"يالو" لإلياس خوري
الخطاب الروائي وتعدّد تقنيات السرد
*عزت عمر
1 المبنى الحكائي والمغزى الدلالي:
عالم رواية "يالو" لإلياس خوري، يغرق في تفاصيل "بابل" المعاصرة، بيروت، بحروبها وأغرابها وفقرائها وأمرائها وأشباحها غير المرئية، ولكن أفعالها ملتمسة أبداً في الآثار الناجمة عن الحرب والفعل الاجتماعي على مصائر شخصياته التي انتقاها بعناية فائقة. و"يالو" نموذج لأولئك الفتية الطالعين من أحياء القهر الطائفي والطبقي: أحياء فقراء المدن والغرباء، الذين جعلتهم المدينة العربية مع الأسف حطباً جاهزاً للاشتعال لأي حريق يريدون إشعاله، وما أكثر حرائق السلطات العربية، وما أكثر جيوشها غير المحاربة، ورجال أمنها الذين سيستأسدون على أبناء أوطانهم! وما أكثر ميليشياتها المستعدة دائماً للقتل وإراقة الدماء بدعوى ترتيب البيت!!
سيتعاطف القارئ هنا مع "يالو"، الشاب السجين الذي سرقت منه طفولته مبكّراً، فلم يعد قادراً على التمييز بين الواقع والخيال. كان طفلاً لم يبلغ عهده بالشباب بعد عندما استجاب لنداء القتل والدم، وحاله في ذلك حال كتيبة "التيوس" السريانية التي خاضت غمار الحرب بكلّ شراسة؛ على الرغم من أن هذه الحرب ليست حربها، وهذه الديار ليست ديارها.
"يالو" الطفل الذي مازال مسكوناً بعالم الحكايات والأساطير والخوارق التي يحكيها له جده المنتمي إلى ثقافة قديمة، سيدرك نتائج الحرب حال عودته من باريس إلى بيروت ومن ثمّ إلى "بلّونة"؛ فبالأمس القريب كان قاتلاً، واليوم بات كلب حراسة، يحمل "الكلاشن" لكي يدرأ عن سيدة الفيلاّ اللصوص، بينما سيمتلئ فضاء "بلّونة" بالعهر. وهو إلى ذلك سيشعر بأنه نكرة ولا دور له في هذه الحياة سوى أن يكون كلب حراسة، أو ذكراً فحلاً يلبي الرغبات حين اللزوم، وهو إلى ذلك سيواظب على ممارسة دوره الذي كان في الحرب، وسيمارس لعبة الإرهاب التي تعلّمها بالأمس، إلى أن يلتقي شيرين رعد، فيسعى لاستعادة إنسانيته المسروقة. وبكلّ رغبة العاشق غير المجيد للإتيكيت الاجتماعي، سيحاول أن يتخلّص من زمن الحرب، وزمن أمّه وجدّه، ويعيش حياته كإنسان جديد. ولكن هذه الرغبة لن تتحقق لأسباب يستخلصها القارئ مما جرى ليالو لاحقاً. إذ لا يكفي المرء أن يعلن رغبته في الانعتاق من جحيم ما، فـ"الآخرون هم الجحيم"، والمدن هي الجحيم، وخصوصاً عندما تقتضي أزمة ما، أو مشكلة ما تقديم أضاح شابة لآلهة شرّ منهومة وهرمة. وما بين حرائقه الذاتية المتشظّية وجحيم الأمكنة، سنجد يالو مصلوباً على الدوام في غرفة التحقيق أو التعذيب، وثمة محقق صبور جاثم في فضاء المكان يسعى بكلّ ما أمدته "آلهة الانتقام" من جبروت لانتزاع الاعترافات منه، حيث إن تهمة اغتصاب شيرين رعد وغيرها ممن كنّ يرتدن بلّونة، لا تعنيه إلاّ شكلياً، وإنما كلّ جبروته سيتركّز على سحب اعتراف من "يالو" يورطّه في قضية تفجيرات شهدتها بيروت واتّهم فيها عملاء الموساد الإسرائيلي. وباعتباره الممثل الرسمي لآلهة الانتقام الغامضة الغاضبة، فإنه سيقوم هنا بتقديم أضحية مناسبة لها، فهو يدرك أن "آلهته" المنزعجة لن تهدأ حتى ترى الدماء مراقة.
ومن هنا فإن تركيز السارد على البياض في غرفة التحقيق أو ما اختزنته ذاكرة يالو من: أكفان خلال الحرب، ورؤوس شائبة في بلّونة، أو لحية جدّه الذي ما انقطع يوماً من الحديث عن الموت؛ إنما كانت جميعاً تمثّل معطيات دلالية تشير على الدوام إلى الموت: موت فجائعي لبضعة أجيال من الشباب حوّلت مصائرهم قسراً نحو دائرة القتل والعنف، نحو دائرة الخراب المطلوب منّا جميعاً أن نرتع فيها ككائنات الخرائب المذعورة أبداً، بدلاً من الرخاء والازدهار والتقدّم الذي كان من الممكن أن تصنعه هذه الأجيال الشابة.
إنها ملحمة تراجيدية تؤكّد باستمرار أن الزمان في بلادنا لا يذهب في استقامة، شأنه في ذلك شأن أزمنة الأمم الأخرى، وإنما في إعادة تمثيلية بريموثيوسية لرحلة العذاب الإنساني التي بدأت في لحظة موغلة من تاريخ المنطقة، وما انفكّت تعيد نفسها بأشكال جديدة، تلبية لرغبة "الآلهة المنهومة" في أن يبقى الإنسان راكعاً أو زاحفاً فقط، وأن يبقى العنف والقمع سيرورة تخصّنا بامتياز: قمع سياسي واجتماعي وثقافي، الكلّ يقمع الكلّ بوحشية لا مثيل لها، والشاهد على ذلك: "يالو" الفتى النموذج، وهو مقحم في غمار حرب همجية سرقت منه طفولته وشبابه ومستقبله، أو وهو مرميّ في غرفة التعذيب ينتهك إنسانيته جلاّدون متمرّسون في فنون التعذيب واستخلاص ما يريدون من اعترافات من فمه. وسوف نرى هنا أن الروائي لا يدين فقط أشكال القمع السلطوي فقط، وإنما ستتضح صور قمع عديدة: القمع الاجتماعي في صورة أصحاب الفيلا، القمع العاطفي في صور جدّه وأمه وشيرين رعد، والقمع الثقافي في صورة صديقه في باريس، ومن كلّ ذلك ماذا سيتبقى ليالو؟
لن يتبقى له سوى حذف هذه السنوات المرّة التي عاشها مع الحرب التي أُجبر عليها ظناً منه أنها مجرّد لعبة، والعودة إلى طفولته؛ إلى أحضان الأمومة العظيمة، إلى الخميرة التي ستصير خبزاً يشبع جياع العالم، وليس ثمة أبلغ مما قالته أمه له ذات يوم عن لا جدوى اشتراكه في الحرب: "نحن يجب أن نبقى خميرة، نحن لا نحارب يا ابني، الخميرة لا تتقاتل مع العجين، بل تدخل فيه وتخمّره، كي يصير خبزاً. توقّف عن الحرب واذهب إلى المدرسة.."
أو مما قاله الكوهنو العجوز:
"نحن مشينا في عتمة التاريخ، ورح نبقى بالعتمة حتى تطلع شمس العدل." وحين يسأله يالو عن شمس العدل، يجيب الكوهنو: "يا ابني نحن ناطرين مملكة المسيح، وهو قال إن مملكته مش من ها العالم" ؟
فإذاً عبث هي هذه الحياة، عبث أن تنتظر أحداً لا يأتي، ولن يبقى من أمل سوى الموت، طالما أن الرغبات البسيطة لن تتحقق في ظلّ هيمنة آلهة الشر. والموت هنا موت أجيال وثقافات فهل أراد الكاتب أن يوصلنا إلى ذلك؟
الإجابة نعم، ولكننا نعتقد أن الأمر بمثابة تصعيد درامي لحبس أنفاس القارئ، وهو يتابع سيرة هذا الشاب المليئة بالقتل والعذاب والدم ، ولكنه في الوقت نفسه يفتح طاقة من الأمل، وكأن الروائي بذلك يريد أن يؤكّد لقارئه: أنه رغم عبثية الحياة وكلّ شيء فيها، إلا أن الإنسان فينا لن يموت، بدليل أن "يالو" نزل عن "عرشه" أو "قنينته" ولم يمت، وإنما من مات هو ذلك اليالو الآخر الذي مارس القتل في الحرب الأهلية، والإرهاب والاغتصاب في "بلّونة". والشخص الماثل أمامنا الآن هو "يالو" آخر ولد من جديد، أو إنهم "يالوات" كثيرة ولدت من جديد، وقد حدثت هذه الولادة /الولادات مع الألم، حيث لا ولادة بدون ألم..
2 طرائق السرد
2.1 "يالو" و البدائل السردية.
بنية السرد في رواية "يالو" ترتكز بشكل أساسي على الموروث السردي العربي، وخصوصاً ألف ليلة وليلة، وما تؤسس له من حكايات تمزج بين الواقعي والخرافي، وانطلاقاً من العجيب إلى الأعجب، ضمن حكاية إطارية عامة، تنفتح على إطارات عديدة عبر آلية الاسترجاع والاستطراد، ولكن "يالو" إذا كانت تستخلص مشروعيتها من هذا التراث السردي الذي بلغ مدى كونياً، إلاّ أن إلياس خوري هنا يسعى لطرح بدائل سردية تعبّر عن خصوصية جديدة، سعياً منه للخلاص من عدوى السرديات الغربية التي كانت ومازالت مشعّة في فضاء الثقافة العربية إلى درجة أنها باتت المثال الذي ينبغي أن يحتذى، وكلّ شيء باطل عداها، ولأن كلّ خروج عمّا أسّسته هذه الرواية من قيم في البناء والموضوع، إنما سيلقى إهمالاً متعمداً لدى النقاد والدارسين الذين ما كانوا للحظة واحدة يتصورون أنه بالإمكان مفارقة حالة المثال، نظراً لثقافتهم المؤسَّسة هناك. ولكن بزوغ فجر الرواية الجديدة في أمريكا اللاتينية مع ماركيز وغيره، والاستقبال الحافل الذي لقيته؛ أكّد أن الرواية بشكل خاص ينبغي أن تعبّر عن خصوصية ما وإلاّ فإنها بحسب المثل القائل: "هذه بضاعتنا ردّت إلينا".
لقد كان إلياس خوري منشغلاً على الدوام عبر تجاربه القصصية والروائية بإيجاد بدائل بنائية لهذا الجنس الأدبي الطارئ على حياتنا في صيغة جديدة اسمها "رواية" مكتوبة وليست محكية. وربّما كان تفكيره منصبّاً على اللغة بوصفها منتجة هذه الكتابة أوّلاً وأخيراً، وليست وسيلة لإيصال الفكرة كما يشاع، وبالتالي فإنه كان يدرك أن إشكالية الرواية العربية تكمن بشكل أساسي في هذه اللغة التي كانت منشغلة على الدوام بالبلاغة العتيدة التي أسّس لها الشعر، أو المقامة في حدّ أدنى من جانب النثر. وما كانت الذائقة النخبوية العامة لترضى أن تتنازل عمّا حققته اللغة من مستوى بلاغي رفيع بقياس ذلك الزمان. ولكن من الوجهة الأخرى حيث نهر الحياة الصاخب بعد دخول المجتمعات العربية مرحلة الحداثة، سنلتمس لغة الشارع ولغة الصحافة اللتين ما كانتا لتنتظرا لحظة واحدة؛ خروج لغة البلاغة عن تعاليها وتفضّلها باجتراح خطّ وسط قادر على التعبير عمّا يحتاجه الناس من مصطلحات وتعابير استجدت . وما بين هذه الجهة وتلك، نشأت القصّة والرواية حائرة بين أيّ من السبيلين ستأخذ، وهو السؤال الإشكالي الذي رافق نهضتها، ولن ندخل في السجالات العديدة التي نظّرت لكلّ ذلك لأنها معروفة.
ومن هنا فإننا نعتقد أن ميل إلياس خوري للتعبير باللغة المحكية اللبنانية في الحوار بين الشخصيات والحوار الداخلي والسرد المبسّط الشفّاف، إنما بغاية جعل هذا السرد يعبّر عن خصوصية مفتقدة منذ "ألف ليلة وليلة"، حيث أدرك الناس بعفويتهم أن لغة الحكاية ينبغي أن تفترق عن لغة الشعر، وأنها بالضرورة ينبغي أن تعبّر عن المستويات الاجتماعية والثقافية التي تحتويها. وبغض النظر عمّا ستتركه هذه الخطوة الجريئة من أثر في الساحة النقدية، فإننا نعتقد أن هذا النمط السرديّ الجديد يعبّر عن مرحلة تجاوز خلاّقة للمألوف السردي العربي، وذلك بما ابتدعه مؤلّفه من ضروب جديدة في التعبير، وفي طرائق تقديم الحكاية التي تماهت فيها العناصر الفنيّة، لتشكّل فيما بينها جسداً حياً زاخراً بالشعرية بكلّ معنى الكلمة، وتلك هي النقلة التي كنا تحدثنا عنها، ونأمل أن نفيها حقّها فيما سيأتي.
3 أنساق السرد الرئيسة:
ينهض البناء النصّي في "يالو" على وجود راو أساسي مفارق لمرويّه، وسيعمل على سرد الحكاية من خلال الشخصية الرئيسة "يالو". وإلى جانبه ثمة رواة آخرون من داخل الحكاية، سيعملون على إضاءة جوانب عديدة من حياته بمن فيهم "يالو" نفسه، بغاية إقناع المتلقّي، وجعله يتأثر بهذا الشكل أو ذاك بموقف الكاتب من شخصيته الرئيسة. وسيكون السرد الموضوعي أو المحايد، هو الأنسب لمثل هذا التوجّه، وذلك لأنه سيمكّنه من التحكم بمجريات القصّ، وتوجيهه الوجهة التي يريد؛ باعتباره يعرف كلّ شيء عن حياة البطل بما في ذلك أسراره الشخصية، وهذا ما يسمّيه منظرو السرديات بـ "الرؤية من خلف" حيث يعرف السارد عن شخصيته أكثر مما تعرفه الشخصية عن نفسها، وبذلك فإن سلطة الراوي ستشكّل حضوراً مؤثّراً وفعّالاً في ترتيب الحكايات وتوجيه القارئ الوجهة التي يشاء . ولكن الجديد في هذه الرواية أن "يالو" الشخصية الروائية، سوف يتمرّد على الراوي، وسيسرد للقارئ حكاياته ضمن نسقين أحدهما ذاتي، والآخر موضوعي، فتبحث عن الراوي المفارق لمرويّه فلا تجده، بعدما تمكّن الراوي الجديد، الذي كان يسمّى "يالو" من إقصائه بعيداً عن الفعل السردي، لأن كلّ مفاتيح الرواية وشيفراتها باتت بيده. وإلى ذلك فإنه يمكننا تحديد أنساق السرد الرئيسة بنسقين عامين اثنين:
1 ـ الراوي المفارق لمرويّه. (السارد)
2 ـ الراوي المتماهي بمرويّه. (يالو)
وسنحاول هنا تبيان الآليات السردية التي اتّبعها كلّ من الراويين، ومدى الاختلاف والافتراق بينهما، لنصل إلى الجديد الذي قدّمه "إلياس خوري" في هذه الرواية.
