أشكال الفضاء الروائي في الخطاب النقدي المعاصر
نصيرة زوزو كنا قد أشرنا في موضوع سابق إلى إشكالية الفضاء الروائي و تعالقه بمكوني الوصف و الزمن على وجه الخصوص، و نود الآن تفصيل
الحديث عن أشكاله الرئيسة كما تجسدت في الدراسات الغربية. و يمكن أن نقول بداءة: إن هناك اختلافا ظاهريا و تضاربا واضحا بين تصورات النقاد و الدارسين الغربيين حول تحديد مفهوم "الفضاء"، و بعامة أشار" حميد لحمداني" في كتابه المتميّز "بنية النص السردي" إلى أربعة أقسام استنبطها مما خطته الأقلام الغربية في هذا الشأن، و سنقدمها فيما يلي مقدمين رأينا في كل صنف محاولين الخروج بتشكيلات "الفضاء الروائي" الأساس حسب وجهة نظرنا و وفق ما تبدّى لنا: 1- الفضاء كمعادل للمكان: و يقصد به الحيز المكاني في الرواية و الحكي عامة. 2- الفضاء النصي: و يعتبره "فسجربر" الموضع المادي الوحيد الموجود في الرواية، أين يجري فيه اللقاء بين وعي الكاتب و وعي القارئ. و يعده الناقد الفرنسي "جيرار جنيت" أحد أشكال الفضاء في الدراسات الغربية، التي تعنى كثيرا بالوسائل البصرية من شكل الخطوط، وتنظيم الصفحة، و هيأة الكتاب في كليته. إن الفضاء النصي يتعلق بالصورة الشكلية للنص السردي، وتشمل الغلاف الخارجي للرواية، و تنظيم فصولها، ومطالعها، وتشكيلات العناوين ، وقد فصّل "ميشال بوتور" الحديث عن مظاهر تشكيل فضاء النص في كتابه "بحوث في الرواية الجديدة". 3- الفضاء كمنظور: و يتعلق على وجه الخصوص بالرؤية، أو منظور الكاتب الذي يقدم بوساطته القصة المتخيلة. 4- الفضاء الدلالي: و هو ما ارتبط في البلاغة الكلاسيكية بالصور، و يقول "جنيت" في شأن هذا الضرب ما يلي: " يتأسس الخطاب من سلسلة دوال حاضرة تقوم مقام سلسلة مدلولات غائبة، على أن اللغة الأدبية بخاصة لا تعمل بهذه الكيفية البسيطة، حيث إنها غير أحادية المعنى، إذ تبقى في حالة توالد و تضاعف مستمر، حيث قد تحمل اللفظة الواحدة دلالتين تقول البلاغة عن أحدهما أنه حقيقي و عن الآخر بأنه مجازي، هناك إذن فضاء دلالي يتأسس بين المدلول المجازي و المدلول الحقيقي". و بتعبير "برنار فاليط" : " إن الفن من طبيعته أن يكون متعدد الدلالة". ويعتبر "لحمداني" أن ما يدخل حقيقة ضمن فضاء الحكي هما الشكلان الأوليان (الفضاء كمعادل للمكان، و الفضاء النصي)، في حين يدخل المفهوم الثالث ضمن مباحث الرؤية السردية،أما المفهوم الرابع فيتعلق بموضوع الصورة في الحكي . إن نحن ألقينا نظرة على دلالة الفضاء الروائي في الكتابات الغربية، ألفيناه يرتبط عندهم -أساسا- بالطابع المجسد أو الملموس؛ أي إنه يلتصق بمجال مكاني و فضاء لفظي يوجد بوساطة الكلمات المطبوعة. و على هذا الأساس سنجاري "لحمداني" في اعتبار الفضاء النصي أحد الأشكال الرئيسة المكونة للفضاء الروائي؛ باعتبار أن كل ما يدخل ضمنه يعتبر عناصر لسنية أساس، تحمل القارئ على فهم معين للعمل و تفصح عن دلالات كثيرة، إذا أجاد قراءتها و ربطها بعالم القصة المتخيلة. و نقول الشيء عينه عن "الفضاء