الدلالة ومرجعية الصورة في شعر البردوني.. الدكتور فايز الداية
يتطلع الكشف الدلالي في نقد الشعر إلى بلوغ مرتبة يتبين معها وعي الشاعر بالعالم من حوله وترتسم من خلال الكلمات الدوال رؤيته المتبلورة في مجمل الديوان، أو في الأعمال الشعرية الكاملة، وهذا ما يتيحه لنا ديوان عبدالله البردوني الثالث "مدينة الغد" الذي يجمع سمتين هامتين هما نضوج التجربة والأدوات لدى الشاعر، والإطار التاريخي للقصائد. فهي تدور في سنوات غليان الثورة وبحثها عن ملامحها وطريقها بعد انطلاقها في اليمن 1962م.
إن الكلمات هي الدوال التي تعكس العالم المادي والذهني والنفسي وعندما تبرز مجموعة منها مشكلة دائرة دلالية في زوايا محددة إنما تعطينا ما يدور في أعماق الشاعر وهي الهواجس التي تلح وتتفاعل في المواقف والمنحنيات وتتلمس مواطئ الخطوات، إن هذه الدوال المفاتيح هي بعض من المعجم الشعري الخاص لأنها غادرت فاعلية الدلالة العامة إلى دلالة تحمل إضافة من تكاملها وتبادل التأثير فيما بينها عبر قصائد الديوان، ولا شك أن قراءتنا ستجد تفسيراً أبعد مع كل وقفة للمفاتيح الدلالية، لأن تجاوب الأصداء سيتصاعد ما بين كيان الدائرة الكلي وهذا الموقع في القصيدة، وسيظل التلقي في إطار النص وعلاقاته أولاً على أن يتسع مفهوم النص لديوان الشاعر أو دواوينه.
أدى بنا استقراء ديوان "مدينة الغد" إلى رصد دائرتين دلاليتين تركزت كل منهما في بؤر دلالية تستغرق القصيدة ثم انداحت المفاتيح في القصائد الأخرى على شكل مقاطع أو ومضات، وهكذا يبدو جسم الدائرة في مجموعة المفاتيح الخاصة بها وفي انتشارها في أركان التجارب الشعرية، أما الأولى فهي دائرة "الولادة والخصب" والأخرى هي "دائرة المواسم والفصول".
ونحدد قبل الخوض في التفاصيل أن دراسة الصورة الفنية متداخلة على نحو عضوي بالدلالة ذلك أن الدوال المرصودة تعد إشارة إلى مرجعية الصورة، وفي الوقت نفسه ترتبط بمرجعية داخلية هي دلالة اختيار الشاعر للدائرة والأبعاد النفسية والفكرية فيها، وهنا يمتاز هذا اللون من الدرس النقدي بالحركة مع مساحات ووحدات تغني الصورة في سياقها وتنقل إليها شيئاً من سياق أوسع تلتحم به خاصة عند تداخل الدوائر الدلالية.
ولعل هذه الدراسة ترسم الخطوط في ديوان "مدينة الغد" أساساً لنظر شمولي في أعمال البردوني الشعرية يمتحن المشترك والمباين في دلالات الدائرتين.
الخصب في ولادة الوطن
يطل علينا الوطن/ اليمن في كل أرجاء دائرة "الولادة والخصب" في ديوان مدينة الغد، فالتجدد مطمح مع الولادة التي تتنامى أجيالاً مع اليوم الآتي، وكأن الأمل يداعب النفوس بوجوه تحمل من دفء الشمس وضيائها ما يبدد ضياعاً أحاط بالجبال رغم شموخها، ويكتسب هؤلاء الآتون روح الحضارة في شرايين الوطن الغائرة فتتحول أزهاراً تغسل مرارة العقم الذي يغير ويبغي الوقوف باباً موصداً في وجه التاريخ.
وقد استطاع البردوني بهذا الربط بين الوطن ودلالات الولادة والخصب أن ينقل القضية إلى إطار حتمي الانتصار، فلا تستطيع قوى الطغيان أن تقف في وجه هذا السر الذي منحه الخالق للبشر، فهذه المواجهة مع ظلمة التخلف وخفوت صوت الإنسان قد تتعثر ولكنها ستمنع يوماً جمرة الخلاص، وقد تبدت رابطة الدم فريدة في هذه الدائرة لأنها، في حلمها- وحدت الأبناء في كنف أم هي الأرض وإهاب الوطن غدا جامعاً أكبر من إطار الأسرة الصغيرة والروابط الخاصة، وجوهر الخصب يكمن في الائتلاف لا تباين معه الوديان ولا الجبال وتجدل الأصوات نغماً واحداً.
امتدت هذه الدائرة في ثلاث عشرة قصيدة إضافة إلى فاتحة الديوان الذي بلغت قصائده (45) خمسة وأربعين: مدينة الغد، اليوم الحنين، صديق الرياح، كانت وكان، وراء الرياح، أم يعرب، كلمة كل نهار، أم في رحلة، ذات يوم، نحن أعداؤنا، من رحلة الطاحونة إلى الميلاد الثاني، حكاية سفين، كاهن الحرف" وانتشرت مفاتيح الدائرة وكان ترددها (62) اثنتين وستين مرة في البؤر والمقاطع والومضان ونستطيع إدراجها في عدد من الحزم الدالة فنجداً أولاً إلحاحاً على المصدر "الميلاد" وما يتفرع منه اشتقاقاً إضافة إلى "الأم" وليد، مولود، ولدنا، ولد، ولادة، استولد، تلد، يولد، أولاد، الميلاد، أم، أمي، أم يعرب" وينضم كذلك إلى هذه الحزمة "الجنين" أجنة، تحبل، الحبالى، الحمل، تجبه، إخصاب"، ونلحظ حضور الأفعال والتركيز على الحدث الرئيسي الولادة بعد الحالة الجنينية ولا يغيب عنا ترميز امتداد الأرض ومما تحمل من أبناء الوطن الذين يتخلق من جموعهم الوليد القادم، وهنا ننتقل إلى الحزمة الثانية التي تتابع مرحلة تالية للوالدة" مرضع، يرضع، أرضعه، رضاعته، رضعناه، رضيع، أثداؤها، الحاضنات، حليبي، المهد" وفي الحزمة الثالثة ينمو المشهد "طفل، طفولة، أطفالي،ابني، صبي" ونشير إلى النقيض أو السلب في هذه الدائرة ونذكر مفتاحين هما "العقيم وتخدج".
