جماليات المكان فى الرواية
تمهيــد
ما تزال دراسة المكان فى الرواية نادرة فى النقد العربى، والكتب التى صدرت فى هذا السياق ما تزال دون عدد أصابع اليد، وما تسعى إليه هذه المقالة هو وضع مقدمة نظرية لدراسة المكان فى الرواية.
وهذه المقدمة تستند إلى أهم ما صدر فى العربية من دراسات فى المكان الروائى، وهى دراسات سيزا قاسم (1985) وحسن بحراوى (1990) وسمر روحى الفيصل (1995)، كما تستند إلى بعض الدراسات فى الرواية الغربية.
وغاية ما تسعى إليه هذه المقدمة أن تكون حافزاً إلى درس المكان، وعوناً على الوعى به جمالياً، ولذلك تمّ توخى الإيجاز، والبعد عن الأمثلة التطبيقية، حتى تترك المجال للقارئ كى يستحضر فى ذهنه ما قرأ من روايات.
أهمية المكان
يكتسب المكان فى الرواية أهمية كبيرة، لا لأنه أحد عناصرها الفنية، أو لأنه المكان الذى تجرى فيه الحوادث، وتتحرك خلاله الشخصيات فحسب، بل لأنه يتحول فى بعض الأعمال المتميزة إلى فضاء يحتوى كل العناصر الروائية، بما فيها من حوادث وشخصيات، وما بينها من علاقات، ويمنحها المناخ الذى تفعل فيه، وتعبر عن وجهة نظرها، ويكون هو نفسه المساعد على تطوير بناء الرواية، والحامل لرؤية البطل، والممثل لمنظور المؤلف، وبهذه الحالة لا يكون المكان كقطعة القماش بالنسبة إلى اللوحة، بل يكون الفضاء الذى تصنعه اللوحة.
إن المكان "ليس عنصراً زائداً فى الرواية، فهو يتخذ أشكالاً ويتضمن معانى عديدة، بل إنه قد يكون فى بعض الأحيان هو الهدف من وجود العمل كله" (بحراوى ص 33 ).
المكان والواقع
وبداية لابد من الاتفاق على أن المكان فى الرواية أياً كان شكله ليس هو المكان فى الواقع الخارجى، ولو أشارت إليه الرواية، أو عنته، أو سمته بالاسم، إذ يظل المكان فى الرواية عنصراً من عناصرها الفنية.
إن المكان فى الرواية هو "المكان اللفظى المتخيل، أى المكان الذى صنعته اللغة انصياعاً لأغراض التخييل الروائى وحاجاته " (الفيصل 251)، "فالنص الروائى يخلق عن طريق الكلمات مكاناً خيالياً له مقوماته الخاصة وأبعاده المتميزة" (سيزا ص 74).
إن المكان فى الرواية قائم فى خيال المتلقى، وليس فى العالم الخارجى، وهو مكان تستثيره اللغة، من خلال قدرتها على الإيحاء، ولذلك كان لابد من التمييز بين المكان فى العالم الخارجى والمكان فى العالم الروائى.
"وإذا كانت نقطة انطلاق الروائى فى التقاليد الواقعية هى الواقع، فإن نقطة الوصول ليست هى العودة إلى عالم الواقع، إنها خلق عالم مستقل، له خصائصه الفنية التى تميزه عن غيره". (سيزا 785).
وعندما يستعين الروائى بوصف المكان أو تسميته، فهو لا يسعى إلى تصوير المكان الخارجى، وإنما يسعى إلى تصوير المكان الروائى، وأى مطابقة بينهما، هى مطابقة غير صحيحة، وما استعانة الروائى بالتسمية أو الوصف إلا لإثارة خيال المتلقى.
وظيفة المكان فى الرواية
فى الرواية التقليدية يظهر المكان مجرد خلفية تتحرك أمامها الشخصيات أو تقع فيها الحوادث، ولا تلقى من الروائى اهتماماً أو عناية، وهو محض مكان هندسى.
وفى الرواية الرومانتيكية يظهر المكان معبراً عن نفسية الشخصيات، ومنسجماً مع رؤيتها للكون والحياة وحاملاً لبعض الأفكار.
وفى هذه الحالة" يبدو المكان كما لو كان خزاناً حقيقياً للأفكار والمشاعر والحدوس، حيث تنشأ بين الإنسان والمكان علاقة متبادلة يؤثر فيها كل طرف على الآخر " ( بحراوى 31 ) .
وفى كلتا الحالتين يظل المكان فى إطار المعنى التقليدى للمكان فى الرواية، ويمكن أن يعد هذا المعنى البنية التحتية، على حين يمكن أن يحقق المكان بنية فوقية، يغدو فيها المكان فضاء، وذلك عندما يسهم المكان فى بناء الرواية وعندما تخترقه الشخصيات "فيتسع ليشمل العلاقات بين الأمكنة والشخصيات والحوادث، وهى فوقها كلها ليصبح نوعاً من الإيقاع المنظم لها" (الفيصل 253).
"إن الوضع المكانى فى الرواية يمكنه أن يصبح محدداً أساسياً للمادة الحكائية ولتلاحق الأحداث والحوافز، أى إنه سيتحول فى النهاية إلى مكوّن روائى جوهرى ويحدث قطيعة مع مفهومه كديكور" (بحراوى 33).
وهكذا يدخل المكان فى الرواية عنصراً فاعلاً، فى تطورها، وبنائها، وفى طبيعة الشخصيات التى تتفاعل معه، وفى علاقات بعضها ببعضها الآخر.
وإذن "يمكننا النظر إلى المكان بوصفه شبكة من العلاقات والرؤيات ووجهات النظر التى تتضامن مع بعضها لتشييد الفضاء الروائى، فالمكان يكون منظماً بنفس الدقة التى نظمت فيها العناصر الأخرى فى الرواية، لذلك فهو يؤثر بعضها، ويقوّى من نفوذها، كما يعبر عن مقاصد المؤلف" (بحراوى 32).
وهكذا، "فالفضاء الروائى أكثر شمولاً واتساعاً من المكان" (الفيصل 256)، فهو أمكنة الرواية كلها، إضافة إلى علاقاتها بالحوادث ومنظورات الشخصيات" (الفيصل 256) " وهو ينشأ من خلال وجهات نظر متعددة، لأنه يعاش على عدة مستويات، من طرف الراوى، بوصفه كائناً مشخصاً، وتخيلياً ، أساساً، ومن خلال اللغة، ثم من طرف الشخصيات الأخرى التى يحتويها المكان، وفى المقام الأخير من طرف القارئ، الذى يدرج بدوره وجهة نظر غاية فى الدقة" (بحراوى 32).
وهكذا يتجاوز المكان وظيفته الأولية المحددة، بوصفه مكاناً لوقوع الأحداث، إلى فضاء يتسع لبنية الرواية، ويؤثر فيها، من خلال زاوية أساسية، هى زاوية الإنسان الذى ينظر إليه.
إن المكان الهندسى البحت لا يمتلك قيمة فنية، ومن هنا كان اختلاف المكان فى الرواية عن المكان فى الواقع الخارجى، لأنّ المكان فى الرواية هو المكان معروضاً من زاوية الراوى والشخصيات والحوادث والأفكار ومن خلال تفاعلها جميعاً معه.
"إن المكان الروائى لا يتشكّل إلا باختراق الأبطال له، وليس هناك أى مكان محدد مسبقاً، وإنما تتشكل الأمكنة من خلال الأحداث التى يقوم بها الأبطال ومن المميزات التى تخصّهم" (بحراوى 29).
ولذلك ميّز غالب هلسا بين ثلاثة أنواع للمكان بحسب علاقة الرواية به، وهى:
1- المكان المجازى: وهو الذى نجده فى رواية الأحداث وهو محض ساحة لوقوع الأحداث لا يتجاوز دوره التوضيح ولا يعبر عن تفاعل الشخصيات والحوادث.