كمعادل للمكان" أو ما ندعوه بالفضاء الجغرافي، الذي نعتبره أكثر المباحث التصاقا بمفهوم الفضاء الروائي، بل تفوق أهميته عندنا الفضاء النصي، و بذلك سنعده أول أشكال الفضاء الروائي و أشدها حضورا؛ لأنه يتجسد كذلك ضمن مساحة مكانية، و يتعالق بخاصة بالأمكنة المرجعية و التخيلية التي يضمها النص السردي. على أننا سنخالف" لحمداني" و نعتبر(الفضاء كمنظور أو كبؤرة)-و الذي سنرتضي له تسمية "الفضاء رؤيةً سرديةً"- أحد المباحث الأشد التصاقا بمقولة الفضاء الروائي، حتى و إن أشارت إليه "جوليا كرستيفا" كمبحث شائع يدخل ضمن الرؤية السردية التي تعد إحدى مكونات الخطاب الروائي. لاشك أن للشخصيات الروائية علاقة وطيدة بالفضاء الجغرافي، أو ليست الساكنة فيه، و المنفعلة داخله و المكونة لفاعليته و حركيته، كما أن لها الحق في اتخاذ الرؤية و الموقف الذي يلائم تصورها و تفكيرها. و نحن نشير هنا على وجه الخصوص للراوي، ذلك الكائن التخييلي الذي أبدعته أنامل الروائي، و الذي يأخذ الدور الأعظم ضمن المسيرة القصصية؛ حيث يتكفل برسم خطة نرى أن للكاتب فيها الدور الأعظم، حيث ينشر بوساطته رؤيته الخاصة. إن الروائي كما تقول" كرستيفا" يقبع خلف الخشبة المسرحية يشرف على العمل ككل؛ ليظل كل شيء تحت رقابته. والفضاء يتأسس بوساطة وجهات نظر متعددة، بدءا من الراوي؛ بوصفه كائنا تخييليا، و من خلال اللغة التي يستخدمها في تشكيل أفضيته، و من بقية شخوص الرواية . إن الفضاء الذي ستجري فيه حوادث القصة المتخيلة ينبني بالدرجة الأولى على وجهات النظر التي تنصهر جميعا لتشكيله و تشييده، و لا نظن أننا نستطيع الحديث عن الفضاء، دون الإشارة إلى وجهة النظر التي يجسدها الراوي من خلال إعلانه الانحياز إلى موقف ما، أو إلى رؤية الشخصية القابعة في المكان الذي يدخل في رؤية الكاتب المكانية. إننا نؤمن بأن هذا النوع من الأفضية هو أداة تعبيرية قوية تفصح عن موقف الروائي مما يحيط به، فهو ينظر إلى الأشياء و ينظمها، انطلاقا من قناعاته الفكرية و الجمالية معا. على أن الناقد الجزائري "عبد المالك مرتاض" يناقض هذا الرأي؛ إذ يرى أن الروائي إذا أراد أن يعبّر عن نظرته للوجود ليس عليه أن يذهب إلى مكون الفضاء، و يتخذ منه وسيلة لبلوغ هذا الهدف، بل إن له طرقا متعددة لإبراز ذلك. إن القراءة المتأنية و الدقيقة لعنصر "الرؤية" و تطبيقه على أي عمل روائي، يكشف الدور الهائل الذي يكتسيه في التعرّف على موقف الروائي، بل إن الرؤية السردية أو التبئير كما يسميه "جنيت" و كما تعبر عنه "ميك بال" يمكن أن يتخذ صورا متعددة: التبئير من قبل من؟ و على ماذا؟ ويدخل الفضاء الجغرافي بخاصة كأحد المبأرات الهامة التي تكفل دراستها كشف النقاب عن غوامض كثيرة. وإذا عدنا إلى التشكيل الرابع للفضاء الروائي، و هو الفضاء الدلالي الذي يرتبط بقضية الصورة و المجاز فنقول :إن الكلمة ليست معنى ثابت، إنما تغير معناها على الدوام كما يصرح "تزفتان تودوروف". و منذ العصور الوسطى بأوربا أخذت علوم البلاغة تهتم اهتماما متزايدا بعنصر "الأسلوب" و خاصة صوره اللفظية "Figures. و يقول "جنيت" في هذا الصدد: " إن كتابتنا لا تزال متشعبة بضروب الاستعارات و الصور، و إن ما يصطلح عليه بالأسلوب يظل مرتبطا بآثار المعاني الثانية، تلك التي تسمى في اللسانيات إيحاءات. فما يقال في ملفوظ يتضاعف دوما بما تقوله الكيفية التي يقال بها . و يشير صاحبا كتاب "نظرية الأدب" إلى أن البنية في اللغة الشعرية تقوم على الصورة ، و يعتبر "فرانسوا مورو" أن الصورة الشعرية هي طريقة للكلام، و من أدواتها الاستعارة و التشبيه والكناية و المجاز المرسل. و لو عدنا إلى الأدب العربي لوجدنا أن المجاز"هو المعبر الأول الذي تلجه الصورة الشعرية مكتسية بألوان من تشبيه و استعارة و كناية". إن ارتباط الصورة بالشعر أكثر من ارتباطها بأي فن أدبي آخر، و قد مثلت في المؤلفات النقدية الغربية " الخاصية الأساسية للغة الشعر" أو هي " الجسر الذي يصل المتلقي بالقصيدة و الجناح الذي يحمله و يرتفع للالتحام بعوالمها". إن الصورة هي " المنبع الأساس للشعر الخالص" و بتعبير آخر يدل على تعالقها الشديد بالشعر نقول: إن "الصورة في الشعر كالشمس في الحياة". لقد عمدنا إلى إيراد هذه المقولات؛ للتدليل على ارتباط موضوع الصور و المجاز بباب الشعر؛ إذ إنها تمثل جوهره، و تظهر براعة الشاعر بخاصة، عند توظيف أدوات متباينة من استعارات و تشبيهات و كنايات؛ لتحقيق أقصى درجات الجمال شكلا و مضمونا؛ ليتم التواصل بينه و بين المتلقي. أي إن مبحث "الصورة" شائع في مجال الشعر و صالح له أكثر، و لا نظنه يتعلق كثيرا بالدراسات الحكائية، إذ نعتقد أنه من الصعوبة الإحاطة بهذا العنصر و تطبيقه على الفنون الحكائية بشتى صنوفها، بل على جنس أدبي طويل مثل الرواية. و لا نكاد نعثر ضمن الدراسات العربية على بحث مستقل يعنى بالفضاء الدلالي المذكور آنفا، إذا استثنينا في هذا الصدد بعض الوريقات التي تمكنّا من الاطلاع عليها ضمن كتاب "النقد البنيوي و النص الروائي" و أقام بذلك بعض التصنيفات لهذا النوع من الأفضية و هي الأصل الفضائي، و المجاز الفضائي، و الاستعارة الفضائية، و الكناية الفضائية بنوعيها الرمز الفضائي و الإيماء الفضائي) . وإن كنا نشيد بجهده هذا، إلا أن ما يطبع مفاهيم "سويرتي" عموميتها، و عدم تدعيمها بأمثلة توضيحية تبين عن دلالة التقسيمات التي وضعها، ينضاف إلى ذلك التقارب الشديد بين بعضها، إلى حد يصعب التفرقة بينها، كما أن بعض تلك التقسيمات تدخل ضمن باب الشعر مثل الإيماء الفضائي. إذا كان الفضاء الدلالي كما أشرنا سابقا يتوجه صوب المعاني المجازية التي تنبثق عن المعاني الظاهرة الحقيقية، و إذا كان الشعر يستخدم هذا اللون في بناء صوره الشعرية بوساطة آليات مختلفة، فإننا نحسب أن الرواية تستعين بأساليب فنية في بناء عالمها. إن الأفضية الجغرافية التي رسمتها يد الروائي لم تنشأ اعتباطا، إنما لتحقيق غايات و أهداف يرتضيها صاحبها؛ أي إنها تكون محملة بشحنات دلالية و إيحاءات رمزية، فهي بمثابة