وتبدو لنا حال التماهي بين الإنسان والوطن في تبادل الأدوار تبعاً لأطوار الطبيعية التي تجعل الوالدين في رعاية الابن يحنو عليهما متذكراً تواصلاً له مع الدنيا من خلالهما عندما درج على الأرض، إن مفهوم الأسرة الكامن في أثناء هذه الدائرة الدلالية يتجلى في موقع يبحث فيه الشاعر عن "حلم الوطن" الآتي وهنا يتحول إلى الراعي الذي يتكفل بذاك الوليد لتنهض أيام جديدة في اليمن وتشع عليها من العمق إضاءة من الثقافة القرآنية "واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا".
وواد يصيخ إلى
تباشيره اللّمعِ
فأحلم أن الجنين
وليد بلا مرضع
فألوي زنود الحنان
على خصره الطيع
ويحبو على ساعدي
فأرضعه أدمعي
أمد له سلما
إلى النور من أضلعي
وأشدو لميلاده
ويصغي بلا مسمعِ
ويؤكد هذا التصور لدى البردوني ما جاء في قصائد أخرى تتوزع الديوان فهو يجمع الوجهين معاً، وقلبه مفعم بأمل يستل من حنايا هذه الهضاب وتلك الروابي ويظل الإحساس بالتاريخ منفتحاً على الأفق وليس انغلاقا ماضياً.
وها هنا غمغم التاريخ أين أنا
من قائد الزحف سيف الله أو عمرُ!
ماذا هنا اليوم يادنيا؟ هنا يمن
طفل على شفتيه يبسم الظفر
وتردد كلمات أخرى التواصل المأمول بين "العجوز" و "الحنين".
ولمن ألحن هجعة الأشباح
والرعب الدفين؟
لمواكب التاريخ يرويها
الأمين عن الأمين
ولأمي اليمن العجو
زولا بني اليمن الجنين
وعندما يرقب تسلسل الأحداث وإرهاصات الثورة في محاولات انبثقت من بين الصخور الصلدة نراه يوازي بين انفجار يغير مساراً غارقاً في التيه والولادة التي تنداح أمامها دنيا بريئة ونقية تسطر عليها خطوات الحلم على الأرض:
وإلى العشي تعاقدا
واستبطأ سير الثواني
أيكون مستشفى الحديد ة
مولد الفجر اليماني؟
إن بوصلة ذاك النور الكامن هي سر الولادة لذلك يميز البردوني الومضة الخلبية التي لا غيث من ورائها، بل إنها تبلغ حد الخديعة لأعين طال انتظارها وشفاه ظمأى، ونسمع شكوى الشاعر، من أولئك الذين كانوا عذاب الوطن والسياط التي أدمت الأجساد، والسلطة الغاشمة وإننا نجد ما نسميه الولادة النقيض:
من عهد من ولدوا بلا
سبب وماتوا دون غاية
المسبلين على الذئاب
البيض أجنحة الرعاية
الناسجين عروقهم
لمواكب الطاعون راية
وقد يكون تجار الحروب أشق وأكثر دماراً لبنية البلاد وهي تتلمس طريق الغد.
إن تجربة الثورة شهدت عثرات كادت تعود بها القهقري كما حدث في المحاولات الأولى المأساوية سنة 1948م، لذلك تزاحم الصورة المشوهة أطيافاً واعدة:
على اسم الجنيهات والأسلحة
يتاجر بالموت كي يربحه
أينسى عراقته أنه
أبو الحرب طفلها الأول
وما زال تنجبه كل يوم
(بسوس) وأخرى به تحبل
وعادت كما بدأت غيمة
توشي بوارقها الخلبا
وتفرغ أثداءها في الرمال
وتهوي تحاول أن تشربا
لكننا نلحظ أن التفاؤل ظلت له السيادة، ففي نهاية قصيدة "حكاية سنين" التي روي فيها البردوني وقائع الوطن والزمن، تبزغ حقيقة هي توحد ولادة الخصب في الأرض وفوق المسالك بأنفاس زكية ودماء طهرت الآفاق، وامتزجت تربة غالية فلا ندري ملامح دفق الدماء من قطرات الندى فالكل تلفه كلمة الحب وهمةٌ فيها من الشمس وعد الحصاد:
أَوَ ما رأى الشهداء كيف
أخضوضرت بهم الفصول
فرشوا السعيدة بالربيع
ليهنأ الصيف البذول
ومضوا لوجهتهم ويبقى
الخصب إن مضت السيول
الواقع والرمز في دائرة
تستوقفنا قصيدة "أم في رحلة" لأنها تبدو واقعية مما يجري في جنبات الحياة اليومية، ونحن نتابع لهفة أم بعيدة عن أولادها في رحلة، وذلك عندما تصادف طفلا مع والده، فلماذا غايرت هذه الوقفة ما نراه في دائرة الولادة من اتخاذها المجاز والرمز سبيلا تعبيريا؟ إن كل المواقع والمفاتيح الدلالية كانت أداة تصويرية تحمل نفثات وهواجس ورؤى إلى التجربة في القصيدة التي تدخل في نسيجها.
رغب البردوني أن يمشي على الأرض مع كلماته بيننا ثم ينشر خفقات على امتداد الديار وبعدها تحلق الرموز عالياً، ولعلنا لا نبعد عندما نرى هذه القصيدة مشهداً محسوساً قريبا يعمق ما كان يذهب إليه الشاعر في أركان الديوان من رموز فتغدو كائنات من لحم ودم!.