3.1 تقنيات السرد للراوي المفارق لمرويّه:
سيبدأ الراوي المفارق لمرويّه هنا رواية حكاياته الشائقة عن "يالو" بدءاً من نهاية الأحداث، أو قبلها بقليل، أي لحظة وقوف "يالو" أمام المحقق في غرفة التحقيق بدعوى اغتصاب أقامتها عليه شيرين رعد، وستفاجئ "يالو" هذه الدعوى، بل ستدفعه مرات عدّة إلى الانهيار، سيما وأنه كان يعتبر "شيرين" المرأة التي أحبّ، والمرأة التي جعلته ينسى حياة التوحّش التي كان يعيشها، بمعنى أن حاله هنا يشبه حال "أنكيدو" في ملحمة "جلجامش" مع المرأة البغي. وإلى ذلك فإنه سيحاول ردّ التهمة عنه عبر استرجاع لحظة تعارفه إليها والعلاقة التي دامت نحو سنة. وآلية الاسترجاع هنا ستمكّن الراوي المفارق لمرويه من الذهاب إلى ماضي الشخصية دائماً، والعودة بحكاية جديدة. كما أن تمركزه في منتصف الحدث وباعتباره راوياً عارفاً، سيمنحانه مشروعية الإخبار، أو الإشارة لأحداث ستقع مستقبلاً، إثارة لفضول القارئ. وإلى ذلك، سيواظب الراوي على السير بالاتجاهين المتعاكسين زمنياً، سعياً منه لإمتاع قارئه، وشدّه إلى حكاياته حتى النهاية، عبر الأساليب التالية:
3.1.1ـ أسلوب التداعي:
يتّجه منظرو الرواية إلى أن المعيار الرئيس لبناء النصّ السردي يرتكز بشكل أساسي على الزمن، وهم إلى ذلك ميّزوا بين "المتن الحكائي" و "المبنى الحكائي"، واعتبروا أن زمن "المتن الحكائي" هو زمن القصّة الخطّي التسلسلي الذي سيتكاثف في ذهن القارئ بعد انتهائه منها. بينما زمن "المبنى الحكائي" هو زمن "الخطاب" الذي يتألف من الأحداث والمواقف ذاتها، ولكن في أساليب عرض مختلفة، تنهض بشكل أساسي على الطريقة التي يقدّمها بها المؤلّف.
ومن هنا فإن "المبنى الحكائي" لرواية "يالو"، لن يعتمد الأسلوب الخطّي والتتابع الزمني، وذلك لأن هذا الأسلوب كلاسيكيّ وبسيط تجاوزته الرواية العربية منذ الستينيات، وإنما سوف يعتمد على أسلوب التداخل أو التشابك الزمني، والذي يقتضي، كما أسلفنا، الذهاب والإياب في الزمن، ومن هنا فإن التداعي سيكون عماد هذا الأسلوب، وسيجترح "إلياس خوري" هنا تقنية المشهد السينمائي الذي يعتمد القطع، والعودة إلى زمن القصّة، ومن ثمّ العودة مجدداً إلى ما كان قد توقّف عنده، لتعزيز عملية التداعي، ولطرح جملة من الأسئلة عبر الحكاية لتستقر في ذهن المتلقّي، فيبحث عن إجاباتها، وهذه التقنية السينمائية المعتمدة في بناء الرواية ستقوم على جملة من المحرّضات سنوضّحها في حينها.
وعلى هذا الأساس فإن لحظة وقوف "يالو" أمام المحقق في الساعة العاشرة من يوم 22 كانون الأول 1993 بسبب دعوى التحرّش المقامة ضدّه من قبل "شيرين رعد"، سيدفعه بالتأكيد إلى ردّ التهمة عنه عبر التداعي، الأمر الذي يسمح بفتح أطر زمانية جديدة، وكلّ إطار سيحمل بدوره حكايات جديدة، وبذات الوقت سيسمح بدخول شخصيات الرواية إلى الخشبة فرادى ومجتمعين اعتماداً على ذاكرة "يالو" المشوّشة وغير المنظّمة، فنتعرّف إلى شيرين رعد، الفتاة التي تعرّف إليها في "بلّونة" قبل توقيفه ببضعة أشهر، وعاش معها قصّة حبّ لم تكتمل، وهاهي الآن تدّعي عليه بتهمة التحرّش الجنسي، ليبدأ الفعل السرديّ من هذه اللحظة.
سوف تفاجئ هذه الدعوى الغريبة "يالو"، وسيعبّر الراوي عن هذه اللحظة قائلاً: "لم يفهم يالو ماذا يجري، وقف أمام المحقق وأغمض عينيه، كذلك كان يفعل، يغمض عينيه حين يواجه الخطر، ويغمضهما حين يكون وحيداً." وستكون هذه الحكاية الأولى، مع جملة الأسئلة التي تكوّنت في ذهن يالو للتوّ بمثابة إطار سرديّ بسيط وهشّ إلى درجة تسمح باختراقه من جهات عديدة، فمن جهة ستكون هناك حكايته الأساسية مع شيرين، ومن جهة ثانية سيرته الشخصية ونشأته في كنف جدّه وأمّه، ومن جهة ثالثة حكاية انخراطه في الحرب الأهلية، ثمّ هروبه إلى باريس مع طوني عتيق، وهناك لقاؤه مع المحامي ميشال سلّوم الذي أعاده إلى بيروت فبلّونة، ثمّ علاقته بزوجة المحامي، وانتهاء بشيرين رعد. وكلّ حكاية من هذه الحكايات التي عدّدناها للتوّ، ستحتوي على الكثير من الحكايات التي بدورها ستضيء للقارئ جوانب عديدة من حياة الشخصية الروائية، بالإضافة إلى ما ستضيئه عن الزمن التاريخي والقيم الاجتماعية السائدة وغير ذلك. وكلّ هذه المحطات الزمنية ستسير على التوازي مع الحكاية الإطارية الكبرى، وستبقى مفتوحة على الاحتمالات طالما ظلّت الحكاية الإطارية مفتوحة؛ وهكذا في نوع من تبادل المواقع بين الواقع والتاريخ من جهة، أو بين الحقيقة والخيال من جهة ثانية، ليتأسس المتن الروائي حاوياً كلّ هذا المزيج المدهش في 380 صفحة من السرد، دون أن يسبب ذلك خللاً في البنية الحكائية، بل سيعززها ويدفع بها قدماً إلى الأمام، وهذا ما سنوضحه فيما يأتي من محاور:
3.1.1.1 محور الطفولة والعائلة.
عندما يصرخ به المحقق: اعترف، سوف يسمع "يالو" في تلك اللحظة صوت جدّه الكوهنو (الكاهن) وهو يقول له بصوته المبحوح: "اعترف.. اعترف يا ولد"، وجدّه هذا الذي بات اسمه الخوري أفرام، هو حكاية قائمة بذاتها ولغز كبير كاد يطيح بالشخصية الأساسية، فهو سيشغل القارئ على الدوام: بأصوله، بحكاياته، بحكمته العميقة، وبجنونه.
ولد الكوهنو بقرية "عين ورد" في الجزيرة السورية، ومع المذبحة التي شملت مليون ونصف المليون أرمني من قبل العثمانيين، فإنها بطريقها من أقصى الشمال، وصلت إلى الجزيرة لتحصد في هامشها أهل "عين ورد" من السريان، فلم يبق فيها سوى الأطفال الذين وزّعوا على الأكراد الذين استوطنوا القرية بدلاً من أهلها. وكان حظّ "هابيل أبيض" أن أخذه الملاّ مصطفى زعيمهم. فتربّى في كنفه، وتغيّر اسمه من هابيل إلى أحمد، وصار فتى كردياً، يتكلّم الكردية والتركية والعربية، ولكن خاله الذي كان قد هرب إلى القامشلي، وهي منطقة مجاورة، عاد بعد بضع سنين ليأخذه. وهكذا فإنه سوف يعود إلى ديانته السريانية، وسيغادر القامشلي إلى بيروت حيث تبدأ حياته هناك كعامل في معمل للبلاط، ومن ثمّ سينضمّ إلى سلك الرهبان ويصبح اسمه الكوهنو أفرام.
إنه شخصية مثقلة بالماضي وأسراره، وهو إلى ذلك سيشكّل حضوراً فعّالاً في حياة حفيده "يالو"، حيث إنه سيربّيه بعد رحيل والده السوري الحلبي، ولكي يتمكّن من منحه الجنسية اللبنانية، فإنه سوف يزوّر الوثائق الرسمية، ويجعله ابنه، وهكذا فإن "يالو" سوف يصبح رسمياً شقيق أمّه وابن جدّه. ومن هنا فإن الكوهنو سيشكّل دعامة كبيرة للسرد، فعبره سيتوغّل الكاتب في تاريخ السريان، واللغة السريانية؛ لغة السيّد المسيح التي انقرضت، أو شبه انقرضت، وستجعله يركّز على الدوام على هذا الجانب لكي ينبه إلى خطورة الأمر، بل فداحته، سيما وأن اللغة السريانية هي: لغة السيد المسيح من جهة، و من جهة أخرى، أنقذت التراث العالمي من الضياع، بما قدّمته من ترجمات مختلفة لعلوم ومعارف اليونان الفلسفية والعلمية، للدولة الإسلامية الناشئة في دمشق، ومن ثمّ بغداد. أما على صعيد التقنية الروائية فإن شخصية الكوهنو بما تحفل به من تنوّع ستساعد الروائيّ على إقامة تناصّات عديدة، سيوظفها الروائيّ بذكاء كبير، وخصوصاً، إقامة الطقوس الدينية على شاطئ البحر مع أفراد أسرته، لأنه كان مسكوناً على الدوام بعالم الخوارق والمعجزات، وكلّ شيء ممكنّ وقابل للتصديق لديه: المشي فوق الماء، استحالة الماء المالح إلى ماء عذب بمجرّد إقامة الطقوس التي يمارسها في عيد الغطّاس من كلّ عام، وهذا بدوره سوف يأخذنا إلى زمن أبعد، زمن موغل في الأسطورة التي ما زالت حاضرة برغم زمن الحداثة. وسيتذكّر "يالو" تلك اللحظة التي أجبر فيها "شيرين" على شرب ماء البحر، متقمّصاً شخصية جدّه الكوهنو عندما كان يصطحبه وأمه في ليلة عيد الغطّاس إلى الشاطئ، في انتظار الروح الذي يهبّ حيث يشاء: "على شاطئ الرملة البيضاء، وبعد أن يليّل الليل، وتنتشر النجوم الصغيرة التي تخترق الغيوم فوق البحر، ينحني الكوهنو على الماء ويشرب، يمشي قليلاً وسط مياه باردة وأمواج مرتفعة، يمسك يد حفيده بيمناه، ويد ابنته بيسراه ويتقدّمون في البحر، وعندما ترتفع المياه إلى خصر الطفل، ينحني الكوهنو، يتمتم بكلمات غريبة بلغته الغريبة، ثمّ يملأ يديه بالماء ويشرب، يسقي الأم أوّلاً، ثمّ ابنها، وبعد أن يشرب ثلاث مرّات، يمشون إلى الوراء تراجعاً، وحين يصل الثلاثة إلى الشاطئ تفتح الأم شنطتها، وتخرج منشفة كبيرة بيضاء، تنشّف بها جسم يالو المزرّق من البرد، وطعم الملح الذي يحتل لسانه وأحشاءه، والجدّ الكوهنو الذي يقول: المي صارت حلوة وطيبة. آمين تقول الأم. آمين يقول يالو، ثمّ تقف الأم على الشاطئ وتبدأ بفكّ شعرها الذي سيصل إلى الأرض، وعندها سيذهب الكوهنو إلى البحر ليجلب قليلاً من ماء البحر ويبدأ في تمشيطها انتظاراً للأعجوبة بأن يتحوّل شعرها إلى ذهب، وكان الكوهنو خلالها يجبر حفيده على إبقاء عينيه مفتوحتين لأجل أن يرى الأعجوبة وهي تتحقق.
أمّه "غابرييل" أو "غابي" كما كانوا ينادونها، سنتعرف إليها من خلال الراويين: فتاة في الثامنة عشرة من عمرها، تذهب لمشغل إلياس الشامي للخياطة، وهناك سينفتح قلبها للحبّ لأوّل مرة، وستحبّ المعلّم الشامي على الرغم من أنه متزوّج وكاثوليكي، وسنقف على تفاصيل كثيرة لهذه العلاقة الشائهة بين رجل كبير في السن وفتاة صغيرة؛ سعت للخروج مبكراً من هيمنة أبيها الكوهنو، ولكنها وقعت بين براثن كهل شبه مجنون. وعندما تتزوّج من "جورج جعلو" كانت تدرك أنه سوف يتركها ذات يوم، وبالفعل فإنه سوف يهاجر ويتركها حاملاً في شهرها السابع، وبعد الولادة ستعود إلى إلياس الشامي، ولكن الأب الكوهنو سيوقف هذه العلاقة الآثمة، نظراً لأن الخياط متزوّج، ولا يرغب أصلاً بالزواج من "غابي".