حيل لغوية يراد بها على الدوام المعاني البعيدة الخفية المستعصية، لا المعاني القريبة الظاهرة السهلة. إن عمل الروائي سيشبه عمل الشاعر، على أن لكل واحد آلياته التي يبغي من ورائها بث خطابه للمتلقي، و يريد أن يخفي شيئا من الكلام و أن يطويه؛ ليتكفل القارئ فيما بعد من فك طلاسمه. من هنا سيكون الفضاء الدلالي الذي يبحث عنه الناقد متناثرا في ثنايا العمل الروائي ككل، و لا يمكن أن نخصه بعنصر دون الآخر؛ فلتوظيف بعض الأمكنة دون غيرها دلالات معينة، كما يحمل وشي "الغرفة" مثلا ببعض الصفات رموزا خاصة، و على هذا الأساس سيكون هذا الصنف حاضرا في ثنايا الأفضية ككل، وسيكون الخفي الظاهر في الوقت نفسه، لن نموضعه في مكان معين، إنما سنلفيه متمظهرا بدافع القوة التي يفرضها الروائي عليه، و بالتالي سيُتضَمن في دراسة الأفضية الثلاثة "الفضاء الجغرافي، و الفضاء رؤيةً سرديةً، والفضاء النصي". و انطلاقا من هذا سنعتبر أن أقسام الفضاء الروائي-حسب رأينا- ثلاثة نقدمها حسب الأهمية بالترتيب التالي: - الفضاء الجغرافي: و نراه السمة الأساس التي تطبع مقولة "الفضاء"، و المكون الأكثر حضورا و تجسدا في العمل الروائي. - الفضاء رؤيةً سرديةً: و نعتبره أدنى درجة من المكون الأول، على أنه يكتسب أهمية بالغة في التعبير عن وجهات النظر و كشف الأفكار و الرؤى و القناعات. -الفضاء النصي: و نعده عنصرا مساعدا على استجلاء بنية الفضاء ككل، و كاشفا عن خصوصية الفضاءين السابقين، إذا أحسن الناقد قراءته و وصله بهما
منقول
نصيرة زوزو كنا قد أشرنا في موضوع سابق إلى إشكالية الفضاء الروائي و تعالقه بمكوني الوصف و الزمن على وجه الخصوص، و نود الآن تفصيل
الحديث عن أشكاله الرئيسة كما تجسدت في الدراسات الغربية. و يمكن أن نقول بداءة: إن هناك اختلافا ظاهريا و تضاربا واضحا بين تصورات النقاد و الدارسين الغربيين حول تحديد مفهوم "الفضاء"، و بعامة أشار" حميد لحمداني" في كتابه المتميّز "بنية النص السردي" إلى أربعة أقسام استنبطها مما خطته الأقلام الغربية في هذا الشأن، و سنقدمها فيما يلي مقدمين رأينا في كل صنف محاولين الخروج بتشكيلات "الفضاء الروائي" الأساس حسب وجهة نظرنا و وفق ما تبدّى لنا: 1- الفضاء كمعادل للمكان: و يقصد به الحيز المكاني في الرواية و الحكي عامة. 2- الفضاء النصي: و يعتبره "فسجربر" الموضع المادي الوحيد الموجود في الرواية، أين يجري فيه اللقاء بين وعي الكاتب و وعي القارئ. و يعده الناقد الفرنسي "جيرار جنيت" أحد أشكال الفضاء في الدراسات الغربية، التي تعنى كثيرا بالوسائل البصرية من شكل الخطوط، وتنظيم الصفحة، و هيأة الكتاب في كليته. إن الفضاء النصي يتعلق بالصورة الشكلية للنص السردي، وتشمل الغلاف الخارجي للرواية، و تنظيم فصولها، ومطالعها، وتشكيلات العناوين ، وقد فصّل "ميشال بوتور" الحديث عن مظاهر تشكيل فضاء النص في كتابه "بحوث في الرواية الجديدة". 3- الفضاء كمنظور: و يتعلق على وجه الخصوص بالرؤية، أو منظور الكاتب الذي يقدم بوساطته القصة المتخيلة. 