2- المكان الهندسى: وهو الذى تصوره الرواية بدقة محايدة، تنقل أبعاده البصرية، فتعيش مسافاته، وتنقل جزئياته، من غير أن تعيش فيه.
3- المكان بوصفه تجربة تحمل معاناة الشخصيات وأفكارها ورؤيتها للمكان وتثير خيال المتلقى فيستحضره بوصفه مكاناً خاصاً متميزاً. (هلسا 8 - 9).
ولذلك، فإن وصف المكان وحده لا يساعد على خلق الفضاء الروائى، ولا بد من اختراق الإنسان للمكان، والتفاعل معه، والعيش فيه، وتقديمه من خلال زاوية محدودة، تخدم الإطار العام للرواية، بحيث يتحول المكان نفسه إلى عنصر فاعل.
إن المكان فى الرواية من غير تلك الآفاق يغدو محض زخرف أو زينة، وفى أفضل الحالات يساعد على فهم الشخصيات وتفسيرها، ولكنه لا يتحول إلى فضاء، إن الوصف هو الأرض التى يمكن أن يبنى عليها الفضاء، ولكن الوصف وحده لا يصنعه.
"المعيار إذن، هو بناء الفضاء الروائى، فإذا نجح الروائى فى هذا البناء منح المكان الحقيقى والمكان المبتدع خصوصية الخلق الفنى، وإلا، فلا" (الفيصل261).
تسمية المكان الروائى
ولعل تسمية المكان هى أول السبل إلى بناء المكان، فتسمية المكان فى الرواية تحيل القارئ على المكان الذى يحمل الاسم نفسه فى الواقع، وإن كان المكان فى الرواية ليس هو المكان نفسه فى الواقع، ومن هنا تنشأ المفارقة، لأن التسمية محض وسيلة أولية باهتة، لايمكن أن تقوم وحدها ببناء المكان الروائى.
"إن المكان الروائى لفظى متخيل، يحيل إلى نفسه، ولا يتأثر بمحاولات الروائيين تسميته باسم حقيقى بغية إيهام القارئ بمصداقية الحوادث وواقعية المجتمع الروائى" (الفيصل 283).
المكان والواقع
ولذلك يبدو الوصف الوسيلة الأساسية فى تصوير المكان، و "هو محاولة لتجسيد مشهد من العالم الخارجى فى لوحة مصنوعة من الكلمات، والكاتب عندما يصف لا يصف واقعاً مجرداً، ولكنه واقع مشكّل تشكيلاً فنياً، إن الوصف فى الرواية هو وصف لوحة مرسومة، أكثر منه وصف واقع موضوعى (سيزا 110).
إن الوصف يتناول الأشياء، فيرسمها بوساطة اللغة، وهو عنصر أساسى فى الرواية، فإذا كان السرد يروى الأحداث فى الزمان، فإن الوصف يصور الأشياء فى المكان، ولكنه ليس غاية فى ذاته، وإنما هو لأجل صنع المكان الروائى، أو بالأحرى لخلق الفضاء الروائى، فما هو بالتصوير الموضوعى، إنما هو تصوير فنى.
وفى الرواية يظهر الوصف إلى جانب السرد والحوار، بل لعله من الممكن استخراج أسطر أو مقاطع خالصة للوصف، ولكن مما لاشك فيه أن هذا الوصف ليس للزخرف أو الزينة، إلا فى الأعمال الضعيفة.
إن للوصف وظائف متعددة، منها التصوير الفنى الجميل للمكان، ومنها التمجيد للشخصية التى ستخترق المكان، فمن خلال وصف المكان يتم التمهيد لمزاج الشخصية وطبعها، فيصبح المكان "تعبيرات مجازية عن الشخصية، لأن بيت الإنسان امتداد له، فإذا وصفت البيت، فقد وصفت الإنسان" (ويليك 288).
و "الوظيفة الثالثة التى يؤديها الوصف، وخاصة عندما يقف عند التفاصيل الصغيرة، هى وظيفة إيهامية، إذ يدخل العالم الخارجى بتفاصيله الصغيرة فى عالم الرواية التخييلى، فيشعر القارئ أنه يعيش فى عالم الواقع لا عالم الخيال، ويخلق انطباعاً بالحقيقة أو تأثيراً مباشراً بالواقع" (سيزا 81).
وهو مما لاشك تأثير إيهامى، للمتلقى دور كبير فى صنعه، إذ لا يمكن للغة أن تنقل تفاصيل الواقع، وإذا فعلت ذلك سكنت الحركة فى الرواية، وما على اللغة إلا أن تشير إلى الواقع بالتقاط جزئيات منه، وعلى المخيلة لدى المتلقى أن تقوم ببناء المكان الروائى من خلال الجزئيات التى تقدمها له اللغة.
"إن الرواية هى أولاً مجرد شيء، كتاب، موضوع على مكتبتنا، وعندما نفتحه وتنتقل نظراتنا بين الصفحات، تعلق فى الفخ، فتنقلب الغرفة التى نحن فيها إلى مكان آخر يخلقه ديكور الرواية (بوتور 59).
ولعل من المهم القول إن الوصف لا ينقل الأشكال والألوان كما تراها العين، بل ينقلها وفق منظور نفسى فنى جمالى، يخدم الرواية، ومن خلال اللغة، وبشكل يساعد على خلق فضاء تتحرك فيه الشخصيات، وتعبر عن طبعها ومزاجها وأفكارها، ويكون المكان جزءاً من بنيتها الكلية.
"والوصف يقوم على مبدأين متناقضين، هما الاستقصاء والانتقاء، وقد قامت الخلافات بين الكتاب على أيهما أكثر واقعية، وأيهما أكثر تعبيراً، أما بلزاك فقد كان من أنصار الاستقصاء ولم يترك تفصيلاً من تفاصيل المشهد إلا ذكره، ويرى ستندال أن الوصف القائم على التفصيل يحد خيال القارئ ويقتله، فكان يفضل الخطوط العريضة" (سيزا 88).
ولقد وضع جان ريكاردو شجرة للوصف، وضّح فيها عناصره، وفيما يلى بيان بها : ( سيزا 88).
الشىء
الوضع الصفات العناصر
الزمان الحجم أ- 1- الوضع
المكان اللـون 2- الصفات
العـدد 3- العناصر
الشكـل ب- العناصـر
ج - العناصـر
ومما لاشك فيه أن لكل روائى منهجه، ونجاح منهج عند كاتب، لا يقتضى بالضرورة نجاح المنهج نفسه لدى كاتب آخر.
ومهما يكن من أمر، فإن الوصف عنصر أساسى فى بناء المكان، وما الروائى إلا "رسام ديكور ورسام أشخاص" (بوتور 46).
وما الوصف فى الحقيقة إلا "صورة ذهنية متباينة بين الروائيين سواء أكانت محاكاة لمكان حقيقى أم كانت متخيلة، وهى مرتبطة بمنظور الراوى، أى وجهة نظره فى علاقة المكان بالحوادث والشخصيات، ومرتبطة بقدرة الروائى التعبيرية، وبالأهداف التى يريد تحقيقها" (الفيصل 262).
"والوصف الجيد قد يساعد على الترشيح لظهور الشخصية، أو الارتباط بمزاجها وطبعها، ولكنه لا يقتضى بالضرورة خلق فضاء روائى. وإن صورة المكان الجيدة تعد منطلقاً لبناء الفضاء الروائى إذا كان المكان أساسياً، وتتضامن مع الصور الجيدة الأخرى لتشييد هذا الفضاء إذا كان المكان فرعياً، وحين تخسر هذه العلاقة لانفصالها عن الأمكنة الأخرى فى الرواية فإنها تكتفى بوظيفتها التفسيرية" (الفيصل 269).
