لغة الثورة أم ثورة اللغة في اللهب المقدس.. ملاحظات التداولية الإبداعية
خليفة بوجادي
|
مدخل: إن لغة قصيدة الثورة لغة ثائرة في بُناها وصيغها وتراكيبها، شأنـُها شأنُ الثورة الموضوع.. قبل البدء: I-تستند هذه المداخلة إلى أحد أشكال التداولية الحديثة، وهي التداولية الإبداعية بعيدا عن الحقيقية أو الافتراضية. ولقد نشأ البحث في قضايا التداولية(1) حديثا- من أفكار أوستين في كتابه المنشور في (1962) حين ميز بين نوعين من الملفوظات: الملفوظات الإخبارية الواقعية، التي تمثل حالات أشياء /حقيقية أو خاطئة/، والملفوظات الإنجازية التي ترتبط بشروط تحقيقها حين النطق بها؛ نحو قول رئيس جلسة: أعلن عن افتتاح الجلسة. وللتداولية أشكال ثلاثة في نظر الدارسين: أ-تداولية تظهر أساسا في الخطاب الحي؛ حين تتضح شروط نجاح الملفوظ وأدائه، وتلك هي التداولية الحقيقية[عبارة: الوالي أعلن عن افتتاح االملتقى، وأعدك بالحضور...]. ب-تداولية افتراضية؛ حين افتراض شروط لأداء خطاب محكي. ج-تداولية إبداعية؛ حين نكون أمام نص إبداعي، ونقف على الشروط المتوفرة في البنية أو ما يحيط بها لأداء النص بعدّه ملفوظا في فترة ما. II-تعتمد هذه المداخلة أيضا؛ ديوان اللهب المقدس لمفدي زكريا –رحمه الله- الذي يجمع شعره الثوري من سنة 1953 حتى سنة 1961، وهو واقع ثورة، وتاريخ حرب، وعصارة قلب شاعر "عاش أحداث بلاده في السجون والمعتقلات، وشهد رؤوس الفدائيين تحصد بالمقصلة الاستعمارية في ساحة سجن بربروس"(2)، وهو ديوان الثورة الجزائرية بواقعها الصريح وبطولاتها الأسطورية، وأحداثها الصارخة، وهو (شاشة تلفزيون) تبرز إرادة شعب استجاب له القدر"(3). ويعترف الشاعر في استهلال ديوانه بأنه لم يعن فيه بـ" الفن والصناعة عنايته بالتعبئة الثورية، وتصوير وجه الجزائر الحقيقي بريشة من عروق قلبي..."(4)، ذلك أن الشعر في نظره "إلهام لا فن، وعفوية لا صناعة"(5). III-إن ديوانا بهذه الخصائص الواقعية وبهذا الاعتراف الذي استهله به صاحبه، لجدير بدراسة تداولية؛ تقف على الشروط التي حققت ملفوظاته المختلفة، وعلى ما تحمله هذه الملفوظات من لمسات واقعها وأدائها.. وأعتقد أن ذلك مدخل ناجح لقراءة مضموناته، وتحديد مقولاته وربما كان جديرا بهذا المنهج دون غيره !. *ملاحظات في التداولية الإبداعية في (اللهب المقدس) 1-الملاحظة الأولى/ الأشكال الإقناعية في لغة اللهب المقدس:بدأ موضوع الإقناعية لدى الدارسين بدراسة الخطابة وما قد يلجأ إليه الخطيب من عناصر تؤثر على سامعيه وتجتذبهم. وسرعان ما انتقلت إلى ميدان الخطاب المختلفة، ودراسة ما تحمله الملفوظات من عناصر تهيمن على سلطة السامع وموقفه من الخطاب الموجه إليه. أما دراسة الإقناعية في تلقي الشعر فهي بحاجة إلى شيء من التدليل، هذا إلى جانب أن النص مكتوب غير ملفوظ، وبذلك فسيكون تتبع الأشكال الإقناعية مركزا على ما قد يعتري البنية من تحولات لغرض الإقناع والتأثير في السامع، ويتجلى ذلك بوضوح في كثير من قصائد (اللهب المقدس)، لا سيما أن صاحبه قدم له معترفا: "لم أعنَ في اللهب المقدس بالفن والصناعة عنايتي بالتعبئة الثورية"(1)، فالنص تأثيري في أساسه وإن كانت النصوص قلّما تقدّم هذا الجانب التأثيري على اختلاف درجات ذلك. وإن نصا يهدف إلى الإقناعية والتأثيرية المباشرة في السامع لا ينبغي أن يستغني عن التقريرية في بناه ولا عن الخطابية أيضا، لا سيما إذا كان السامع متفاوت المستويات.. وربما هذا هو سبب هيمنة