4- الفضاء الدلالي: و هو ما ارتبط في البلاغة الكلاسيكية بالصور، و يقول "جنيت" في شأن هذا الضرب ما يلي: " يتأسس الخطاب من سلسلة دوال حاضرة تقوم مقام سلسلة مدلولات غائبة، على أن اللغة الأدبية بخاصة لا تعمل بهذه الكيفية البسيطة، حيث إنها غير أحادية المعنى، إذ تبقى في حالة توالد و تضاعف مستمر، حيث قد تحمل اللفظة الواحدة دلالتين تقول البلاغة عن أحدهما أنه حقيقي و عن الآخر بأنه مجازي، هناك إذن فضاء دلالي يتأسس بين المدلول المجازي و المدلول الحقيقي". و بتعبير "برنار فاليط" : " إن الفن من طبيعته أن يكون متعدد الدلالة". ويعتبر "لحمداني" أن ما يدخل حقيقة ضمن فضاء الحكي هما الشكلان الأوليان (الفضاء كمعادل للمكان، و الفضاء النصي)، في حين يدخل المفهوم الثالث ضمن مباحث الرؤية السردية،أما المفهوم الرابع فيتعلق بموضوع الصورة في الحكي . إن نحن ألقينا نظرة على دلالة الفضاء الروائي في الكتابات الغربية، ألفيناه يرتبط عندهم -أساسا- بالطابع المجسد أو الملموس؛ أي إنه يلتصق بمجال مكاني و فضاء لفظي يوجد بوساطة الكلمات المطبوعة. و على هذا الأساس سنجاري "لحمداني" في اعتبار الفضاء النصي أحد الأشكال الرئيسة المكونة للفضاء الروائي؛ باعتبار أن كل ما يدخل ضمنه يعتبر عناصر لسنية أساس، تحمل القارئ على فهم معين للعمل و تفصح عن دلالات كثيرة، إذا أجاد قراءتها و ربطها بعالم القصة المتخيلة. و نقول الشيء عينه عن "الفضاء كمعادل للمكان" أو ما ندعوه بالفضاء الجغرافي، الذي نعتبره أكثر المباحث التصاقا بمفهوم الفضاء الروائي، بل تفوق أهميته عندنا الفضاء النصي، و بذلك سنعده أول أشكال الفضاء الروائي و أشدها حضورا؛ لأنه يتجسد كذلك ضمن مساحة مكانية، و يتعالق بخاصة بالأمكنة المرجعية و التخيلية التي يضمها النص السردي. على أننا سنخالف" لحمداني" و نعتبر(الفضاء كمنظور أو كبؤرة)-و الذي سنرتضي له تسمية "الفضاء رؤيةً سرديةً"- أحد المباحث الأشد التصاقا بمقولة الفضاء الروائي، حتى و إن أشارت إليه "جوليا كرستيفا" كمبحث شائع يدخل ضمن الرؤية السردية التي تعد إحدى مكونات الخطاب الروائي. لاشك أن للشخصيات الروائية علاقة وطيدة بالفضاء الجغرافي، أو ليست الساكنة فيه، و المنفعلة داخله و المكونة لفاعليته و حركيته، كما أن لها الحق في اتخاذ الرؤية و الموقف الذي يلائم تصورها و تفكيرها. و نحن نشير هنا على وجه الخصوص للراوي، ذلك الكائن التخييلي الذي أبدعته أنامل الروائي، و الذي يأخذ الدور الأعظم ضمن المسيرة القصصية؛ حيث يتكفل برسم خطة نرى أن للكاتب فيها الدور الأعظم، حيث ينشر بوساطته رؤيته الخاصة. إن الروائي كما تقول" كرستيفا" يقبع خلف الخشبة المسرحية يشرف على العمل ككل؛ ليظل كل شيء تحت رقابته. والفضاء يتأسس بوساطة وجهات نظر متعددة، بدءا من الراوي؛ بوصفه كائنا تخييليا، و من خلال اللغة التي يستخدمها في تشكيل أفضيته، و من بقية شخوص الرواية . إن الفضاء الذي ستجري فيه حوادث القصة المتخيلة ينبني بالدرجة