحليلية لنعرف مدى التمثيل والتخيل لدى الشاعر :
تجيء كالريح صخاباً ومندفعاً
كالليل ترخي على أضلاعي الجزعا.
الصورة تقليدية ومألوفة في السطر أو العجز اندفاع الريح وطأة الليل!! يجتمعان في حقل دلالي واحد الليل العاصف الذي يجمع بين الوحشة والضجيج وهذا التشبيه جاء من حقائق الواقع برمتها حيث نجده يشبه مجيء الحزن كمجيء الريح في الصخب والاندفاع وكذلك الليل في وحشته وهمومه ولم يحدث أي تغير لشكل المشبه وهذه مألوفة دائماً لا يتميز بها زمان ولا مكان, أي صورة بديهية يسهل تخيلها ..
ولو تأملنا صور الديوان لوجدناه لا يخلو من الصورة التقليدية التي تظهر دون انزياح تصويري ولو تأملنا في الانزياح التصويري لوجدنا أنه لا علاقة له بانزياح المفردة وذلك ما سوف نحصل عليه حين نقف على مثال للنوع الثاني من الصورة أي الصورة ذات الانزياح عن المطابق في الواقع أو الصورة التي رآها الشاعر في الواقع برؤية خاصة:
هزي بجذع القلب وارتقبي
تتبازغ الأقمار من تعبي.
ص35/قصيدة/ هامش/ الديوان
الصورة هنا - بعيداً عن المعنى تظهر في تخلينا( جذع يهتز فتتبازغ أقمار وفي بداية الأمر كان توقع المتلقي جذع يهتز فتساقط أثمار فالانزياح هنا واقع في تبازغ الأقمار وأيضاً نجد في قوله :
يا وردة المشتهي أسرجت أمنيتي
لكنها في مدار الشوق تحترق
أراد الشاعر وصف حالته حين يتمنى ويشتاق لتحقيقها رأى الأمنية ومدى تفاعل الأمنية والشوق فأسقط على أمنيته صفة الكوكب في مداره "أسرجت أمنيتي " ولكن الكوكب في مدارها في الواقع لا يحترق فإذا كان يحترق لا نتهى فالحريق ينتهي بالانطفاء والتحول إلى رماد وهنا يكمن انزياح الصورة عن ما يطابقها في الواقع .. فأمنية الشاعر هنا تسير في مدار الشوق كالكوكب لكنها تحترق.. للانزياح هنا بعد دلالي مفاده أن احتراق الأمنية في شوقه ولهفته يعني استحالتها إلى يأس وهو ما يخشاه الشاعر .. ومثل ذلك كثير في هذا العمل الشعري ويمكننا أن نجد فيها ملامح هذا النوع من الصورة الشعرية التي استطاع الشاعر أن يستخدمها برؤية جديدة ويدخل عليها بعض اللمسات الشكلية والانزياحية مثلاً (مرور الندى) حيث إن الندى لا يمر( مري على خاطري مر الندى ..إلخ البيت)/ جذوة الوهم / الديون/).
ومثل ذلك (برق يلمع نتيجة إدارة أنشودة ) في قوله:
أدير أنشودتي الولهى فيلمع في
محاجر الغيم برق من نجاوانا
جذوة الوهم /الديوان
وبرغم أن هذا النوع من الصور بعيد وغريب لكن مجاله الدلالي أو حقله الدلالي ملموساً في الواقع المدرك ولو وفقنا على هذا العمل وقفة أخرى وتأملنا بحس تخيلي في صورة دون الأخذ في اعتبار ما تم المرور عليه والوقوف عنده سنجد ما هو أجمل وأبعد وأغرب من الصور ذات الاستقلالية الإبداعية والدلالية .