ولكن يالو عندما يكتب وهو في السجن سيقول: "أنا لا أوافق أن مأساة الأم كانت بسبب إلياس الشامي، إلياس كان نتيجة، أما السبب، فيجب أن نبحث عنه عند الكوهنو أفرام. عاشت معه "غابي" بعد وفاة زوجته، وكانت ابنته وزوجته وأمّه. رجل موسوس ومهووس بفكرة الموت." ولكننا لا نتفّق معه فيما ذهب إليه، نظراً لأن "غابي" كانت تعيش مجموعة من الأزمات: زوج هارب، وعشيق كبير في السنّ، وأب كلّي السيطرة، وهي إلى ذلك سوف تتأزم مع مرور الزمان لشعورها بالحرمان، فتدخل في فاصل من الجنون الهادئ. ولذلك سنراها على الدوام تغسل وجهها، ثمّ تقف أمام المرآة لساعات: "الآن يتذكّر يالو أمّه، يرى امرأة مليئة بالعمر، تحمل شمعة في يدها، وتأتي إلى غرفة ابنها الوحيد. كانت تلبس قميص نوم طويلاً أزرق، وشعرها ينساب على كتفيها، فيسألها: "شو في غابي"، فتجيبه: "الحقني الله يخلّيك". نهض يالو يتبعها، وقفت أمام المرآة وأدنت الشمعة من وجهها، ثمّ قالت له: "بطّلع بالمراية ما بشوف وجهي، المراية بلعتو، انت شايف شي يا ابني؟" وصارت تقضي الليالي أمام المرأة، وبدأ يالو يخاف منها، لا يفهم ماذا جرى لأمه، في النهار تكون عادية ولا تحاكي صورتها، بل تقف أمام المرآة وتمشّط شعرها، أما في الليل فالمرآة تصبح همّها وهمّه، كل ليلة تأتيه إلى غرفته وتسأله، مدّعية أنها لا ترى في المرآة سوى نقطة بيضاء.."
فإذن بالنتيجة، كانت "غابي" تخاف من الليل والوحدة، بدليل أنها عادت إلى إلياس الشامي بعد غياب زوجها. عادت إليه هرباً من هذه الوحدة، وأن الليل كثيف على جسمها، ولكن سيطرة أبيها عليها وعلى مشاعرها، وقطع العلاقة مع إلياس الشامي، ثمّ موت الأبّ، وذهاب ابنها إلى الحرب، بالإضافة إلى مضي سنين العمر، أمور دفعت بها إلى الجنون. ولكن يالو في السجن سيقول: "أنا أعرف أن أمي المسكينة لم تعد قادرة على رؤية صورتها في المرآة، لأنها أرادت أن تمحو سرّها.." والسرّ برأيه غموض نسبه، إذ ظلّ طوال الرواية يشكك بأنه ابن جورج جعلو، وأن أمه أخفت عليه الحقيقة.
3.1.1.2 محور الحرب الأهلية.
الرواية لا تذهب في وصف وقائع ومجريات الحرب، بل إنها لم تتخطّ الجانب الشرقي من بيروت ما بعد الحرب، وقد أسلفنا أن هدف الروائي تلخّص في تبيان نواتج الحرب ومنعكساتها على الشخصية الإنسانية في جبهة من جبهاتها، وهكذا فإن يالو ومن خلال التحقيق الطويل، سوف يستعيد حياته في الحرب، وكيف انضمّ إلى كتيبة التيوس السريانية، التي حاربت من أجل الحصول على الجنسية اللبنانية، سيما وأن أبناء الطائفة جميعهم سوريون قدموا إلى لبنان من الجزيرة السورية. وسيحكي لنا السارد قصصاً عديدة عن حياة أولئك الشبّان الذين غُرر بهم ودُفعوا إلى حرب ليست بحربّهم.. سيحكي لنا قصصاً طويلة عن "ألكسي الأشقر" وأمه الروسية، وعن "ماريو" و "سعيد المنصوراتي"، و"طوني عتيق". وإلى ذلك فإننا سنقع على وصف محزن ليالو الفتى الصغير الذي كان يمتلئ رعباً في معركته الأولى حتى إنه شعر بعدم قدرته على السيطرة على أمعائه، وأن ركبتيه لم تعودا قادرتين على حمله. كما أنه في المعارك اللاحقة كان يشعر بحاجة للتبوّل كلّما بدأ إطلاق الرصاص، وهو إلى ذلك لم يكن يفهم السياسة اللبنانية ولغة الحرب، أراد أن ينساها ويأخذها بوصفها لعبة أو كفيلم سينمائي يمارس فيه دور البطولة، دفاعاً عن شعب "ذاب في عتمة التاريخ" وهي الكذبة التي سوِّقت من أجل انضمام أبناء السريان إلى الحرب، لكنه بعد ذلك سيسأم من كلّ شيء، لأنه كان على الدوام يشعر بنفسه غريباً، وأنه يدافع عن وطن ليس له: "في الحرب، كنت أريد أن أدافع عن لبنان، وبعد ذلك اكتشفت أنني أحارب فقراء مثلي، وأنني سوف أبقى غريباً مهما فعلت.." ولذلك فإنه وافق على اقتراح طوني عتيق بسرقة أموال الثكنة والسفر إلى باريس، وهناك سيتركه شريكه بلا لغة ولا مال حتى ينقذه المحامي ميشال سلّوم.
وسيكتب يالو لاحقاً وهو في السجن بأنه كان ضحية نموذجية لجملة من الأسباب والأوضاع تآلفت ضدّه، فساقته إلى الحرب بالرغم من إرادته وأحلامه في أن يصبح فناناً في الخط العربي وشغل الأرابيسك.
3.1.1.3 محور فيللا غاردينيا.
وفي هذا المحور سيفتح السارد أطراً ثلاثة وفي كلّ إطار مجموعة من الحكايات: يبدأ أوّلها مع المحامي ميشال سلوم الذي يلتقط يالو في المترو بباريس ويعيده للعمل كحارس لفيللا غاردينيا حيث تسكن زوجته "رندة"، وابنته "غادة"، وفي هذا الإطار سنقع على تفاصيل عمل ميشال سلّوم كتاجر سلاح دولي، وهو إلى ذلك غارق في الخرافة، مثله مثل الكوهنو يصدّق حدوث العجائب، وله علاقات كثيرة مع رجال الدين.
وثانيها، محور علاقة المدام رندة ويالو التي بدأت برغبة منها، وكان عليه أن يخضع لهذه الرغبة خوفاً من الطرد، أو رغبة في التواصل مع هذه المرأة الجميلة.
وثالثها، محور غزوات يالو الليلية على سيارات العشّاق، حيث سيتعرّف إلى شيرين، وليبدأ معها قصّة حبّ شائكة وموجعة، قادته في النهاية إلى السجن.
محور شيرين رعد
شيرين رعد فتاة تبدو وكأنها خرجت للتوّ من إحدى حكايات ألف ليلة وليلة؛ فتاة جامعية لعوب تقيم علاقات جنسية بالشكل الذي تشاءه، وهي إلى ذلك تسعى للزواج من شاب لا تحبّه، وفي المقابل سترفض حبّ يالو لها، وعندما يلاحقها بحبّه ستتمكن من الانتقام منه لعدم انصياعه لرغبتها في إبقاء العلاقة في حدود الجنس المتاح والصداقة، وإلى ذلك فإنها ستبدو لنا شخصية قويّة تعرف جيداً ما تريد، وتسعى لتحقيقه بإصرار. كما أنها جريئة وصريحة إلى درجة أنها ستحكي ليالو الكثير من خصوصياتها: حملها غير الشرعي من صديقها في الجامعة الأمريكية، والإجهاض، ثمّ علاقتها الشاذة مع الدكتور سعيد. ومن هنا، فإننا نعتقد أن مشهد الخوف الذي رسمه الكاتب لتلك الليلة التي اصطحبها فيها بعد هرب عشيقها، إنما كان خوفاً لحظياً من الشخص المجهول حامل البندقية، الذي كان بدوره خائفاً كضحيته، فهو لم يرد أن تجري الأمور على هذا النحو، ولكن هروب عشيقها الكهل، اضطره إلى أن يصطحبها إلى الكوخ، بدليل أنه سيكتب فيما كتب: أنه خاف من عينيها في تلك الليلة، تماماً كما كان يخاف من أمّه ومرآتها. وهذا الخوف كامن فيه منذ أيام الطفولة الأولى: غياب والده، وهيمنة أمّه وجدّه على حياته، وغربته في بلاد لم تعترف به أبداً، وكلّ هذا الخوف سيدفعه إلى الهروب نحو الهاوية خلاصاً من هذه الحالة: فكان هروبه إلى الحرب أوّلاً، وهروبه إلى باريس ثانياً. وعندما يعود إلى بلّونة فإنه لن يزور أمّه لأنه كان ما يزال يخافها. ومن هنا فإن العلاقة مع شيرين رعد ستكشف لنا جانباً من عاطفته المنتزعة منه بفعل العوامل التي كنّا ذكرناها. والدليل زوال الخوف لحظة انبعاث الرائحة، التي يحبّ، منها. وتأكيد الكاتب على علاقة يالو بالروائح في أكثر من مكان، إنما هو بمثابة تأسيس رمزي لحال الطفولة الباحثة عن حضن الأم، أو الأهل كملاذ أخير من الخطر الداهم.
ومما لا شكّ فيه أن يالو كان صادقاً في حبّه لشيرين، وأنه كان يخطط فعلاً للزواج منها، ونسيان ماضيه كلّه، ولكنه، مع الأسف، لم يستطع أن يعبّر لها عن هذا الحبّ، بينما هي ظلّت حائرة بشخصيته، فتارة تخافه، وتارة تشفق عليه، ولكنها عندما أعادت علاقتها بصديقها الجامعي، وارتبطا بخطبة رسمية، فإنها تركته دون أسف، أو انتقاماً كما في إحدى الروايات الكثيرة التي وردت. ولذلك فإن يالو بدأ يلاحقها و"يتعذّب سنة كاملة في انتظارها، سنة وهو لا يرى غير الوعد في عينيها الصغيرتين. سنة وهو يتلفن كلّ يوم، وينتظر تحت نافذة بيتها، أو أمام مبنى شركة عرايسي للإعلانات حيث كانت تعمل. سنة وهو يتشبّح بحثاً عنها. وعندما اعتقلوه لم تخطر شيرين في باله."
وسيكتب لاحقاً أنّه أخطأ كثيراً مع شيرين، لأنه فسّر الأمور كما يراها هو، وليس كما تراها هي، ، وأنه كان من الممكن أن يتّجه حبّهما الوجهة الصحيحة لو أنه عدّل سلوكه إزاءها.
3.1.2 أسلوب التحريض.
إن عملية التداعي غير المنظّم زمانياً ومكانياً سوف تفعّله عملية التحريض، والتحريض هنا، هو عبارة عن تقنية سردية تسعى لتهيئة القارئ لقبول سرد إضافيّ يستكمل إزالة إبهام غموض سابق، أو استكمال مشهد ناقص تمّ قطعه في لحظة ما، أو لفتح إطار جديد كلياً.
وأسلوب التحريض المستخدم في الرواية، سيقوم بأداء وظيفته الفنية على أكمل وجه من خلال نسقين: أوّلهما فنّي بحت، يدعم المبنى الحكائي القائم على تقنية القطع السينمائي، ومن ثمّ الرجوع إليه لاستكمال الحدث.
وثانيهما فنّي دلالي، يسعى من خلاله الروائيّ لتأطير الحدث الرئيس، وعدم استكمال القصّة المحورية قبل أن تستكمل بقية القصص الفرعية. ومن هنا يمكننا الوقوف على جملة من المحرّضات التي يمكن تصنيفها إلى محرّضات: لغوية، بصرية، ومواقفية.
وسنورد هنا بعض الأمثلة لكلّ محرّض على سبيل المثال. فمن المحرّضات البصرية: نجد أن رؤيته لشيرين رعد جالسة في غرفة التحقيق بتنورتها القصيرة الحمراء، ستذكّره بذلك اليوم الذي طلب منها ألاّ تلبس تنانير قصيرة. أما على صعيد المحرّضات اللغوية، فإنه عندما نطق المحقق باسمها كاملاً في غرفة التحقيق، فإن ذلك دفع به لاسترجاع اللحظة الأولى من التعارف وهي تقول له: "أنا مالي اسم.. دخيلك بلا أسامي." وهذه العبارة ستجعله يستعرض أحداث ذلك اليوم الذي كان مصيرياً في حياته، حيث سيفتح أطراً جديدة لحكايات بعضها سيضيء جانباً من حكايته مع شيرين، وبعضها الآخر سيكون بمثابة استهلال لحكاية جديدة.
أما على صعيد المحرّضات المواقفية، فإنه في السجن سيقارن بين موقفه هذا وموقف الحبّار الذي يحاصره الصيادون من كلّ جهة: "إنه مثل الحبار الآن، يكتب بحبره دفاعاً عن نفسه ومقاوماً الموت، ويضلل أعداءه مطلقاً الحبر في وجوههم، فيختفي عن أعينهم في الحبر الأسود الذي يرسمه حبره داخل مياه البحر. يالو وحيد في زنزانته، عليه أن يطلق الحبر على أوراقه. إنه مثل الحبّار (الصبيدج) لا يملك سوى سلاحه الحبر، يقذفه كي يضلل الصيادين.." والذي حرّضه على هذه المقابلة بين الموقفين هو رؤيته للحبر، ومن ثمّ تداعيه إلى تلك الليلة في المطعم حيث أكلا هو وشيرين حبّاراً مطبوخاً بحبره، وها هو الآن سيكتب بالحبر لكي ينقذ نفسه من الموت، لأنه يحبّ الحياة.
إن ما سقناه من أمثلة للتوّ هي عبارة عن نماذج فقط، وإنما البنية الحكائية العامة قائمة أساساً على عملية التحريض، وأن المحرّضات اللغوية والمشهدية ستعزّز على الدوام عملية التداعي لإيقاظ الحكايات أو المشاهد الكثيرة التي انطلقت في فضاء النصّ بعد حبس طال، وكحال العصافير المحبوسة زمناً، ستكون الانطلاقة الأولى عشوائياً، وكلّ مشهد سيجرّ معه مشاهد جديدة في سلسلة غير منتهية.
إن كلّ شيء ماثل أمام "يالو" الآن في غرفة التحقيق، كلّ كلمة أو لون أو رائحة، ستدفعه إلى تذكّر جانب من جوانب حياته السابقة في مشهدية تعتمد التقطيع السينمائي بشكل حاسم كما أسلفنا، وبالتالي فإن الوحدات السردية الصغرى، ستواظب على رفد الحكاية الإطارية الكبرى بمزيد من الكلام لتتدفّق أخيراً في مجرى واحد، ولن تترابط مع بعضها إلاّ في ذهن القارئ الحصيف، الذي سيتابع هذه الشخصية البسيطة والغامضة في آن، ومن خلالها سيحاول تلمّس خيوط السرد الخارجة من يد الراوي بألوانها المتعددة.
3.1.3 أسلوب التكرار.
