في سنة 1966 أصدر الجيرداس جوليان گريماص كتابه الشهير الدلالة البنيوية، ويعد هذا الكتاب اللبنة الأولى التي ستقام عليها مدرسة بكاملها، أطلق عليها فيما بعد ''مدرسة باريس السميائية''. ورغم أن عنوان الكتاب يحيل على إشكالية الدلالة والسبل المؤدية إلى دراستها، فإنه يعد، في واقع الأمر، برنامجا نظريا لتيار سميائي سيعرف باسم : السميائيات السردية. وسيعرف هذا النموذج التحليلي الجديد مع بداية السبعينيات انتشارا واسعا في فرنسا، وفي مجموعة كبيرة من الدول. ولم يتوقف گريماص عند ذهذا الكتاب، فقد أصدر في السنوات الموالية مجموعة كبيرة من الكتب كرسها لتنقيح وتهذيب وتعديل نموذجه النظري. ونذكر من هذه الكتب : ، وفي المعنى II، وقاموسه الشهير: السميائيات، الذي كتبه بالإشتراك مع جوزيف كورتيس أحد أبرز تلامذته. وبهذه الكتب (وغيرها) يكون هذا المنظر الكبير قد أرسى دعائم تيار كبير اشتهر بمقاربته المتميزة للنصوص السردية.
وفي هذا الكتاب نقدم للقارئ الناطق بالعربية هذه المدرسة في خطوطها العامة والرئيسة، وبطبيعة الحال، لم نحاول أن نجعل من هذه النظرية كيانا يعلو على كل النظريات، ولم نقدمها على أساس أنها البديل الأسمى لكل المقاربات. فلا وجود لنظرية من هذا النوع، وفي جميع الحالات لا وجود لنظرية تجيب على كل الأسئلة التي تثيرها النصوص.
إن غايتنا الأولاى والأساس من هذا الكتاب هي البحث في الأسس المعرفية التي انبنت عليها هذه المدرسة. ومن أجل ذلك حاولنا أن نقدم كل التأويلات الممكنة للوجه المرئي للنظرية. فالمفاهيم والمصطلحات عادة ما تخفي بناء مجردا تمثل فيه النظرية على شكل مقترحات تخص الوجود والإنسان وأفعاله وأشكال إنتاجه للمعنى.
وبطبيعة الحال، لسنا في حاجة إلى التأكيد أننا لا يمكن أن نضيف أي شيء إلى ما تنتجه الحضارات الأخرى دون أن نناقش الأسس الفلسفية التي انبنت عليها النظريات التي يتم تداولها عندنا، وفي كل أرجاء الوطن العربي، فالوقوف عند حدود المقترحات التحليلية التطبيقية، رغم أهمية هذه الجوانب وجدواها، لا يمكن أن يؤدي إلا إلى إنتاج نماذج ممسوخة لا ترقى إلى الأصل المؤسس ولا يمكن أن تنتج معرفة تخصنا وتخص نمط حياتنا.
إن استيعاب النماذج في أصولها ومساءلة أبعادها الإبستمولوجية وهو وحده السبيل إلى إغناء معرفتنا بأنفسنا ومعرفتنا بالأخر، فما يأتينا ليس مفاهيم عارية من أي غطاء حضاري، بل هي نماذج معرفية تخفي داخلها نمط الحياة والموت وإنتاج القيم. وهذا ما حاولنا أن نتبينه من خلال قراءتنا لهذه النظرية. فهي تقدم نفسها على أساس أنها نموذج في تحليل النصوص السردية بجميع أنواعها، إلا أنها تعد في واقع الأمر فلسفة في المعنى وطرق إنتاجه وأنماط وجوده وانتشاره. فالتجلي لا يشكل سوى حالة مرئية لحالات تتخفى في أشكال ونماذج مجردة لا يمكن أن تحضر في الذهن إلا من خلال نسخ تخبر عن تحققها دون أن تساعد على إدراك جوهرها. فهذا الجوهر، شأنه في ذلك شأن ''الشيء في ذاته'' عند كانط ، يستعصي على الضبط والإدراك. إن وصفه يقف عند حدود تحديد العناصر المكونة له، وهي العناصر التي تشكل التجليات المتعددة، أو ما ندركه من خلال تحقق خاص.