إن الواقع مليء بالتعابير والدلالات لكن هناك عالم الشاعر الخاص الذي يعيش فيه بمفرده ومنه تأتي الصورة التي ليس لها ظل في الواقع ولا يعني هذا عدم وجود حقول دلالية تنتمي إليها العناصر المكونة للصورة , بل تأتي الصورة السريالية عبارة عن مشهد لا يحمله الإدراك في افقه التوقعي المكتسب من تجارب الواقع أي يقوم الشاعر بالتأليف بين صور وهيئات لتشكيل صورة لم يعهدها المتلقي بهذا الشكل والهيئة ومن هنا نستطيع أن نتعرف على الصورة السوريالية في هذا العمل التسعيني وسوف نجدها ولكن ليس بكثرة فنحن نريد سوريالية الصورة وليس التركيب اللفظي والسوريالية هي ( الفوق واقعية) لنأخذ مثلاً :
وقتي على شرفة خرساء مندلق ..إلخ البيت
(جذوة الوهم الديون)
إن الصورة حين ترتسم في تخيل المتلقي تبدو غريبة فليس ثمة مشهد في الواقع يماثل هذا المشهد اندلاق وقت على شرفة خرساء ويبدو أن مجال التخيل ليس واحداً غير أن جو الشرفة الذي يشكل المساحة الكبرى في الصورة مجازي إذن فما هو المشهد الأصلي الذي أسقطة على حالة الوقت لديه؟ هذا هو سر السريالية التصويرية ونخطئ لو اعتقدنا أن السريالية دون المدلول فهذا النوع مثله مثل بقية الصور يجتاح إلى وجود خيوط تقود المتلقي إلى الدلالة.. ومثله قوله:
واستقصى رسوم الروح علي
أرى قبساً لأمنيتي يضاء
قافية الدهشة/ الديوان
قوله :
أنا المعنى بترتيب الفضاء لمن
غابت وشباكها في القلب مفتوح
غناء في مقام البعد/الديوان
نستنتج من هذا التصريف أهمية وجود ثنائية التخييل والتخيل لدى الشاعر والمتلقي لتؤدي الصورة وظيفتها الدلالية إضافة إلى مدى قدرة الشاعر على إثارة المتلقي وجعله يتتبع المشهد التصويري وصولاً إلى البعد الجوهري وقد وجدنا أن شاعرنا في هذا العمل الإبداعي مر بتجربة حقيقة تحكمها عدة خصائص وملامح وسواء على مستوى الخاصية البنائية والتخييلية أو على مستوى الملامح التجديدية والإبداعية .. ونحن الآن بصدد الرؤية التخيلية حيث نراه ينتقل بالتجربة من أفق تصويري إلى آخر ففي القصيدة الحديثة تاريخاً نلحظ وجود الصورة الحديثة وكلما كان التاريخ قديماً قل وجود الصورة الحديثة السوريالية - والمنزاحة وتظل الصورة التقليدية تلاحقه ولكنها تقل كلما أزداد وعي الشاعر .. وفي هذا الإطار الموضوعي ما تزال هناك بعض النتائج التي وصلنا إليها ونحن بصدد حقل الصورة ومجال التخيل فبرغم وجود الرؤية الجديدة والحقل الدلالي المأخوذ من محيط جديد إلا أن الشاعر قد وقع في شرك التأثر بما أنتجه هو من صور ذلك يحيلنا إلى سباحتة المفرطة في المجال /الحقل / التخيلي لدرجة أنها أمست ملتفتة حيث يظهر ذلك في استخدامه بوعي أو لا وعي للحقل الدلالي الواحد في أكثر من موضع تصويري ومهما اختلفت الصورة شكلاً ومدلولاً فإنها تختلف رؤية فقط لكنها تقع في حقل تخيلي واحد تشترك فيه ، وشاعرنا - في هذا العمل أعجبه التحليق في عدة مجالات تخييلية وبشكل ملفت مما قد ينعكس على أفق الرؤية لديه لكل ما يدور حوله من شواهد وتعابير وصور وأشكال وظواهر يمكن أن تكون حقولاً لصور لا منتهية ولا محدودة وكان حرياً أن يتسع أفق الرؤيا لديه كما يقول هو رؤيا لا يحددها فضاء غير أنه لم يسلم من محدودية الخيال .
