مقاربة في قصة ـ ما حدث لي غدا ـ
للقاص سعيد بوطاجين
جمال غلاب
من العبثية الى التمرد ... ؟
ما
يلفت الإنتباه, في هذه المجموعة القصصية,من الوهلة الأولى هو عنوانها ـ ما
حدث لي غداـ و حسب تقديري , أن القاص لم يختاره إعتبا طيا . و كأنه على
يقين بأن حاضر المثقف الجزائري و ربما حتى العربي, لا يختلف عن غده من
تنفس للبؤس و انسداد الأفق و انقلاب سلم القيم الاجتماعية . و من لا يعرف
القاص ـ سعيد بوطاجين ـ فهو باستمرار متشائما من حياتنـــا العبثية, و مع
ذلك يحاول دائما أن يتمرد عن و ضعة و يحبذ من يشــــاركه هذا التمرد ؟
وقصد اضفاء مسحة من الفكاهة على هذا النص سوف أدرج تعليق الروائي "طاهر
وطار " على هذه المجموعة القصصية بقوله ـ سعيد بوطاجين يترجم البسمةالى
مفردات موجزة . لذلك هاهو يخرج من بطنه لا ليرى الد نيا بل لتراه . لذلك
لم يكن متعجلا في اصدار مجموعته القصصية ـ و من نوادر القاص التي مازالت
عالقة بذهني أنه ذات مرة لفت انتباهه جواب صديق له مفاده ـ قال أنا بخير
ـ فرد عليه القاص مستفسرا و متعجبا بقوله ـ من أين لك هذا ...؟؟؟ ـ فعلى
حد تقدير القاص من المستحيلات السبع أن تمس هذه النعمة المثقف الجزائري و
في الحيز العربي . ومن لا يعرف القاص الظاهرة . فهو قصير القامة و نحيف
الجسم و بإستمرار المرض يطحن عظامه الهشة . و ذات مرة حضر ملتقى للأديب
الروائي المرحوم " رشيد ميموني"" و حينها كان بالمنصة لعرض مداخلته يتوسط
استاذين أطول منه قامة ووزنا فعبر على هذا النشاز بقوله عند تقديم
نفسه ـ أنا مختصر رجل و فقط ـ .
و بعد هذا التقديم الموجز
أعود الى عرض وقا ئع المجموعة القصصية ـ ماحدث لي غدا ـ . إن المتمعن فيها
يتملكه الشعور بالحيرة و القلق . بسبب ما يثيره القاص من حقائق موجعة .
لم نتعود على مصارحة أنفسنا بها , حقائق لو تعرف طريقها الى حياتنا
اليومية , و تتجذر في سلوكاتنا , و معملاتنا , التي تعد عناصر مكونة
لحركيتنا الاجتماعية لكان لحياتنا " معنى و قيمة " حضارية تفيا ن
بالغرض المطلوب .
وما صوره القاص بصدق من واقع مؤلم عن
حياتنا بمجموعته القصصية يكاد يكون مرآة عاكسة لما يجري في الحيزات
الزمنية و المكانية لمجتمعنا و التي تكاد تكون رداتها عبارة عن مشاهد
مقززة سببت الكثير من معاناة القرف للقاص . اضافة الى البدائل التي
يطرحها القاص قصد الانتقال من العبثية الى التمرد . العبثية التي استولت
على مشاعرنا و تفكيرنا مما أثرت سلبا على سلو كاتنا الى الحد الذي لا
يطاق ؟.
لقد صور القاص المواطن الجزائري و العربي تصويرا
رائعا بعبثيته " صار يضحك بلا فرح , و يبكي بلا دموع , ينظر و لا يرى ,
ينصت ولا يسمع , يتكلم ولا يقول شيئا " فتبعا لهذه الملاحظات التي رصدها
القاص في مجموعته القصصية ـ ما حدث لي غدا ـ و التي تعبر عن واقع حياتنا
المهلهل و المهتز باستمرار . فانه يكاد يجزم في تصويره بهذا الواقع
بأن راهننا مريض . مرض الشعور بالعبثية و التناقض واللاجدوى و أعراض
هذا السأم العارض الذي لا يرجع الى الفقر أو البطالة أو سؤ الطالع . بل
السأم الجذري العميق فكما يقول " يونسكو " ـ السأم الذي ليس له مادة
سوى الحياة نفسها, و ليس له سبب بعد ذلك , سوى وضوح بصيرة الحي ـ .