تنطلق رحلة يالو لاستعادة ماضيه دائماً من لحظة حضوره في غرفة التحقيق، أو في السجن عندما يكتب قصّة حياته، ولمّا كان المبنى الحكائي يتأسس على جملة من المشاهد المتلاحقة والمتقاطعة والمتباعدة زمانياً ومكانياً، وبما تشمله هذه المشاهد من استطرادات مطوّلة، تذهب بعيداً في تاريخ الشخصية المُتكلّم عنها كجده أو أمه أو نينا الروسية وغيرهم. فإن أسلوب القطع المشهدي كان على الدوام يستدعي تكرار رواية الحدث لأكثر من مرّة، وذلك لإعادة وصل القارئ بالحدث الذي انقطع في موقف ما، والتكرار هنا سيؤدّي وظيفة تقنية بحتة، ولكنه إلى ذلك سيؤدّي وظيفة دلالية أيضاً في مواقع أخرى، حيث إنه سوف يزيد أو ينقص في التفاصيل، أو يوجهها وجهة جديدة بحسب المتغيرات التي تنتابه مع مرور الزمن، وعلى سبيل المثال فإن روايته لغزواته في حرج بلّونة ستتكرر روايتها أكثر من مرة، سواء للمحقق المتعطّش لحكايات الفضائح، أو من ضمن مونولوج يالو الطويل، الذي دأب من خلاله على استعادة الأحداث بشكل غير منتظم، لكي يستعرضها، أو يفسّرها، أو يعيد إنتاجها من جديد درءاً للتهمة، وحكاية الغزو هذه شأنها شأن مرآة أمّه، التي سترد مرّات عدّة، وكلّ ورود لها سيدفعه لمزيد من السرد عن أمه من حيث علاقتها به، أو بجده، أو بأبيه، أو بالخياط إلياس الشامي. وحتى الياس الشامي هذا ستتكرر حكايته لأكثر من مرة: مرّات على لسان يالو، ومرة على لسان أمه، وكلّ ذلك لتفسير الالتباس الحاصل في مسألة أبوة يالو المسكوت عنها.
وعندما يصبح "يالو" كاتباً لقصّة حياته، فإنه بدوره سيعمد للتكرار، بل إنه سوف يكتب قصّة حياته ثلاث مرات، وفي كلّ مرة سينقص أو يزيد في روايته للأحداث تبعاً لمتغيراته النفسية ولضرورات التحقيق، وبالطبع هذه أمثلة أو نماذج للتكرار الذي لم تتوقف نماذجه عندها، وإنما كان أسلوباً سردياً معتمداً في المتن الحكائي.
وإلى جانب التكرار، فإننا لحظنا أن الروائيّ اعتمد أسلوب "الاستباق" أيضاً، وهو الإشارة إلى حكاية لم ترو بعد من قبل السارد، كأن يقول الراوي المفارق لمرويّه واصفاً إغماض يالو في غرفة التحقيق: "فاكتشف أنه أغمض عينيه طويلاً. وأنه قضى نصف عمره مغمضاً." أو عندما يشير إلى فعل سيحدث لا حقاً من مثل: "كتابة يالو لقصّة حياته لاحقاً". وستعمل هاتان التقنيتان بشكل واضح لجذب اهتمام القارئ وشدّه دائماً إلى الحكاية.
3.1.4 التناص.
المتن الحكائي لرواية "يالو" يتفاعل مع جملة كبيرة من النصوص المستحضرة اقتباساً أو تناصاً من نصوص: تاريخية، دينية، شعرية، حكمية، علمية وغير ذلك، ولمّا كان "التناص" على حدّ تعبير الناقد "سعيد يقطين" يعتبر جزءاً أساسياً من نصّية النصّ، أيّ نصّ، يتفاعل مع نصوص غيره من الكتّاب، لإنتاج نصّ جديد ، فإن هذه القدرة على التفاعل مع النصوص الأخرى هي التي ستبني جدران الرواية، وهي التي ستسقفها وتزينها بالشكل الذي يهواه الكاتب. ومن هنا فإننا لحظنا أن "إلياس خوري" الكاتب المخضرم والصحفي والأستاذ الجامعي، سوف يستقي الكثير من المناصات من خلال مطالعاته وثقافته الشخصية، كأن يعود لتاريخ السريان ليقدّم بعض الحقائق عن مذبحة عين ورد، أو من خلال معايشته لوقائع الحرب وكتابته عنها في أكثر من قصّة أو رواية. وإلى ذلك فإن رواية "يالو" ستحفل بالتناص والمناصات، التي قدّمت إضافات معرفية وتشويقية للحكاية المحكيّة، سيما وأنه اختار شخصية تاريخية بكلّ معنى الكلمة، ونعني بها شخصية "الكوهنو" الذي دأب طوال حضوره في الحكاية على دفع الكاتب لاستيراد المناصات، وعلى سبيل المثال، فإن الكوهنو عندما يقول: "بطن الإنسان ليس قبراً"، فإنه يعكس ثقافته الإغريقية، ومعروف لدينا أن السريان هم الذين حافظوا على التراث اليوناني من الضياع بترجمته إلى العربية، وأن هذه العبارة هي في حقيقة أمرها لسقراط، قرأناها في موضع آخر: "لا تجعلوا بطونكم مقبرة للحيوان" وهذا المناص سيدفع بالكاتب لأن يستطرد في تحليله، وذلك بأن يفسرها من قبل الكوهنو أولاً، ثم يبتدع مشاهد إضافية على هامشها بقصد التنويع، وخصوصاً عندما يبدأ يالو في تخيّل بطنه وقد باتت مقبرة. وإلى ذلك أيضاً، فإننا سنقع على جملة من التناصات الشعرية، حيث وجدنا إعادة إنتاج لبيت أبي العلاء المعرّي الشهير:
خفِّف الوطءَ ما أظنُّ أديمَ الأ رضِ إلاّ من هذه الأجسادِ
بقول يالو محتجاً على تفضيل شيرين لخطيبها عليه: "هل يترك شابّ طويل رشيق يمشي على رؤوس أصابع قدميه، كي لا يزعج الموتى الذين يغطون وجه الأرض.."
هذا بالإضافة إلى جملة من المتفاعلات النصّية التي أعطت لمحة عامة عن ثقافة الشباب في تلك المرحلة، حول أشعار نزار قبّاني وغناء عبد الحليم لها، وذكر أسماء الدواوين الشعرية لنزار، أو تلك المواقف التمثيلية السينمائية لهند رستم وفريد شوقي، وبالمقابل ستتحدث شيرين عن جاك بريل وأغانيه وأثر الكلمة على الموسيقى. أما "العين الثالثة" التي ظهرت ليالو في رأسه بعيد القصف الذي ذهب بصديقة طفولته، فإنها جاءت من "جبران" عندما قارن بين الفنان الإغريقي، وبين الفنان الكلداني والمصري، قاصداً بها "الرؤيا، أو البصيرة" .
أما من الجانب الديني والتاريخي، فثمة تناصات ومناصات كثيرة، ومن أبرزها حكاية اسماعيل جدّ العرب والسريان عندما ترك في الصحراء بحسب رواية العهد القديم، وكذلك التناص الديني في روايات إنجيل "برنابا" التي كان الخياط يرويها.
أما عن الجانب العلمي فثمة حديث في الصفحة 295 يرويه الكوهنو عن الأطعمة ويصنفها إلى: ناقص وحائر وكامل، وهو لا بدّ أنه من التراث الطبي السرياني أو الإغريقي. وكذلك الشأن عن كيفية تلقيح الحبّار لأنثاه من العلم المعاصر.
وما هو مهمّ هنا ليس استعراض التناصات والمناصات في المتن الحكائي، وإنما هو مهارة الكاتب في الاشتغال على التاريخ المعاصر والقديم، وبما يحفل به هذا التاريخ من حكايات وعبر، أو في استلهام الشعر وتوظيفه في السرد على نحو باهر، للمضي في شعاب الحكاية التي كما أسلفنا، تكاد تحاكي في بنيتها العامة بنائية الحكاية في "ألف ليلة وليلة"، ولكن ما يفترق عن "ألف ليلة وليلة" هنا أن حكايات "يالو" تتغذى من تاريخ الطائفة السريانية، ومن الحياة الواقعية التي عاشها "يالو": الحرب الأهلية اللبنانية، باريس، وبلّونة، بينما حكايات "ألف ليلة وليلة" سوف تتغذى من الخرافة. ولكن عندما يقتضي الأمر من السارد تفعيل اللحظة السردية باتّجاهات الخرافة والأسطورة، فإنه سوف يسعى إلى إقامة نوع من التناص الدلالي للحظة يتطلبها فعل القصّ، وخصوصاً تمثّل "يالو" للأعاجيب التي كان يرويها جدّه الكوهنو، أو يمارسها عملياً.
3.2 الراوي المتماهي بمرويّه.
كنا أشرنا في تحليلنا لأنساق السرد عن جديد هذه الرواية، وهو أن "يالو" الشخصية الروائية، سوف يتمرّد على الراوي، وسيسرد للقارئ حكاياته من جديد ضمن نسقين أحدهما ذاتي، والآخر موضوعي، بعدما يتمكّن من إقصاء الراوي المفارق لمرويّه بعيداً عن الفعل السردي، لأن كلّ مفاتيح الرواية وشيفراتها باتت بيده. ولكن السؤال الذي سوف يشغل القارئ كثيراً، هو عن جدوى إسناد دور الراوي للشخصية الرئيسة، سيما وأنه اطّلع على سائر تفاصيل الحكاية من خلال عملية السرد الأولى. ثمّ هل بإمكان يالو أن يضيف شيئاً جديداً على ما كنّا قرأناه؟!
نعتقد أن وراء إسناد دور الراوي ليالو له أسبابه الفنية والدلالية، ويمكننا تكثيفها هنا بثلاثة وظائف:
أوّلهما: وظيفة تفسيرية، تسعى لاستكمال بعض النواقص، أو لتوضيح بعض الجوانب التي ظلّت مبهمة.
وثانيهما وظيفة إيديولوجية، تعكس أطروحة الكاتب حول مسألة الحرب ومنعكساتها، أو حول الأوضاع الاجتماعية الناجمة عنها، كما نوهنا في المغزى الدلالي.
وثالثهما: وظيفة فنية، والمتابع لسير عملية التحقيق والتعذيب الوحشي الذي جرى في السجن لسحب الاعترافات من "يالو"، سوف يلاحظ أنه لم يكن يجيب على أسئلة المحقق، بل إنه كان عاجزاً عن الإجابة عنها، فالذكريات تعصف الآن بمخيلته عصفاً، ولكنه إلى ذلك لا يستطيع أن يجعلها كلاماً منطوقاً ليريح نفسه، ويهدّئ من غضب المحقق. وكلّ ما وصلنا منه من خلال عملية السرد الأولى، إنما كان عبارة عن مونولوج استرجاعي طويل، حاول من خلاله يالو درء الشبهة عنه، ولكنه مع الأسف، كان يقول هذه الأشياء لنفسه وليس للمحقق، وربّما يعود هذا العيّ الكلامي إلى زمن الطفولة والتربية الأولى، عندما كان جدّه الكوهنو يسعى لسحب اعترافات منه لذنوب لم يرتكبها؛ فكان الفتى على الدوام يشعر أن ثمة مقصاً معلّقاً فوق رأسه؛ ولكن هذه العلّة سوف تفارقه في الحرب وفي غزواته الليلية في بلّونة، أي عندما كان يشعر بأنه يقوم بأعمال بطولية، وبمجرّد أن ينتهي من هذا الدور تعود إليه هذه العلّة، حتى أن المحامي ميشال سلّوم عندما يراه على هذه الحال سيشبهه بالنعجة، أو بالحيوان الأبكم.
ولكن لما كان التحقيق يقتضي اعترافاً تفصيلياً، فإن أقوال يالو لم تكف لكي تدينه، ولذلك فإن المحقق لجأ إلى استكتابه قصّة حياته؛ يقدّم من خلالها اعترافاته بشكل منظّم وتام، وحينها سيكتشف يالو أن التعبير عن كلّ هذه الأمور بالكتابة، لأشد وطأة وعذاباً من حالة العيّ الكلامي، ولكنه ماذا يفعل الآن وقد لقي تعذيباً وحشياً لا يمكن تصوّره؟! هل يقرّ بعجزه فيستلمه الجلادون من جديد، أم يكتب ما هو مطلوب منه؟ وبالطبع فإنه سيختار الكتابة دفاعاً عن نفسه، وسينفث الحبر في وجوه أعدائه كي يضللهم كما الحبّار.
كتب في البداية موجزاً عن سيرته الشخصية، منتقياً أهم المحطّات في حياته، ثمّ أضاف إليها ما طلبه منه المحقق عن الاعتراف بقضية التفجيرات التي شهدتها بيروت آنذاك. ولكن هذه الكتابة لن ترضيه، بل ربّما ستعيده مجدداً إلى التعذيب، لأنه لم يكتب بالتفصيل عن كلّ حياته كما شاء المحقق. وهكذا فإنه سيعود إلى الكتابة مجدداً، مصمماً على نفث الحبر في وجوه أعدائه، وهنا فإن دور البطولة دفاعاً عن الذات وحبّاً في الحياة سوف يعاوده، ومع البطولة ستعود إليه الكلمات، وعندها سيحبّ الكتابة وسيتذكّر ما قاله الجدّ ذات يوم من أن "الكلمات عيون، ترى وتحسّ وتتنفّس"، وأن الكلام يحتاج إلى حيلة لكي يخرج، وهذه الحيلة لن تكون إلاّ الكتابة دفاعاً عن الذات، أو تعبيراً عمّا يختلج في النفس من استنكار للظلم، واحتجاج على هذه السيرورة الإنسانية الكاذبة.. السيرورة المغطاة بالفضائل البرّاقة، ولكنها مع الأسف، مخرّبة من الداخل بالوحشية والعدوانية اللتين ما انفكّ الإنسان يتوارثهما منذ الأزل؛ وليس بمقدوره الخلاص منهما طالما ظلّ هناك قويّ يستأثر بكلّ شيء وضعيف لا حيلة له في الحياة إلاّ العذاب. وتلك هي خلاصة ما توصّل إليه "يالو" عبر رحلته في الكتابة لاستكشاف ذاته والعالم المحيط به، وبذلك كان خلاصه.
* الرواية من منشورات دار الآداب، بيروت، 2002 .
في هذا الصدد انظر ورقته في ندوة مكناس للقصة، والمطبوعة ضمن كتاب "دراسات في القصّة العربية، مؤسسة الأبحاث العربية بيروت 1986. ص53
2 يمكن للقارئ الكريم هنا مراجعة أبحاث وكتب كلّ من: سعيد يقطين، حميد لحميداني، عبد الله إبراهيم، التي نظّرت عربياً لتقنيات السرد.