ولكي نكون أكثر مصداقية في ما طرحناه ولمسناه نعود إلى هذا العمل وندلل على وجود ظاهرة التكرار للمجال التخيلي..فمن خلال قراءتنا سنجد أننا نحلق بخيالنا في مجال الطقس أكثر من مرة بل وبشكل ملفت مثلاً:
هذا الظما سورة الأنواء فاتنتي
أنا التراب و أنت الشمس والريحُ
غناء / الديوان
فالصورة المستعارة هنا من حقل الطقس : سورة الأنواء - تراب تجففه الشمس وتنشره الريح... والصور المستعارة من حقل الطقس كثيرة نأخذ منها للتمثيل :
!!على فمي منى غبار العسر سافية!!
!! هل تنال السوافي من فمي عطشاً!!
!!تجيء كالريح ..!! إلى لفحات شمسك - كأن هواك ريح في عروقي..-!!
يجتاحني عاصفة بديعة تزمجر!! ... الخ
وغير ذلك مما يمكن تخيله في حقل الطقس بشتى مشاهده ومكاناته وسنجد أيضاً أننا حلقنا في حقل آخر هو !الفلك! بمختلف مشاهده وتصويراته .
وبمداراته وآفاته ونجومه وكواكبه.. مثلاً
مدار حزني على الآفاق مسفوح
عن كوكب يصطفيني تبحث الروح
هذا البيت يتضمن صورة فلكية ورغم ما تحمله من دلالة معنوية مدار على الآفاق- روح تبحث عن كوكب ومثله تجئ صور في مواضع مختلفة تم استعاراتها من الفلك !
!! تمشي النجوم على جفني..- !_!.. أسرجت أمنيتي لكنها في مدار الشوق تحترق سكن الحنين مدار إسرائي -... تبازغ الأقمار منى تعبي - تسايل في المدارات الشروق -وتسبح الأنجم فيهما ويسري القمر - أقبلت سالت نحونا أنجم ...إلخ.
وحيناً نجده يحلق في مجال الفضاء بما يحويه من مدلولات ومشاهدات من فتح وغلق وتحليق وتعريش وتفريغ وما يحدث في الفضاء من بروق وأضواء وظلمة ..إلخ مثلاً
أنا المعنى بترتيب الفضاء لمن
غابت وشباكها في القلب مفتوح
ومثل ذلك :
كأنني فوق ريش البرق أنطلق - وتفتحين لقلبي ألف نافذة وكان في مدلهم الصمت يختنق - عطراً له في فضاء الفل تجريح - يعرش في ملاعبته الرجاء - رؤيا لا يحدها فضاء أمنيتي - دروب هذا الكبت مخفوفة - يا عبير الأقاح نشوى سمائي - !!يمد شراعه فيها المساء - وأسكنها فتتسع السماء ..لخ.
وسوف نكتفي بإيراد هذه الأمثلة الثلاثة رغم وجود بعض الحقول الدلالية المستخدمة بكثرة في أكثر قصائد الديوان وبخاصة مجال النار والاشتعال أو مجال الشجرة والخضرة أو الماء وهذه المجالات توحي عند كثرة استخدامها بوجود أبعاد نفسية ترتبط بكل منها وتلك الأبعاد النفسية قد تكون نابعة من حالة نفسية في ذات الشاعر انعكست على إبداعاته كالرغبة في الانطلاق والشعور بالكبت انعكس ذلك في استخدامه للفضاء ولوازمه والشعور بالانكفاء والجمود انعكس في الرؤية التصويرية لديه وبخاصة أجواء وطقوس تهامة موطنة الأصلي برياحها وعواصفها وغبارها وحرارتها وسوافيها... إلخ. ومن جهة أخرى توحي هذه الظاهرة بواحدية الفكرة وتكامل التجربة الشعرية .
2) التراكيب الفنية وتوظيف المفردة - سر غنائه النص ولذاته /الشعرية :
تترك القصيدة ذات الجودة العالية والتقنية المحكمة أثرًاً في نفسية المتلقي وذلك وفق ما تحتويه من لذة أو نشوة نابعة من قدرة الشاعر نفسه وبعيداً عن فعل أو تأثير الصورة المتخيلة في خلق تلك اللذة والغنائية في القصيدة إلا أننا نود الآن البحث عن أسرار اللذة في التراكيب البنائية للصورة لعلمنا باختلاف الكلام الأدبي عن العادي وبالتالي تفرد الخطاب الشعري عن بقية الأجناس الأدبية.