يا ترى كيف يتعامل القاص مع هذا الواقع في مجموعته القصصية ؟ انه يحاول
التغلب على هذا الواقع من خلال التمرد . لذلك لم يتوان في اعتنا ق حاسة
التهديم و بإمكان القارىء تلمس مثل هذه العوارض على مستوى بنية النص
القصصي . فجارفات التهديم نتحسسها في تقنيات الكتابة المغاير الذي
وظفه . لقد استخلفه بتقنيات جديدة على مستوى الشكل و المضمون للنص
القصصي . كعدم إعترافه بالحدود المرسومة للنص كونه يقف عند حدود المتعة
و الترفيه و توسيع ملكات الخيال و تربية الذوق . بل القصة عند
القاص ـ سعيد بو طاجين ـ نقد ذاتي للحاضر بحيث يدخلنا في حلبة
المجادلات الفكرية و الفلسفية الى حد التشكيك في كل تصرفاتنا و سلو
كاتنا . بعيدا عن الأحلام و العواطف و المشاعر الرومنسية . وبعبارة أدق
فهو لا يعترف الا بما هو ممكن تحقيقه , و بما هو عقلي و يقبله المنطق .
و ثورته هذه يريد بها التمرد على جمود العادت و التقاليد و المفاهيم
البالية التي ألقت بظلالها على العادات اللغوية التي يقال عنها بأنها
موصلا جيد من موصلات التفاهم بين الناس .
فمن و جهة نظر ما
ناقشه القاص و عرضه بمجموعته القصصية و سعى بشكل سافر الى نقده . أدى
بالفعل الى إحداث تغييرات جذرية على مستوى بنية النص ـ تحويرا و
تقديما و ترتيبا و تبديلا ـ و كأنه بذلك يريد أن يوحي لنا بأن موصل
اللغة على طريقته الحالية رديء لتحقيق هذا التواصل و التفاهم . فهو
يحاول أن يكشف لنا حقيقة في غاية الأهمية : أن اللغة التي نظن أننا
نتواصل بها بالتفاهم قاصرة على تحقيق أي نوع من أنواع التواصل أو
التفاهم بل الكثير ما تؤدي بنا الى القطيعة و لا نتفاهم حتى لا يشعر
الفرد أحيانا و كأنه في عزلة عن مجتمعه بعد أن انقطعت وسائل الاتصال
بينه و بين الأخرين .
اذن القاص على ما يبدو بعدما تأكد من
عدم فاعلية اللغة بمواصفاتها الحالية لجأ الى ابتكار تقنية جديدة في
الكتابة بامكان القارىء أن يكتشف مذاقها المميز . لكن من الصعب عليه
أن يحدد التقنية الموظفة بها و صفا د قيقا و هو ما شهد به الروائي
اطاهر وطا ر "سعيد بو طا جين يترجم البسمة الى مفردات موجزة ... ـ
و بقليل من التركيز , لاشك و أن القارىء سوف يقف , على ما سلف ذكره
من ملاحظات من خلال العينات المأخوذة من النص القصصي : " ففي الأسا بيع
الماضية , ستظل جيوبي محفوفة بالصدإ , و أبي لهب و أبيعطب , و أبي
نهب و أبي هرب ومشتقاتهم كما حدث في الشهور الآتية تماما " و ما
نستشفه من هذه الفقرة أن القاص قدم وصفة دقيقة لأمراضنا الاجتماعية
بمنتهى الاختصار , و بأسلوب تهكمي , فهو يعلن عن افلاسه " بجيوبه
المحفوفة بالصدإ . كدليل على عدم شعوره بحرارة النقود منذ زمن طويل .
و يختصر ضعف القدرة الشرائية " بأبي لهب " و الفساد المالي و التضخم و
الرشوة و المحسوبية " بأبي نهب " و رداءة الخدمات و تعطلات للأجهزة
الكهرباء و الماء و التخلف العام " بأبي عطب " و التهريب و السطو على
المال العام " بأبي هرب " .
و في الفقرة الموالية
القاص يتحصر على ما آل اليه الوضع من تعفن لا يطاق الى درجة موت
الحياة في كل مناحيها . و قصد تجاوز هذه المحنة يجيب القاص بتهكم ـ أطفأت
سيجارتي , و أشعلت أخرى , ثم رحت أتأمل عباد الله و هم يدخنون و
يبتسمون و يتحدثون و يضحكون و يقولون السلام عليكم , و عليك اسلام . كيف
حالك أنا بخير ، و الحق أني حسدتهم لأني لا أعرف ان كنت بخير أم لا
؟ كل ما أدركه أن فراغا غير منحاز ، يرفرف في روح فراغ بمعاهد جامدة
كالمزامير " .