وسيدرك القارئ ذلك من خلال التصور الخاص بالسردية ذاتها. فهي لا توجد حيث تأخذ القيم أبعادا مشخصة، وحيث تظهر الشخصيات وتصب الحياة في أوعية زمنية تلغي المتصل وتحدث فيه شروخا، إن البحث عنها يجب أن يتم في مكان آخر. إنها موجودة في البنية الدلالية المنظمة على شكل محاور سابقة في الوجود على التجلي النصي. ولإدراك فحوى هذا التصور كان من الضروري الاستعانة بمجموعة من التصورات الفلسفية الخاصة بالإدراك وإنتاج القيم وتداولها.
استنادا إلى هذه الأسس الأولية يجب التعامل مع هذه النظرية، وهي ذاتها التي ستمكننا أيضا من الكشف عن هفواتها ونقط ضعفها وقصورها. وهذا أمر بديهي في ميدان العلوم الإنسانية، فالنظريات تتبلور وتتأسس انطلاقا من مجموعة من المعايير التي تعد داخل هذا المنهج أو ذاك معايير مميزة وذلك على مستويين : الأساس الإبستمولوجي، والمردودية التحليلية.
1- فعلى المستوى الأول، لا يمكن الحديث عن نظرية متكاملة إلا من خلال الكشف عن الأسس المعرفية التي انبنت عليها هذه النظرية. فهذه الأسس المعرفية تخفي داخلها تصورا للعالم والإنسان. فأشد النظريات علمية لا يمكن أن تسلم من وجود بصمات إيديولوجية تحكم بناءها ومقاصدها وغاياتها. فإذا كانت الغاية النهائية من كل نظرية هي غاية تأويلية الهدف منها البحث في الواقعة عن معرفة تخص الإنسان وحياته، فإن هذا التأويل لا بد وأن يقود إلى الكشف عن كون ما سيكون مزدوجا.
أ- إن تطبيق نظرية ما على نص ما، لا يخلو من تأويل أولى يمتد لعناصر هذه النظرية نفسها. وذلك وفق التصور الذي يملكه الشخص المؤول عن الحياة وعن الإنسان (صانعو الإشهار مثلا يستفيدون كثيرا من السميائيات في صنع الإرساليات الإشهارية، والسميائيون يعملون على كشف الزيف الذي تتضمنه كل إرسالية إشهارية). وعلى هذا الأساس، فإن تبني نظرية ما لمقاربة ظاهرة ما ليس مشكلة تقنية بحت تتلخص في امتلاك مجموعة من الأدوات الإجرائية البريئة، بل هو اختيار معرفي وإيديولوجي لا تنفصل نتائجه عن مقدماته.
ب-ويأتي التأويل الثاني كقراءة للنص والمنهج على حد سواء. فأي ممارسة تطبيقية لنظرية ما، هي تأويل لها بشكل ضمني أو صريح.
2- ويتلخص المستوى الثاني في القدرة على مراقبة المنهج (النظرية) ، وما نعنيه بالمراقبة هو الكشف عن مردودية المنهج ومحدوديته من خلال وضعه داخل سياق نصي محدد. ذلك أن تقليص المسافة بين الوجه المجرد للنظرية وبين وجهها المتحقق يمر عبر مزج النظرية بالنص إلى الحد الذي تذوب فيه الفواصل بينهما، ويصبح إثر ذلك التنظير تطبيقا، ويتحول التطبيق إلى تنظير. إن تحقيق هذه الغاية معناه رد المنهج إلى منابعه الأولى، أي إلى الأصول التي انبثق عنها، فإذا كان وجود المنهج مشروطا بوجود الظاهرة ( الظاهرة النصية أو غيرها من الظواهر)، فإن الذاكرة النصية المتحققة ليست سوى تخصيص للذاكرة النصية المجردة والعامة (يعتبر أي نص تحققا خاصا ونوعيا لبنية بالغة العمومية). إن مرونة وصل العامل بالخاص ووصل الخاص بالعام هي الغاية المثلى لأي تطبيق، وهي منطلق أي تنظير.