"أما الصورة الضعيفة فتجعل المكان الأساسى مجرداً لا يقع فيه حدث ولا تخترقه شخصية، وتبقى الصورة الضعيفة فى أفضل حالاتها زخرفاً أو تعييناً عاماً لمسرح الحوادث، كما تعجز عن الكشف عن أى جانب من جوانب الشخصيات، سواء أكانت تحمل اسماً يوهم بأنها حقيقية فى الواقع الخارجى، أم لم تكن" (الفيصل269).
وهكذا يظهر واضحاً أن الوصف للمكان ليس غاية فى ذاته، إنما هو وسيلة لخلق الفضاء الروائى، وهذا الفضاء الروائى لا يتحقق إلا من خلال حركة الشخصيات فى المكان، وتفاعلها معه، كما لا يتحقق إلا من خلال تعدد الأمكنة، وقيام علاقات متواشجة فيما بينها، وذلك كله من خلال منظور ورؤية تلتحم ببنية العمل الروائى.
وإذن لابد من "اختراق الشخصيات الروائية المكان، وإحياء العلاقات المكانية، وجعلها نابضة بالحركة والفعل"، (الفيصل 257) لكى ينتقل المكان من محض مكان إلى فضاء روائى، لأن "الفضاء أكثر شمولاً واتساعاً من المكان، فهو أمكنة الرواية كلها، إضافة إلى علاقاتها بالحوادث ومنظورات الشخصيات، حتى إن الروائى الذى يقصر حدثه على مكان واحد مغلق لابد أن يخلق فى ذهن القارئ امتدادات مكانية أخرى، ومن ثم يصعب القول إن الفضاء الروائى يتشكل من مكان واحد، وإن بدا ظاهره مغلقاً عليه وحده". (الفيصل 256).
ولعل ذلك كله يؤكد ثانية أن المكان فى الرواية "ليس مكاناً معتاداً كالذى نعيش فيه أو نخترقه يومياً، ولكنه يتشكل كعنصر من بين العناصر المكونة للحدث الروائى، وسواء أجاء فى صورة مشهد وصفى أو مجرد إطار للأحداث، فإن مهمته الأساسية هى التنظيم الدرامى للأحداث" (بحراوى 30).
وفى الخلاصة يمكننا القول إن "مصطلح الفضاء الروائى يتسع ليشمل العلاقات المكانية أو العلاقات بين الأمكنة والشخصيات والحوادث، ويعلو فوقها كلها ليصبح نوعاً من الإيقاع المنظم لها" ( الفيصل 253).
المكان بين رواية الشخصية ورواية الحدث
ومن الممكن أن نقف هنا عند تمييز إدوين موير بين رواية الشخصية ورواية الحدث، لنرى انعكاس هذا التمييز على المكان، وهو يؤكد منذ البدء أنه "لا توجد روايات من الشخصيات البحتة، ولا روايات من الصاع البحت، وإنما هى روايات يغلب عليها هذا الطابع أو ذاك، غلبة بارزة وكافية دائماً" (موير 61).
ثم يرى أن "العالم الخيالى للرواية الدرامية يقع فى الزمان، وأن العالم الخيالى لرواية الشخصية يقع فى المكان، ففى الأولى يقدم لنا الكاتب تحديداً عابراً للمكان، ويبنى حدثه فى نطاق الزمان، وفى الثانية يفترض الزمان، فيكون الحدث إطاراً زمنياً ثابتاً، يوزع دائماً، ويعدل مرة بعد أخرى فى نطاق المكان، فالثبات والخط الدائرى فى حبكة رواية الشخصية، هما اللذان يكسبان الأجزاء تناسبها ومعناها، أما فى الرواية الدرامية فتسلسل الحدث وحلّه هما اللذان يصنعان ذلك" (موير 62).
"إن رواية الشخصية تقدم لنا شخصيات تعيش فى مجتمع، ورواية الحدث تقدم لنا أفراداً يتحركون من بداية إلى نهاية، فالرواية الدرامية عادة يكون معنى المكان فيها باهتاً وتحكيمياً" (موير 62)، ولذلك نحسّ "بامتلاء المكان امتلاء بالغاً غير عادى فى الأعمال الكبيرة من روايات الشخصية، كما نحس بازدحام الزمان فى الرواية الدرامية" (موير 84).
وفى كل مرة يتحدث فيها موير عن المكان فى رواية الشخصية أو فى رواية الحدث يؤكد أن الأمر ليس مطلقاً، وإنما هو على سبيل التغليب، وهو يؤكد ذلك فيقول: "إن القول بمكانية الحبكة لا ينكر الحركة الزمانية فيها، كما أن القول بزمانيتها لا يعنى أنه ليس لها وضع فى المكان، وهنا نرى مرة أخرى أن الأمر يتصل بالعنصر الغالب" (موير 63).
وعلى كل حال، فإن كلام موير لا ينقص البتة أهمية المكان فى الرواية، ولا ينفى الفارق الفنى الأكيد بين ماهو مكان وما هو فضاء، فى أى نوع من أنواع الرواية، سواء بسواء.
إذ يمكن أن تنجح رواية الدراما فى خلق الفضاء الروائى على الرغم من القول العام باعتمادها على الزمان وتسلسل الحدث أكثر من اعتمادها على المكان.
مستويات المكان
ومن الممكن النظر بعد ذلك إلى المكان من وجهة نظر فكرية، لأن المكان ليس محض مكان موضوعى، محايد، وإنما هو مكان روائى فنى، يتم تصويره من وجهة نظر، ومن خلال زاوية رؤية، وعبر التفاعل مع الشخصيات والحوادث، وهو بذلك يحمل قيمة، أو يمثلها، أو يرمز إليها.
ففى الرواية "لا نواجه فضاءً خاصاً، وإنما أجزاء وعناصر منظور إليها بطريقة خاصة، فالرؤية هى التى ستمدنا بالمعرفة الموضوعية أو الذاتية التى تحملها الشخصيات عن المكان" (بحراوى 42).
والإنسان كما يرى لوتمان "يخضع العلاقات الإنسانية والنظم لإحداثيات المكان، ويلجأ إلى اللغة لإضفاء إحداثيات مكانية على المنظومات الذهنية" (سيزا75).
فهو يرى المقابلات التالية بين القيم والأماكن:
عالى × واطئ = قـيّـم × رخيـص يمين × يسار = حسن × سيّـئ قريب × بعيد = الأهل × الغرباء مفتوح × مغلق = مفهوم × غامض
"إن إضفاء صفات مكانية على الأفكار المجردة يساعد على تجسيدها، وتستخدم التعبيرات المكانية بالتبادل مع المجرد مما يقربه إلى الأفهام، وينطبق هذا التجسيد المكانى على العديد من المنظومات الاجتماعية والدينية والسياسية والأخلاقية والزمانية " ( سيزا 75).
ويتجسد فى هذا المكان الروائى من خلال التمثيل للقيمة بالمكان، والتقابل بين القيم من خلال التقابل بين الأمكنة، فالقصر العالى الواسع الكبير للغنى القوى القادر على الفعل، والبيت الصغير الضيق الحقير للفقير.
وانطلاقاً من هذا التقابل والتمثيل "يرى لوتمان أنه توجد صفة طوبولوجية هامة هى الحدّ، فالحدّ هو الذى يعهد إليه تقسيم فضاء النص إلى فضاءين غير متقاطعين، وفق مبدأ أساسى هو انعدام قابلية الاختراق" (بحراوى 37).
وهذا الحدّ سيجعل هناك أماكن مباحة، وأماكن محظورة، فالقصر محظور على الفقير، وبيت الفقير مباح للغنى، ومن الصعب على الفقير اختراق القصر.
ومما لا شك فيه أن هذا الحدّ الذى يقيمه لوتمان ليس حداً مكانياً جغرافياً، إنما هو "حد اجتماعى اقتصادى يفصل بين فضاءين روائيين" ( الفيصل 272).