3 "فضّلنا استخدام هذين المصطلحين اللذين اقترحهما الدكتور عبد الله إبراهيم في كتابه المهم "ال
الخطاب الروائي وتعدّد تقنيات السرد
*عزت عمر
1 المبنى الحكائي والمغزى الدلالي:
عالم رواية "يالو" لإلياس خوري، يغرق في تفاصيل "بابل" المعاصرة، بيروت، بحروبها وأغرابها وفقرائها وأمرائها وأشباحها غير المرئية، ولكن أفعالها ملتمسة أبداً في الآثار الناجمة عن الحرب والفعل الاجتماعي على مصائر شخصياته التي انتقاها بعناية فائقة. و"يالو" نموذج لأولئك الفتية الطالعين من أحياء القهر الطائفي والطبقي: أحياء فقراء المدن والغرباء، الذين جعلتهم المدينة العربية مع الأسف حطباً جاهزاً للاشتعال لأي حريق يريدون إشعاله، وما أكثر حرائق السلطات العربية، وما أكثر جيوشها غير المحاربة، ورجال أمنها الذين سيستأسدون على أبناء أوطانهم! وما أكثر ميليشياتها المستعدة دائماً للقتل وإراقة الدماء بدعوى ترتيب البيت!!
سيتعاطف القارئ هنا مع "يالو"، الشاب السجين الذي سرقت منه طفولته مبكّراً، فلم يعد قادراً على التمييز بين الواقع والخيال. كان طفلاً لم يبلغ عهده بالشباب بعد عندما استجاب لنداء القتل والدم، وحاله في ذلك حال كتيبة "التيوس" السريانية التي خاضت غمار الحرب بكلّ شراسة؛ على الرغم من أن هذه الحرب ليست حربها، وهذه الديار ليست ديارها.
"يالو" الطفل الذي مازال مسكوناً بعالم الحكايات والأساطير والخوارق التي يحكيها له جده المنتمي إلى ثقافة قديمة، سيدرك نتائج الحرب حال عودته من باريس إلى بيروت ومن ثمّ إلى "بلّونة"؛ فبالأمس القريب كان قاتلاً، واليوم بات كلب حراسة، يحمل "الكلاشن" لكي يدرأ عن سيدة الفيلاّ اللصوص، بينما سيمتلئ فضاء "بلّونة" بالعهر. وهو إلى ذلك سيشعر بأنه نكرة ولا دور له في هذه الحياة سوى أن يكون كلب حراسة، أو ذكراً فحلاً يلبي الرغبات حين اللزوم، وهو إلى ذلك سيواظب على ممارسة دوره الذي كان في الحرب، وسيمارس لعبة الإرهاب التي تعلّمها بالأمس، إلى أن يلتقي شيرين رعد، فيسعى لاستعادة إنسانيته المسروقة. وبكلّ رغبة العاشق غير المجيد للإتيكيت الاجتماعي، سيحاول أن يتخلّص من زمن الحرب، وزمن أمّه وجدّه، ويعيش حياته كإنسان جديد. ولكن هذه الرغبة لن تتحقق لأسباب يستخلصها القارئ مما جرى ليالو لاحقاً. إذ لا يكفي المرء أن يعلن رغبته في الانعتاق من جحيم ما، فـ"الآخرون هم الجحيم"، والمدن هي الجحيم، وخصوصاً عندما تقتضي أزمة ما، أو مشكلة ما تقديم أضاح شابة لآلهة شرّ منهومة وهرمة. وما بين حرائقه الذاتية المتشظّية وجحيم الأمكنة، سنجد يالو مصلوباً على الدوام في غرفة التحقيق أو التعذيب، وثمة محقق صبور جاثم في فضاء المكان يسعى بكلّ ما أمدته "آلهة الانتقام" من جبروت لانتزاع الاعترافات منه، حيث إن تهمة اغتصاب شيرين رعد وغيرها ممن كنّ يرتدن بلّونة، لا تعنيه إلاّ شكلياً، وإنما كلّ جبروته سيتركّز على سحب اعتراف من "يالو" يورطّه في قضية تفجيرات شهدتها بيروت واتّهم فيها عملاء الموساد الإسرائيلي. وباعتباره الممثل الرسمي لآلهة الانتقام الغامضة الغاضبة، فإنه سيقوم هنا بتقديم أضحية مناسبة لها، فهو يدرك أن "آلهته" المنزعجة لن تهدأ حتى ترى الدماء مراقة.
ومن هنا فإن تركيز السارد على البياض في غرفة التحقيق أو ما اختزنته ذاكرة يالو من: أكفان خلال الحرب، ورؤوس شائبة في بلّونة، أو لحية جدّه الذي ما انقطع يوماً من الحديث عن الموت؛ إنما كانت جميعاً تمثّل معطيات دلالية تشير على الدوام إلى الموت: موت فجائعي لبضعة أجيال من الشباب حوّلت مصائرهم قسراً نحو دائرة القتل والعنف، نحو دائرة الخراب المطلوب منّا جميعاً أن نرتع فيها ككائنات الخرائب المذعورة أبداً، بدلاً من الرخاء والازدهار والتقدّم الذي كان من الممكن أن تصنعه هذه الأجيال الشابة.
إنها ملحمة تراجيدية تؤكّد باستمرار أن الزمان في بلادنا لا يذهب في استقامة، شأنه في ذلك شأن أزمنة الأمم الأخرى، وإنما في إعادة تمثيلية بريموثيوسية لرحلة العذاب الإنساني التي بدأت في لحظة موغلة من تاريخ المنطقة، وما انفكّت تعيد نفسها بأشكال جديدة، تلبية لرغبة "الآلهة المنهومة" في أن يبقى الإنسان راكعاً أو زاحفاً فقط، وأن يبقى العنف والقمع سيرورة تخصّنا بامتياز: قمع سياسي واجتماعي وثقافي، الكلّ يقمع الكلّ بوحشية لا مثيل لها، والشاهد على ذلك: "يالو" الفتى النموذج، وهو مقحم في غمار حرب همجية سرقت منه طفولته وشبابه ومستقبله، أو وهو مرميّ في غرفة التعذيب ينتهك إنسانيته جلاّدون متمرّسون في فنون التعذيب واستخلاص ما يريدون من اعترافات من فمه. وسوف نرى هنا أن الروائي لا يدين فقط أشكال القمع السلطوي فقط، وإنما ستتضح صور قمع عديدة: القمع الاجتماعي في صورة أصحاب الفيلا، القمع العاطفي في صور جدّه وأمه وشيرين رعد، والقمع الثقافي في صورة صديقه في باريس، ومن كلّ ذلك ماذا سيتبقى ليالو؟
لن يتبقى له سوى حذف هذه السنوات المرّة التي عاشها مع الحرب التي أُجبر عليها ظناً منه أنها مجرّد لعبة، والعودة إلى طفولته؛ إلى أحضان الأمومة العظيمة، إلى الخميرة التي ستصير خبزاً يشبع جياع العالم، وليس ثمة أبلغ مما قالته أمه له ذات يوم عن لا جدوى اشتراكه في الحرب: "نحن يجب أن نبقى خميرة، نحن لا نحارب يا ابني، الخميرة لا تتقاتل مع العجين، بل تدخل فيه وتخمّره، كي يصير خبزاً. توقّف عن الحرب واذهب إلى المدرسة.."
أو مما قاله الكوهنو العجوز:
"نحن مشينا في عتمة التاريخ، ورح نبقى بالعتمة حتى تطلع شمس العدل." وحين يسأله يالو عن شمس العدل، يجيب الكوهنو: "يا ابني نحن ناطرين مملكة المسيح، وهو قال إن مملكته مش من ها العالم" ؟
فإذاً عبث هي هذه الحياة، عبث أن تنتظر أحداً لا يأتي، ولن يبقى من أمل سوى الموت، طالما أن الرغبات البسيطة لن تتحقق في ظلّ هيمنة آلهة الشر. والموت هنا موت أجيال وثقافات فهل أراد الكاتب أن يوصلنا إلى ذلك؟
الإجابة نعم، ولكننا نعتقد أن الأمر بمثابة تصعيد درامي لحبس أنفاس القارئ، وهو يتابع سيرة هذا الشاب المليئة بالقتل والعذاب والدم ، ولكنه في الوقت نفسه يفتح طاقة من الأمل، وكأن الروائي بذلك يريد أن يؤكّد لقارئه: أنه رغم عبثية الحياة وكلّ شيء فيها، إلا أن الإنسان فينا لن يموت، بدليل أن "يالو" نزل عن "عرشه" أو "قنينته" ولم يمت، وإنما من مات هو ذلك اليالو الآخر الذي مارس القتل في الحرب الأهلية، والإرهاب والاغتصاب في "بلّونة". والشخص الماثل أمامنا الآن هو "يالو" آخر ولد من جديد، أو إنهم "يالوات" كثيرة ولدت من جديد، وقد حدثت هذه الولادة /الولادات مع الألم، حيث لا ولادة بدون ألم..
2 طرائق السرد
2.1 "يالو" و البدائل السردية.
بنية السرد في رواية "يالو" ترتكز بشكل أساسي على الموروث السردي العربي، وخصوصاً ألف ليلة وليلة، وما تؤسس له من حكايات تمزج بين الواقعي والخرافي، وانطلاقاً من العجيب إلى الأعجب، ضمن حكاية إطارية عامة، تنفتح على إطارات عديدة عبر آلية الاسترجاع والاستطراد، ولكن "يالو" إذا كانت تستخلص مشروعيتها من هذا التراث السردي الذي بلغ مدى كونياً، إلاّ أن إلياس خوري هنا يسعى لطرح بدائل سردية تعبّر عن خصوصية جديدة، سعياً منه للخلاص من عدوى السرديات الغربية التي كانت ومازالت مشعّة في فضاء الثقافة العربية إلى درجة أنها باتت المثال الذي ينبغي أن يحتذى، وكلّ شيء باطل عداها، ولأن كلّ خروج عمّا أسّسته هذه الرواية من قيم في البناء والموضوع، إنما سيلقى إهمالاً متعمداً لدى النقاد والدارسين الذين ما كانوا للحظة واحدة يتصورون أنه بالإمكان مفارقة حالة المثال، نظراً لثقافتهم المؤسَّسة هناك. ولكن بزوغ فجر الرواية الجديدة في أمريكا اللاتينية مع ماركيز وغيره، والاستقبال الحافل الذي لقيته؛ أكّد أن الرواية بشكل خاص ينبغي أن تعبّر عن خصوصية ما وإلاّ فإنها بحسب المثل القائل: "هذه بضاعتنا ردّت إلينا".
لقد كان إلياس خوري منشغلاً على الدوام عبر تجاربه القصصية والروائية بإيجاد بدائل بنائية لهذا الجنس الأدبي الطارئ على حياتنا في صيغة جديدة اسمها "رواية" مكتوبة وليست محكية. وربّما كان تفكيره منصبّاً على اللغة بوصفها منتجة هذه الكتابة أوّلاً وأخيراً، وليست وسيلة لإيصال الفكرة كما يشاع، وبالتالي فإنه كان يدرك أن إشكالية الرواية العربية تكمن بشكل أساسي في هذه اللغة التي كانت منشغلة على الدوام بالبلاغة العتيدة التي أسّس لها الشعر، أو المقامة في حدّ أدنى من جانب النثر. وما كانت الذائقة النخبوية العامة لترضى أن تتنازل عمّا حققته اللغة من مستوى بلاغي رفيع بقياس ذلك الزمان. ولكن من الوجهة الأخرى حيث نهر الحياة الصاخب بعد دخول المجتمعات العربية مرحلة الحداثة، سنلتمس لغة الشارع ولغة الصحافة اللتين ما كانتا لتنتظرا لحظة واحدة؛ خروج لغة البلاغة عن تعاليها وتفضّلها باجتراح خطّ وسط قادر على التعبير عمّا يحتاجه الناس من مصطلحات وتعابير استجدت . وما بين هذه الجهة وتلك، نشأت القصّة والرواية حائرة بين أيّ من السبيلين ستأخذ، وهو السؤال الإشكالي الذي رافق نهضتها، ولن ندخل في السجالات العديدة التي نظّرت لكلّ ذلك لأنها معروفة.
ومن هنا فإننا نعتقد أن ميل إلياس خوري للتعبير باللغة المحكية اللبنانية في الحوار بين الشخصيات والحوار الداخلي والسرد المبسّط الشفّاف، إنما بغاية جعل هذا السرد يعبّر عن خصوصية مفتقدة منذ "ألف ليلة وليلة"، حيث أدرك الناس بعفويتهم أن لغة الحكاية ينبغي أن تفترق عن لغة الشعر، وأنها بالضرورة ينبغي أن تعبّر عن المستويات الاجتماعية والثقافية التي تحتويها. وبغض النظر عمّا ستتركه هذه الخطوة الجريئة من أثر في الساحة النقدية، فإننا نعتقد أن هذا النمط السرديّ الجديد يعبّر عن مرحلة تجاوز خلاّقة للمألوف السردي العربي، وذلك بما ابتدعه مؤلّفه من ضروب جديدة في التعبير، وفي طرائق تقديم الحكاية التي تماهت فيها العناصر الفنيّة، لتشكّل فيما بينها جسداً حياً زاخراً بالشعرية بكلّ معنى الكلمة، وتلك هي النقلة التي كنا تحدثنا عنها، ونأمل أن نفيها حقّها فيما سيأتي.
3 أنساق السرد الرئيسة:
ينهض البناء النصّي في "يالو" على وجود راو أساسي مفارق لمرويّه، وسيعمل على سرد الحكاية من خلال الشخصية الرئيسة "يالو". وإلى جانبه ثمة رواة آخرون من داخل الحكاية، سيعملون على إضاءة جوانب عديدة من حياته بمن فيهم "يالو" نفسه، بغاية إقناع المتلقّي، وجعله يتأثر بهذا الشكل أو ذاك بموقف الكاتب من شخصيته الرئيسة. وسيكون السرد الموضوعي أو المحايد، هو الأنسب لمثل هذا التوجّه، وذلك لأنه سيمكّنه من التحكم بمجريات القصّ، وتوجيهه الوجهة التي يريد؛ باعتباره يعرف كلّ شيء عن حياة البطل بما في ذلك أسراره الشخصية، وهذا ما يسمّيه منظرو السرديات بـ "الرؤية من خلف" حيث يعرف السارد عن شخصيته أكثر مما تعرفه الشخصية عن نفسها، وبذلك فإن سلطة الراوي ستشكّل حضوراً مؤثّراً وفعّالاً في ترتيب الحكايات وتوجيه القارئ الوجهة التي يشاء . ولكن الجديد في هذه الرواية أن "يالو" الشخصية الروائية، سوف يتمرّد على الراوي، وسيسرد للقارئ حكاياته ضمن نسقين أحدهما ذاتي، والآخر موضوعي، فتبحث عن الراوي المفارق لمرويّه فلا تجده، بعدما تمكّن الراوي الجديد، الذي كان يسمّى "يالو" من إقصائه بعيداً عن الفعل السردي، لأن كلّ مفاتيح الرواية وشيفراتها باتت بيده. وإلى ذلك فإنه يمكننا تحديد أنساق السرد الرئيسة بنسقين عامين اثنين:
1 ـ الراوي المفارق لمرويّه. (السارد)
2 ـ الراوي المتماهي بمرويّه. (يالو)
وسنحاول هنا تبيان الآليات السردية التي اتّبعها كلّ من الراويين، ومدى الاختلاف والافتراق بينهما، لنصل إلى الجديد الذي قدّمه "إلياس خوري" في هذه الرواية.