وهذا الوضع. فيما نعتقد، هو ما يبرر العمل الذي نقدمه للقارئ العربي. فلقد أثرنا أن نسير في الطريق الصعب، وألا نكتفي بتقديم مفاهيم مفصولة عن جذورها المعرفية. وهكذا عوض أن نتحدث عن مجموعة من النظريات المصنفة ضمن ما يطلق عليه حاليا السميائيات السردية ( وسيكون حديثنا حينها عاما وغير قادر على الإلمام بكل القضايا التي تطرحها هذه النظريات)، فضلنا أن نعرض لنظرية واحدة بأكبر قدر من الشمولية والوضوح، معتمدين في المقام الأول على أعمال صاحب هذه النظرية، ومستندين، في المقام الثاني، إلى بعض الأعمال التي كتبت حول هذه النظرية. وفي كلتا الحالتين، كان همنا الأساس هو تحديد الهيكل العام لهذه النظرية وإمكانات تطبيقها على مجالات تتجاوز في أحيان كثيرة الميدان السردي.
ولقد كان احتيارنا لنظرية گريماص يستند إلى مجموعة من الأسباب نوجزها فيما يلي :
-تتميز نظرية گريماص عن باقي النظريات الأخرى في المجال السردي بخاصية أساس يمكن تحديدها في صيغة بسيطة : مشكلة المعنى. فمقاربة نص ما لا يكون لها معنى إلا في حدود طرحها للمعنى كهدف وغاية لأي تحليل. فالتعرف على المعنى وتحديد حجمه لا ينفصل عن الميكانيزمات التي أنتجته. من هنا، فالتحليل لا يعني تعيين المعنى بشكل حدسي دون تحديد لسيرورة نموه وموته، ذلك أن التساؤل عن الشروط المنتجة للمعنى وعن كيفية إنتاج هذا المعنى لا ينفصل عن عملية تحديد حجم وطبيعة هذا المعنى، وعلى هذا الأساس فغاية أي تحليل هي مطاردة المعنى وترويضه ورده إلى العناصر التي أنتجته. وتبعا لذلك، عوض أن يكون الأثر الجمالي قوة حدسية لا يتحكم فيها ولا يحدد حجمها سوى الذات المتلقية، فإنه سيتحول إلى عملية تحليلية تستند إلى العناصر النصية بانزياحاتها وتقابلاتها وتماسكها.
-وتتميز نظرية گريماص بشموليتها : شمولية في التصور وشمولية في التحليل. والشمولية لا تعني على الإطلاق إلغاء التاريخ، فهي محكومة، كأي أثر معرفي، بالزمنية الإنسانية، وهو أمر لا يعني أيضا إلغاء النظريات الأخرى، فلا وجود لنظرية تقدم نفسها بديلا مطلقا للنظريات الأخرى ، فشمولية نظرية ما تكمن في في قدرتها على التحاور مع نظريات أخرى تتقاسم معها موضوعا واحدا للدراسة.
- كما تتميز بقدرتها -نظريا وتطبيقيا- على معانقة خطابات أخرى غير الخطاب السردي، فرغم أن المنطلق الرئيس في مسيرة گريماص كان هو الحكايات الشعبية (النص السردي بصفة عامة)، فإن نظريته صالحة للاقتراب من ظواهر نصية بالغة التنوع : النصوص القانونية، الظواهر الاجتماعية، الإشهار، الخطابات السياسية.... ويعود هذا الغنى في نظرنا إلى الأساس المعرفي الذي انبنت عليه هذه النظرية، وذلك على مستويين :
أ- فعلى المستوى الأول، تتحدد السميائيات عند گريماص كنظرية لكل اللغات والأنساق والدالة. ''فالعلوم الإنسانية لم تثبت استقلاليتها انطلاقا من موضوعها، بل فعلت ذلك انطلاقا من منهج المقاربة الذي سيجعل من هذه الموضوعات موضوعات إنسانية أي دوالا< (1).
ب- المستوى الثاني، يعود إلى مظاهر تجلي السردية، فاهتمام گريماص لا ينصب على الطابع السردي لنص ما، بل ينصب على خطابات ذات طابع تصويري (الرواية، المسرح، الحكاية الشعبية...) أو الخطابات التجريدية (النصوص القانونية، النصوص السياسية...)
إن هذا التنوع لا يفرض تعاملا خاصا مع النصوص فحسب، بل يفرض تبني نظرة جديدة إلى النظرية ذاتها، فتعدد النصوص وتنوعها واختلافها، لا يمكن أن يقود إلا إلى إغناء النظرية أو مراجعة فرضيات المنطلق.