ومثل هذه التصنيفية إلى فضاءين تؤكد انطلاق الفضاء من رؤية الإنسان كما تؤكد أن الفضاء الروائى يحيل إلى البناء الفنى للرواية ولا يحيل إلى الواقع.
وثمة رؤية تصنيفية أخرى قدمها غاستون باشلار فى "جماليات المكان"، فتحدث عن مكان أليف، وهو البيت الذى يوجد فيه الإنسان، ثم تحدث عن المكان المتناهى فى الصغر والمكان المتناهى فى الكبر، وأكد أنهما " ليسا متضادين كما يظن البعض، ففى الحالتين يجب ألا نناقش الصغير والكبير بما هو عليه موضوعياً، … بل على أساس كونهما قطبين لإسقاط الصور (باشلار 33) كما أكد أن الإحساس بهما يوجد فى داخلنا وليس بالضرورة بشيء فى الخارج.
ثم يلح على "أننا حين نقرأ مثلاً وصفاً لحجرة، نتوقف عن القراءة لنتذكر حجرتنا، أى إن قراءة المكان فى الأدب تجعلنا نعاود تذكر بيت الطفولة" (باشلار 7).
"ومن هنا يقدم اعتراضه على الفكرة الوجودية التى تقول: حين نولد نلقى فى عالم معاد، نولد منفيين، فهو يرى أننا نلقى فى البداية فى هناءة بيت الطفولة" ( باشلار 7).
وانطلاقاً من لوتمان أسس حسن بحراوى منهجاً لتصنيف المكان وفق ثلاثة مفاهيم، وهى التقاطب وتعنى وجود قطبين متعارضين فى المكان وفق "تقابلات ضدية" كالإقامة والانتقال (بحراوى 40)، ومفهوم التراتب الذى يتوزع فيه الفضاء "إلى عدة طبقات أو فئات مكانية وفق مبدأ تراتبى معقد" (بحراوى 41) وقد درس من خلال هذا المفهوم "طبقات الفضاء السجنى بناءً على أهميتها من حيث الدرجة والرتبة (بحراوى 41)، والمفهوم الأخير الذى اعتمده هو الرؤية و "هى التى ستمدّنا بالمعرفة الموضوعية أو الذاتية التى تحملها الشخصية عن المكان وتحيطنا علماً بالكيفية التى ندرك بها أبعاده وصفاته.. ولهذا المفهوم فائدة كبرى عند تصنيف وتحليل أنواع الرؤيات السائدة فى إدراك وعرض مكونات الفضاء الروائى.. وستقوم الرؤية كمعيار حاسم لقياس المدى الذى تطاله قدرة الروائى على طويق أجزاء المكان وإلغاء المسافة بين عناصره وتقديمه على نحو يلبى الحاجة إلى الائتلاف والانسجام" (بحراوى 42).
وما هذه التصنيفات أو النماذج أو المفاهيم إلا دليل آخر على أهمية المكان فى العمل الروائى، وعلى ما يمتلك من أبعاد ودلالات.
المكان فى رواية تيار الوعى
ولا بد بعد ذلك كله من الإشارة إلى الوضع الخاص الذى يمتلكه المكان فى رواية تيار الوعى، فهو لا يظهر فيها بشكل وصف مستقل.
إن تيار الوعى "هو التكنيك الذى يستخدمه الروائى القديم لتقديم المحتوى الذهنى والعمليات الذهنية للشخصية عن طريق وصف المؤلف الواسع المعرفة لهذا العالم الذهنى" (همفرى 54).
وتيار الوعى مصطلح ابتدعه وليم جيمس (1840 - 1910) "ويشمل كل منطقة العمليات العقلية بما فيها مستويات ما قبل الكلام على وجه الخصوص" (همفرى 17)، "ولا يوجد تكنيك خاص لتيار الوعى، إنما يوجد بدلاً من ذلك عدة ألوان من التكنيك جد متباينة تستخدم لتقديم تيار الوعى". (همفرى 21).
ومن تقنيات تيار الوعى المونتاج، "ويشير إلى مجموعة الوسائل التى تستخدم لتوضيح تداخل الأفكار أو تداعيها، وذلك كالتوالى السريع للصور، أو وضع صورة فوق صورة، أو إحاطة صورة مركزية بصور أخرى تنتمى إليها" (همفرى 72).
وقد أشار ديفيد داتشز إلى طريقتين فى تقديم هذا المونتاج فى القصص، الأولى تلك التى يمكن للشخص فيها أن يظل ثابتاً فى المكان على حين يتحرك وعيه فى الزمان، ونتيجة ذلك هى المونتاج الزمنى، أى وضع صور أو أفكار من زمن معين على صور أو أفكار من زمن آخر، والطريقة الأخرى بالطبع أن يبقى الزمن ثابتاً، ويتغير العنصر المكانى، والأمر الذى ينتج عنه المونتاج المكانى" (همفرى 75).
الفضاء الموضوعى للكتاب
ولا بد أخيراً من الإشارة إلى الفضاء الموضوعى للكتاب، "أى فضاء الصفحة والكتاب بمجمله، والذى يعتبر المكان المادى الوحيد الموجود فى الرواية، حيث يجرى اللقاء بين وعى الكاتب ووعى القارئ. وفى هذا الاتجاه برزت عدة دراسات حول فضاء النص من خلال تحليل العنوان أو الغلاف أو المقدمات وبدايات واختتام الفصول والتنويعات المختلفة وفهارس الموضوعات، ولقد عارض كثيرٌ من النقاد هذا الاتجاه فور ظهوره لأنهم رأوا فيه ميلاً مبالغاً نحو الشكلنة والتجريد" بحراوى (28).
وفى الواقع إذا كان من المفيد دراسة الفضاء الروائى من خلال تسمية الأشخاص والأماكن ومن خلال عنوان الرواية، فإن الفائدة تبدو أقل فى دراسة الغلاف وشكل الحروف ونظام الفصول.
خاتمة
وبعد، فتلك هى بعض الآفاق التى تفتحها دراسة المكان فى الرواية، وهى آفاق خصبة غنية واسعة، وبإمكان القارئ من خلالها تحقيق متعة أكبر فى التعامل مع المكان الروائى، وبإمكان الدارس الانطلاق من غير شك إلى آفاق وأبعاد أغنى وأوسع.
ولعل ذلك كله يؤكد أهمية المكان فى الرواية، وما هو جدير به من عناية ودرس.
المراجع:
1- بحراوى، حسن، بنية الشكل الروائى، المركز الثقافى العربى، بيروت، الدار البيضاء، 1990. 2- الفيصل، د. سمر روحى الفيصل، بناء الرواية العربية السورية، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1995. 3- قاسم، د. سيزا أحمد، بناء الرواية ، دار التنوير، بيروت، 1985. 4- هلسا، غالب، المكان فى الرواية العربية، دار ابن هانئ، دمشق، 1989.
المراجع المترجمــة
1- باشلار، غاستون، جماليات المكان، تر. غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للنشر، بيروت، ط. ثانية، 1984. 2- بوتور، ميشال، بحوث فى الرواية الجديدة، تر. فريد أنطونيوس، منشورات عويدات، بيروت، 1971 . 3- موير، إدوين، بناء الروايـة، تر. إبراهيم الصيرفى، مر. الدكتور عبد القادر القط، الدار المصرية، القاهرة، لاتـا . 4- همفرى، روبرت، تيار الوعى فى الرواية الحديثـة ، تر، د. محمود الربيعى، دار المعارف بمصر ، القاهرة، ط. ثانية، 1975. 5- ويليك، رينيه ، وارين ، أوستن، نظرية الأدب ، تر. محيى الدين صبحى، مر. د. حسام الخطيب، المجلس الأعلى لرعاية العلوم والفنون والآداب، دمشق، 1972.