التقريرية والخطابية التي طبعت قصائد عدة من الديوان، والتي كانت حديثا متداولا لدى النقاد الذين تناولوا شعر الثورة عموما، وشعر مفدي بشكل خاص.. ومن الأشكال الإقناعية في الديوان وبالتحديد في (من أعماق بربروس، نار ونور): *أن تعتمد لغة القصيدة على التبرير والتعليل لغرض إقناعي، نحو: ثورة لم تكن لبغي وظلم في بلاد ثارت تفك القيودا ثورة تملأ العوالم رعـبا وجهاد يذرو الطغاة حصيدا من قصيدة الذبيح الصاعد، المنظومة في مطلع الثورة (1955) والإقناعية فيها ضرورية لشرح حقيقة الثورة. وقوله في قصيدة (اقرأ كتابك) ذكرى نوفمبر 1958: وقل للجزائر واصغ إن ذكر اسمها تجد الجبابر سـاجدين وركـعا إن الجزائر في الوجود رســالة الـشعب حررها وربك وقـعا إن الجزائر قطعة قدســــية في الكون لحنها الرصاص ووقـعا وقصيدة أزلية أبياتها حمــراء كان لـــها نوفمبر مطــلعا وقوله: يا زبانا ويا رفاق زبـانا عشتم كالوجود، دهرا مديدا كل من في البلاد أضحى وتمنى بأن يموت شهيــدا والإقناعية ظاهرة في البيت الثاني؛ حيث تعدّد زبانا بعد موته، وصار رفاقه، بل كل من في البلاد هم (زبانا) لأن حالهم في طلب الشهادة، حالته حين مات شهيدا. *ومن أشكالها أيضا أن تعتمد المعجم الديني لغرض إقناعي غالبا؛ لما للدّين من تأثير في النفوس، وهو مدخل ناجح لإقناعها بما يبلّغه الشاعر.. ومن شواهد ذلك: -بنتَ الجزائر أهوى فيك طلعتها فكل ما فيك من أوصافها خُلق أحبها مثل حب الله أعبـدها آمـنت بالله، لا كفر ولا نزق -وتكلم الرشاش جل جلاله فاهتزت الدنيـا وضج النيّر وتنزلت آياتـه لهـّابـة لواحة أصغى لهـا المستهتر ومثل هذه الشواهد كثيرة في الديوان وتؤدي الوظيفة الإقناعية إلى جانب وظائف أخرى نحو: الإحالية مثلا. وإذا ما اعتددنا بهذا التخريج الإقناعي، نكون في غنى عن القراءات العديدة لهذه النصوص والتي جعلتها قرينة الغلوّ، والنزق الشعري، والتنطع غير المجدي... ومن ذلك قوله: رتلوها كصلاة الله خمسا ملئت طهرا وقدسا- واجعلوها لبناء المجد أسا وقوله: (ذكرى احتلال الجزائر 1959): أجهنم هذي التي أفــواهها من كـل فج نقمة تتفجر أم أرض ربك زلزلت زلـزالها ما طغى في أرضه المستعمر؟
وقوله (في ذكرى نوفمبر 1961): تباركتَ شهرا بالخوارق طافــحا وسبحان من بالشعب في ليله أسرى فكم كنتُ يا رحمن في الشك غارقا فـآمنت بالرحمن في الثورة الكبرى الملاحظة الثانية/ الوظيفة الإحالية في لغة اللهب المقدس: وهي من وظائف الملفوظ التي يؤديها حين أدائه؛ حيث يحيل إلى شروط إنجاحه في الواقع. ومن أشكالها في اللهب المقدس: * شواهد المعجم الديني المذكورة سابقا، وتؤدي هذه الوظيفة على مستويين: أ-ارتباط لغة الشاعر بلغة القرآن، وهي إحالة إلى القيمة المعرفية للشاعر، وإلى أن القرآن واقعها الذي تستند إليه؛ حيث تكون دعما ناجحا للوظيفة الإقناعية من هذه الناحية. ب-الواقع الحي للثورة؛ حيث إنها اعتمدت الدين ولم تهمله، الدين الذي كان واقعا في حياة الناس، على بساطتهم، على أمّيتهم، .. ومن ذلك كان منفذا ناجحا أيضا للثورة إلى نفوسهم، فآمنوا بها واعتنقوها. *ومما يؤدي هذه الوظيفة الإحالية أيضا، شواهد أخرى عن واقع الثورة الحي، نحو/ إن الصحائف للصفائح أمـرها والحبر حرب، والكلام كِلام عز المكاتب في الحياة كتـائب زحفت كأن جنودها الأعلام خير المحافل في الزمان جحافـل رفعت على وحداتها الأعلام لغة القنابل في البيان فصيحـة وضعت لمن في مسمعيه صمام ولوافح النيران خير لوائــح رفعت لـمن في ناظريه ركام