ورغم أهمية هذه النظرية وموقعها داخل النماذج التحليلية المتعدد، فإنها خلافا ''للسرديات''(narratologie) التي راكمت عددا لا بأس به من الدراسات في مجال نقد الرواية (2)، فإن السميائيات السردية لم تعرف طريقها إلى الممارسة النقدية إلا في حالات قليلة (3)، والمتصفح للمنشورات الصادرة في المغرب أو في بعض الأقطار العربية الأخرى يدرك بشكل جلي هذا القصور. فغالبا ما تكون هذه المنشورات عبارة عن ترجمات لمقالات معزولة أو أجزاء من كتب، وأحيانا يتعلق الأمر بتعاليق مختصرة عن نظرية أو مجموعة من النظريات. وعلى الرغم من أهمية وقيمتها التعليمية، فإنها تظل ناقصة، (وقد تكون مضللة في بعض الأحيان) لأنها تقدم مفصولة عن أسسها الإبستمولوجية، وعن المناخ الذي ولدت فيه، الشيء الذي يجعل القارئ عاجزا، في أغلب الأحيان، عن إدراك الفروقات والاختلافات بين هذه النظرية أو تلك، وبين هذا المفهوم أو ذاك، وقد لا يستطيع، والحالة هذه، إدراك أن المصطلح الواحد قد ينتمي إلى مدارس متعددة حاملا مضامين متنوعة.
وهذا ما حاولنا تفاديه في هذا الكتاب. صحيح أننا لم نقل كل شيء عن هذه النظرية، وفي جميع الحالات فإن هذا الأمر لا يمكن أن يحدث، فهذه النظرية أصبحت لها امتدادات في ميادين شتى، والمجال ذاته لا يسمح بفعل ذلك، ولكننا قدمنا الأسس المعرفية والفلسفية التي انبنت عليها هذه النظرية. وهذا في حد ذاته إنجاز لا يستهان به، فنحن في حاجة إلى التساؤل عن النماذج النظرية في أصولها المعرفية لا من خلال مجموعة من أدواتها الإجرائية.
هوامش :
1- Greimas : Du sens, p 52
2- انظر في هذا المجال الأعمال التي قدمها سعيد يقطين بدءا ''من القراءة والتجربة'' وانتهاء ب ''قال الراوي'' وهي أعمال عرفت بتيار في النقد السردي له أهميته وقيمته...
3- على سبيل المثال قدم الأستاذ عبد المجيد النوسي رسالة دكتوراه الدولة بعنوان : ''تحليل سميوطيقي لرواية اللجنة : تشييد مسار الدلالة'' مسترشدا بالمقترحات النظرية التي جاء بها گريماص. وقدم مصطفى الشاذلي باللغة الفرنسية كتابا حول نظرية كريماص يحمل العنوان التالي :
Sémiotique, vers une nouvelle sémantique du texte
والكتاب صدر عن كلية الآداب بالراباط سنة 1995
وفي هذا الكتاب نقدم للقارئ الناطق بالعربية هذه المدرسة في خطوطها العامة والرئيسة، وبطبيعة الحال، لم نحاول أن نجعل من هذه النظرية كيانا يعلو على كل النظريات، ولم نقدمها على أساس أنها البديل الأسمى لكل المقاربات. فلا وجود لنظرية من هذا النوع، وفي جميع الحالات لا وجود لنظرية تجيب على كل الأسئلة التي تثيرها النصوص.
إن غايتنا الأولاى والأساس من هذا الكتاب هي البحث في الأسس المعرفية التي انبنت عليها هذه المدرسة. ومن أجل ذلك حاولنا أن نقدم كل التأويلات الممكنة للوجه المرئي للنظرية. فالمفاهيم والمصطلحات عادة ما تخفي بناء مجردا تمثل فيه النظرية على شكل مقترحات تخص الوجود والإنسان وأفعاله وأشكال إنتاجه للمعنى.
وبطبيعة الحال، لسنا في حاجة إلى التأكيد أننا لا يمكن أن نضيف أي شيء إلى ما تنتجه الحضارات الأخرى دون أن نناقش الأسس الفلسفية التي انبنت عليها النظريات التي يتم تداولها عندنا، وفي كل أرجاء الوطن العربي، فالوقوف عند حدود المقترحات التحليلية التطبيقية، رغم أهمية هذه الجوانب وجدواها، لا يمكن أن يؤدي إلا إلى إنتاج نماذج ممسوخة لا ترقى إلى الأصل المؤسس ولا يمكن أن تنتج معرفة تخصنا وتخص نمط حياتنا.