تمهيــد
ما تزال دراسة المكان فى الرواية نادرة فى النقد العربى، والكتب التى صدرت فى هذا السياق ما تزال دون عدد أصابع اليد، وما تسعى إليه هذه المقالة هو وضع مقدمة نظرية لدراسة المكان فى الرواية.
وهذه المقدمة تستند إلى أهم ما صدر فى العربية من دراسات فى المكان الروائى، وهى دراسات سيزا قاسم (1985) وحسن بحراوى (1990) وسمر روحى الفيصل (1995)، كما تستند إلى بعض الدراسات فى الرواية الغربية.
وغاية ما تسعى إليه هذه المقدمة أن تكون حافزاً إلى درس المكان، وعوناً على الوعى به جمالياً، ولذلك تمّ توخى الإيجاز، والبعد عن الأمثلة التطبيقية، حتى تترك المجال للقارئ كى يستحضر فى ذهنه ما قرأ من روايات.
أهمية المكان
يكتسب المكان فى الرواية أهمية كبيرة، لا لأنه أحد عناصرها الفنية، أو لأنه المكان الذى تجرى فيه الحوادث، وتتحرك خلاله الشخصيات فحسب، بل لأنه يتحول فى بعض الأعمال المتميزة إلى فضاء يحتوى كل العناصر الروائية، بما فيها من حوادث وشخصيات، وما بينها من علاقات، ويمنحها المناخ الذى تفعل فيه، وتعبر عن وجهة نظرها، ويكون هو نفسه المساعد على تطوير بناء الرواية، والحامل لرؤية البطل، والممثل لمنظور المؤلف، وبهذه الحالة لا يكون المكان كقطعة القماش بالنسبة إلى اللوحة، بل يكون الفضاء الذى تصنعه اللوحة.
إن المكان "ليس عنصراً زائداً فى الرواية، فهو يتخذ أشكالاً ويتضمن معانى عديدة، بل إنه قد يكون فى بعض الأحيان هو الهدف من وجود العمل كله" (بحراوى ص 33 ).
المكان والواقع
وبداية لابد من الاتفاق على أن المكان فى الرواية أياً كان شكله ليس هو المكان فى الواقع الخارجى، ولو أشارت إليه الرواية، أو عنته، أو سمته بالاسم، إذ يظل المكان فى الرواية عنصراً من عناصرها الفنية.
إن المكان فى الرواية هو "المكان اللفظى المتخيل، أى المكان الذى صنعته اللغة انصياعاً لأغراض التخييل الروائى وحاجاته " (الفيصل 251)، "فالنص الروائى يخلق عن طريق الكلمات مكاناً خيالياً له مقوماته الخاصة وأبعاده المتميزة" (سيزا ص 74).
إن المكان فى الرواية قائم فى خيال المتلقى، وليس فى العالم الخارجى، وهو مكان تستثيره اللغة، من خلال قدرتها على الإيحاء، ولذلك كان لابد من التمييز بين المكان فى العالم الخارجى والمكان فى العالم الروائى.
"وإذا كانت نقطة انطلاق الروائى فى التقاليد الواقعية هى الواقع، فإن نقطة الوصول ليست هى العودة إلى عالم الواقع، إنها خلق عالم مستقل، له خصائصه الفنية التى تميزه عن غيره". (سيزا 785).
وعندما يستعين الروائى بوصف المكان أو تسميته، فهو لا يسعى إلى تصوير المكان الخارجى، وإنما يسعى إلى تصوير المكان الروائى، وأى مطابقة بينهما، هى مطابقة غير صحيحة، وما استعانة الروائى بالتسمية أو الوصف إلا لإثارة خيال المتلقى.
وظيفة المكان فى الرواية
فى الرواية التقليدية يظهر المكان مجرد خلفية تتحرك أمامها الشخصيات أو تقع فيها الحوادث، ولا تلقى من الروائى اهتماماً أو عناية، وهو محض مكان هندسى.
وفى الرواية الرومانتيكية يظهر المكان معبراً عن نفسية الشخصيات، ومنسجماً مع رؤيتها للكون والحياة وحاملاً لبعض الأفكار.
وفى هذه الحالة" يبدو المكان كما لو كان خزاناً حقيقياً للأفكار والمشاعر والحدوس، حيث تنشأ بين الإنسان والمكان علاقة متبادلة يؤثر فيها كل طرف على الآخر " ( بحراوى 31 ) .
وفى كلتا الحالتين يظل المكان فى إطار المعنى التقليدى للمكان فى الرواية، ويمكن أن يعد هذا المعنى البنية التحتية، على حين يمكن أن يحقق المكان بنية فوقية، يغدو فيها المكان فضاء، وذلك عندما يسهم المكان فى بناء الرواية وعندما تخترقه الشخصيات "فيتسع ليشمل العلاقات بين الأمكنة والشخصيات والحوادث، وهى فوقها كلها ليصبح نوعاً من الإيقاع المنظم لها" (الفيصل 253).
"إن الوضع المكانى فى الرواية يمكنه أن يصبح محدداً أساسياً للمادة الحكائية ولتلاحق الأحداث والحوافز، أى إنه سيتحول فى النهاية إلى مكوّن روائى جوهرى ويحدث قطيعة مع مفهومه كديكور" (بحراوى 33).
وهكذا يدخل المكان فى الرواية عنصراً فاعلاً، فى تطورها، وبنائها، وفى طبيعة الشخصيات التى تتفاعل معه، وفى علاقات بعضها ببعضها الآخر.
وإذن "يمكننا النظر إلى المكان بوصفه شبكة من العلاقات والرؤيات ووجهات النظر التى تتضامن مع بعضها لتشييد الفضاء الروائى، فالمكان يكون منظماً بنفس الدقة التى نظمت فيها العناصر الأخرى فى الرواية، لذلك فهو يؤثر بعضها، ويقوّى من نفوذها، كما يعبر عن مقاصد المؤلف" (بحراوى 32).
وهكذا، "فالفضاء الروائى أكثر شمولاً واتساعاً من المكان" (الفيصل 256)، فهو أمكنة الرواية كلها، إضافة إلى علاقاتها بالحوادث ومنظورات الشخصيات" (الفيصل 256) " وهو ينشأ من خلال وجهات نظر متعددة، لأنه يعاش على عدة مستويات، من طرف الراوى، بوصفه كائناً مشخصاً، وتخيلياً ، أساساً، ومن خلال اللغة، ثم من طرف الشخصيات الأخرى التى يحتويها المكان، وفى المقام الأخير من طرف القارئ، الذى يدرج بدوره وجهة نظر غاية فى الدقة" (بحراوى 32).
وهكذا يتجاوز المكان وظيفته الأولية المحددة، بوصفه مكاناً لوقوع الأحداث، إلى فضاء يتسع لبنية الرواية، ويؤثر فيها، من خلال زاوية أساسية، هى زاوية الإنسان الذى ينظر إليه.
إن المكان الهندسى البحت لا يمتلك قيمة فنية، ومن هنا كان اختلاف المكان فى الرواية عن المكان فى الواقع الخارجى، لأنّ المكان فى الرواية هو المكان معروضاً من زاوية الراوى والشخصيات والحوادث والأفكار ومن خلال تفاعلها جميعاً معه.
"إن المكان الروائى لا يتشكّل إلا باختراق الأبطال له، وليس هناك أى مكان محدد مسبقاً، وإنما تتشكل الأمكنة من خلال الأحداث التى يقوم بها الأبطال ومن المميزات التى تخصّهم" (بحراوى 29).
ولذلك ميّز غالب هلسا بين ثلاثة أنواع للمكان بحسب علاقة الرواية به، وهى:
1- المكان المجازى: وهو الذى نجده فى رواية الأحداث وهو محض ساحة لوقوع الأحداث لا يتجاوز دوره التوضيح ولا يعبر عن تفاعل الشخصيات والحوادث.