الأولى على وجهات النظر التي تنصهر جميعا لتشكيله و تشييده، و لا نظن أننا نستطيع الحديث عن الفضاء، دون الإشارة إلى وجهة النظر التي يجسدها الراوي من خلال إعلانه الانحياز إلى موقف ما، أو إلى رؤية الشخصية القابعة في المكان الذي يدخل في رؤية الكاتب المكانية. إننا نؤمن بأن هذا النوع من الأفضية هو أداة تعبيرية قوية تفصح عن موقف الروائي مما يحيط به، فهو ينظر إلى الأشياء و ينظمها، انطلاقا من قناعاته الفكرية و الجمالية معا. على أن الناقد الجزائري "عبد المالك مرتاض" يناقض هذا الرأي؛ إذ يرى أن الروائي إذا أراد أن يعبّر عن نظرته للوجود ليس عليه أن يذهب إلى مكون الفضاء، و يتخذ منه وسيلة لبلوغ هذا الهدف، بل إن له طرقا متعددة لإبراز ذلك. إن القراءة المتأنية و الدقيقة لعنصر "الرؤية" و تطبيقه على أي عمل روائي، يكشف الدور الهائل الذي يكتسيه في التعرّف على موقف الروائي، بل إن الرؤية السردية أو التبئير كما يسميه "جنيت" و كما تعبر عنه "ميك بال" يمكن أن يتخذ صورا متعددة: التبئير من قبل من؟ و على ماذا؟ ويدخل الفضاء الجغرافي بخاصة كأحد المبأرات الهامة التي تكفل دراستها كشف النقاب عن غوامض كثيرة. وإذا عدنا إلى التشكيل الرابع للفضاء الروائي، و هو الفضاء الدلالي الذي يرتبط بقضية الصورة و المجاز فنقول :إن الكلمة ليست معنى ثابت، إنما تغير معناها على الدوام كما يصرح "تزفتان تودوروف". و منذ العصور الوسطى بأوربا أخذت علوم البلاغة تهتم اهتماما متزايدا بعنصر "الأسلوب" و خاصة صوره اللفظية "Figures. و يقول "جنيت" في هذا الصدد: " إن كتابتنا لا تزال متشعبة بضروب الاستعارات و الصور، و إن ما يصطلح عليه بالأسلوب يظل مرتبطا بآثار المعاني الثانية، تلك التي تسمى في اللسانيات إيحاءات. فما يقال في ملفوظ يتضاعف دوما بما تقوله الكيفية التي يقال بها . و يشير صاحبا كتاب "نظرية الأدب" إلى أن البنية في اللغة الشعرية تقوم على الصورة ، و يعتبر "فرانسوا مورو" أن الصورة الشعرية هي طريقة للكلام، و من أدواتها الاستعارة و التشبيه والكناية و المجاز المرسل. و لو عدنا إلى الأدب العربي لوجدنا أن المجاز"هو المعبر الأول الذي تلجه الصورة الشعرية مكتسية بألوان من تشبيه و استعارة و كناية". إن ارتباط الصورة بالشعر أكثر من ارتباطها بأي فن أدبي آخر، و قد مثلت في المؤلفات النقدية الغربية " الخاصية الأساسية للغة الشعر" أو هي " الجسر الذي يصل المتلقي بالقصيدة و الجناح الذي يحمله و يرتفع للالتحام بعوالمها". إن الصورة هي " المنبع الأساس للشعر الخالص" و بتعبير آخر يدل على تعالقها الشديد بالشعر نقول: إن "الصورة في الشعر كالشمس في الحياة". لقد عمدنا إلى إيراد هذه المقولات؛ للتدليل على ارتباط موضوع الصور و المجاز بباب الشعر؛ إذ إنها تمثل جوهره، و تظهر براعة الشاعر بخاصة، عند توظيف أدوات متباينة من استعارات و تشبيهات و كنايات؛ لتحقيق أقصى درجات الجمال شكلا و مضمونا؛ ليتم التواصل بينه و بين المتلقي. أي إن مبحث "الصورة" شائع