3.1 تقنيات السرد للراوي المفارق لمرويّه:
سيبدأ الراوي المفارق لمرويّه هنا رواية حكاياته الشائقة عن "يالو" بدءاً من نهاية الأحداث، أو قبلها بقليل، أي لحظة وقوف "يالو" أمام المحقق في غرفة التحقيق بدعوى اغتصاب أقامتها عليه شيرين رعد، وستفاجئ "يالو" هذه الدعوى، بل ستدفعه مرات عدّة إلى الانهيار، سيما وأنه كان يعتبر "شيرين" المرأة التي أحبّ، والمرأة التي جعلته ينسى حياة التوحّش التي كان يعيشها، بمعنى أن حاله هنا يشبه حال "أنكيدو" في ملحمة "جلجامش" مع المرأة البغي. وإلى ذلك فإنه سيحاول ردّ التهمة عنه عبر استرجاع لحظة تعارفه إليها والعلاقة التي دامت نحو سنة. وآلية الاسترجاع هنا ستمكّن الراوي المفارق لمرويه من الذهاب إلى ماضي الشخصية دائماً، والعودة بحكاية جديدة. كما أن تمركزه في منتصف الحدث وباعتباره راوياً عارفاً، سيمنحانه مشروعية الإخبار، أو الإشارة لأحداث ستقع مستقبلاً، إثارة لفضول القارئ. وإلى ذلك، سيواظب الراوي على السير بالاتجاهين المتعاكسين زمنياً، سعياً منه لإمتاع قارئه، وشدّه إلى حكاياته حتى النهاية، عبر الأساليب التالية:
3.1.1ـ أسلوب التداعي:
يتّجه منظرو الرواية إلى أن المعيار الرئيس لبناء النصّ السردي يرتكز بشكل أساسي على الزمن، وهم إلى ذلك ميّزوا بين "المتن الحكائي" و "المبنى الحكائي"، واعتبروا أن زمن "المتن الحكائي" هو زمن القصّة الخطّي التسلسلي الذي سيتكاثف في ذهن القارئ بعد انتهائه منها. بينما زمن "المبنى الحكائي" هو زمن "الخطاب" الذي يتألف من الأحداث والمواقف ذاتها، ولكن في أساليب عرض مختلفة، تنهض بشكل أساسي على الطريقة التي يقدّمها بها المؤلّف.
ومن هنا فإن "المبنى الحكائي" لرواية "يالو"، لن يعتمد الأسلوب الخطّي والتتابع الزمني، وذلك لأن هذا الأسلوب كلاسيكيّ وبسيط تجاوزته الرواية العربية منذ الستينيات، وإنما سوف يعتمد على أسلوب التداخل أو التشابك الزمني، والذي يقتضي، كما أسلفنا، الذهاب والإياب في الزمن، ومن هنا فإن التداعي سيكون عماد هذا الأسلوب، وسيجترح "إلياس خوري" هنا تقنية المشهد السينمائي الذي يعتمد القطع، والعودة إلى زمن القصّة، ومن ثمّ العودة مجدداً إلى ما كان قد توقّف عنده، لتعزيز عملية التداعي، ولطرح جملة من الأسئلة عبر الحكاية لتستقر في ذهن المتلقّي، فيبحث عن إجاباتها، وهذه التقنية السينمائية المعتمدة في بناء الرواية ستقوم على جملة من المحرّضات سنوضّحها في حينها.
وعلى هذا الأساس فإن لحظة وقوف "يالو" أمام المحقق في الساعة العاشرة من يوم 22 كانون الأول 1993 بسبب دعوى التحرّش المقامة ضدّه من قبل "شيرين رعد"، سيدفعه بالتأكيد إلى ردّ التهمة عنه عبر التداعي، الأمر الذي يسمح بفتح أطر زمانية جديدة، وكلّ إطار سيحمل بدوره حكايات جديدة، وبذات الوقت سيسمح بدخول شخصيات الرواية إلى الخشبة فرادى ومجتمعين اعتماداً على ذاكرة "يالو" المشوّشة وغير المنظّمة، فنتعرّف إلى شيرين رعد، الفتاة التي تعرّف إليها في "بلّونة" قبل توقيفه ببضعة أشهر، وعاش معها قصّة حبّ لم تكتمل، وهاهي الآن تدّعي عليه بتهمة التحرّش الجنسي، ليبدأ الفعل السرديّ من هذه اللحظة.
سوف تفاجئ هذه الدعوى الغريبة "يالو"، وسيعبّر الراوي عن هذه اللحظة قائلاً: "لم يفهم يالو ماذا يجري، وقف أمام المحقق وأغمض عينيه، كذلك كان يفعل، يغمض عينيه حين يواجه الخطر، ويغمضهما حين يكون وحيداً." وستكون هذه الحكاية الأولى، مع جملة الأسئلة التي تكوّنت في ذهن يالو للتوّ بمثابة إطار سرديّ بسيط وهشّ إلى درجة تسمح باختراقه من جهات عديدة، فمن جهة ستكون هناك حكايته الأساسية مع شيرين، ومن جهة ثانية سيرته الشخصية ونشأته في كنف جدّه وأمّه، ومن جهة ثالثة حكاية انخراطه في الحرب الأهلية، ثمّ هروبه إلى باريس مع طوني عتيق، وهناك لقاؤه مع المحامي ميشال سلّوم الذي أعاده إلى بيروت فبلّونة، ثمّ علاقته بزوجة المحامي، وانتهاء بشيرين رعد. وكلّ حكاية من هذه الحكايات التي عدّدناها للتوّ، ستحتوي على الكثير من الحكايات التي بدورها ستضيء للقارئ جوانب عديدة من حياة الشخصية الروائية، بالإضافة إلى ما ستضيئه عن الزمن التاريخي والقيم الاجتماعية السائدة وغير ذلك. وكلّ هذه المحطات الزمنية ستسير على التوازي مع الحكاية الإطارية الكبرى، وستبقى مفتوحة على الاحتمالات طالما ظلّت الحكاية الإطارية مفتوحة؛ وهكذا في نوع من تبادل المواقع بين الواقع والتاريخ من جهة، أو بين الحقيقة والخيال من جهة ثانية، ليتأسس المتن الروائي حاوياً كلّ هذا المزيج المدهش في 380 صفحة من السرد، دون أن يسبب ذلك خللاً في البنية الحكائية، بل سيعززها ويدفع بها قدماً إلى الأمام، وهذا ما سنوضحه فيما يأتي من محاور:
3.1.1.1 محور الطفولة والعائلة.
عندما يصرخ به المحقق: اعترف، سوف يسمع "يالو" في تلك اللحظة صوت جدّه الكوهنو (الكاهن) وهو يقول له بصوته المبحوح: "اعترف.. اعترف يا ولد"، وجدّه هذا الذي بات اسمه الخوري أفرام، هو حكاية قائمة بذاتها ولغز كبير كاد يطيح بالشخصية الأساسية، فهو سيشغل القارئ على الدوام: بأصوله، بحكاياته، بحكمته العميقة، وبجنونه.
ولد الكوهنو بقرية "عين ورد" في الجزيرة السورية، ومع المذبحة التي شملت مليون ونصف المليون أرمني من قبل العثمانيين، فإنها بطريقها من أقصى الشمال، وصلت إلى الجزيرة لتحصد في هامشها أهل "عين ورد" من السريان، فلم يبق فيها سوى الأطفال الذين وزّعوا على الأكراد الذين استوطنوا القرية بدلاً من أهلها. وكان حظّ "هابيل أبيض" أن أخذه الملاّ مصطفى زعيمهم. فتربّى في كنفه، وتغيّر اسمه من هابيل إلى أحمد، وصار فتى كردياً، يتكلّم الكردية والتركية والعربية، ولكن خاله الذي كان قد هرب إلى القامشلي، وهي منطقة مجاورة، عاد بعد بضع سنين ليأخذه. وهكذا فإنه سوف يعود إلى ديانته السريانية، وسيغادر القامشلي إلى بيروت حيث تبدأ حياته هناك كعامل في معمل للبلاط، ومن ثمّ سينضمّ إلى سلك الرهبان ويصبح اسمه الكوهنو أفرام.
إنه شخصية مثقلة بالماضي وأسراره، وهو إلى ذلك سيشكّل حضوراً فعّالاً في حياة حفيده "يالو"، حيث إنه سيربّيه بعد رحيل والده السوري الحلبي، ولكي يتمكّن من منحه الجنسية اللبنانية، فإنه سوف يزوّر الوثائق الرسمية، ويجعله ابنه، وهكذا فإن "يالو" سوف يصبح رسمياً شقيق أمّه وابن جدّه. ومن هنا فإن الكوهنو سيشكّل دعامة كبيرة للسرد، فعبره سيتوغّل الكاتب في تاريخ السريان، واللغة السريانية؛ لغة السيّد المسيح التي انقرضت، أو شبه انقرضت، وستجعله يركّز على الدوام على هذا الجانب لكي ينبه إلى خطورة الأمر، بل فداحته، سيما وأن اللغة السريانية هي: لغة السيد المسيح من جهة، و من جهة أخرى، أنقذت التراث العالمي من الضياع، بما قدّمته من ترجمات مختلفة لعلوم ومعارف اليونان الفلسفية والعلمية، للدولة الإسلامية الناشئة في دمشق، ومن ثمّ بغداد. أما على صعيد التقنية الروائية فإن شخصية الكوهنو بما تحفل به من تنوّع ستساعد الروائيّ على إقامة تناصّات عديدة، سيوظفها الروائيّ بذكاء كبير، وخصوصاً، إقامة الطقوس الدينية على شاطئ البحر مع أفراد أسرته، لأنه كان مسكوناً على الدوام بعالم الخوارق والمعجزات، وكلّ شيء ممكنّ وقابل للتصديق لديه: المشي فوق الماء، استحالة الماء المالح إلى ماء عذب بمجرّد إقامة الطقوس التي يمارسها في عيد الغطّاس من كلّ عام، وهذا بدوره سوف يأخذنا إلى زمن أبعد، زمن موغل في الأسطورة التي ما زالت حاضرة برغم زمن الحداثة. وسيتذكّر "يالو" تلك اللحظة التي أجبر فيها "شيرين" على شرب ماء البحر، متقمّصاً شخصية جدّه الكوهنو عندما كان يصطحبه وأمه في ليلة عيد الغطّاس إلى الشاطئ، في انتظار الروح الذي يهبّ حيث يشاء: "على شاطئ الرملة البيضاء، وبعد أن يليّل الليل، وتنتشر النجوم الصغيرة التي تخترق الغيوم فوق البحر، ينحني الكوهنو على الماء ويشرب، يمشي قليلاً وسط مياه باردة وأمواج مرتفعة، يمسك يد حفيده بيمناه، ويد ابنته بيسراه ويتقدّمون في البحر، وعندما ترتفع المياه إلى خصر الطفل، ينحني الكوهنو، يتمتم بكلمات غريبة بلغته الغريبة، ثمّ يملأ يديه بالماء ويشرب، يسقي الأم أوّلاً، ثمّ ابنها، وبعد أن يشرب ثلاث مرّات، يمشون إلى الوراء تراجعاً، وحين يصل الثلاثة إلى الشاطئ تفتح الأم شنطتها، وتخرج منشفة كبيرة بيضاء، تنشّف بها جسم يالو المزرّق من البرد، وطعم الملح الذي يحتل لسانه وأحشاءه، والجدّ الكوهنو الذي يقول: المي صارت حلوة وطيبة. آمين تقول الأم. آمين يقول يالو، ثمّ تقف الأم على الشاطئ وتبدأ بفكّ شعرها الذي سيصل إلى الأرض، وعندها سيذهب الكوهنو إلى البحر ليجلب قليلاً من ماء البحر ويبدأ في تمشيطها انتظاراً للأعجوبة بأن يتحوّل شعرها إلى ذهب، وكان الكوهنو خلالها يجبر حفيده على إبقاء عينيه مفتوحتين لأجل أن يرى الأعجوبة وهي تتحقق.
أمّه "غابرييل" أو "غابي" كما كانوا ينادونها، سنتعرف إليها من خلال الراويين: فتاة في الثامنة عشرة من عمرها، تذهب لمشغل إلياس الشامي للخياطة، وهناك سينفتح قلبها للحبّ لأوّل مرة، وستحبّ المعلّم الشامي على الرغم من أنه متزوّج وكاثوليكي، وسنقف على تفاصيل كثيرة لهذه العلاقة الشائهة بين رجل كبير في السن وفتاة صغيرة؛ سعت للخروج مبكراً من هيمنة أبيها الكوهنو، ولكنها وقعت بين براثن كهل شبه مجنون. وعندما تتزوّج من "جورج جعلو" كانت تدرك أنه سوف يتركها ذات يوم، وبالفعل فإنه سوف يهاجر ويتركها حاملاً في شهرها السابع، وبعد الولادة ستعود إلى إلياس الشامي، ولكن الأب الكوهنو سيوقف هذه العلاقة الآثمة، نظراً لأن الخياط متزوّج، ولا يرغب أصلاً بالزواج من "غابي".