2- المكان الهندسى: وهو الذى تصوره الرواية بدقة محايدة، تنقل أبعاده البصرية، فتعيش مسافاته، وتنقل جزئياته، من غير أن تعيش فيه.
3- المكان بوصفه تجربة تحمل معاناة الشخصيات وأفكارها ورؤيتها للمكان وتثير خيال المتلقى فيستحضره بوصفه مكاناً خاصاً متميزاً. (هلسا 8 - 9).
ولذلك، فإن وصف المكان وحده لا يساعد على خلق الفضاء الروائى، ولا بد من اختراق الإنسان للمكان، والتفاعل معه، والعيش فيه، وتقديمه من خلال زاوية محدودة، تخدم الإطار العام للرواية، بحيث يتحول المكان نفسه إلى عنصر فاعل.
إن المكان فى الرواية من غير تلك الآفاق يغدو محض زخرف أو زينة، وفى أفضل الحالات يساعد على فهم الشخصيات وتفسيرها، ولكنه لا يتحول إلى فضاء، إن الوصف هو الأرض التى يمكن أن يبنى عليها الفضاء، ولكن الوصف وحده لا يصنعه.
"المعيار إذن، هو بناء الفضاء الروائى، فإذا نجح الروائى فى هذا البناء منح المكان الحقيقى والمكان المبتدع خصوصية الخلق الفنى، وإلا، فلا" (الفيصل261).
تسمية المكان الروائى
ولعل تسمية المكان هى أول السبل إلى بناء المكان، فتسمية المكان فى الرواية تحيل القارئ على المكان الذى يحمل الاسم نفسه فى الواقع، وإن كان المكان فى الرواية ليس هو المكان نفسه فى الواقع، ومن هنا تنشأ المفارقة، لأن التسمية محض وسيلة أولية باهتة، لايمكن أن تقوم وحدها ببناء المكان الروائى.
"إن المكان الروائى لفظى متخيل، يحيل إلى نفسه، ولا يتأثر بمحاولات الروائيين تسميته باسم حقيقى بغية إيهام القارئ بمصداقية الحوادث وواقعية المجتمع الروائى" (الفيصل 283).
المكان والواقع
ولذلك يبدو الوصف الوسيلة الأساسية فى تصوير المكان، و "هو محاولة لتجسيد مشهد من العالم الخارجى فى لوحة مصنوعة من الكلمات، والكاتب عندما يصف لا يصف واقعاً مجرداً، ولكنه واقع مشكّل تشكيلاً فنياً، إن الوصف فى الرواية هو وصف لوحة مرسومة، أكثر منه وصف واقع موضوعى (سيزا 110).
إن الوصف يتناول الأشياء، فيرسمها بوساطة اللغة، وهو عنصر أساسى فى الرواية، فإذا كان السرد يروى الأحداث فى الزمان، فإن الوصف يصور الأشياء فى المكان، ولكنه ليس غاية فى ذاته، وإنما هو لأجل صنع المكان الروائى، أو بالأحرى لخلق الفضاء الروائى، فما هو بالتصوير الموضوعى، إنما هو تصوير فنى.
وفى الرواية يظهر الوصف إلى جانب السرد والحوار، بل لعله من الممكن استخراج أسطر أو مقاطع خالصة للوصف، ولكن مما لاشك فيه أن هذا الوصف ليس للزخرف أو الزينة، إلا فى الأعمال الضعيفة.
إن للوصف وظائف متعددة، منها التصوير الفنى الجميل للمكان، ومنها التمجيد للشخصية التى ستخترق المكان، فمن خلال وصف المكان يتم التمهيد لمزاج الشخصية وطبعها، فيصبح المكان "تعبيرات مجازية عن الشخصية، لأن بيت الإنسان امتداد له، فإذا وصفت البيت، فقد وصفت الإنسان" (ويليك 288).
و "الوظيفة الثالثة التى يؤديها الوصف، وخاصة عندما يقف عند التفاصيل الصغيرة، هى وظيفة إيهامية، إذ يدخل العالم الخارجى بتفاصيله الصغيرة فى عالم الرواية التخييلى، فيشعر القارئ أنه يعيش فى عالم الواقع لا عالم الخيال، ويخلق انطباعاً بالحقيقة أو تأثيراً مباشراً بالواقع" (سيزا 81).
وهو مما لاشك تأثير إيهامى، للمتلقى دور كبير فى صنعه، إذ لا يمكن للغة أن تنقل تفاصيل الواقع، وإذا فعلت ذلك سكنت الحركة فى الرواية، وما على اللغة إلا أن تشير إلى الواقع بالتقاط جزئيات منه، وعلى المخيلة لدى المتلقى أن تقوم ببناء المكان الروائى من خلال الجزئيات التى تقدمها له اللغة.
"إن الرواية هى أولاً مجرد شيء، كتاب، موضوع على مكتبتنا، وعندما نفتحه وتنتقل نظراتنا بين الصفحات، تعلق فى الفخ، فتنقلب الغرفة التى نحن فيها إلى مكان آخر يخلقه ديكور الرواية (بوتور 59).
ولعل من المهم القول إن الوصف لا ينقل الأشكال والألوان كما تراها العين، بل ينقلها وفق منظور نفسى فنى جمالى، يخدم الرواية، ومن خلال اللغة، وبشكل يساعد على خلق فضاء تتحرك فيه الشخصيات، وتعبر عن طبعها ومزاجها وأفكارها، ويكون المكان جزءاً من بنيتها الكلية.
"والوصف يقوم على مبدأين متناقضين، هما الاستقصاء والانتقاء، وقد قامت الخلافات بين الكتاب على أيهما أكثر واقعية، وأيهما أكثر تعبيراً، أما بلزاك فقد كان من أنصار الاستقصاء ولم يترك تفصيلاً من تفاصيل المشهد إلا ذكره، ويرى ستندال أن الوصف القائم على التفصيل يحد خيال القارئ ويقتله، فكان يفضل الخطوط العريضة" (سيزا 88).
ولقد وضع جان ريكاردو شجرة للوصف، وضّح فيها عناصره، وفيما يلى بيان بها : ( سيزا 88).
الشىء
الوضع الصفات العناصر
الزمان الحجم أ- 1- الوضع
المكان اللـون 2- الصفات
العـدد 3- العناصر
الشكـل ب- العناصـر
ج - العناصـر
ومما لاشك فيه أن لكل روائى منهجه، ونجاح منهج عند كاتب، لا يقتضى بالضرورة نجاح المنهج نفسه لدى كاتب آخر.
ومهما يكن من أمر، فإن الوصف عنصر أساسى فى بناء المكان، وما الروائى إلا "رسام ديكور ورسام أشخاص" (بوتور 46).
وما الوصف فى الحقيقة إلا "صورة ذهنية متباينة بين الروائيين سواء أكانت محاكاة لمكان حقيقى أم كانت متخيلة، وهى مرتبطة بمنظور الراوى، أى وجهة نظره فى علاقة المكان بالحوادث والشخصيات، ومرتبطة بقدرة الروائى التعبيرية، وبالأهداف التى يريد تحقيقها" (الفيصل 262).
"والوصف الجيد قد يساعد على الترشيح لظهور الشخصية، أو الارتباط بمزاجها وطبعها، ولكنه لا يقتضى بالضرورة خلق فضاء روائى. وإن صورة المكان الجيدة تعد منطلقاً لبناء الفضاء الروائى إذا كان المكان أساسياً، وتتضامن مع الصور الجيدة الأخرى لتشييد هذا الفضاء إذا كان المكان فرعياً، وحين تخسر هذه العلاقة لانفصالها عن الأمكنة الأخرى فى الرواية فإنها تكتفى بوظيفتها التفسيرية" (الفيصل 269).