شكل حلو ما أجمله
كالطيف كأطيار الوادي
كالحب كدغدغة الذكرى
كالحلم كهمس الميعاد
أشتم حليبي في فمه
قبلاتي أنفاس بلادي
وتمد إليَّ ملامحه
فرحي وعذاب الميلاد
زهوي بالحمل كجاراتي
صرخات المهد وإجهادي
وتخرج هذه الأم من حالتها الفردية إلى شمول يضم الجميع وهنا تقصد الوطن بحسب أنفاس الحديث ومفاتيحه الدلالية، ونتابع الحوار بين والد الطفل الذي يحمل عبر اسمه سلسلة الأجيال وبين هذه المرأة/ الأم:
ما اسم المحروس؟ أجب يا بني:
(نعمان) كجد الأجداد
أتحبين ابني؟ كل ابن
في الأرض وكل الأحفاد
عفواً، ياعم أنا أم
أولاد الغير كأولادي
ونلحظ الأسلوب الحواري الموجز والذي تحرر من (قلت، قالت، قال، فجاءت الجمل باترة محددة هدفها بتركيز وإن يكن بحاجة إلى دربة القراءة لتحقيق المعايشة.
وإثر الجولة الأرضية رأينا الشاعر تنفتح بصيرته وتضم في حناياها كل أبناء اليمن، وقد تكون معرفتنا بأحوال البردوني الشخصية مثار شجن إنساني، فقد برهن على التعالي الذي بلغ به درجة رفيعة من التواصل مع الآخرين ومع القضية الكبرى التي ترسم أحلام بلده، كان البردوني محروماً من الإنجاب لكن الخصب الذي تغنى به، وأرسل كلماته تبشر به أعطاه فوق ما يعطي الأبناء، وقد أطلق في هذه القصيدة شيئاً مما في نفسه على لسان والد الطفل "نعمان".
لا تأسي يا بنتي إني
سافرت العمر بلا زاد
خضت الخمسين بلا ولد
يرجى وبلا أمل حادي
وكذلك فيما نرى كانت كلمات هذه المرأة بعضا من كلمات تضج في أعماق الشاعر "أولاد الغير كأولادي"!.
وهنا نستطيع أن نؤكد ما يعطيه التحليل الدلالي في تجاوب الأصداء ضمن الدائرة الدلالية، فالبردوني في سعي لتكبر الأسرة في الوطن يقدم ما قدر له أن تمتلكه الكلمة وألواناً من الفن:
ماذلك الحمل الذي يحتسي
خفقي ويعصى ذاهلاً أو يطيع
يشدو فترتد ليالي الصبا
فجراً عنيداً أو أصيلاً وديع
وتحبل الأطياف تجني الرؤى
ويولد الآتي ويحيا الصريع
فتبتدي الأشتات في أحرفي
ولادة فرحى وحملا وديع
ومن اللفتات الآسرة ذاك الحزن الذي يزحف من كل الأطراف لكنه لا يتمكن من سد المنافذ أمام رغبة عارمة في العطاء، ونلحظ الخيوط تربط مظاهر الطبيعة وسر الولادة السحري.
تقولين لي، أين بيتي؟ مزاح؟
من النار زاد رمادي جراح
وراء النوى حيث لا برعم
جنين ولا موعد من جناح
أموت واستولد الأغنيات
وأبذلها للبلى في سماح
المواسم والفصول
انتشرت دائرة المواسم والفصول في إحدى وأربعين قصيدة من قصائد ديوان "مدينة الغد" البالغة خمساً وأربعين وتوزعت المفاتيح الدلالية مترددة (226) مرة، وبهذا تشكل ظاهرة دلالية تعين على ولوج رؤى الشاعر البردوني ونلحظ أن عدداً من القصائد تعد بؤراً تركزت فيها المفاتيح "أسمار القرية، أصيل القرية، نهاية حسناء ريفية، فارس الاصطياف، صديق الرياح، وراء الرياح" وندرك عودة إلى الأرض مصدراً للخصب ومثاراً لإشكالات تحيط بها وبأهلها، ولا تغيب إشارة الحضور المكثف للرياح.
1- نبدأ متابعتنا للحزم الدلالية فنجد علامات الفصول التي تبني هيكل الحياة وبمقدار تباين ألوانها وقسماتها تظل الشرايين موصلة بينها، وثمة حبل سري يبلغ الجنين المرتقب لحظة التلاقي مع المستقبل:
"الصيف، صيفي، مصيف، أصياف، صيفية، الربيع، ربيعاً، نيسان، الشتاء، أشتَتْ، ثلج، ثلوج، ثلجية، الخريف، خريفي، سبتمبر، برق: الأمطار".
وإذا عدنا إلى عناوين بعض القصائد اتضح الانشغال بدوار الزمن فالشاعر مهموم برقاد يهيمن؛ ولذلك يملأ الأجواء مستحضراً الحقيقة الحاضرة الغائبة عن الأهل في الوطن، إ الدنيا تسافر وتعبر القرون فكيف يكون ثمة نهوض ومشاركة في الوجود!! مدينة الغد، كلمة كل نهار، ذات يوم، سيرة للأيام، حكاية سنين، من رحلة الطاحونة إلى الميلاد الثاني، وهكذا تتسع المساحة الدلالية لهذه المفاتيح لأكثر من تحديد لدوران الفصول الفلكية، ونسمع كلمات تهفو إلى "مدينة الغد".
ذات يوم ستشرقين بلا وعد
تعيدين للهشيم النضارة
تزرعين الحنان في كل واد
وطريق في كل سوق وحاره
في الروابي حتى يعي كل تل
ضجر الكهف واصطبار المغارة
سوف تأتين كالنبوءات كالأمطار
كالصيف كانثيال الغضارة
وتصوغين عالما تثمر الكثبان
فيه ترف حتى الحجارة
لخطاه عبير نيسان أو
شذى لتحديقه أجد إناره
2-وأما الحزمة الدلالية الثانية فتغوص وراء ينبوع الخصب، تبدأ بالخضرة وتتابع الأفعال التي ينبض معها الموسم.
"الخضرة، اخضوضر، اخضرار، يخضر، الخضر، أخضر، الخضراء، إخصاب الخصب، خصيبة، النبع، الزرع، الزروع، أزرع، زرعت، مزارع، مزرعة، الحصيد، الحصاد، يقتطف، القطاف، القطاف، الغلال، البيادر، الحقول، حقلاً، الثمر، الجنى، ثمار، الكرم، كرمة، كروم، الدوالي، الداليات، شجر، الرمان، عناقيد البلح".