حياة كهذه بلا قيمة ولا معنى .
أجبرت القاص على الدخول في دائرة الفراغ هذا الفراغ المقرف و الذي
يصف تفاصيل معاناته في الفقرة الموالية بقوله " بأيام العطل المثقوبة
مثل كيس فرح ، أضع وجها حقيقيا للزمان الجثة ووجها للأشعار الشرعية
المطرودة , من تجاعيد اللغات اليابسة على جبهتهما . أنحت صلبانا و
قوما من الذكريات و الهذيان , و بين الذكريات و الهذيان الرسمي أرسم
صورة لنوح , و تحتها أكتب متهم لأنك أتيت قبل الأوان ثم خطوة
خطوة أسير منحني الظهر لأقيس بؤس الأرصفة و أحلام العمارات الخاصة
جدا . أحصي عدد المحركات الوثنية لأتلذذ بالنهارات التي تركلني و توفر
لي فرصة
المزاح و الزهو المجاني كما هو ممتع آلا تجد ما لا
يرضيك في شوارع غاصة بالثرثرة . و قطع القماش المتحركة هجست خفية
. "
و من هنا تتأكد فرضية أن القاص ليس عبثيا و لا
يفضل الخوض في العبثية . انما يريد الاطلال علينا من الحاضر " متهم
لأنك أتيت قبل الأوان " فهو يريد أن يأتينا من المستقبل و أيضا
البيئة الاجتماعية التي يريدها القاص هي الأخرى يريدها أن تأتيه من
المستقبل . بيئة نظيفة من ترسبات الماضي و تعقيداته و سليمة من كل
الأمراض الاجتماعية .
لكن من أين الطريق الى الحياة التي
تنطوي علىالمعنى ؟ . ان الفقرالت السالفة الذكر , و أخرى لا يتسع المقام
لها و التي تحمل في طياتها التهكم والإستهتار , من كل ما يحيط بالقاص
من عبثية مقرفة و المجسدة في "" لا معنى "" الحياة كهذه المطبوعة
بطابع التفاهة . يحاول القاص أن يحيك ضدها انقلابا شرسا بغية
الانتقال من الحدود السلبية الى الحدود الإيجابية . مادام الانسان
برأيه ينعم بحاسة الوعي . و اذن فإنه لا مفر له من التمزق الذي
ينتج عن ادراك العبث من جهة و رفضه له ووضع حد لهذا العبث
بالتمرد .
و يظل القاص ممزقا و حتى وان تمرد على
العادات و التقاليد و المفاهيم البالية ., و أدوات التواصل الرديئة
بينه و بين مجتمعه . يظل على حد اعتقادي ايجابيا و مع ذلك السؤال
الذي يظل يطرح نفسه بالحاح هو لماذا ؟ الجواب نجده في المجموعة
القصصية ـ ما حدث لي غدا ـ و الذي مفاده أنه يعمل بلا أمل و لأنه
لا يستطيع الا أن يعمل كبقية أي جزائري و هكذا يجد القارىء القاص
أنه مدفوع الى طرح سؤال هل في ذلك انقاذ حقيقي ؟ هل التمرد انقاذ ان
لم يتجاوز نفسه الى مراسي النجاة ؟
أخيرا بل أولا
انه لمن السابق لأوانه أن نلم بمعرفة رسالة القاص من خلال عمل واحد
أو اثنان أو ثلاثة .... رسالة القاص أراها مشروعا لم ينته منه القاص
بعد ؟و قد يبدو الروائي طاهر و طار و الناشر لهذه المجموعة القصصية
محقا بقو له ـ ها هو سعيد بو طاجين " يخرج من بطنه لا ليرى الد
نيا بل لتراه . و لم يكن متعجلا في اصدار مجموعته القصصية .
و أنا بدوري اقول أتمنى أن يؤل الأمر بالقاص الى ما ختم به مجموعته القصصية :
ـ يا ولـــــــــــــــــــــــدي ,,,,,,,,
ـ لا تبكي فدموع الصغر ,,,,,,,,,,,,,
ـ تمضي كالحلم مع الفجـــر ,,,,,,,,,,,,
ـ و غدا تكبر يا ولدي ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
ـ و تطلب الدمع فلا يجـــــــــــــــــــري ,,,,,,
ـ قد أرمى خلف الجدران ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
ـ و تحن لحبي و حناني ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
ـ فأنظر في قلبك ستراني ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
ـ لن يقوى القيد على الفكر ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
جمال غلاب
ghellabdjamel@yahoofr