إن استيعاب النماذج في أصولها ومساءلة أبعادها الإبستمولوجية وهو وحده السبيل إلى إغناء معرفتنا بأنفسنا ومعرفتنا بالأخر، فما يأتينا ليس مفاهيم عارية من أي غطاء حضاري، بل هي نماذج معرفية تخفي داخلها نمط الحياة والموت وإنتاج القيم. وهذا ما حاولنا أن نتبينه من خلال قراءتنا لهذه النظرية. فهي تقدم نفسها على أساس أنها نموذج في تحليل النصوص السردية بجميع أنواعها، إلا أنها تعد في واقع الأمر فلسفة في المعنى وطرق إنتاجه وأنماط وجوده وانتشاره. فالتجلي لا يشكل سوى حالة مرئية لحالات تتخفى في أشكال ونماذج مجردة لا يمكن أن تحضر في الذهن إلا من خلال نسخ تخبر عن تحققها دون أن تساعد على إدراك جوهرها. فهذا الجوهر، شأنه في ذلك شأن ''الشيء في ذاته'' عند كانط ، يستعصي على الضبط والإدراك. إن وصفه يقف عند حدود تحديد العناصر المكونة له، وهي العناصر التي تشكل التجليات المتعددة، أو ما ندركه من خلال تحقق خاص.
وسيدرك القارئ ذلك من خلال التصور الخاص بالسردية ذاتها. فهي لا توجد حيث تأخذ القيم أبعادا مشخصة، وحيث تظهر الشخصيات وتصب الحياة في أوعية زمنية تلغي المتصل وتحدث فيه شروخا، إن البحث عنها يجب أن يتم في مكان آخر. إنها موجودة في البنية الدلالية المنظمة على شكل محاور سابقة في الوجود على التجلي النصي. ولإدراك فحوى هذا التصور كان من الضروري الاستعانة بمجموعة من التصورات الفلسفية الخاصة بالإدراك وإنتاج القيم وتداولها.
استنادا إلى هذه الأسس الأولية يجب التعامل مع هذه النظرية، وهي ذاتها التي ستمكننا أيضا من الكشف عن هفواتها ونقط ضعفها وقصورها. وهذا أمر بديهي في ميدان العلوم الإنسانية، فالنظريات تتبلور وتتأسس انطلاقا من مجموعة من المعايير التي تعد داخل هذا المنهج أو ذاك معايير مميزة وذلك على مستويين : الأساس الإبستمولوجي، والمردودية التحليلية.
1- فعلى المستوى الأول، لا يمكن الحديث عن نظرية متكاملة إلا من خلال الكشف عن الأسس المعرفية التي انبنت عليها هذه النظرية. فهذه الأسس المعرفية تخفي داخلها تصورا للعالم والإنسان. فأشد النظريات علمية لا يمكن أن تسلم من وجود بصمات إيديولوجية تحكم بناءها ومقاصدها وغاياتها. فإذا كانت الغاية النهائية من كل نظرية هي غاية تأويلية الهدف منها البحث في الواقعة عن معرفة تخص الإنسان وحياته، فإن هذا التأويل لا بد وأن يقود إلى الكشف عن كون ما سيكون مزدوجا.
أ- إن تطبيق نظرية ما على نص ما، لا يخلو من تأويل أولى يمتد لعناصر هذه النظرية نفسها. وذلك وفق التصور الذي يملكه الشخص المؤول عن الحياة وعن الإنسان (صانعو الإشهار مثلا يستفيدون كثيرا من السميائيات في صنع الإرساليات الإشهارية، والسميائيون يعملون على كشف الزيف الذي تتضمنه كل إرسالية إشهارية). وعلى هذا الأساس، فإن تبني نظرية ما لمقاربة ظاهرة ما ليس مشكلة تقنية بحت تتلخص في امتلاك مجموعة من الأدوات الإجرائية البريئة، بل هو اختيار معرفي وإيديولوجي لا تنفصل نتائجه عن مقدماته.
ب-ويأتي التأويل الثاني كقراءة للنص والمنهج على حد سواء. فأي ممارسة تطبيقية لنظرية ما، هي تأويل لها بشكل ضمني أو صريح.