وسوف تختلف نظرة المتلقي إلى هذه المفاتيح عندما يجد أناه يتصدر عن موقع في الأعماق حيث يصطبغ الدم بذرات التراب ويتصاعد التكوين في وجوه تدرج وخضرة تشع لوناً يقهر الجدب والعقم، وإن اشتباك الدائرتين الدلاليتين يكسر حواف الدلالات السطحية في قراءة عابرة لمشاهد البيعة والتغني بالجمال أو الحنين إلى الرومانسية:
سل الرياح هل لها
خلف الرؤى توهج
هناك ذر برعم
فأوما التأرج
إلى نهود هضبة
يحيلها الترجرج
هناك نبض مولد
يريبه التحرج
وكرمة عيونها
أحلام أنثى تزوج
ومنحنى يخضر في
حروفه التهدج
وواحة حبلى تعي
متى وكيف تنتج
3- ويبدو مسرح الأحداث في الحزمة الثالثة حيث تتوالى المفاتيح: "مرعى، المرتع، المراتع، الربا، رواب، السهوب، القرى، الوادي، روضة، ربوة، الريف، جنة، واحة، السهول".
4- وفي الحزمة الرابعة نلحظ مفاتيح تبرز ملامح الجمال لكنه جمال يتأدى إلى الثمار في طرف منه، وكمنت في طرف آخر طاقة الفعل وهذه هي الإضافة الدلالية لدى البردوني التي ساعدته على إبرازها جرأته اللغوية في الاشتقاق وتصريف الكلمات:
"الورود، خميلة، الزنبق، زنبقي، أفواف البنفسج، الياسمين، الزهر، الجلنار، الصفصاف، شذا، عبير، أشذى، أفنان، الغصون، برعم، عرار".
ولقد لفت البردوني الانتباه عندما أورد "أشذى، يزنبق، تزنبق، تندى، ينرجس، تعنقده، تسنبله، أجنت له" فالفعل إنما ينبثق من الكائنات!! وترن الأوتار مذكرة بمسارب إلى دائرة الخصب والولادة وبوابات تشرع أمام أحلام الوطن.
هل تحس الحقول ماسر نسيانَ
ومن أين عاد يهمي اخضرارا
كيف أصغت إليه، هل ضج- يا أشواك
موتى- وبارك (الجلنارا)
أي فصل من الفصول التوالي
أسكت البوم واستعاد الهزارا؟
فعلى الجبال من اسمه
شعل مجنحة تجول
وصدى تعقده الربا
وهوى تسنبله الحقول
ولعل النظرة المكتملة تتجلى مع النقيض "أشواك، هشيم الغصون، عوسج، جدبي".
5- تتردد في الحزمة الخامسة ثلاثة مفاتيح "الريح، الرياح، الأرياح" أربعاً وأربعين مرة، وتضاف إليها عشر مرات مع المفاتيح "الأهوية، عاصف، عاصفة، عاصفات، العواصف، زوبعة، الإعصار" لا يحدد الشاعر لونا واحداً لهذه المفاتيح وإنما نجدها تتحرك مع الأطوار المختلفة وفيها الخطر ونذر الهلاك وفيها عون للإنسان في سعيه على الأرض، ويبقى التساؤل عن هذا الإلحاح والحضور الذي لم تكد تخلو منه قصيدة لهذه الدائرة،إننا نشعر بقاسم مشترك هو علامة على حركة الزمن ومؤشر للتحولات أو هو نبض الحيوية في كل توجهاتها ودفق يدفع بالدماء في الشرايين والأوردة على حد سواء.
فمن المشاهد القائمة الحزينة ما آلت إليه ثورة 1948م بعد تباشير الخلاص، لقد كانت الريح بعضاً من علامات دمار لم يترك إلا الحطام:
وانثال أسبوع تزف
عرائس الفجر اخضراره
وتلاه ثان لحنت
بشراه أعراق الحجارة
حشد الخريف إزاءه
همجية الريح المثارة
وتلاقت الفلوات حو
ليه وأشعلت الإغارة
وفي مشهد آخر تسهم الريح في إزاحة خطر داهم لنكتشف الداء الحقيقي في واحد من منعطفات مسار البلاد.
وليس عدانا وراء الحدود
ولكن عدانا وراء الضلوع
فقد جلت الريح ذاك الجراد
فكنا جراداً وكنا الزروع
وأما المشهد الثالث فقد يبدو مفاجئاً لأن البردوني جعل الريح تتماهى مع الإنسان في حالة غربة، وتجلت حركتها بين البقاع انقطاعاً من مصادرها ومولدها، وموضع ائتلافها مع محيطها!!.
وورائي ذكرى تعض يديها
وأمامي طيف كوحش خرافي
من رآني من أين جئت وأمضي
كالصدا كاغتراب ريح الفيافي
والذي كان منزلي قبل حين
جئته فاستحال منفى المنافي
6- وثمة حزمة رصدنا عدداً من مفاتيحها وتحتاج إلى المزيد من الاستقصاء فقد أخذنا ما كان أقرب إلى حيوية هذه الدائرة الدلالية: "البلابل، العندليب، أغرودة، العصافير، طائر، طيور،أطيار، عصفور، جناح، هدهد، بوم".
رحلة الصورة بين الدوائر
كان الشاعر البردوني يضم تلك المفاتيح في الدائرتين ويفتن في تركيب أطياف صوره، فهو يخترق الحواجز حاملاً بردة يمنحها لهذا الإنسان سواء في وقفة ذاتية له أو في حشد يسير على الدرب الصاعد إلى قمة يستشرف مسار الشمس، وهنا تغدو ألوان المفاتيح دليل الهوية، فالخصب عنوان والخضرة تنشق لها الأرض، وبهذا التلاقي بين الولادة والمواسم ندرك مدى إيمان الشاعر بانتفاض المارد من هذه النفوس تحملها أجساد نال منها تعب القرون.
نقرأ مناجاة رقيقة لكنها تضم بين جوانبها إشارات تذهب إلى ذاك الخزان في عمق يحفظ نبض الدار والأرض.