*وتؤدي هذه الوظيفةَ أيضا شواهدُ أخرى عن واقع الشاعر وجوّه النفسي نحو قوله (من قصيدة هروبه من السجن عام 1959): في الحنايا وسواد الليل قاتم مالت الأكوان سكرى ثملات أودعتها مهجة الأقدار سرا في الزوايا بين سهران ونائم ونجوم الليل حيرى حالمات ضارعات بث فيها الغيب أمرا ففي هذا المقطع خفوت وهمس؛ هو نفسه الواقع الحيّ الذي كان فيه الشاعر هاربا من السجن في همس، ووجل، وتنقل غير متواز. *تؤدي هذه الوظيفةَ أيضا، صيغُ الانفجار والصراخ؛ وهي السمة المسجلة على شعره لدى النقاد؛ حيث تشيع ألفاظ العنف والغلظة، وأجراس الصخب والانفجار، حتى لتبدو القصيدة وكأنها نظمت في ميدان المعارك، وألفاظها ذات أصداء فخمة، وذات هول، ظلالها دموية مرعبة، (رصاص، قصاص، نار، حرب، جحافل، بارود، ألغام..)، وفي ذلك إحالة إلى واقع الثورة وحالها، والشواهد الشعرية كثيرة، ومعظمنا يحفظها. منها قوله: هذا نوفمبر قم وحيي المدفعا واذكر جهادك والسنين الأربعا واقرأ كتابك للأنام مفـصلا تقرأ به الدنيا الحديث الأروعا واصدع بثورتك الزمان وأهله واقرع بدولتك الورى والمجمعا الملاحظة الثالثة/ البنية الإبداعية في لغة اللهب المقدس:تتضح في لغة الشاعر من خلال: *الصيغ القائمة على الاشتقاق والتجانس والتوليد والتساوق الإيقاعي؛ نحو/ إن كانت الحقائق أمس زبرجدا فاليوم حبات الرصاص العنبر أم أن مروحـة تعـد ذريعـة فاليـوم بالأرواح لا نـتأخر *هيمنة الأفعال الإنجازية دون الإخبارية عل القصائد نحو/ نطق، قضى، جرى، انطوى، زحفت، تدكّ... نحو قوله/ نطق الرصاص في يُباح كلام وجرى القصاص فما يتاح ملام فنطق، وجرى؛ فعلان إنجازيان يحددان التزاما واقعا، وهما ليسا إخباريين، فالنطق حاصل واقعا، وينبغي تتبع نتيجته.. وجريان القصاص حاصل واقعا وينبغي تتبع نتيجته.. هذا على جانب التساوق الإيقاعي الحاصل في البيتين من توالي تفعيلات المتقارب . *شيوع البنى الطلبية بشكل لافت في مجموع القصائد، بأساليب الأمر، والنهي، والاستفهام، ... وغيرها.. وتحيل الأساليب الإنشائية إلى الوجود الخارجي للموضوع، وهذا مما يدعم الوظيفة الإحالية المذكورة آنفا. *تهيمن على بنى القصائد الحروف ذات الوقع الشديد، العنيف، ووسائل النفي المختلفة، والصيغ التركيبية المتوازنة أحيانا بين الأبيات، والصيغ الصرفية ذات الدلالات الآنية نحو دلالة اسم الفاعل -مثلا- وشواهد ذلك كثيرة في القصائد. خلاصة: -قد ينصف كثيرا الدرس التداولي لغة قصائد مفدي زكريا في جانبها الخطابي والتقريري من جهة، وفي صراخها وصخبها من جهة ثانية. -كما أنه يجد تفسيرا مقبولا لما ذكره بعض النقاد من غلوّ الشاعر، في جوانب من لغته وصوره الشعرية.. وإن كان هذا البحث لا يعده كذلك، لأن/ *القصائد كتبت في واقع حي؛ في السجن، في صخب المعارك، وسط أخبار المواجهات، وفي وهج الثورة؛ فبنيتها الإبداعية وشعريتها عموما مرتبطة بهذا الواقع؛ فهي إذا لغة حية، لغة إنجازية، وليست لغة إخبارية، بالمفهوم التداولي.. والشاعر لم يكن يختلق كثيرا من تلك اللغة، بقدر ما كانت تمليه ظروف الأداء؛ دون أن يعدَم جانب الإبداع في شخصه. ولنا أن نلاحظ الفرق الكبير بين بنية الإلياذة وبنية اللهب المقدس، لاختلاف ظروف الإنجاز وشروط الأداء.
)أنظر: francois latraverse la pragmatique , histoire et critique, édit. Bruxelles, 1987. (2)خلف اللهب المقدس (3)لمحة المؤلف، اللهب المقدس، ص 4. و (5) ص نفسها. (1) المرجع نفسه، الشاهد نفسه. |