2- ويتلخص المستوى الثاني في القدرة على مراقبة المنهج (النظرية) ، وما نعنيه بالمراقبة هو الكشف عن مردودية المنهج ومحدوديته من خلال وضعه داخل سياق نصي محدد. ذلك أن تقليص المسافة بين الوجه المجرد للنظرية وبين وجهها المتحقق يمر عبر مزج النظرية بالنص إلى الحد الذي تذوب فيه الفواصل بينهما، ويصبح إثر ذلك التنظير تطبيقا، ويتحول التطبيق إلى تنظير. إن تحقيق هذه الغاية معناه رد المنهج إلى منابعه الأولى، أي إلى الأصول التي انبثق عنها، فإذا كان وجود المنهج مشروطا بوجود الظاهرة ( الظاهرة النصية أو غيرها من الظواهر)، فإن الذاكرة النصية المتحققة ليست سوى تخصيص للذاكرة النصية المجردة والعامة (يعتبر أي نص تحققا خاصا ونوعيا لبنية بالغة العمومية). إن مرونة وصل العامل بالخاص ووصل الخاص بالعام هي الغاية المثلى لأي تطبيق، وهي منطلق أي تنظير.
وهذا الوضع. فيما نعتقد، هو ما يبرر العمل الذي نقدمه للقارئ العربي. فلقد أثرنا أن نسير في الطريق الصعب، وألا نكتفي بتقديم مفاهيم مفصولة عن جذورها المعرفية. وهكذا عوض أن نتحدث عن مجموعة من النظريات المصنفة ضمن ما يطلق عليه حاليا السميائيات السردية ( وسيكون حديثنا حينها عاما وغير قادر على الإلمام بكل القضايا التي تطرحها هذه النظريات)، فضلنا أن نعرض لنظرية واحدة بأكبر قدر من الشمولية والوضوح، معتمدين في المقام الأول على أعمال صاحب هذه النظرية، ومستندين، في المقام الثاني، إلى بعض الأعمال التي كتبت حول هذه النظرية. وفي كلتا الحالتين، كان همنا الأساس هو تحديد الهيكل العام لهذه النظرية وإمكانات تطبيقها على مجالات تتجاوز في أحيان كثيرة الميدان السردي.
ولقد كان احتيارنا لنظرية گريماص يستند إلى مجموعة من الأسباب نوجزها فيما يلي :
-تتميز نظرية گريماص عن باقي النظريات الأخرى في المجال السردي بخاصية أساس يمكن تحديدها في صيغة بسيطة : مشكلة المعنى. فمقاربة نص ما لا يكون لها معنى إلا في حدود طرحها للمعنى كهدف وغاية لأي تحليل. فالتعرف على المعنى وتحديد حجمه لا ينفصل عن الميكانيزمات التي أنتجته. من هنا، فالتحليل لا يعني تعيين المعنى بشكل حدسي دون تحديد لسيرورة نموه وموته، ذلك أن التساؤل عن الشروط المنتجة للمعنى وعن كيفية إنتاج هذا المعنى لا ينفصل عن عملية تحديد حجم وطبيعة هذا المعنى، وعلى هذا الأساس فغاية أي تحليل هي مطاردة المعنى وترويضه ورده إلى العناصر التي أنتجته. وتبعا لذلك، عوض أن يكون الأثر الجمالي قوة حدسية لا يتحكم فيها ولا يحدد حجمها سوى الذات المتلقية، فإنه سيتحول إلى عملية تحليلية تستند إلى العناصر النصية بانزياحاتها وتقابلاتها وتماسكها.
-وتتميز نظرية گريماص بشموليتها : شمولية في التصور وشمولية في التحليل. والشمولية لا تعني على الإطلاق إلغاء التاريخ، فهي محكومة، كأي أثر معرفي، بالزمنية الإنسانية، وهو أمر لا يعني أيضا إلغاء النظريات الأخرى، فلا وجود لنظرية تقدم نفسها بديلا مطلقا للنظريات الأخرى ، فشمولية نظرية ما تكمن في في قدرتها على التحاور مع نظريات أخرى تتقاسم معها موضوعا واحدا للدراسة.