من أين تهمسين لي
فستعيد الأهويةْ
من أين أنني علي
أيدي الظنون ألهية
من حيث لا أعي ولا
تدرين أي أحجيهْ
وتهمسين لي كما
يندي اخضرار الأودية
كما تبوح جنة
حبلى بأسخى الأعطية
(مجلة الكويت العدد 227 الصادر في 1سبتمبر2002)
يتطلع الكشف الدلالي في نقد الشعر إلى بلوغ مرتبة يتبين معها وعي الشاعر بالعالم من حوله وترتسم من خلال الكلمات الدوال رؤيته المتبلورة في مجمل الديوان، أو في الأعمال الشعرية الكاملة، وهذا ما يتيحه لنا ديوان عبدالله البردوني الثالث "مدينة الغد" الذي يجمع سمتين هامتين هما نضوج التجربة والأدوات لدى الشاعر، والإطار التاريخي للقصائد. فهي تدور في سنوات غليان الثورة وبحثها عن ملامحها وطريقها بعد انطلاقها في اليمن 1962م.
إن الكلمات هي الدوال التي تعكس العالم المادي والذهني والنفسي وعندما تبرز مجموعة منها مشكلة دائرة دلالية في زوايا محددة إنما تعطينا ما يدور في أعماق الشاعر وهي الهواجس التي تلح وتتفاعل في المواقف والمنحنيات وتتلمس مواطئ الخطوات، إن هذه الدوال المفاتيح هي بعض من المعجم الشعري الخاص لأنها غادرت فاعلية الدلالة العامة إلى دلالة تحمل إضافة من تكاملها وتبادل التأثير فيما بينها عبر قصائد الديوان، ولا شك أن قراءتنا ستجد تفسيراً أبعد مع كل وقفة للمفاتيح الدلالية، لأن تجاوب الأصداء سيتصاعد ما بين كيان الدائرة الكلي وهذا الموقع في القصيدة، وسيظل التلقي في إطار النص وعلاقاته أولاً على أن يتسع مفهوم النص لديوان الشاعر أو دواوينه.
أدى بنا استقراء ديوان "مدينة الغد" إلى رصد دائرتين دلاليتين تركزت كل منهما في بؤر دلالية تستغرق القصيدة ثم انداحت المفاتيح في القصائد الأخرى على شكل مقاطع أو ومضات، وهكذا يبدو جسم الدائرة في مجموعة المفاتيح الخاصة بها وفي انتشارها في أركان التجارب الشعرية، أما الأولى فهي دائرة "الولادة والخصب" والأخرى هي "دائرة المواسم والفصول".
ونحدد قبل الخوض في التفاصيل أن دراسة الصورة الفنية متداخلة على نحو عضوي بالدلالة ذلك أن الدوال المرصودة تعد إشارة إلى مرجعية الصورة، وفي الوقت نفسه ترتبط بمرجعية داخلية هي دلالة اختيار الشاعر للدائرة والأبعاد النفسية والفكرية فيها، وهنا يمتاز هذا اللون من الدرس النقدي بالحركة مع مساحات ووحدات تغني الصورة في سياقها وتنقل إليها شيئاً من سياق أوسع تلتحم به خاصة عند تداخل الدوائر الدلالية.
ولعل هذه الدراسة ترسم الخطوط في ديوان "مدينة الغد" أساساً لنظر شمولي في أعمال البردوني الشعرية يمتحن المشترك والمباين في دلالات الدائرتين.
الخصب في ولادة الوطن
يطل علينا الوطن/ اليمن في كل أرجاء دائرة "الولادة والخصب" في ديوان مدينة الغد، فالتجدد مطمح مع الولادة التي تتنامى أجيالاً مع اليوم الآتي، وكأن الأمل يداعب النفوس بوجوه تحمل من دفء الشمس وضيائها ما يبدد ضياعاً أحاط بالجبال رغم شموخها، ويكتسب هؤلاء الآتون روح الحضارة في شرايين الوطن الغائرة فتتحول أزهاراً تغسل مرارة العقم الذي يغير ويبغي الوقوف باباً موصداً في وجه التاريخ.
وقد استطاع البردوني بهذا الربط بين الوطن ودلالات الولادة والخصب أن ينقل القضية إلى إطار حتمي الانتصار، فلا تستطيع قوى الطغيان أن تقف في وجه هذا السر الذي منحه الخالق للبشر، فهذه المواجهة مع ظلمة التخلف وخفوت صوت الإنسان قد تتعثر ولكنها ستمنع يوماً جمرة الخلاص، وقد تبدت رابطة الدم فريدة في هذه الدائرة لأنها، في حلمها- وحدت الأبناء في كنف أم هي الأرض وإهاب الوطن غدا جامعاً أكبر من إطار الأسرة الصغيرة والروابط الخاصة، وجوهر الخصب يكمن في الائتلاف لا تباين معه الوديان ولا الجبال وتجدل الأصوات نغماً واحداً.
امتدت هذه الدائرة في ثلاث عشرة قصيدة إضافة إلى فاتحة الديوان الذي بلغت قصائده (45) خمسة وأربعين: مدينة الغد، اليوم الحنين، صديق الرياح، كانت وكان، وراء الرياح، أم يعرب، كلمة كل نهار، أم في رحلة، ذات يوم، نحن أعداؤنا، من رحلة الطاحونة إلى الميلاد الثاني، حكاية سفين، كاهن الحرف" وانتشرت مفاتيح الدائرة وكان ترددها (62) اثنتين وستين مرة في البؤر والمقاطع والومضان ونستطيع إدراجها في عدد من الحزم الدالة فنجداً أولاً إلحاحاً على المصدر "الميلاد" وما يتفرع منه اشتقاقاً إضافة إلى "الأم" وليد، مولود، ولدنا، ولد، ولادة، استولد، تلد، يولد، أولاد، الميلاد، أم، أمي، أم يعرب" وينضم كذلك إلى هذه الحزمة "الجنين" أجنة، تحبل، الحبالى، الحمل، تجبه، إخصاب"، ونلحظ حضور الأفعال والتركيز على الحدث الرئيسي الولادة بعد الحالة الجنينية ولا يغيب عنا ترميز امتداد الأرض ومما تحمل من أبناء الوطن الذين يتخلق من جموعهم الوليد القادم، وهنا ننتقل إلى الحزمة الثانية التي تتابع مرحلة تالية للوالدة" مرضع، يرضع، أرضعه، رضاعته، رضعناه، رضيع، أثداؤها، الحاضنات، حليبي، المهد" وفي الحزمة الثالثة ينمو المشهد "طفل، طفولة، أطفالي،ابني، صبي" ونشير إلى النقيض أو السلب في هذه الدائرة ونذكر مفتاحين هما "العقيم وتخدج".