"أما الصورة الضعيفة فتجعل المكان الأساسى مجرداً لا يقع فيه حدث ولا تخترقه شخصية، وتبقى الصورة الضعيفة فى أفضل حالاتها زخرفاً أو تعييناً عاماً لمسرح الحوادث، كما تعجز عن الكشف عن أى جانب من جوانب الشخصيات، سواء أكانت تحمل اسماً يوهم بأنها حقيقية فى الواقع الخارجى، أم لم تكن" (الفيصل269).
وهكذا يظهر واضحاً أن الوصف للمكان ليس غاية فى ذاته، إنما هو وسيلة لخلق الفضاء الروائى، وهذا الفضاء الروائى لا يتحقق إلا من خلال حركة الشخصيات فى المكان، وتفاعلها معه، كما لا يتحقق إلا من خلال تعدد الأمكنة، وقيام علاقات متواشجة فيما بينها، وذلك كله من خلال منظور ورؤية تلتحم ببنية العمل الروائى.
وإذن لابد من "اختراق الشخصيات الروائية المكان، وإحياء العلاقات المكانية، وجعلها نابضة بالحركة والفعل"، (الفيصل 257) لكى ينتقل المكان من محض مكان إلى فضاء روائى، لأن "الفضاء أكثر شمولاً واتساعاً من المكان، فهو أمكنة الرواية كلها، إضافة إلى علاقاتها بالحوادث ومنظورات الشخصيات، حتى إن الروائى الذى يقصر حدثه على مكان واحد مغلق لابد أن يخلق فى ذهن القارئ امتدادات مكانية أخرى، ومن ثم يصعب القول إن الفضاء الروائى يتشكل من مكان واحد، وإن بدا ظاهره مغلقاً عليه وحده". (الفيصل 256).
ولعل ذلك كله يؤكد ثانية أن المكان فى الرواية "ليس مكاناً معتاداً كالذى نعيش فيه أو نخترقه يومياً، ولكنه يتشكل كعنصر من بين العناصر المكونة للحدث الروائى، وسواء أجاء فى صورة مشهد وصفى أو مجرد إطار للأحداث، فإن مهمته الأساسية هى التنظيم الدرامى للأحداث" (بحراوى 30).
وفى الخلاصة يمكننا القول إن "مصطلح الفضاء الروائى يتسع ليشمل العلاقات المكانية أو العلاقات بين الأمكنة والشخصيات والحوادث، ويعلو فوقها كلها ليصبح نوعاً من الإيقاع المنظم لها" ( الفيصل 253).
المكان بين رواية الشخصية ورواية الحدث
ومن الممكن أن نقف هنا عند تمييز إدوين موير بين رواية الشخصية ورواية الحدث، لنرى انعكاس هذا التمييز على المكان، وهو يؤكد منذ البدء أنه "لا توجد روايات من الشخصيات البحتة، ولا روايات من الصاع البحت، وإنما هى روايات يغلب عليها هذا الطابع أو ذاك، غلبة بارزة وكافية دائماً" (موير 61).
ثم يرى أن "العالم الخيالى للرواية الدرامية يقع فى الزمان، وأن العالم الخيالى لرواية الشخصية يقع فى المكان، ففى الأولى يقدم لنا الكاتب تحديداً عابراً للمكان، ويبنى حدثه فى نطاق الزمان، وفى الثانية يفترض الزمان، فيكون الحدث إطاراً زمنياً ثابتاً، يوزع دائماً، ويعدل مرة بعد أخرى فى نطاق المكان، فالثبات والخط الدائرى فى حبكة رواية الشخصية، هما اللذان يكسبان الأجزاء تناسبها ومعناها، أما فى الرواية الدرامية فتسلسل الحدث وحلّه هما اللذان يصنعان ذلك" (موير 62).
"إن رواية الشخصية تقدم لنا شخصيات تعيش فى مجتمع، ورواية الحدث تقدم لنا أفراداً يتحركون من بداية إلى نهاية، فالرواية الدرامية عادة يكون معنى المكان فيها باهتاً وتحكيمياً" (موير 62)، ولذلك نحسّ "بامتلاء المكان امتلاء بالغاً غير عادى فى الأعمال الكبيرة من روايات الشخصية، كما نحس بازدحام الزمان فى الرواية الدرامية" (موير 84).
وفى كل مرة يتحدث فيها موير عن المكان فى رواية الشخصية أو فى رواية الحدث يؤكد أن الأمر ليس مطلقاً، وإنما هو على سبيل التغليب، وهو يؤكد ذلك فيقول: "إن القول بمكانية الحبكة لا ينكر الحركة الزمانية فيها، كما أن القول بزمانيتها لا يعنى أنه ليس لها وضع فى المكان، وهنا نرى مرة أخرى أن الأمر يتصل بالعنصر الغالب" (موير 63).
وعلى كل حال، فإن كلام موير لا ينقص البتة أهمية المكان فى الرواية، ولا ينفى الفارق الفنى الأكيد بين ماهو مكان وما هو فضاء، فى أى نوع من أنواع الرواية، سواء بسواء.
إذ يمكن أن تنجح رواية الدراما فى خلق الفضاء الروائى على الرغم من القول العام باعتمادها على الزمان وتسلسل الحدث أكثر من اعتمادها على المكان.
مستويات المكان
ومن الممكن النظر بعد ذلك إلى المكان من وجهة نظر فكرية، لأن المكان ليس محض مكان موضوعى، محايد، وإنما هو مكان روائى فنى، يتم تصويره من وجهة نظر، ومن خلال زاوية رؤية، وعبر التفاعل مع الشخصيات والحوادث، وهو بذلك يحمل قيمة، أو يمثلها، أو يرمز إليها.
ففى الرواية "لا نواجه فضاءً خاصاً، وإنما أجزاء وعناصر منظور إليها بطريقة خاصة، فالرؤية هى التى ستمدنا بالمعرفة الموضوعية أو الذاتية التى تحملها الشخصيات عن المكان" (بحراوى 42).
والإنسان كما يرى لوتمان "يخضع العلاقات الإنسانية والنظم لإحداثيات المكان، ويلجأ إلى اللغة لإضفاء إحداثيات مكانية على المنظومات الذهنية" (سيزا75).
فهو يرى المقابلات التالية بين القيم والأماكن:
عالى × واطئ = قـيّـم × رخيـص يمين × يسار = حسن × سيّـئ قريب × بعيد = الأهل × الغرباء مفتوح × مغلق = مفهوم × غامض
"إن إضفاء صفات مكانية على الأفكار المجردة يساعد على تجسيدها، وتستخدم التعبيرات المكانية بالتبادل مع المجرد مما يقربه إلى الأفهام، وينطبق هذا التجسيد المكانى على العديد من المنظومات الاجتماعية والدينية والسياسية والأخلاقية والزمانية " ( سيزا 75).
ويتجسد فى هذا المكان الروائى من خلال التمثيل للقيمة بالمكان، والتقابل بين القيم من خلال التقابل بين الأمكنة، فالقصر العالى الواسع الكبير للغنى القوى القادر على الفعل، والبيت الصغير الضيق الحقير للفقير.
وانطلاقاً من هذا التقابل والتمثيل "يرى لوتمان أنه توجد صفة طوبولوجية هامة هى الحدّ، فالحدّ هو الذى يعهد إليه تقسيم فضاء النص إلى فضاءين غير متقاطعين، وفق مبدأ أساسى هو انعدام قابلية الاختراق" (بحراوى 37).
وهذا الحدّ سيجعل هناك أماكن مباحة، وأماكن محظورة، فالقصر محظور على الفقير، وبيت الفقير مباح للغنى، ومن الصعب على الفقير اختراق القصر.
ومما لا شك فيه أن هذا الحدّ الذى يقيمه لوتمان ليس حداً مكانياً جغرافياً، إنما هو "حد اجتماعى اقتصادى يفصل بين فضاءين روائيين" ( الفيصل 272).