ولهذا ونحن نقرأ هذا العمل الرائع الذي أسماه شاعرنا علوان / عناء في مقام البعد!!.. فقد وجدنا الغناء ينساب من أكثر قصائده واللذة تفتح شهية النفس لقراءة المزيد ..ولكني ومع كثرة الترنم بأبياته وجدت نفسي بدأت أتوقف عند بعض المواضع ومنها أحسست بوجود علة تجرجر المتلقي إلى التفاعل والاستمتاع مع القصيدة .
ومن ثم يلوح سؤال : من أين تأتي غنائية النص ولذته...؟
وللإجابة حديث لطويل ومن الصعب تحديد تلك المصادر في كل النصوص ... ولكن يمكننا الوقوف على مجمل مصادر اللذة والجاذبية في أي نص شعري, وقبل أن نفتش في هذا الديوان عن مصادر اللذة والغنائية سوف نستعرض أهم المصادر فالفنية التي تنتج تلك الجاذبية قد تأتي من طبيعة البحر الإيقاعية.. قد تأتي من القافية ..قد تأتي من الموضوع الشعري ولكنها لا تأتي بانفراد واحد من هذه المصادر فإذا كان البحر ذا إيقاع جميل وطروب وكانت القافية ثقيلة والموضوع معدوماً أو غير ذي أهمية لا نجد اللذة وكذلك مع البقية .. ولا تأتي اللذة بوجود البحر اللذيذ والقافية الرنانة والموضوع المثير مجتمعه أيضاً فقد نقرأ قصيدة إذا جاز التعبير لا تشبع حاجة النفس للغناء كأشعار المتون المنظومة وأشعار المناسبات الجماهيرية التقريرية .
ومن هنا نجد أن أهم مصدر هو التراكيب الفنية أو ما يسمى شعرية النص التي تنتج اللذة بمفردها كما يحدث في القصة والمقامة وقصيدة النثر ولكنها في العمود الشعري تخلق لذة وغنائية أكبر كما في هذا العمل الشعري الذي هو موضوعنا .
سوف نجد في هذا الديوان حياة وحركة وعالماً خاصاً سنجد حرفاً يخضر ورقاً يختال بوحاً موجوعاً وسماء مجروحة وشفة تغني بلا لغة ووقتاً مندلقاً على شرفة خرساء .. سوف نرى ما لا يرى ونسمع ما ليس يسمع سنتذوق طعم الحب ونسمع أنين الجراح ورياح الوجد ... إلى غير ذلك مما يجعلنا نشعربحلاوة التحليق في عالم جديد.
ومن خلال معرفتنا بماهية الشعرية وهي اختيار المفردة وتأليفها في تركيب نحوي منزاحة عن معناها اللغوي الأصلي فإننا سوف نقف عند بعض المواضع التي نجد عندها ما يدلل على وجود الشعرية بشتى مراتبها وصورها وسواء كان الانزياح مفرداً أو مركباً وسواء كان انزياح المفردة تحويل المعنوي إلى حسي أو العكس وسواء كانت المفردة المنزاحة أسماً أو فعلاً وسواء أتى الانزياح اعتياداً أو غريباً غامضاً ومعقداً وسواء كان مستهلكاً أو مبتكراً جديداً وسواء كانت التقنية البنائية عالية أو تقليدية ..إلخ.
ولا يجوز الحكم بعدم شعرية تركيبة فنية ذات استخدامات سابقة ومألوفة إذا أدخل الشاعر عليها تجديداً ما أو رؤية خاصة تختلف عما كانت عليه وصبغها بصبغة العصر ولا حكم على قدم المفردة وإنما الحكم على وضعها الانزياحي في التراكيب فمثلاً الشمس كانت توظف منزاحة للتعبير عن البهاء أو البياض في المرأة ولكنها في هذا العمل تبدو ذات وظيفة أخرى في المرأة .
هذا الظما سَورة الأنواء فاتنتي
أنا التراب و أنت الشمس والريح.