وتبدو لنا حال التماهي بين الإنسان والوطن في تبادل الأدوار تبعاً لأطوار الطبيعية التي تجعل الوالدين في رعاية الابن يحنو عليهما متذكراً تواصلاً له مع الدنيا من خلالهما عندما درج على الأرض، إن مفهوم الأسرة الكامن في أثناء هذه الدائرة الدلالية يتجلى في موقع يبحث فيه الشاعر عن "حلم الوطن" الآتي وهنا يتحول إلى الراعي الذي يتكفل بذاك الوليد لتنهض أيام جديدة في اليمن وتشع عليها من العمق إضاءة من الثقافة القرآنية "واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا".
وواد يصيخ إلى
تباشيره اللّمعِ
فأحلم أن الجنين
وليد بلا مرضع
فألوي زنود الحنان
على خصره الطيع
ويحبو على ساعدي
فأرضعه أدمعي
أمد له سلما
إلى النور من أضلعي
وأشدو لميلاده
ويصغي بلا مسمعِ
ويؤكد هذا التصور لدى البردوني ما جاء في قصائد أخرى تتوزع الديوان فهو يجمع الوجهين معاً، وقلبه مفعم بأمل يستل من حنايا هذه الهضاب وتلك الروابي ويظل الإحساس بالتاريخ منفتحاً على الأفق وليس انغلاقا ماضياً.
وها هنا غمغم التاريخ أين أنا
من قائد الزحف سيف الله أو عمرُ!
ماذا هنا اليوم يادنيا؟ هنا يمن
طفل على شفتيه يبسم الظفر
وتردد كلمات أخرى التواصل المأمول بين "العجوز" و "الحنين".
ولمن ألحن هجعة الأشباح
والرعب الدفين؟
لمواكب التاريخ يرويها
الأمين عن الأمين
ولأمي اليمن العجو
زولا بني اليمن الجنين
وعندما يرقب تسلسل الأحداث وإرهاصات الثورة في محاولات انبثقت من بين الصخور الصلدة نراه يوازي بين انفجار يغير مساراً غارقاً في التيه والولادة التي تنداح أمامها دنيا بريئة ونقية تسطر عليها خطوات الحلم على الأرض:
وإلى العشي تعاقدا
واستبطأ سير الثواني
أيكون مستشفى الحديد ة
مولد الفجر اليماني؟
إن بوصلة ذاك النور الكامن هي سر الولادة لذلك يميز البردوني الومضة الخلبية التي لا غيث من ورائها، بل إنها تبلغ حد الخديعة لأعين طال انتظارها وشفاه ظمأى، ونسمع شكوى الشاعر، من أولئك الذين كانوا عذاب الوطن والسياط التي أدمت الأجساد، والسلطة الغاشمة وإننا نجد ما نسميه الولادة النقيض:
من عهد من ولدوا بلا
سبب وماتوا دون غاية
المسبلين على الذئاب
البيض أجنحة الرعاية
الناسجين عروقهم
لمواكب الطاعون راية
وقد يكون تجار الحروب أشق وأكثر دماراً لبنية البلاد وهي تتلمس طريق الغد.
إن تجربة الثورة شهدت عثرات كادت تعود بها القهقري كما حدث في المحاولات الأولى المأساوية سنة 1948م، لذلك تزاحم الصورة المشوهة أطيافاً واعدة:
على اسم الجنيهات والأسلحة
يتاجر بالموت كي يربحه
أينسى عراقته أنه
أبو الحرب طفلها الأول
وما زال تنجبه كل يوم
(بسوس) وأخرى به تحبل
وعادت كما بدأت غيمة
توشي بوارقها الخلبا
وتفرغ أثداءها في الرمال
وتهوي تحاول أن تشربا
لكننا نلحظ أن التفاؤل ظلت له السيادة، ففي نهاية قصيدة "حكاية سنين" التي روي فيها البردوني وقائع الوطن والزمن، تبزغ حقيقة هي توحد ولادة الخصب في الأرض وفوق المسالك بأنفاس زكية ودماء طهرت الآفاق، وامتزجت تربة غالية فلا ندري ملامح دفق الدماء من قطرات الندى فالكل تلفه كلمة الحب وهمةٌ فيها من الشمس وعد الحصاد:
أَوَ ما رأى الشهداء كيف
أخضوضرت بهم الفصول
فرشوا السعيدة بالربيع
ليهنأ الصيف البذول
ومضوا لوجهتهم ويبقى
الخصب إن مضت السيول
الواقع والرمز في دائرة
تستوقفنا قصيدة "أم في رحلة" لأنها تبدو واقعية مما يجري في جنبات الحياة اليومية، ونحن نتابع لهفة أم بعيدة عن أولادها في رحلة، وذلك عندما تصادف طفلا مع والده، فلماذا غايرت هذه الوقفة ما نراه في دائرة الولادة من اتخاذها المجاز والرمز سبيلا تعبيريا؟ إن كل المواقع والمفاتيح الدلالية كانت أداة تصويرية تحمل نفثات وهواجس ورؤى إلى التجربة في القصيدة التي تدخل في نسيجها.
رغب البردوني أن يمشي على الأرض مع كلماته بيننا ثم ينشر خفقات على امتداد الديار وبعدها تحلق الرموز عالياً، ولعلنا لا نبعد عندما نرى هذه القصيدة مشهداً محسوساً قريبا يعمق ما كان يذهب إليه الشاعر في أركان الديوان من رموز فتغدو كائنات من لحم ودم!.