ولكن يالو عندما يكتب وهو في السجن سيقول: "أنا لا أوافق أن مأساة الأم كانت بسبب إلياس الشامي، إلياس كان نتيجة، أما السبب، فيجب أن نبحث عنه عند الكوهنو أفرام. عاشت معه "غابي" بعد وفاة زوجته، وكانت ابنته وزوجته وأمّه. رجل موسوس ومهووس بفكرة الموت." ولكننا لا نتفّق معه فيما ذهب إليه، نظراً لأن "غابي" كانت تعيش مجموعة من الأزمات: زوج هارب، وعشيق كبير في السنّ، وأب كلّي السيطرة، وهي إلى ذلك سوف تتأزم مع مرور الزمان لشعورها بالحرمان، فتدخل في فاصل من الجنون الهادئ. ولذلك سنراها على الدوام تغسل وجهها، ثمّ تقف أمام المرآة لساعات: "الآن يتذكّر يالو أمّه، يرى امرأة مليئة بالعمر، تحمل شمعة في يدها، وتأتي إلى غرفة ابنها الوحيد. كانت تلبس قميص نوم طويلاً أزرق، وشعرها ينساب على كتفيها، فيسألها: "شو في غابي"، فتجيبه: "الحقني الله يخلّيك". نهض يالو يتبعها، وقفت أمام المرآة وأدنت الشمعة من وجهها، ثمّ قالت له: "بطّلع بالمراية ما بشوف وجهي، المراية بلعتو، انت شايف شي يا ابني؟" وصارت تقضي الليالي أمام المرأة، وبدأ يالو يخاف منها، لا يفهم ماذا جرى لأمه، في النهار تكون عادية ولا تحاكي صورتها، بل تقف أمام المرآة وتمشّط شعرها، أما في الليل فالمرآة تصبح همّها وهمّه، كل ليلة تأتيه إلى غرفته وتسأله، مدّعية أنها لا ترى في المرآة سوى نقطة بيضاء.."
فإذن بالنتيجة، كانت "غابي" تخاف من الليل والوحدة، بدليل أنها عادت إلى إلياس الشامي بعد غياب زوجها. عادت إليه هرباً من هذه الوحدة، وأن الليل كثيف على جسمها، ولكن سيطرة أبيها عليها وعلى مشاعرها، وقطع العلاقة مع إلياس الشامي، ثمّ موت الأبّ، وذهاب ابنها إلى الحرب، بالإضافة إلى مضي سنين العمر، أمور دفعت بها إلى الجنون. ولكن يالو في السجن سيقول: "أنا أعرف أن أمي المسكينة لم تعد قادرة على رؤية صورتها في المرآة، لأنها أرادت أن تمحو سرّها.." والسرّ برأيه غموض نسبه، إذ ظلّ طوال الرواية يشكك بأنه ابن جورج جعلو، وأن أمه أخفت عليه الحقيقة.
3.1.1.2 محور الحرب الأهلية.
الرواية لا تذهب في وصف وقائع ومجريات الحرب، بل إنها لم تتخطّ الجانب الشرقي من بيروت ما بعد الحرب، وقد أسلفنا أن هدف الروائي تلخّص في تبيان نواتج الحرب ومنعكساتها على الشخصية الإنسانية في جبهة من جبهاتها، وهكذا فإن يالو ومن خلال التحقيق الطويل، سوف يستعيد حياته في الحرب، وكيف انضمّ إلى كتيبة التيوس السريانية، التي حاربت من أجل الحصول على الجنسية اللبنانية، سيما وأن أبناء الطائفة جميعهم سوريون قدموا إلى لبنان من الجزيرة السورية. وسيحكي لنا السارد قصصاً عديدة عن حياة أولئك الشبّان الذين غُرر بهم ودُفعوا إلى حرب ليست بحربّهم.. سيحكي لنا قصصاً طويلة عن "ألكسي الأشقر" وأمه الروسية، وعن "ماريو" و "سعيد المنصوراتي"، و"طوني عتيق". وإلى ذلك فإننا سنقع على وصف محزن ليالو الفتى الصغير الذي كان يمتلئ رعباً في معركته الأولى حتى إنه شعر بعدم قدرته على السيطرة على أمعائه، وأن ركبتيه لم تعودا قادرتين على حمله. كما أنه في المعارك اللاحقة كان يشعر بحاجة للتبوّل كلّما بدأ إطلاق الرصاص، وهو إلى ذلك لم يكن يفهم السياسة اللبنانية ولغة الحرب، أراد أن ينساها ويأخذها بوصفها لعبة أو كفيلم سينمائي يمارس فيه دور البطولة، دفاعاً عن شعب "ذاب في عتمة التاريخ" وهي الكذبة التي سوِّقت من أجل انضمام أبناء السريان إلى الحرب، لكنه بعد ذلك سيسأم من كلّ شيء، لأنه كان على الدوام يشعر بنفسه غريباً، وأنه يدافع عن وطن ليس له: "في الحرب، كنت أريد أن أدافع عن لبنان، وبعد ذلك اكتشفت أنني أحارب فقراء مثلي، وأنني سوف أبقى غريباً مهما فعلت.." ولذلك فإنه وافق على اقتراح طوني عتيق بسرقة أموال الثكنة والسفر إلى باريس، وهناك سيتركه شريكه بلا لغة ولا مال حتى ينقذه المحامي ميشال سلّوم.
وسيكتب يالو لاحقاً وهو في السجن بأنه كان ضحية نموذجية لجملة من الأسباب والأوضاع تآلفت ضدّه، فساقته إلى الحرب بالرغم من إرادته وأحلامه في أن يصبح فناناً في الخط العربي وشغل الأرابيسك.
3.1.1.3 محور فيللا غاردينيا.
وفي هذا المحور سيفتح السارد أطراً ثلاثة وفي كلّ إطار مجموعة من الحكايات: يبدأ أوّلها مع المحامي ميشال سلوم الذي يلتقط يالو في المترو بباريس ويعيده للعمل كحارس لفيللا غاردينيا حيث تسكن زوجته "رندة"، وابنته "غادة"، وفي هذا الإطار سنقع على تفاصيل عمل ميشال سلّوم كتاجر سلاح دولي، وهو إلى ذلك غارق في الخرافة، مثله مثل الكوهنو يصدّق حدوث العجائب، وله علاقات كثيرة مع رجال الدين.
وثانيها، محور علاقة المدام رندة ويالو التي بدأت برغبة منها، وكان عليه أن يخضع لهذه الرغبة خوفاً من الطرد، أو رغبة في التواصل مع هذه المرأة الجميلة.
وثالثها، محور غزوات يالو الليلية على سيارات العشّاق، حيث سيتعرّف إلى شيرين، وليبدأ معها قصّة حبّ شائكة وموجعة، قادته في النهاية إلى السجن.
محور شيرين رعد
شيرين رعد فتاة تبدو وكأنها خرجت للتوّ من إحدى حكايات ألف ليلة وليلة؛ فتاة جامعية لعوب تقيم علاقات جنسية بالشكل الذي تشاءه، وهي إلى ذلك تسعى للزواج من شاب لا تحبّه، وفي المقابل سترفض حبّ يالو لها، وعندما يلاحقها بحبّه ستتمكن من الانتقام منه لعدم انصياعه لرغبتها في إبقاء العلاقة في حدود الجنس المتاح والصداقة، وإلى ذلك فإنها ستبدو لنا شخصية قويّة تعرف جيداً ما تريد، وتسعى لتحقيقه بإصرار. كما أنها جريئة وصريحة إلى درجة أنها ستحكي ليالو الكثير من خصوصياتها: حملها غير الشرعي من صديقها في الجامعة الأمريكية، والإجهاض، ثمّ علاقتها الشاذة مع الدكتور سعيد. ومن هنا، فإننا نعتقد أن مشهد الخوف الذي رسمه الكاتب لتلك الليلة التي اصطحبها فيها بعد هرب عشيقها، إنما كان خوفاً لحظياً من الشخص المجهول حامل البندقية، الذي كان بدوره خائفاً كضحيته، فهو لم يرد أن تجري الأمور على هذا النحو، ولكن هروب عشيقها الكهل، اضطره إلى أن يصطحبها إلى الكوخ، بدليل أنه سيكتب فيما كتب: أنه خاف من عينيها في تلك الليلة، تماماً كما كان يخاف من أمّه ومرآتها. وهذا الخوف كامن فيه منذ أيام الطفولة الأولى: غياب والده، وهيمنة أمّه وجدّه على حياته، وغربته في بلاد لم تعترف به أبداً، وكلّ هذا الخوف سيدفعه إلى الهروب نحو الهاوية خلاصاً من هذه الحالة: فكان هروبه إلى الحرب أوّلاً، وهروبه إلى باريس ثانياً. وعندما يعود إلى بلّونة فإنه لن يزور أمّه لأنه كان ما يزال يخافها. ومن هنا فإن العلاقة مع شيرين رعد ستكشف لنا جانباً من عاطفته المنتزعة منه بفعل العوامل التي كنّا ذكرناها. والدليل زوال الخوف لحظة انبعاث الرائحة، التي يحبّ، منها. وتأكيد الكاتب على علاقة يالو بالروائح في أكثر من مكان، إنما هو بمثابة تأسيس رمزي لحال الطفولة الباحثة عن حضن الأم، أو الأهل كملاذ أخير من الخطر الداهم.
ومما لا شكّ فيه أن يالو كان صادقاً في حبّه لشيرين، وأنه كان يخطط فعلاً للزواج منها، ونسيان ماضيه كلّه، ولكنه، مع الأسف، لم يستطع أن يعبّر لها عن هذا الحبّ، بينما هي ظلّت حائرة بشخصيته، فتارة تخافه، وتارة تشفق عليه، ولكنها عندما أعادت علاقتها بصديقها الجامعي، وارتبطا بخطبة رسمية، فإنها تركته دون أسف، أو انتقاماً كما في إحدى الروايات الكثيرة التي وردت. ولذلك فإن يالو بدأ يلاحقها و"يتعذّب سنة كاملة في انتظارها، سنة وهو لا يرى غير الوعد في عينيها الصغيرتين. سنة وهو يتلفن كلّ يوم، وينتظر تحت نافذة بيتها، أو أمام مبنى شركة عرايسي للإعلانات حيث كانت تعمل. سنة وهو يتشبّح بحثاً عنها. وعندما اعتقلوه لم تخطر شيرين في باله."
وسيكتب لاحقاً أنّه أخطأ كثيراً مع شيرين، لأنه فسّر الأمور كما يراها هو، وليس كما تراها هي، ، وأنه كان من الممكن أن يتّجه حبّهما الوجهة الصحيحة لو أنه عدّل سلوكه إزاءها.
3.1.2 أسلوب التحريض.
إن عملية التداعي غير المنظّم زمانياً ومكانياً سوف تفعّله عملية التحريض، والتحريض هنا، هو عبارة عن تقنية سردية تسعى لتهيئة القارئ لقبول سرد إضافيّ يستكمل إزالة إبهام غموض سابق، أو استكمال مشهد ناقص تمّ قطعه في لحظة ما، أو لفتح إطار جديد كلياً.
وأسلوب التحريض المستخدم في الرواية، سيقوم بأداء وظيفته الفنية على أكمل وجه من خلال نسقين: أوّلهما فنّي بحت، يدعم المبنى الحكائي القائم على تقنية القطع السينمائي، ومن ثمّ الرجوع إليه لاستكمال الحدث.
وثانيهما فنّي دلالي، يسعى من خلاله الروائيّ لتأطير الحدث الرئيس، وعدم استكمال القصّة المحورية قبل أن تستكمل بقية القصص الفرعية. ومن هنا يمكننا الوقوف على جملة من المحرّضات التي يمكن تصنيفها إلى محرّضات: لغوية، بصرية، ومواقفية.
وسنورد هنا بعض الأمثلة لكلّ محرّض على سبيل المثال. فمن المحرّضات البصرية: نجد أن رؤيته لشيرين رعد جالسة في غرفة التحقيق بتنورتها القصيرة الحمراء، ستذكّره بذلك اليوم الذي طلب منها ألاّ تلبس تنانير قصيرة. أما على صعيد المحرّضات اللغوية، فإنه عندما نطق المحقق باسمها كاملاً في غرفة التحقيق، فإن ذلك دفع به لاسترجاع اللحظة الأولى من التعارف وهي تقول له: "أنا مالي اسم.. دخيلك بلا أسامي." وهذه العبارة ستجعله يستعرض أحداث ذلك اليوم الذي كان مصيرياً في حياته، حيث سيفتح أطراً جديدة لحكايات بعضها سيضيء جانباً من حكايته مع شيرين، وبعضها الآخر سيكون بمثابة استهلال لحكاية جديدة.
أما على صعيد المحرّضات المواقفية، فإنه في السجن سيقارن بين موقفه هذا وموقف الحبّار الذي يحاصره الصيادون من كلّ جهة: "إنه مثل الحبار الآن، يكتب بحبره دفاعاً عن نفسه ومقاوماً الموت، ويضلل أعداءه مطلقاً الحبر في وجوههم، فيختفي عن أعينهم في الحبر الأسود الذي يرسمه حبره داخل مياه البحر. يالو وحيد في زنزانته، عليه أن يطلق الحبر على أوراقه. إنه مثل الحبّار (الصبيدج) لا يملك سوى سلاحه الحبر، يقذفه كي يضلل الصيادين.." والذي حرّضه على هذه المقابلة بين الموقفين هو رؤيته للحبر، ومن ثمّ تداعيه إلى تلك الليلة في المطعم حيث أكلا هو وشيرين حبّاراً مطبوخاً بحبره، وها هو الآن سيكتب بالحبر لكي ينقذ نفسه من الموت، لأنه يحبّ الحياة.
إن ما سقناه من أمثلة للتوّ هي عبارة عن نماذج فقط، وإنما البنية الحكائية العامة قائمة أساساً على عملية التحريض، وأن المحرّضات اللغوية والمشهدية ستعزّز على الدوام عملية التداعي لإيقاظ الحكايات أو المشاهد الكثيرة التي انطلقت في فضاء النصّ بعد حبس طال، وكحال العصافير المحبوسة زمناً، ستكون الانطلاقة الأولى عشوائياً، وكلّ مشهد سيجرّ معه مشاهد جديدة في سلسلة غير منتهية.
إن كلّ شيء ماثل أمام "يالو" الآن في غرفة التحقيق، كلّ كلمة أو لون أو رائحة، ستدفعه إلى تذكّر جانب من جوانب حياته السابقة في مشهدية تعتمد التقطيع السينمائي بشكل حاسم كما أسلفنا، وبالتالي فإن الوحدات السردية الصغرى، ستواظب على رفد الحكاية الإطارية الكبرى بمزيد من الكلام لتتدفّق أخيراً في مجرى واحد، ولن تترابط مع بعضها إلاّ في ذهن القارئ الحصيف، الذي سيتابع هذه الشخصية البسيطة والغامضة في آن، ومن خلالها سيحاول تلمّس خيوط السرد الخارجة من يد الراوي بألوانها المتعددة.
3.1.3 أسلوب التكرار.