- كما تتميز بقدرتها -نظريا وتطبيقيا- على معانقة خطابات أخرى غير الخطاب السردي، فرغم أن المنطلق الرئيس في مسيرة گريماص كان هو الحكايات الشعبية (النص السردي بصفة عامة)، فإن نظريته صالحة للاقتراب من ظواهر نصية بالغة التنوع : النصوص القانونية، الظواهر الاجتماعية، الإشهار، الخطابات السياسية.... ويعود هذا الغنى في نظرنا إلى الأساس المعرفي الذي انبنت عليه هذه النظرية، وذلك على مستويين :
أ- فعلى المستوى الأول، تتحدد السميائيات عند گريماص كنظرية لكل اللغات والأنساق والدالة. ''فالعلوم الإنسانية لم تثبت استقلاليتها انطلاقا من موضوعها، بل فعلت ذلك انطلاقا من منهج المقاربة الذي سيجعل من هذه الموضوعات موضوعات إنسانية أي دوالا< (1).
ب- المستوى الثاني، يعود إلى مظاهر تجلي السردية، فاهتمام گريماص لا ينصب على الطابع السردي لنص ما، بل ينصب على خطابات ذات طابع تصويري (الرواية، المسرح، الحكاية الشعبية...) أو الخطابات التجريدية (النصوص القانونية، النصوص السياسية...)
إن هذا التنوع لا يفرض تعاملا خاصا مع النصوص فحسب، بل يفرض تبني نظرة جديدة إلى النظرية ذاتها، فتعدد النصوص وتنوعها واختلافها، لا يمكن أن يقود إلا إلى إغناء النظرية أو مراجعة فرضيات المنطلق.
ورغم أهمية هذه النظرية وموقعها داخل النماذج التحليلية المتعدد، فإنها خلافا ''للسرديات''(narratologie) التي راكمت عددا لا بأس به من الدراسات في مجال نقد الرواية (2)، فإن السميائيات السردية لم تعرف طريقها إلى الممارسة النقدية إلا في حالات قليلة (3)، والمتصفح للمنشورات الصادرة في المغرب أو في بعض الأقطار العربية الأخرى يدرك بشكل جلي هذا القصور. فغالبا ما تكون هذه المنشورات عبارة عن ترجمات لمقالات معزولة أو أجزاء من كتب، وأحيانا يتعلق الأمر بتعاليق مختصرة عن نظرية أو مجموعة من النظريات. وعلى الرغم من أهمية وقيمتها التعليمية، فإنها تظل ناقصة، (وقد تكون مضللة في بعض الأحيان) لأنها تقدم مفصولة عن أسسها الإبستمولوجية، وعن المناخ الذي ولدت فيه، الشيء الذي يجعل القارئ عاجزا، في أغلب الأحيان، عن إدراك الفروقات والاختلافات بين هذه النظرية أو تلك، وبين هذا المفهوم أو ذاك، وقد لا يستطيع، والحالة هذه، إدراك أن المصطلح الواحد قد ينتمي إلى مدارس متعددة حاملا مضامين متنوعة.
وهذا ما حاولنا تفاديه في هذا الكتاب. صحيح أننا لم نقل كل شيء عن هذه النظرية، وفي جميع الحالات فإن هذا الأمر لا يمكن أن يحدث، فهذه النظرية أصبحت لها امتدادات في ميادين شتى، والمجال ذاته لا يسمح بفعل ذلك، ولكننا قدمنا الأسس المعرفية والفلسفية التي انبنت عليها هذه النظرية. وهذا في حد ذاته إنجاز لا يستهان به، فنحن في حاجة إلى التساؤل عن النماذج النظرية في أصولها المعرفية لا من خلال مجموعة من أدواتها الإجرائية.
هوامش :
1- Greimas : Du sens, p 52
2- انظر في هذا المجال الأعمال التي قدمها سعيد يقطين بدءا ''من القراءة والتجربة'' وانتهاء ب ''قال الراوي'' وهي أعمال عرفت بتيار في النقد السردي له أهميته وقيمته...
3- على سبيل المثال قدم الأستاذ عبد المجيد النوسي رسالة دكتوراه الدولة بعنوان : ''تحليل سميوطيقي لرواية اللجنة : تشييد مسار الدلالة'' مسترشدا بالمقترحات النظرية التي جاء بها گريماص. وقدم مصطفى الشاذلي باللغة الفرنسية كتابا حول نظرية كريماص يحمل العنوان التالي :
Sémiotique, vers une nouvelle sémantique du texte
والكتاب صدر عن كلية الآداب بالراباط سنة 1995