شكل حلو ما أجمله
كالطيف كأطيار الوادي
كالحب كدغدغة الذكرى
كالحلم كهمس الميعاد
أشتم حليبي في فمه
قبلاتي أنفاس بلادي
وتمد إليَّ ملامحه
فرحي وعذاب الميلاد
زهوي بالحمل كجاراتي
صرخات المهد وإجهادي
وتخرج هذه الأم من حالتها الفردية إلى شمول يضم الجميع وهنا تقصد الوطن بحسب أنفاس الحديث ومفاتيحه الدلالية، ونتابع الحوار بين والد الطفل الذي يحمل عبر اسمه سلسلة الأجيال وبين هذه المرأة/ الأم:
ما اسم المحروس؟ أجب يا بني:
(نعمان) كجد الأجداد
أتحبين ابني؟ كل ابن
في الأرض وكل الأحفاد
عفواً، ياعم أنا أم
أولاد الغير كأولادي
ونلحظ الأسلوب الحواري الموجز والذي تحرر من (قلت، قالت، قال، فجاءت الجمل باترة محددة هدفها بتركيز وإن يكن بحاجة إلى دربة القراءة لتحقيق المعايشة.
وإثر الجولة الأرضية رأينا الشاعر تنفتح بصيرته وتضم في حناياها كل أبناء اليمن، وقد تكون معرفتنا بأحوال البردوني الشخصية مثار شجن إنساني، فقد برهن على التعالي الذي بلغ به درجة رفيعة من التواصل مع الآخرين ومع القضية الكبرى التي ترسم أحلام بلده، كان البردوني محروماً من الإنجاب لكن الخصب الذي تغنى به، وأرسل كلماته تبشر به أعطاه فوق ما يعطي الأبناء، وقد أطلق في هذه القصيدة شيئاً مما في نفسه على لسان والد الطفل "نعمان".
لا تأسي يا بنتي إني
سافرت العمر بلا زاد
خضت الخمسين بلا ولد
يرجى وبلا أمل حادي
وكذلك فيما نرى كانت كلمات هذه المرأة بعضا من كلمات تضج في أعماق الشاعر "أولاد الغير كأولادي"!.
وهنا نستطيع أن نؤكد ما يعطيه التحليل الدلالي في تجاوب الأصداء ضمن الدائرة الدلالية، فالبردوني في سعي لتكبر الأسرة في الوطن يقدم ما قدر له أن تمتلكه الكلمة وألواناً من الفن:
ماذلك الحمل الذي يحتسي
خفقي ويعصى ذاهلاً أو يطيع
يشدو فترتد ليالي الصبا
فجراً عنيداً أو أصيلاً وديع
وتحبل الأطياف تجني الرؤى
ويولد الآتي ويحيا الصريع
فتبتدي الأشتات في أحرفي
ولادة فرحى وحملا وديع
ومن اللفتات الآسرة ذاك الحزن الذي يزحف من كل الأطراف لكنه لا يتمكن من سد المنافذ أمام رغبة عارمة في العطاء، ونلحظ الخيوط تربط مظاهر الطبيعة وسر الولادة السحري.
تقولين لي، أين بيتي؟ مزاح؟
من النار زاد رمادي جراح
وراء النوى حيث لا برعم
جنين ولا موعد من جناح
أموت واستولد الأغنيات
وأبذلها للبلى في سماح
المواسم والفصول
انتشرت دائرة المواسم والفصول في إحدى وأربعين قصيدة من قصائد ديوان "مدينة الغد" البالغة خمساً وأربعين وتوزعت المفاتيح الدلالية مترددة (226) مرة، وبهذا تشكل ظاهرة دلالية تعين على ولوج رؤى الشاعر البردوني ونلحظ أن عدداً من القصائد تعد بؤراً تركزت فيها المفاتيح "أسمار القرية، أصيل القرية، نهاية حسناء ريفية، فارس الاصطياف، صديق الرياح، وراء الرياح" وندرك عودة إلى الأرض مصدراً للخصب ومثاراً لإشكالات تحيط بها وبأهلها، ولا تغيب إشارة الحضور المكثف للرياح.
1- نبدأ متابعتنا للحزم الدلالية فنجد علامات الفصول التي تبني هيكل الحياة وبمقدار تباين ألوانها وقسماتها تظل الشرايين موصلة بينها، وثمة حبل سري يبلغ الجنين المرتقب لحظة التلاقي مع المستقبل:
"الصيف، صيفي، مصيف، أصياف، صيفية، الربيع، ربيعاً، نيسان، الشتاء، أشتَتْ، ثلج، ثلوج، ثلجية، الخريف، خريفي، سبتمبر، برق: الأمطار".
وإذا عدنا إلى عناوين بعض القصائد اتضح الانشغال بدوار الزمن فالشاعر مهموم برقاد يهيمن؛ ولذلك يملأ الأجواء مستحضراً الحقيقة الحاضرة الغائبة عن الأهل في الوطن، إ الدنيا تسافر وتعبر القرون فكيف يكون ثمة نهوض ومشاركة في الوجود!! مدينة الغد، كلمة كل نهار، ذات يوم، سيرة للأيام، حكاية سنين، من رحلة الطاحونة إلى الميلاد الثاني، وهكذا تتسع المساحة الدلالية لهذه المفاتيح لأكثر من تحديد لدوران الفصول الفلكية، ونسمع كلمات تهفو إلى "مدينة الغد".
ذات يوم ستشرقين بلا وعد
تعيدين للهشيم النضارة
تزرعين الحنان في كل واد
وطريق في كل سوق وحاره
في الروابي حتى يعي كل تل
ضجر الكهف واصطبار المغارة
سوف تأتين كالنبوءات كالأمطار
كالصيف كانثيال الغضارة
وتصوغين عالما تثمر الكثبان
فيه ترف حتى الحجارة
لخطاه عبير نيسان أو
شذى لتحديقه أجد إناره
2-وأما الحزمة الدلالية الثانية فتغوص وراء ينبوع الخصب، تبدأ بالخضرة وتتابع الأفعال التي ينبض معها الموسم.
"الخضرة، اخضوضر، اخضرار، يخضر، الخضر، أخضر، الخضراء، إخصاب الخصب، خصيبة، النبع، الزرع، الزروع، أزرع، زرعت، مزارع، مزرعة، الحصيد، الحصاد، يقتطف، القطاف، القطاف، الغلال، البيادر، الحقول، حقلاً، الثمر، الجنى، ثمار، الكرم، كرمة، كروم، الدوالي، الداليات، شجر، الرمان، عناقيد البلح".