ومثل هذه التصنيفية إلى فضاءين تؤكد انطلاق الفضاء من رؤية الإنسان كما تؤكد أن الفضاء الروائى يحيل إلى البناء الفنى للرواية ولا يحيل إلى الواقع.
وثمة رؤية تصنيفية أخرى قدمها غاستون باشلار فى "جماليات المكان"، فتحدث عن مكان أليف، وهو البيت الذى يوجد فيه الإنسان، ثم تحدث عن المكان المتناهى فى الصغر والمكان المتناهى فى الكبر، وأكد أنهما " ليسا متضادين كما يظن البعض، ففى الحالتين يجب ألا نناقش الصغير والكبير بما هو عليه موضوعياً، … بل على أساس كونهما قطبين لإسقاط الصور (باشلار 33) كما أكد أن الإحساس بهما يوجد فى داخلنا وليس بالضرورة بشيء فى الخارج.
ثم يلح على "أننا حين نقرأ مثلاً وصفاً لحجرة، نتوقف عن القراءة لنتذكر حجرتنا، أى إن قراءة المكان فى الأدب تجعلنا نعاود تذكر بيت الطفولة" (باشلار 7).
"ومن هنا يقدم اعتراضه على الفكرة الوجودية التى تقول: حين نولد نلقى فى عالم معاد، نولد منفيين، فهو يرى أننا نلقى فى البداية فى هناءة بيت الطفولة" ( باشلار 7).
وانطلاقاً من لوتمان أسس حسن بحراوى منهجاً لتصنيف المكان وفق ثلاثة مفاهيم، وهى التقاطب وتعنى وجود قطبين متعارضين فى المكان وفق "تقابلات ضدية" كالإقامة والانتقال (بحراوى 40)، ومفهوم التراتب الذى يتوزع فيه الفضاء "إلى عدة طبقات أو فئات مكانية وفق مبدأ تراتبى معقد" (بحراوى 41) وقد درس من خلال هذا المفهوم "طبقات الفضاء السجنى بناءً على أهميتها من حيث الدرجة والرتبة (بحراوى 41)، والمفهوم الأخير الذى اعتمده هو الرؤية و "هى التى ستمدّنا بالمعرفة الموضوعية أو الذاتية التى تحملها الشخصية عن المكان وتحيطنا علماً بالكيفية التى ندرك بها أبعاده وصفاته.. ولهذا المفهوم فائدة كبرى عند تصنيف وتحليل أنواع الرؤيات السائدة فى إدراك وعرض مكونات الفضاء الروائى.. وستقوم الرؤية كمعيار حاسم لقياس المدى الذى تطاله قدرة الروائى على طويق أجزاء المكان وإلغاء المسافة بين عناصره وتقديمه على نحو يلبى الحاجة إلى الائتلاف والانسجام" (بحراوى 42).
وما هذه التصنيفات أو النماذج أو المفاهيم إلا دليل آخر على أهمية المكان فى العمل الروائى، وعلى ما يمتلك من أبعاد ودلالات.
المكان فى رواية تيار الوعى
ولا بد بعد ذلك كله من الإشارة إلى الوضع الخاص الذى يمتلكه المكان فى رواية تيار الوعى، فهو لا يظهر فيها بشكل وصف مستقل.
إن تيار الوعى "هو التكنيك الذى يستخدمه الروائى القديم لتقديم المحتوى الذهنى والعمليات الذهنية للشخصية عن طريق وصف المؤلف الواسع المعرفة لهذا العالم الذهنى" (همفرى 54).
وتيار الوعى مصطلح ابتدعه وليم جيمس (1840 - 1910) "ويشمل كل منطقة العمليات العقلية بما فيها مستويات ما قبل الكلام على وجه الخصوص" (همفرى 17)، "ولا يوجد تكنيك خاص لتيار الوعى، إنما يوجد بدلاً من ذلك عدة ألوان من التكنيك جد متباينة تستخدم لتقديم تيار الوعى". (همفرى 21).
ومن تقنيات تيار الوعى المونتاج، "ويشير إلى مجموعة الوسائل التى تستخدم لتوضيح تداخل الأفكار أو تداعيها، وذلك كالتوالى السريع للصور، أو وضع صورة فوق صورة، أو إحاطة صورة مركزية بصور أخرى تنتمى إليها" (همفرى 72).
وقد أشار ديفيد داتشز إلى طريقتين فى تقديم هذا المونتاج فى القصص، الأولى تلك التى يمكن للشخص فيها أن يظل ثابتاً فى المكان على حين يتحرك وعيه فى الزمان، ونتيجة ذلك هى المونتاج الزمنى، أى وضع صور أو أفكار من زمن معين على صور أو أفكار من زمن آخر، والطريقة الأخرى بالطبع أن يبقى الزمن ثابتاً، ويتغير العنصر المكانى، والأمر الذى ينتج عنه المونتاج المكانى" (همفرى 75).
الفضاء الموضوعى للكتاب
ولا بد أخيراً من الإشارة إلى الفضاء الموضوعى للكتاب، "أى فضاء الصفحة والكتاب بمجمله، والذى يعتبر المكان المادى الوحيد الموجود فى الرواية، حيث يجرى اللقاء بين وعى الكاتب ووعى القارئ. وفى هذا الاتجاه برزت عدة دراسات حول فضاء النص من خلال تحليل العنوان أو الغلاف أو المقدمات وبدايات واختتام الفصول والتنويعات المختلفة وفهارس الموضوعات، ولقد عارض كثيرٌ من النقاد هذا الاتجاه فور ظهوره لأنهم رأوا فيه ميلاً مبالغاً نحو الشكلنة والتجريد" بحراوى (28).
وفى الواقع إذا كان من المفيد دراسة الفضاء الروائى من خلال تسمية الأشخاص والأماكن ومن خلال عنوان الرواية، فإن الفائدة تبدو أقل فى دراسة الغلاف وشكل الحروف ونظام الفصول.
خاتمة
وبعد، فتلك هى بعض الآفاق التى تفتحها دراسة المكان فى الرواية، وهى آفاق خصبة غنية واسعة، وبإمكان القارئ من خلالها تحقيق متعة أكبر فى التعامل مع المكان الروائى، وبإمكان الدارس الانطلاق من غير شك إلى آفاق وأبعاد أغنى وأوسع.
ولعل ذلك كله يؤكد أهمية المكان فى الرواية، وما هو جدير به من عناية ودرس.
المراجع:
1- بحراوى، حسن، بنية الشكل الروائى، المركز الثقافى العربى، بيروت، الدار البيضاء، 1990. 2- الفيصل، د. سمر روحى الفيصل، بناء الرواية العربية السورية، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1995. 3- قاسم، د. سيزا أحمد، بناء الرواية ، دار التنوير، بيروت، 1985. 4- هلسا، غالب، المكان فى الرواية العربية، دار ابن هانئ، دمشق، 1989.
المراجع المترجمــة
1- باشلار، غاستون، جماليات المكان، تر. غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للنشر، بيروت، ط. ثانية، 1984. 2- بوتور، ميشال، بحوث فى الرواية الجديدة، تر. فريد أنطونيوس، منشورات عويدات، بيروت، 1971 . 3- موير، إدوين، بناء الروايـة، تر. إبراهيم الصيرفى، مر. الدكتور عبد القادر القط، الدار المصرية، القاهرة، لاتـا . 4- همفرى، روبرت، تيار الوعى فى الرواية الحديثـة ، تر، د. محمود الربيعى، دار المعارف بمصر ، القاهرة، ط. ثانية، 1975. 5- ويليك، رينيه ، وارين ، أوستن، نظرية الأدب ، تر. محيى الدين صبحى، مر. د. حسام الخطيب، المجلس الأعلى لرعاية العلوم والفنون والآداب، دمشق، 1972.