تنطلق رحلة يالو لاستعادة ماضيه دائماً من لحظة حضوره في غرفة التحقيق، أو في السجن عندما يكتب قصّة حياته، ولمّا كان المبنى الحكائي يتأسس على جملة من المشاهد المتلاحقة والمتقاطعة والمتباعدة زمانياً ومكانياً، وبما تشمله هذه المشاهد من استطرادات مطوّلة، تذهب بعيداً في تاريخ الشخصية المُتكلّم عنها كجده أو أمه أو نينا الروسية وغيرهم. فإن أسلوب القطع المشهدي كان على الدوام يستدعي تكرار رواية الحدث لأكثر من مرّة، وذلك لإعادة وصل القارئ بالحدث الذي انقطع في موقف ما، والتكرار هنا سيؤدّي وظيفة تقنية بحتة، ولكنه إلى ذلك سيؤدّي وظيفة دلالية أيضاً في مواقع أخرى، حيث إنه سوف يزيد أو ينقص في التفاصيل، أو يوجهها وجهة جديدة بحسب المتغيرات التي تنتابه مع مرور الزمن، وعلى سبيل المثال فإن روايته لغزواته في حرج بلّونة ستتكرر روايتها أكثر من مرة، سواء للمحقق المتعطّش لحكايات الفضائح، أو من ضمن مونولوج يالو الطويل، الذي دأب من خلاله على استعادة الأحداث بشكل غير منتظم، لكي يستعرضها، أو يفسّرها، أو يعيد إنتاجها من جديد درءاً للتهمة، وحكاية الغزو هذه شأنها شأن مرآة أمّه، التي سترد مرّات عدّة، وكلّ ورود لها سيدفعه لمزيد من السرد عن أمه من حيث علاقتها به، أو بجده، أو بأبيه، أو بالخياط إلياس الشامي. وحتى الياس الشامي هذا ستتكرر حكايته لأكثر من مرة: مرّات على لسان يالو، ومرة على لسان أمه، وكلّ ذلك لتفسير الالتباس الحاصل في مسألة أبوة يالو المسكوت عنها.
وعندما يصبح "يالو" كاتباً لقصّة حياته، فإنه بدوره سيعمد للتكرار، بل إنه سوف يكتب قصّة حياته ثلاث مرات، وفي كلّ مرة سينقص أو يزيد في روايته للأحداث تبعاً لمتغيراته النفسية ولضرورات التحقيق، وبالطبع هذه أمثلة أو نماذج للتكرار الذي لم تتوقف نماذجه عندها، وإنما كان أسلوباً سردياً معتمداً في المتن الحكائي.
وإلى جانب التكرار، فإننا لحظنا أن الروائيّ اعتمد أسلوب "الاستباق" أيضاً، وهو الإشارة إلى حكاية لم ترو بعد من قبل السارد، كأن يقول الراوي المفارق لمرويّه واصفاً إغماض يالو في غرفة التحقيق: "فاكتشف أنه أغمض عينيه طويلاً. وأنه قضى نصف عمره مغمضاً." أو عندما يشير إلى فعل سيحدث لا حقاً من مثل: "كتابة يالو لقصّة حياته لاحقاً". وستعمل هاتان التقنيتان بشكل واضح لجذب اهتمام القارئ وشدّه دائماً إلى الحكاية.
3.1.4 التناص.
المتن الحكائي لرواية "يالو" يتفاعل مع جملة كبيرة من النصوص المستحضرة اقتباساً أو تناصاً من نصوص: تاريخية، دينية، شعرية، حكمية، علمية وغير ذلك، ولمّا كان "التناص" على حدّ تعبير الناقد "سعيد يقطين" يعتبر جزءاً أساسياً من نصّية النصّ، أيّ نصّ، يتفاعل مع نصوص غيره من الكتّاب، لإنتاج نصّ جديد ، فإن هذه القدرة على التفاعل مع النصوص الأخرى هي التي ستبني جدران الرواية، وهي التي ستسقفها وتزينها بالشكل الذي يهواه الكاتب. ومن هنا فإننا لحظنا أن "إلياس خوري" الكاتب المخضرم والصحفي والأستاذ الجامعي، سوف يستقي الكثير من المناصات من خلال مطالعاته وثقافته الشخصية، كأن يعود لتاريخ السريان ليقدّم بعض الحقائق عن مذبحة عين ورد، أو من خلال معايشته لوقائع الحرب وكتابته عنها في أكثر من قصّة أو رواية. وإلى ذلك فإن رواية "يالو" ستحفل بالتناص والمناصات، التي قدّمت إضافات معرفية وتشويقية للحكاية المحكيّة، سيما وأنه اختار شخصية تاريخية بكلّ معنى الكلمة، ونعني بها شخصية "الكوهنو" الذي دأب طوال حضوره في الحكاية على دفع الكاتب لاستيراد المناصات، وعلى سبيل المثال، فإن الكوهنو عندما يقول: "بطن الإنسان ليس قبراً"، فإنه يعكس ثقافته الإغريقية، ومعروف لدينا أن السريان هم الذين حافظوا على التراث اليوناني من الضياع بترجمته إلى العربية، وأن هذه العبارة هي في حقيقة أمرها لسقراط، قرأناها في موضع آخر: "لا تجعلوا بطونكم مقبرة للحيوان" وهذا المناص سيدفع بالكاتب لأن يستطرد في تحليله، وذلك بأن يفسرها من قبل الكوهنو أولاً، ثم يبتدع مشاهد إضافية على هامشها بقصد التنويع، وخصوصاً عندما يبدأ يالو في تخيّل بطنه وقد باتت مقبرة. وإلى ذلك أيضاً، فإننا سنقع على جملة من التناصات الشعرية، حيث وجدنا إعادة إنتاج لبيت أبي العلاء المعرّي الشهير:
خفِّف الوطءَ ما أظنُّ أديمَ الأ رضِ إلاّ من هذه الأجسادِ
بقول يالو محتجاً على تفضيل شيرين لخطيبها عليه: "هل يترك شابّ طويل رشيق يمشي على رؤوس أصابع قدميه، كي لا يزعج الموتى الذين يغطون وجه الأرض.."
هذا بالإضافة إلى جملة من المتفاعلات النصّية التي أعطت لمحة عامة عن ثقافة الشباب في تلك المرحلة، حول أشعار نزار قبّاني وغناء عبد الحليم لها، وذكر أسماء الدواوين الشعرية لنزار، أو تلك المواقف التمثيلية السينمائية لهند رستم وفريد شوقي، وبالمقابل ستتحدث شيرين عن جاك بريل وأغانيه وأثر الكلمة على الموسيقى. أما "العين الثالثة" التي ظهرت ليالو في رأسه بعيد القصف الذي ذهب بصديقة طفولته، فإنها جاءت من "جبران" عندما قارن بين الفنان الإغريقي، وبين الفنان الكلداني والمصري، قاصداً بها "الرؤيا، أو البصيرة" .
أما من الجانب الديني والتاريخي، فثمة تناصات ومناصات كثيرة، ومن أبرزها حكاية اسماعيل جدّ العرب والسريان عندما ترك في الصحراء بحسب رواية العهد القديم، وكذلك التناص الديني في روايات إنجيل "برنابا" التي كان الخياط يرويها.
أما عن الجانب العلمي فثمة حديث في الصفحة 295 يرويه الكوهنو عن الأطعمة ويصنفها إلى: ناقص وحائر وكامل، وهو لا بدّ أنه من التراث الطبي السرياني أو الإغريقي. وكذلك الشأن عن كيفية تلقيح الحبّار لأنثاه من العلم المعاصر.
وما هو مهمّ هنا ليس استعراض التناصات والمناصات في المتن الحكائي، وإنما هو مهارة الكاتب في الاشتغال على التاريخ المعاصر والقديم، وبما يحفل به هذا التاريخ من حكايات وعبر، أو في استلهام الشعر وتوظيفه في السرد على نحو باهر، للمضي في شعاب الحكاية التي كما أسلفنا، تكاد تحاكي في بنيتها العامة بنائية الحكاية في "ألف ليلة وليلة"، ولكن ما يفترق عن "ألف ليلة وليلة" هنا أن حكايات "يالو" تتغذى من تاريخ الطائفة السريانية، ومن الحياة الواقعية التي عاشها "يالو": الحرب الأهلية اللبنانية، باريس، وبلّونة، بينما حكايات "ألف ليلة وليلة" سوف تتغذى من الخرافة. ولكن عندما يقتضي الأمر من السارد تفعيل اللحظة السردية باتّجاهات الخرافة والأسطورة، فإنه سوف يسعى إلى إقامة نوع من التناص الدلالي للحظة يتطلبها فعل القصّ، وخصوصاً تمثّل "يالو" للأعاجيب التي كان يرويها جدّه الكوهنو، أو يمارسها عملياً.
3.2 الراوي المتماهي بمرويّه.
كنا أشرنا في تحليلنا لأنساق السرد عن جديد هذه الرواية، وهو أن "يالو" الشخصية الروائية، سوف يتمرّد على الراوي، وسيسرد للقارئ حكاياته من جديد ضمن نسقين أحدهما ذاتي، والآخر موضوعي، بعدما يتمكّن من إقصاء الراوي المفارق لمرويّه بعيداً عن الفعل السردي، لأن كلّ مفاتيح الرواية وشيفراتها باتت بيده. ولكن السؤال الذي سوف يشغل القارئ كثيراً، هو عن جدوى إسناد دور الراوي للشخصية الرئيسة، سيما وأنه اطّلع على سائر تفاصيل الحكاية من خلال عملية السرد الأولى. ثمّ هل بإمكان يالو أن يضيف شيئاً جديداً على ما كنّا قرأناه؟!
نعتقد أن وراء إسناد دور الراوي ليالو له أسبابه الفنية والدلالية، ويمكننا تكثيفها هنا بثلاثة وظائف:
أوّلهما: وظيفة تفسيرية، تسعى لاستكمال بعض النواقص، أو لتوضيح بعض الجوانب التي ظلّت مبهمة.
وثانيهما وظيفة إيديولوجية، تعكس أطروحة الكاتب حول مسألة الحرب ومنعكساتها، أو حول الأوضاع الاجتماعية الناجمة عنها، كما نوهنا في المغزى الدلالي.
وثالثهما: وظيفة فنية، والمتابع لسير عملية التحقيق والتعذيب الوحشي الذي جرى في السجن لسحب الاعترافات من "يالو"، سوف يلاحظ أنه لم يكن يجيب على أسئلة المحقق، بل إنه كان عاجزاً عن الإجابة عنها، فالذكريات تعصف الآن بمخيلته عصفاً، ولكنه إلى ذلك لا يستطيع أن يجعلها كلاماً منطوقاً ليريح نفسه، ويهدّئ من غضب المحقق. وكلّ ما وصلنا منه من خلال عملية السرد الأولى، إنما كان عبارة عن مونولوج استرجاعي طويل، حاول من خلاله يالو درء الشبهة عنه، ولكنه مع الأسف، كان يقول هذه الأشياء لنفسه وليس للمحقق، وربّما يعود هذا العيّ الكلامي إلى زمن الطفولة والتربية الأولى، عندما كان جدّه الكوهنو يسعى لسحب اعترافات منه لذنوب لم يرتكبها؛ فكان الفتى على الدوام يشعر أن ثمة مقصاً معلّقاً فوق رأسه؛ ولكن هذه العلّة سوف تفارقه في الحرب وفي غزواته الليلية في بلّونة، أي عندما كان يشعر بأنه يقوم بأعمال بطولية، وبمجرّد أن ينتهي من هذا الدور تعود إليه هذه العلّة، حتى أن المحامي ميشال سلّوم عندما يراه على هذه الحال سيشبهه بالنعجة، أو بالحيوان الأبكم.
ولكن لما كان التحقيق يقتضي اعترافاً تفصيلياً، فإن أقوال يالو لم تكف لكي تدينه، ولذلك فإن المحقق لجأ إلى استكتابه قصّة حياته؛ يقدّم من خلالها اعترافاته بشكل منظّم وتام، وحينها سيكتشف يالو أن التعبير عن كلّ هذه الأمور بالكتابة، لأشد وطأة وعذاباً من حالة العيّ الكلامي، ولكنه ماذا يفعل الآن وقد لقي تعذيباً وحشياً لا يمكن تصوّره؟! هل يقرّ بعجزه فيستلمه الجلادون من جديد، أم يكتب ما هو مطلوب منه؟ وبالطبع فإنه سيختار الكتابة دفاعاً عن نفسه، وسينفث الحبر في وجوه أعدائه كي يضللهم كما الحبّار.
كتب في البداية موجزاً عن سيرته الشخصية، منتقياً أهم المحطّات في حياته، ثمّ أضاف إليها ما طلبه منه المحقق عن الاعتراف بقضية التفجيرات التي شهدتها بيروت آنذاك. ولكن هذه الكتابة لن ترضيه، بل ربّما ستعيده مجدداً إلى التعذيب، لأنه لم يكتب بالتفصيل عن كلّ حياته كما شاء المحقق. وهكذا فإنه سيعود إلى الكتابة مجدداً، مصمماً على نفث الحبر في وجوه أعدائه، وهنا فإن دور البطولة دفاعاً عن الذات وحبّاً في الحياة سوف يعاوده، ومع البطولة ستعود إليه الكلمات، وعندها سيحبّ الكتابة وسيتذكّر ما قاله الجدّ ذات يوم من أن "الكلمات عيون، ترى وتحسّ وتتنفّس"، وأن الكلام يحتاج إلى حيلة لكي يخرج، وهذه الحيلة لن تكون إلاّ الكتابة دفاعاً عن الذات، أو تعبيراً عمّا يختلج في النفس من استنكار للظلم، واحتجاج على هذه السيرورة الإنسانية الكاذبة.. السيرورة المغطاة بالفضائل البرّاقة، ولكنها مع الأسف، مخرّبة من الداخل بالوحشية والعدوانية اللتين ما انفكّ الإنسان يتوارثهما منذ الأزل؛ وليس بمقدوره الخلاص منهما طالما ظلّ هناك قويّ يستأثر بكلّ شيء وضعيف لا حيلة له في الحياة إلاّ العذاب. وتلك هي خلاصة ما توصّل إليه "يالو" عبر رحلته في الكتابة لاستكشاف ذاته والعالم المحيط به، وبذلك كان خلاصه.
* الرواية من منشورات دار الآداب، بيروت، 2002 .
في هذا الصدد انظر ورقته في ندوة مكناس للقصة، والمطبوعة ضمن كتاب "دراسات في القصّة العربية، مؤسسة الأبحاث العربية بيروت 1986. ص53
2 يمكن للقارئ الكريم هنا مراجعة أبحاث وكتب كلّ من: سعيد يقطين، حميد لحميداني، عبد الله إبراهيم، التي نظّرت عربياً لتقنيات السرد.
3 "فضّلنا استخدام هذين المصطلحين اللذين اقترحهما الدكتور عبد الله إبراهيم في كتابه المهم "ال