وسوف تختلف نظرة المتلقي إلى هذه المفاتيح عندما يجد أناه يتصدر عن موقع في الأعماق حيث يصطبغ الدم بذرات التراب ويتصاعد التكوين في وجوه تدرج وخضرة تشع لوناً يقهر الجدب والعقم، وإن اشتباك الدائرتين الدلاليتين يكسر حواف الدلالات السطحية في قراءة عابرة لمشاهد البيعة والتغني بالجمال أو الحنين إلى الرومانسية:
سل الرياح هل لها
خلف الرؤى توهج
هناك ذر برعم
فأوما التأرج
إلى نهود هضبة
يحيلها الترجرج
هناك نبض مولد
يريبه التحرج
وكرمة عيونها
أحلام أنثى تزوج
ومنحنى يخضر في
حروفه التهدج
وواحة حبلى تعي
متى وكيف تنتج
3- ويبدو مسرح الأحداث في الحزمة الثالثة حيث تتوالى المفاتيح: "مرعى، المرتع، المراتع، الربا، رواب، السهوب، القرى، الوادي، روضة، ربوة، الريف، جنة، واحة، السهول".
4- وفي الحزمة الرابعة نلحظ مفاتيح تبرز ملامح الجمال لكنه جمال يتأدى إلى الثمار في طرف منه، وكمنت في طرف آخر طاقة الفعل وهذه هي الإضافة الدلالية لدى البردوني التي ساعدته على إبرازها جرأته اللغوية في الاشتقاق وتصريف الكلمات:
"الورود، خميلة، الزنبق، زنبقي، أفواف البنفسج، الياسمين، الزهر، الجلنار، الصفصاف، شذا، عبير، أشذى، أفنان، الغصون، برعم، عرار".
ولقد لفت البردوني الانتباه عندما أورد "أشذى، يزنبق، تزنبق، تندى، ينرجس، تعنقده، تسنبله، أجنت له" فالفعل إنما ينبثق من الكائنات!! وترن الأوتار مذكرة بمسارب إلى دائرة الخصب والولادة وبوابات تشرع أمام أحلام الوطن.
هل تحس الحقول ماسر نسيانَ
ومن أين عاد يهمي اخضرارا
كيف أصغت إليه، هل ضج- يا أشواك
موتى- وبارك (الجلنارا)
أي فصل من الفصول التوالي
أسكت البوم واستعاد الهزارا؟
فعلى الجبال من اسمه
شعل مجنحة تجول
وصدى تعقده الربا
وهوى تسنبله الحقول
ولعل النظرة المكتملة تتجلى مع النقيض "أشواك، هشيم الغصون، عوسج، جدبي".
5- تتردد في الحزمة الخامسة ثلاثة مفاتيح "الريح، الرياح، الأرياح" أربعاً وأربعين مرة، وتضاف إليها عشر مرات مع المفاتيح "الأهوية، عاصف، عاصفة، عاصفات، العواصف، زوبعة، الإعصار" لا يحدد الشاعر لونا واحداً لهذه المفاتيح وإنما نجدها تتحرك مع الأطوار المختلفة وفيها الخطر ونذر الهلاك وفيها عون للإنسان في سعيه على الأرض، ويبقى التساؤل عن هذا الإلحاح والحضور الذي لم تكد تخلو منه قصيدة لهذه الدائرة،إننا نشعر بقاسم مشترك هو علامة على حركة الزمن ومؤشر للتحولات أو هو نبض الحيوية في كل توجهاتها ودفق يدفع بالدماء في الشرايين والأوردة على حد سواء.
فمن المشاهد القائمة الحزينة ما آلت إليه ثورة 1948م بعد تباشير الخلاص، لقد كانت الريح بعضاً من علامات دمار لم يترك إلا الحطام:
وانثال أسبوع تزف
عرائس الفجر اخضراره
وتلاه ثان لحنت
بشراه أعراق الحجارة
حشد الخريف إزاءه
همجية الريح المثارة
وتلاقت الفلوات حو
ليه وأشعلت الإغارة
وفي مشهد آخر تسهم الريح في إزاحة خطر داهم لنكتشف الداء الحقيقي في واحد من منعطفات مسار البلاد.
وليس عدانا وراء الحدود
ولكن عدانا وراء الضلوع
فقد جلت الريح ذاك الجراد
فكنا جراداً وكنا الزروع
وأما المشهد الثالث فقد يبدو مفاجئاً لأن البردوني جعل الريح تتماهى مع الإنسان في حالة غربة، وتجلت حركتها بين البقاع انقطاعاً من مصادرها ومولدها، وموضع ائتلافها مع محيطها!!.
وورائي ذكرى تعض يديها
وأمامي طيف كوحش خرافي
من رآني من أين جئت وأمضي
كالصدا كاغتراب ريح الفيافي
والذي كان منزلي قبل حين
جئته فاستحال منفى المنافي
6- وثمة حزمة رصدنا عدداً من مفاتيحها وتحتاج إلى المزيد من الاستقصاء فقد أخذنا ما كان أقرب إلى حيوية هذه الدائرة الدلالية: "البلابل، العندليب، أغرودة، العصافير، طائر، طيور،أطيار، عصفور، جناح، هدهد، بوم".
رحلة الصورة بين الدوائر
كان الشاعر البردوني يضم تلك المفاتيح في الدائرتين ويفتن في تركيب أطياف صوره، فهو يخترق الحواجز حاملاً بردة يمنحها لهذا الإنسان سواء في وقفة ذاتية له أو في حشد يسير على الدرب الصاعد إلى قمة يستشرف مسار الشمس، وهنا تغدو ألوان المفاتيح دليل الهوية، فالخصب عنوان والخضرة تنشق لها الأرض، وبهذا التلاقي بين الولادة والمواسم ندرك مدى إيمان الشاعر بانتفاض المارد من هذه النفوس تحملها أجساد نال منها تعب القرون.
نقرأ مناجاة رقيقة لكنها تضم بين جوانبها إشارات تذهب إلى ذاك الخزان في عمق يحفظ نبض الدار والأرض.
من أين تهمسين لي
فستعيد الأهويةْ
من أين أنني علي
أيدي الظنون ألهية
من حيث لا أعي ولا
تدرين أي أحجيهْ
وتهمسين لي كما
يندي اخضرار الأودية
كما تبوح جنة
حبلى بأسخى الأعطية
(مجلة الكويت العدد 227 الصادر في 1سبتمبر2002)