في مجال الشعر و صالح له أكثر، و لا نظنه يتعلق كثيرا بالدراسات الحكائية، إذ نعتقد أنه من الصعوبة الإحاطة بهذا العنصر و تطبيقه على الفنون الحكائية بشتى صنوفها، بل على جنس أدبي طويل مثل الرواية. و لا نكاد نعثر ضمن الدراسات العربية على بحث مستقل يعنى بالفضاء الدلالي المذكور آنفا، إذا استثنينا في هذا الصدد بعض الوريقات التي تمكنّا من الاطلاع عليها ضمن كتاب "النقد البنيوي و النص الروائي" و أقام بذلك بعض التصنيفات لهذا النوع من الأفضية و هي الأصل الفضائي، و المجاز الفضائي، و الاستعارة الفضائية، و الكناية الفضائية بنوعيها الرمز الفضائي و الإيماء الفضائي) . وإن كنا نشيد بجهده هذا، إلا أن ما يطبع مفاهيم "سويرتي" عموميتها، و عدم تدعيمها بأمثلة توضيحية تبين عن دلالة التقسيمات التي وضعها، ينضاف إلى ذلك التقارب الشديد بين بعضها، إلى حد يصعب التفرقة بينها، كما أن بعض تلك التقسيمات تدخل ضمن باب الشعر مثل الإيماء الفضائي. إذا كان الفضاء الدلالي كما أشرنا سابقا يتوجه صوب المعاني المجازية التي تنبثق عن المعاني الظاهرة الحقيقية، و إذا كان الشعر يستخدم هذا اللون في بناء صوره الشعرية بوساطة آليات مختلفة، فإننا نحسب أن الرواية تستعين بأساليب فنية في بناء عالمها. إن الأفضية الجغرافية التي رسمتها يد الروائي لم تنشأ اعتباطا، إنما لتحقيق غايات و أهداف يرتضيها صاحبها؛ أي إنها تكون محملة بشحنات دلالية و إيحاءات رمزية، فهي بمثابة حيل لغوية يراد بها على الدوام المعاني البعيدة الخفية المستعصية، لا المعاني القريبة الظاهرة السهلة. إن عمل الروائي سيشبه عمل الشاعر، على أن لكل واحد آلياته التي يبغي من ورائها بث خطابه للمتلقي، و يريد أن يخفي شيئا من الكلام و أن يطويه؛ ليتكفل القارئ فيما بعد من فك طلاسمه. من هنا سيكون الفضاء الدلالي الذي يبحث عنه الناقد متناثرا في ثنايا العمل الروائي ككل، و لا يمكن أن نخصه بعنصر دون الآخر؛ فلتوظيف بعض الأمكنة دون غيرها دلالات معينة، كما يحمل وشي "الغرفة" مثلا ببعض الصفات رموزا خاصة، و على هذا الأساس سيكون هذا الصنف حاضرا في ثنايا الأفضية ككل، وسيكون الخفي الظاهر في الوقت نفسه، لن نموضعه في مكان معين، إنما سنلفيه متمظهرا بدافع القوة التي يفرضها الروائي عليه، و بالتالي سيُتضَمن في دراسة الأفضية الثلاثة "الفضاء الجغرافي، و الفضاء رؤيةً سرديةً، والفضاء النصي". و انطلاقا من هذا سنعتبر أن أقسام الفضاء الروائي-حسب رأينا- ثلاثة نقدمها حسب الأهمية بالترتيب التالي: - الفضاء الجغرافي: و نراه السمة الأساس التي تطبع مقولة "الفضاء"، و المكون الأكثر حضورا و تجسدا في العمل الروائي. - الفضاء رؤيةً سرديةً: و نعتبره أدنى درجة من المكون الأول، على أنه يكتسب أهمية بالغة في التعبير عن وجهات النظر و كشف الأفكار و الرؤى و القناعات. -الفضاء النصي: و نعده عنصرا مساعدا على استجلاء بنية الفضاء ككل، و كاشفا عن خصوصية الفضاءين السابقين، إذا أحسن الناقد قراءته و وصله بهما
منقول